الخدمة العسكرية

كلية الضباط الاحتياط:

يفرض على كلّ خريجي الكليات في العراق الخدمة العسكرية الإلزامية التي تبتدأ بالانخراط في كلية الضباط الاحتياط لمدّة ستة أشهر، ثم الالتحاق بعد التخرج  بالخدمة العسكرية لسنة كاملة. يلتحق خريجو الدور الأول في شهر أيلول من كلّ عام بالخدمة العسكرية في كلية الاحتياط ويلتحق خريجو الدور الثاني للسنة نفسها في وجبة ثانية من نفس الدورة. أعطيت دورتنا الرقم 21 الوجبة الأولى.

خطوات إلى الالتحاق بالخدمة الإلزامية في داخل كلية الاحتياط ويظهر الدكتور فرياد حويزي
الاصطفاف في باحة كلية الاحتياط في اليوم الأول.  في الصورة معي من اليسار: عباس عصفور، فوزي العاني، فرياد حويزي، مجيد حميد وصباح جاسم الشكري

ضمت دورتنا كليات المجموعة الطبّية (الطبّ والطب البيطري وطبّ الأسنان والصيدلة) وكذلك خريجي الهندسة وخريجي الجامعات من خارج العراق في كلّ الاختصاصات. تميزت دورتنا بوجود العشرات من خريجي الاتحاد السوفيتي من المهندسين وغيرهم. ترى الكلية أصبحت محفلاً علمياً واجتماعيا رائداً تسمع فيه المناظرات واللقاءات وسرد الذكريات. كونت في تلك المرحلة صداقات مع إخوان من غير الأطباء واستمرّت بعضها لحدّ الآن.

تم توزيعنا على فصائل وكان فصيلنا هو الفصيل السادس. سلمت إلينا التجهيزات الكاملة وعين مكان إقامتنا والذي كان كما هو معروف في الجيش بصورة عامة “بنگلات” عنابر كبيرة فيها أربعة مداخل وقسمت إلى قاطعين بجدار طولي ولكنه لا يصل إلى السقف بحيث تسمع كلّما يدور في الجانب الآخر من البنكلة. أخذ الفصيل السادس قاطعاً من البنكلة وفي النصف الآخر الفصيل السابع. وزعت الأسرّة على جانبي القاعة بصورة طولية كفنادق الدرجة الثالثة أو ردهات المستشفى الجمهوري.

مع الصديق المهندس صادق العويناتي في إحدى الفرضيات، الممارسات العسكرية

 كان آمر الكلية الكلية العميد الركن سعدون حسين. أتذكر أسماء بعض الضباط الآخرين منهم العقيد علي الكسار معاون الآمر والرائد ياسين العبدلي آمر سريتنا وآمر فصيلنا الملازم باسل نوري عمر والملازم الأوّل شاكر ذرب وكذلك الملازم الأوّل غازي الطيب والشهير بغازي “شخّاطة” أي عود الثقاب. وهذا لم يكن انتقاصاً من شخصه الكريم ولكنه دلالة على حيويته ونشاطه.

حادثة الملازم الاول شاكر ذرب: التحق بضباط كلية الاحتياط في غضون دوامنا الملازم الأوّل شاكر ذرِب الذي باشر بعد خروجه من المستشفى وشفائه من إصابة بطلق ناري أصابه في رقبته في منطقة السليمانية في ما سمّي بحرب الشمال مع الأكراد.

الملازم أول شاكر ذرب

نفذت الإطلاقة بالقرب من القصبة الهوائية وسببت امتلاء رئتيه بالدم مما سبب صعوبة بالغة في التنفس وكان على حافة الموت المحقق. لم يكن للطبيب المعالج في تلك الوحدة العسكرية في تلك المنطقة الجغرافية البعيدة أية آلة تساعده على إنقاذ حياة الضابط الشاب.  فلم يكن لذلك الطبيب البارع الشجاع سوى طعن مقدمة الرقبة بسكين والدخول إلى القصبة الهوائية وإدخال أنبوب مطاطي اقتطعه من سماعته الطبّية في فتحة القصبة مما سمح بدخول الهواء إلى الرئتين ومساعدته على السعال وخروج الكثير من الدم الذي كان قد ملأهما وبذا أنقذ حياته. رافق الطبيب مريضه في سيارة الإسعاف إلى مستشفى الرشيد العسكري في بغداد حيث عولج كما يجب وعاد إلى تمام صحته وباشر في الكلية بكلّ نشاط. 

صدفة غريبة: حدثت بعض الإخوة هنا في الولايات المتحدة حول هذه القصة وإذا به يتصل بي بعد أيام ليقول بأن الطبيب الذي أنقذ حياة الضابط شاكر ذرب موجوداً في نيويورك وقد تحدثت معه بتفاصيل الحادث. كان الطبيب هو الدكتور حفظي سعيد. وكان سعيد بإعادة ذكرى تلك اللحظات التي قرر فيها إجراء تلك العملية.

التدريب: كان النظام في الكلية صارماً بتوجيه آمر الكلية سعدون حسين وآمر فصيلنا الملازم باسل نوري عمر. يبدأ يومنا بالتفتيش الصباحي ومن ثمّ التدريب “العنيف” الذي كان العريف “صنكور” يؤكّد بأننا حينما نمشي مشيتنا العسكرية يجب أن ينبع الماء من تحت أقدامنا! وكذلك يجب أن نكون على مستوى من التدريب بحيث “إذا كنا نمشي على رصيف شارع الرشيد يعرف حتّى الذين يمشون على الرصيف المقابل إنّك عسكري!”.

وجبات الطعام: كانت وجبات الطعام وجبات شهية وأهم ما كان في الوجبات هو الصمون العسكري الذي لا يوازى بنكهته وطعمه. تقع خفارة المطعم على عاتق الأطباء بجدول دوري يومي لمراقبة الطعام من وقت وصول المواد الأولية إلى عملية الطبخ ثمّ التوزيع. حينما جاء دوري أشرفت على تسلم الأرزاق من المقاولين ثمّ متابعة الطباخين ولم أترك المطبخ لحين توزيع الطعام على الطلبة في صالة المطعم وتنفس الصعداء .

الرماية الحية: تطورنا بالتدريب وكنا مهيئين لأن نبدأ بممارسة الرماية الحقيقية. نقلونا في حافلات عسكرية إلى منطقة بسماية للتدريب على الرمي الحقيقي. أخذنا وضع الانبطاح بمجاميع صغيرة وبدأنا بالرمي بالإطلاقات الحقيقية على أهداف تم نصبها وكأن المطلوب هو مجرد القيام بتلك المهمة ولا نعلم ماذا استفدنا من تلك التجربة؟

الفرضية: قرب نهاية منهاج الكلية العسكرية كان آخر درس عملي هو ما يدعى بالفرضية، وهي ممارسة افتراضية تشبه الدخول إلى المعركة بكلّ الاستعدادات المطلوبة. نقلنا قطار خاص إلى منطقة جبل مكحول شمال مدينة بيجي.

نظرة من خلال شباك القطار الذاهب إلى الفرضية

مارسنا هناك فعالية الاطّلاع وتنفيذ الأوامر وما يجب عمله في تلك المواجهات من حفر الخنادق والتخفّي وغيرها. وكلها كانت شكلية بالنسبة لنا حيثُ إنَّ الطلبة في الكلية ضباط احتياط وليسوا في العادة ممن يخوضون القتال كالضباط المهنيين فلم نأخذ ذلك بمأخذ الجد.

حفر الخنادق في الفرضية قرب جبل مكحول

بقينا هناك إلى اليوم التالي وفي الليل قمنا ببعض الواجبات ثمّ خلدنا إلى المنام في العنابر المخصّصة وعلى فراش امتدّ على الأرض.

النوم على الارض بجنب الصديق فهرام ستراك

الصداقات: تكونت صداقات متينة مع زملاء في كلية الاحتياط استمرّ بعضها لعقود بعد التخرج. توثقت علاقتي بثلاثة من الإخوة في فصيلنا، الفصيل السادس، وهم المهندس المعماري فهرام ستراك هوفسبيان والاقتصاديان أمجد زكريا من الموصل ومحمّد علي الناصري من بغداد.

نحن الأربعة من اليسار محمّد علي الناصري ثمّ أمجد زكريا ففهرام ستراك

امتدّت العلاقة إلى التعرف على أهاليهم فقد كان والد فهرام من المعروفين في المجتمع البغدادي عن طريق مهنة الخياطة فقد كان يملك محل “خياطة شيك لصاحبه ستراك” في منطقة المربعة في شارع الرشيد. تمتع ستراك بثقافة واسعة وبتعدد اللغات التي يتحدث بها بطلاقة وبأريحية. أما أمجد فينتمي إلى عائلة كريمة من الموصل معروفة بالتجارة وحسب ما أتذكّر تجارة الخشب والحديد. كان والد محمّد علي هو المرزا حسن الناصري الذي كان “ملك” تجارة الشاي في العراق والتي كان يديرها من دكانه في ساحة مرجان في الشورجه الذي لا تتجاوز مساحته العشرين متراً مربعاً. وبفضل كفاءته الشخصية في التعامل مع الخارج والداخل لم تحدث أية أزمة في توفير الشاي ولا أسعاره في أسواق العراق.

أكملنا المنهج النظري والتدريبي المقرر ونجحنا في الامتحان النهائي واحتفلت الكلية احتفالاً متعدد الفقرات من الكلمات والفعاليات الترفيهية والتي كان “بطلها” صديقنا فهرام الذي صاحبته على المسرح فرقة موسيقية غربية وغنى أغنية غربية شاركه فيها كل من في القاعة بالتصفيق والنشوة.

صورة التخرج في الكلية، الضباط من اليمين الرائد عبد الحافظ عبد القادر، الرائد ياسين العبدلي، العميد الركن سعدون حسين، العقيد علي الكسار وآمر فصيلنا الملازم الأول باسل نوري عمر. أجلس في الصف الأمامي؛ الأول من اليمين

حفلة التخرج:

أقامت كلية الاحتياط حفلة تخرج منظمة جداً كان النجم المبدع فيها الصديق المهندس فهرام ستراك حيث غنى على المسرح مع فرقة موسيقية غربية الاغنية المشهورة في حينها “توتي فروتي” للمغني الشهر لتل ريشارد.

في الحفل الترفيهي عند التخرج ويظهرمع محمد علي الناصري امامي ابن أختي الطفل حامد عزيز العصامي والى اليسلر الدكتور فوزي العاني

ضابط طبيب احتياط في خانقين: بعد التخرج في كلية الضباط الاحتياط تقلدنا رتبة ملازم ثانٍ.  تم تعييني في وحدة الميدان الطبية 21 ومقرها في مدينة جلولاء. ومن هناك نُسبت إلى مقر كتيبة المدفعية 22 التي مقرها في مصفى الوند قرب مدينة خانقين، وكنت خلفاً للدكتور زهير صبري الذي كان طبيب الكتيبة. أصبح الدكتور زهري اختصاصي الجراحة التجميلية فيما بعد.

الملازم الطبيب الاحتياط

كان آمر الكتيبة العقيد علي حمدون كشمولة وهو من العائلة المعروفة الكريمة آل كشمولة من الموصل. لم تكن في ذلك الوقت حركات عسكرية أو أي قتال مع القوات الكردية بل كان الجو السياسي هادئاً.  ترك العديد من  ضباط الكتيبة  أثراً عميقاً في نفسي منهم الرائد الركن نوري رضا المراياتي الفارع الطول الرياضي البنية وعضو فريق الجيش في الكرة الطائرة. كان نبيل الخلق لطيف المعشر يحبّ النكتة والمقالب! كذلك كان هناك الملازم الأوّل صاحب العزاوي في صنف الهندسة وهو خبير متميز في هندسة السيارات والمدافع والدبابات. توثقت علاقتي بصاحب عن طريق أخيه الدكتور عزيز العزاوي الطبيب الاختصاصي بالتخدير خريج الاتّحاد السوفيتي الذي كان معي في كلية الاحتياط وأخيه الآخر مهدي العزاوي النجار الفنان والشاعر الذي كان محل نجارته في ساحة النصر “نجارة مهدي”. أحب النجار مهدي الشعر وحفظ كثيراً منه ويقوم بنظمه كذلك. كنت أقضي معه ساعات طويلة في محلّه عند توفر الوقت لدي. له من “القفشات” الشعرية ما تعلّق في ذاكرتي:

لماذا أنت تضحكُ من أفوتُ (أستطرق) ** أعفريتٌ أنا أم عنكبوتُ!

من الضباط الآخرين في الكتيبة كان الملازم الأوّل قيس السوداني رقيق هادئ الطبع وحلو الابتسامة. والآخر الملازم الأوّل أسامة الياور الذي كان مثالاً للضبط العسكري والخلق الرفيع. وهناك عدد آخر من الضباط لا تحضرني أسماؤهم وقد كانت علاقتي بهم علاقة زمالة وصداقة.

في مقر الكتيبة 22 في مصفى الوند وفي أقصى اليمين الرائد نوري المراياتي وعن يميني الملازم الأول أسامة الياور وفي أقصى اليسار الملازم الأول صاحب العزاوي
مع الملازم الاول قيس السوداني ومراسله وسائقي الشخصي يونس

أما الآمر العقيد علي كشمولة فكان مثال الخلق والاتّزان والمعاملة الحسنة مع الجميع. كنا نتناول وجبات الطعام في بهو الضباط وتكون منوّعة عادة وكما نحب لسهولة توفير المواد المطلوبة من السوق المحلي.

زيارات ميدانية: كنا نتفقد مواقع عسكرية قريبة تابعة للكتيبة فقد ذهبنا مرة إلى  قرية “قوره تو” وبتنا ليلتنا هناك في غرفة مبنية من الطين وليس فيها كهرباء. كان معي اثنان من الضباط وعندما اقترحت أنْ نطفئ الفانوس لأنّي أفضل النوم في الظلام الدامس في الغرفة قبلوا باقتراحي. لكن انتفض أحدهم في منتصف الليل صارخاً أريد الضياء، ضحكنا وأعدنا إضاءة الفانوس! وكانت تلك الحادثة طريفة تندرنا بها لمدة وشاركنا الآمر بذلك.

على سفح جبل “بمو” في المنطقة

خيمتي: كان مقر عيادتي الطبّية في المعسكر خيمة كباقي مكاتب الضباط الآخرين. وفي الخيمة وضع سرير لنومي وكرسي ومنضدة عليها أدوات الفحص الطبّي. في تلك الأيام كانت شركات الأدوية توزّع نماذج من الأدوية للأطباء مجاناً وكان منها حبوب الفيتامينات الفوارة كبيرة الحجم والتي صنعت بألوان ومذاقات مختلفة وتعبأ في أسطوانة زجاجية بحجم الحبوب. استمتع ضيوف خيمتي من الضباط بما أقدمه لهم  عند زيارتهم بوضع الحبة الفوارة بقدح من الماء يستمتعون به طعماً وشكلاً وصحة!

البلهارزيا: لم أقتنع بِما كنت أقوم به من واجبات طبّية روتينية فعملت على التوسع في عملي. اكتشفت بأنَّ هناك إصابات عديدة بمرض البلهارزيا بين الجنود. وعند إحدى زياراتي إلى بغداد زرت صديقا لي من أصحاب المختبرات واستعرت منه مجهراً قديماً وجهاز الطارد المركزي سنترفيوج Centrifuge الذي يدار باليد ومعه بعض الدوارق المختبرية الزجاجية. قمت بفحص الجنود وتبين أن هناك العديد من حالات البلهارزيا غير المكتشفة والتي بدأت بعلاجها.

المكتبة العامة في خانقين: من النشاط المهم الذي كان له تأثير عليّ فيما بعد هو التزامي بالذهاب إلى مكتبة المدينة والتعرف عن قرب على مدير المكتبة وهو من أهل المدينة والذي يؤسفني جداً عدم تذكر اسمه الآن. كان إنساناً نبيلاً مثقفاً حريصاً على مكتبته وعلى راحة روادها. سمح لي بحكم علاقتي الوثيقة معه أن أطلّع على سجل كتب المكتبة التي اخترت من عناوينها ما يقارب الثلاثمائة كتاب. تطوع أن يشتريها لي بما لديه من تسهيلات في مكتبات بيع الكتب في بغداد بوصفه موظفاً مكتبياً حكومياً، فحصلت على تلك القائمة بخصم 30%. أصبحت تلك  الكتب نواة لمكتبتي الشخصية فيما بعد والتي بلغت كتبها قرابة الخمسة آلاف كتاب.

الأستاذ عيسى زلزلة: كان مقر الكتيبة 22 يقع بالقرب من مصفى الوند الذي كان يديره السيد عيسى زلزلة، وكنا نلتقي به في مقر الكتيبة أو في مقره في المصفى. كان معتدل القامة مائلاً إلى الطول جدي في حديثة وذا خبرة عالية في اختصاصه.

قصر الملك فيصل الأوّل: مدينة خانقين من المدن الجميلة التي يخترقها نهر الوند وتجملت بأهلها الطيبين. ولطيب هوائها وأهلها اختار الدكتور ساندرسن أن يكون للملك فيصل قصراً على مقربة منها وبمسافة أربعة كيلومترات نحو الشمال في قرية جميلة المناظر وطيبة الهواء يقال لها قرية (علياوة) على قمة تل كوجك التي تطل على غابات أسعد آغا تحيط به أراض من أكثر الأراضي خصوبة في المنطقة. لم يبق من القصر المنيف سوى أطلال.

مدينة خانقين وأهلها: من المعروف أن مدينة خانقين من المدن التراثية التي يمتد عمرها إلى آلاف السنين. يسكنها الأكراد والتركمان والعرب والتآخي كان ظاهراً بين الجميع. لم يتجاوز عدد السكان العشرين ألف نسمة تقريباً.

كونت علاقة شخصية مع عدد من أهل المدينة من الذوات منهم السيد محمّد شبر إمام جامع خانقين وآل باجلان وآل الإركوازي وآل الجاف. توطدت علاقتي لعقود مع الأستاذ المحامي عبد الوهاب باجلان الذي كان رجل ثقافة ومجتمع وأخيه عمر سيد العشيرة المهاب من الجميع وصهرهم السيد رؤوف.

حفلة عرس:

الأستاذ عبد الوهاب باجلان مع بندقية الصيد ويظهر السيد رؤوف الثاني من اليسار وأنا أتذوق اللبن

أقامت عائلة باجلان لأحد أفراد عشيرتهم حفل زفاف في منطقة قرية مجيد قادر آغا حيث الفرح والرقص والطعام لسبعة أيام متواصلة ليلاً ونهاراً! دُعينا للحفل وكانت فرصة للتمتع بذاك التراث والتفوق الاجتماعي علينا في مناطقنا في الوسط والجنوب حيث كان للمرأة هناك الدور الكامل في الاشتراك في الأفراح والرقص العشائري المحتشم.

حفل العرس في قرية مجيد قادر آغا وعن يساري المحامي عبد الوهاب باجلان مع جمع من الإخوة الضباط وثلة من أصحاب الدعوة

الطائفة الكاكائية: كنا على علاقة بالسيد طاهر عُزَير شيخ الطائفة الكاكائية في تلك المنطقة. تميّز السيد طاهر وطائفته بالطيبة ومحبة الجميع، وهم معروفون بعدم حلاقة الشوارب فتنمو كثيفة أو مفتولة ذات نهايتين مدببتين. ولما سألت أحدهم مرة عن ذلك قال أنَّ ذلك تبركاً بالإمام علي (ع). فعندما أتم الإمام غُسل جسد النبي محمّد (ص) بعد وفاته بقيت هناك قطرات قليلة من الماء في منطقة سُرَّة البطن الكريمة فبلَّل الإمام إصبعه بها ومسح شواربه ولم يقص شعر شواربه بعد ذلك أبداً. وليس لي أنْ أجادله في تلك المعلومة التاريخية التي لديه إيمان كامل بها. علماً بأن الديانة التي تدين بها الطائفة تمتد إلى 5000 عام كما تذكر أدبياتهم.

رجل باسم من الطائفة الكاكائية بشواربه التي تحظى برعاية بالغة

مستشفى خانقين: كنت كثير الزيارة إلى المستشفى المدني في خانقين حيث كان هناك طبيب المدينة الدكتور فاروق المصور وهو من النجف وكان يسبقني في الدراسة في الكلية بثلاث سنين، وكانت علاقتي معه وبصديقه وزميله سحبان الخفاجي وثيقة من أيام الدراسة ومن أيام النجف. يدير المستشفى زميل آخر يسبقنا نحن الاثنين في الدراسة ولا يحضرني اسمه، أما الصيدلاني فكان علاء الدين الأنصاري الذي كان أخوه حسام الدين الأنصاري من مؤسسي الفرقة السيمفونية العراقية في تلك المرحلة.

مع مدير مستشفى خانقين الدكتور عبد الباري والصيدلي علاء الدين الأنصاري ويتوسطهما الدكتور فاروق المصور 1967 وكنت أنا المصور

تعلّم قيادة السيارة: أكملت الكلية الطبّية ولم أتعلّم قيادة السيارة التي هي من متطلبات تكوين شخصية الشاب. في أيام خدمتي العسكرية ولأني طبيب برتبة ملازم فقد عُين لي سائق وسيارة خاصة. كان سائقي الخاص هو العريف يونس الذي يتمتع بخلق عالٍ وكفاءة معروفة لدى الجميع. كانت سيارتي صناعة روسية من نوع “كاز Gaz” وهي تشبه سيارات الجيب بأربعة مقاعد ذات سقف مصنوع من القماش. أعطيت العريف يونس مرة “أمراً عسكرياً”! بأن ينزل من كرسي القيادة في سيارتي العسكرية ويجلس على كرسي الراكب الأمامي بينما صعدت أنا وأخذت مكانه خلف المقود. كانت تلك أوّل مرة لي في هذا الموقع. قلت ليونس الآن “أنت تعطيني الأوامر” بما يجب أنْ أبدأ به من الألف وتستمر بالتعليم حتّى الياء. بدأت بقيادة السيارة في ساحة المعسكر الواسعة المفتوحة التي أرضها مفروشة بالحصى. وبعد أيام بدأت أقود السيارة لوحدي إلى أنْ تمكنت من قيادتها بفضل العريف يونس.

حرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل:

المفاجأة: مرت الأيام رتيبة في تلك المرحلة وكانت خالية من المفاجآت إلى أن حل علينا شهر حزيران 1967 الذي شهد بداية ما يعرف بحرب “الأيام الستة”. واذا بكتاب رسمي عاجل يصل المعسكر في خانقين يفرض فيه التحاقي الفوري بوحدة الميدان الطبية 12 التي أنتمي إليها وهي من تشكيلات اللواء 21 ومقرها في جلولاء، والاستعداد للذهاب إلى الاْردن. كانت تلك مفاجأة لي وللكتيبة وبعدها للأهل جميعا. فالكل يعلم شدة وخطورة تلك الحرب التي تتفوق فيها إسرائيل على الجيوش العربية بكل المجالات. ولكنه النداء الوطني الذي تقبلناه جميعا بطيب خاطر وفخر وأوكلنا الأمر إلى الله. عندما حل وقت التحرك ودعت الأهل الذين خيم عليهم الوجل والخوف وقرأ والدي ما تمكن من القرآن الكريم والأدعية وغادرت وعيون الجميع تغرق بالدموع حيث كان هناك احتمال عدم عودتي ثانية.

الحركة: تحرّك جحفل لوائنا اللواء 21 والذي مقره في جلولاء في اليوم السابع من حزيران وأصبح اللواء بجحفله  يوازي في العدة والعدد تجهيزات فرقة عسكرية عراقية كاملة رغم أنَّ اللواء جزء من تكوين الفرقة. تحرّكت وحدة الميدان الطبّية بكامل أفرادها وكانت بإمرة المقدم الطبيب عبد الغني عبد العزيز وهو صهر العميد طه الشيخ أحمد رفيق الزعيم عبد الكريم قاسم. كان عبد الغني أخاً للجميع متواضعاً يسمع ويدعم ويساعد زملاءه الأطباء وكل ملاك الوحدة.

كان معنا في رحلتنا جندي احتياط يعمل في مختبرات كلية طبّ الأسنان لا أتذكّر اسمه وكان جميل الطلعة أحمر الشعر أبيض السحنة. كان يتمتع بقدر كبير من حبّ الفكاهة وكانت النكات والنوادر التي يرويها تنسينا الخوف الذي تملكنا في تلك الساعات.

الإمام عبد المجيد الشيرواني: كان إمام جحفل اللواء الإمام عبد المجيد الشيرواني وهو كردي في عزّ شبابه. تمتع عبد المجيد بخلق عال وأريحية قل أنْ تجدها عند غيره من أئمة الجيش. أصبح بحديثة الودود محبوباً للجميع ولكني كنت الأقرب له من الآخرين. كنت أمزح معه للطفه وبساطته مقارنة بغيره وأقول: “كاكه عبد المجيد، أنت إمام في البودرو فقط”! والبودرو هي تسمية لقائمة رواتب العسكريين. بقيت على اتّصال به بعد التسريح لسنين.  

اللواء حمودي مهدي: توقفنا في أطراف بغداد ليجتمع بنا اللواء حمودي مهدي رئيس أركان الجيش، ولم أكن في الصفوف الأمامية لأسمع ما يقول ويبدو إنّ ما قاله لم يضف شيئاً لما كان أو سيكون. كان اللواء حمودي معروفاً بطيبة القلب المبالغ بها وكان الشارع يتندر بتسميته “العريف حمودي” لتواضعه ولعلاقته الطيبة بمن هو أقل منه رتبة وعلى كلّ المستويات.

اللواء حمودي مهدي رئيس أركان الجيش

التحرك باتجاه الجبهة: استمرّ السير عبر الرمادي وهناك استقبلنا أهالي الرمادي الكرام المتجمهرون على جوانب الشارع الرئيس بالتحايا والزغاريد والدعاء. ومن المضحك أن أحد المتجمهرين من البسطاء كان يعتقد بأنَّ المطبخ السيّار الواسع الذي تظهر منه مدخنة كبيرة هو مدفع ضدّ الجو فحياه بتحيّة خاصة!

كانت فرصة نادرة لشاب مثلي أن يسير أثناء الليل وأطراف النهار في الصحراء وبكلّ متغيرات حياة الصحراء. أثناء مسيرتنا الطويلة كنا نستقر للاستراحة في أماكن في الصحراء وكانت لي خيمة صغيرة تسع لشخص واحد. بسبب الرياح الرملية في الصحراء كان علي أن أغلق مدخل الخيمة وعند ذاك تزداد درجة الحرارة في داخلها، وإذا فتحتها يغطي الرمل طعامي الذي كنت أمسح الرمل من على سطحه وألتهمه بسرعة.

وصلت أرتالنا إلى قرب منطقة أج ثري (H3) وفيها بقايا من الماضي حيث كانت المحطة ذات أهمية حينما كان النفط يضخ إلى ميناء حيفا. شاهدنا في أج ثري طائرة عسكرية عراقية محطمة كانت قد سقطت في تلك المنطقة ودخلت مقدمتها في برج من الأبراج المعدنية. أثار ذلك تخوفاً ظهر على وجوه الجميع فنحن متجهون ومجابهون ساحة المعركة الحقيقية.

الواقع العسكري المرعب: اجتمع بنا العقيد الركن آمر جحفل اللواء، لا أتذكّر اسمه ولكني أعلم بأنَّه من الأخوة الأكراد وكان مشهوراً بخلقه العالي وكفاءته العسكرية وإدراكه لواقع الحال. تحدث لنا عن وضعنا الراهن وكان مما قاله لنا بأننا إذا جابهنا مستعمرة إسرائيلية، أي قرية محصنة وفيها ما خمنه عدد من مقاتليهم لا يزيد على الخمسين مقاتل، واشتبكنا معهم في مواجهة مباشرة فإذا ما بقي بعد المواجهة العسكرية الحقيقية ثلث لوائنا حيّا فإننا منتصرون! كان ذلك تقييم واقعي لما كنا نحن فيه وما تملكه المستعمرة من تحصينات دفاعية والذي نشر فينا الرعب.

في الأردن: واصلنا مسيرنا وعند وصولنا للحدود حيّانا جنود عراقيون ثم الأردنيون. دخلنا أراضي الأردن وكان الطريق محاطاً من جانبيه وعلى امتداد البصر بالأحجار الصخرية السوداء التي لا يمكن للمركبات أن تسير عليها. تفاقم قلقنا إذ  ليس هناك مفر من هذا الطريق المستقيم في حالة الهجوم الجوي علينا. وصلنا في اليوم الحادي عشر من حزيران إلى مدينة المفرق وهي مدينة في وسط الصحراء ليس فيها من المعالم المهمة غير المعسكر الأردني وبعض الأسواق. تقرر أنْ نُعسكر في تلك المدينة وأفرغت كلّ الحمولة وتوزعت الوحدات بحسب عائدتيها وبقينا نحن منتسبو وحدة الميدان الطبية عديمي الخبرة بفنون القتال لوحدنا. طلب منا الآمر أنْ نحفر خنادق لنا نحتمي فيها في حال الهجوم ولكن فوجئنا بأنَّه لم تتوفر لوحدتنا حتّى المعاول التي سنحفر بها الأرض! كان شعورنا بالخيبة كبيراً لعدم التهيئة لهذه المعركة المصيرية واحتمال التعرض للهجوم الجوي الإسرائيلي والذي سيقضي علينا جميعاً ونحن في بطن الصحراء لا شيء يحمينا. ولكن ولله الحمد لم يحصل أي هجوم أو تعرّض لقطعاتنا أبدا.

كانت الحرب على وشك الانتهاء ووكلت للوائنا مهمة مساعدة القطعات السورية للدفاع عن دمشق إذا تعرضت لهجوم إسرائيلي، ولكن ذلك لم يتم ووضعت الحرب أوزارها بالانتكاسة المؤلمة التي طال تأثيرها إلى وقتنا الحاضر. بقينا في الأردن لمدة أربعة أشهر تعرفنا فيها على أهل الأردن الطيبين وزرنا معالمها الحضارية العريقة في عمان وإربد والبتراء والعقبة وغيرها. وكذلك تعرفنا على مستوى رقي الخدمات الطبّية في المستشفيات العسكرية والمدنية فيه مقارنة بما لدينا في مؤسساتنا.

اللواء محمّد يوسف طه: أعفي آمر اللواء 21 السابق وأعيد إلى العراق لأسباب نجهلها وعين محلّه اللواء الركن محمّد يوسف طه قائداً جديداً للقوات العراقية. كان اللواء محمّد قمة في الخلق والهمة في متابعة الوحدات التابعة له. وبما أنّ للطبيب مكانة خاصة في تشكيلات الجيش في إمكانية تجاوز سلسلة المراجع والاتّصال بالآمر مباشرة فقد كنت ألتقي باللواء محمّد يوسف أحيانا.

الاقتراح لتوثيق الوضع الصحي: كانت مهمةعياداتنا الطبّية في الميدان متابعة حالة العسكريين الصحية. لم يتوفر لنا توثيق لحالتهم الصحية قبل وأثناء وجودهم في الجيش.  قدمت للواء محمد يوسف مشروعاً لتوثيق الحالة الصحية للعسكريين سأذكره لاحقاً في فصل مسيرتي مع البحث العلمي.

نقل اللواء محمّد يوسف: فرحة لم تتم!  ورد أمر بإعفاء اللواء من قيادة القوات العراقية في الأردن ونقله إلى الباكستان ليكون ملحقاً عسكرياً، ولعل ذلك له علاقة بحركة عارف عبد الرزاق والله أعلم.

حلّ محلّه العميد الركن محمّد طيب كشمولة الذي نقل من واشنطن حيث كان ملحقاً عسكرياً هناك. كان محمّد طيب حسن الطلعة يتمتع بلمسات دبلوماسية، أنيق جداً في زيه العسكري.

الزيارات غير العسكرية:

سوريا: حانت لي الفرصة وأنا في الأردن أن أزور سوريا وكان ذلك سهلاً وبدون فيزا لكوني منتسب عسكري عراقي. ذهبت بالسيارة العسكرية التي أبقيتها مع السائق في مكان خارج دمشق واستأجرت سيارة أُجرة أخذتني في جولة داخل وحول دمشق لمدّة تزيد على الثمان ساعات. لم أصرف أي وقت في الأكل بل أقتصرت على تذوق آيس كريم (بوظة) محلات بكداش الشهيرة في سوق الحميدية والتي لازال طعمها في فمي.

زرت في تلك الجولة معالم دمشق الأساسية بضمنها الجامع الأموي، سوق الحميدية، متحف العظم، جبل قاسيون وكل ما أمكن زيارته في تلك المدة القصيرة. عدت في نفس اليوم إلى المعسكر في المفرق.

العقبة: وفي “نشاط” آخر اتفقت مع زميلي الدكتور عبد الجبار جرجيس وأحد الزملاء الضباط من المقربين لنا بأن نذهب إلى ميناء العقبة ومدينة البتراء. استأجرنا سيارة أُجرة نوع مرسيدس وصاحبها سائق فلسطيني ظريفً. وصلنا مدينة البتراء وتجولنا فيها مشياً وركبنا على الجياد وزرنا خزنة فرعون وكتبت اسمي في أعلى الجدار للذكرى ولا أعلم هل بقيت الذكرى أم اندثرت مع الزمن.

في جولة في مدينة البتراء على الحصان

واستمرّ سيرنا إلى العقبة وسط الطريق الجميل الملتوي الذي لا يخلو من خطورة.

مع الدكتور جبار جرجيس في العقبة

أمتعنا السائق الفلسطيني الظريف طول السفرة بما لديه من قصص وطرائف مما جعل الطريق يبدو قصيراً رغم طوله. وأتذكّر نكتة حكاها بخصوص شخص يتأتئ بدرجة شديدة ويقوم بتقليده بطريقة طريفة فيقول على لسان الشخص ذاك:

أنا مش مش مش ممكن أتكلّم ** علشان لساني بيته ته ته

 أنا مرّ مرّ مرّ مرة شفت بنت حلوة ** ما ما ما أدرش أحكي معاها

 علشان شان شان كانت ** هيه كمان بته ته ته زييّ…

وصلنا العقبة بعد الظهر وهناك شاهدنا على الضفة الأخرى للخليج مدينة إيلات الإسرائيلية وجلسنا في شرفة مطعم مُطل على الخليج نأكل سمك العقبة الشهي ونشاهد تلك المدينة أمامنا ترفل بالحيوية ونشوة النصر وكان هذا هو الواقع وهذا ما آل إليه تشرذم الأمة. عدنا في نفس اليوم بحدود منتصف الليل إلى المعسكر في المفرق لأنه لا يسمح بالمبيت خارج المعسكر.

سوريا:

قررت بعد أن وضعت الحرب أوزارها أن اسثمر وجودي في الأردن لزيارة سوريا. لم تكن هناك أية شروط رسمية لدخول السيارات العسكرية عبر الحدود الأردنية السورية ذهابا وإيابا. استقليت سيارتي العسكرية فجر أحد الايام بصحبة سائقي الخاص، وعند الوصول إلى دمشق توقفنا واستقليت سيارة أجرة ليأخذني سائقها للاستمتاع بمعالم دمشق حيث زرنا شوارعها وأحياءها الرئيسية ووصلنا إلى أعلى جبل قاسيون. بعد ذلك زرت الجامع الأموي  الذي أنشأه الوليد بن عبد الملك والذي يُعد رابع أشهر المساجد الإسلامية بعد حرمي مكة والمدينة والمسجد الأقصى، كما يُعد واحداً من أفخم المساجد الإسلامية. فوجئت بوجود قبر يوحنا المعمدان في داخله. ذهبت بعد ذلك إلى متحف العظم الذي بناه والي دمشق الوزير أسعد العظم ويعد القصر نموذجاً للفن المعماري الإسلامي المتطور، من حيث تخطيطه ونمط بنائه وزخارفة في الحجر والرخام والخشب.

التعيين كطبيب فوج: تسلمت وحدة الميدان الطبية 12 طلباً من إحدى الوحدات العسكرية (فوج) بحاجتهم لطبيب يقدم لهم الخدمات الصحية.  تقرر أن أذهب الى ذلك الفوج الذي كان بإمرة المقدم الركن لطفي الدباغ من الموصل. كنت دائم الاتّصال به وببعض الضباط الذين لهم ثقافة عامة نتسامر في أوقات متفاوتة.

مطعم الضباط: استغربت من ظاهرة لم نعهدها في وحدة الميدان الطبّية فقد كنا في الوحدة ندفع مبلغاً عالياً نسبياً لمطعم الضباط لتغطية تكاليف الأكل الذي يقدم لنا وكان اللحم يقدم في وجبة واحدة فقط. لكن الذي شاهدته في مطعم ضباط الفوج أنَّ اللحم يقدم في الوجبات الثلاث والمبلغ الذي يدفع لذلك أقل من نصف ما كنا ندفعه في الوحدة الطبّية! وعندما استقصيت السبب علمت بأنَّ اللحم المقدم للضباط هو اللحم المأخوذ من حصة الجنود. امتعضت ولم أرض بذلك حيثُ إنَّ الجندي المسكين ليس له ما يستمتع به في هذه الصحراء والبعد عن الأهل غير الطعام ولذة الأكل الذي يكسبه الصحة والحيوية وليس من الإنصاف حرمانه من ذلك وسلب حقّه. في جلسة خاصة أبلغت المقدم لطفي ذلك السياق فإذا به ينتفض ويرفض هذا العمل.  طلب في الحال مسؤول الإعاشة في الفوج وبطريقة دبلوماسية استجوبه بحيث لم يشعر ذلك المسؤول بأني كنت الذي أخبر الأمر.  أمر المقدم مسؤول الإعاشة بوقف ذلك فوراً وإلا سيتعرض للعقاب. وبذا ضمنت بعض حق الجنود المساكين على الأقل أثناء فترة وجودي في الفوج وكنت سعيداً بذلك.

العودة إلى الوطن: بعد ذلك الواجب في الفوج عدت إلى وحدة الميدان وكنّا على وشك العودة إلى العراق وعدنا وكان “العود غير أحمد” منكسرين بعد أنْ خذل السياسيون وطنهم بعلم أو بدون علم. عدت إلى جلولاء مقر وحدة ميدان 12 وعندما علم الأخوة في كتيبة 22 في خانقين بعودتي إلى المقر طلبوني بالاسم من الوحدة للعمل معهم ثانية وهكذا كان وقضيت بقية أيام الخدمة العسكرية في خانقين مع الضباط الطيبين.

نهاية أداء الواجب المقدس: وهكذا انتهى واجب الخدمة العسكرية المقدس إذ تم تسريحي في نهاية شباط عام 1968. ودعت الحياة العسكرية بما بها وما عليها لأتوجّه إلى مستقبلي الطبّي. وفي واقع الحال إنّ أي واجب وعمل لخدمة الوطن هو مقدس وليس هناك أية مهنة أو عمل أو مسؤولية أقدس من غيرها في سبيل خدمة الأهل والوطن ومن أي موقع.

في الديوانية ويظهر على اليمين الدكتور عبد الخالق الجلبي وعلى يمينه خليل الشابندر والثاني من اليسار نبيل مجيد ناصر وعلى يساره عبد المناف الجادري والجلوس على يميني علوان زيني وفرياد حويزي 1967