تمهيد:
كانت مسيرتي في البحث العلمي متواضعة ومصحوبة بصعاب جمة والسبب الأساس إني عشت في وسط يجب فيه تخطي صعاب لا يمكن تخطيها في أكثر الأوقات ليس فقط لعدم وجود الدعم اللازم بل لعدم توجه بعض أصحاب القرار في النظر إلى المستقبل البعيد وإنما همهم الحاضر الذي يؤمِّن لهم رضا المسؤولين. والعديد منهم يؤمن بالمبدأ المعروف الذي كنا نتندر به في أيام العسكرية الذي كان الشعار المعتمد وهو: “لا تسكِّن متحركا ولا تحرِّك ساكنا”. وكم كنت أتمنى أن أسهم في خلق محيط يدعم شبابنا المتطلع للمتميز ويوجههم نحو حب البحث العلمي والعمل في ميدانه في وقت مبكر وعند دراستهم. وقد قمت بمحاولة جادة في هذا المجال سأذكرها لاحقاً في هذا الفصل. وبالرغم من كل العراقيل فلقد أنجزت منفردا وبمساهمة مع علماء ومتخصصين أفخر بالعمل معهم، بحوثا متميزة بعضها بمستوى الدول المتقدمة.
الدراسة المتوسطة:
كانت الانعطافة الأولى في حياتي باتجاه البحث العلمي حينما كنت في الصف الأول المتوسط في الكوفة. تأثرت كثيرا بالأستاذ عبد الرحمن حلمي مدرس مادة الأحياء في الصف الاول المتوسط وهو أستاذ مصري الجنسية جاء الى العراق ليجري بحوثا على الضفادع، حيث كان يتغزل بأبحاثه أمامنا وما يحصل عليه من نتائج ويطلعنا على تفاصيلها بالمجهر. نشرت عنه في حينها مجلة العالم الأمريكية الواسعة الانتشار مقالا بعنوان “عالم ترك ضفادع مصر واتجه الى ضفادع العراق”. وإذا ما قورن جهد وكفاءة الأستاذ حلمي في ذلك الوقت مع زمننا الحاضر فسيكون مؤهلاُ للإشراف على دراسة الدكتوراه.
تشريح الحمامة: وبهذا الدافع التلقائي ترعرعت رغبتي بالبحث العلمي، فقررت في تلك المرحلة أن أقوم بدرس عملي يخص مادة العلوم التي ندرسها وهو تشريح الطير، وحتى يكون التشريح نظاميا طلبت من صديق لي يعمل موظفا صحيا في مستشفى الفرات الأوسط في مدينتي الكوفة أن يجلب لي القليل من الكلوروفورم، وحصلت بسهولة على حمامة بيضاء وقمت بتشريحها.
الكلية الطبية:
الصف الأول: الهيكل العظمي للضفدع:
في الصف الأول من كلية الطب قرر استأذنا حنا زكريا رئيس قسم الأحياء أن نجلب هيكلا عظميا للضفدع لدراسته، ولما لم أحصل على ذلك الهيكل قررت تحضيره بنفسي. فذهبت إلى البيت في الكوفة ومعي ضفدع كبير اصطدته من إحدى الحدائق في الطريق، أخذت الضفدع المسكين إلى المطبخ وبعد أن قضيت عليه بالطريقة التي تعلمناها في المختبر وتأكدت من موته، وضعته في قدح ماء مغلي، حيث سلق الضفدع. وكان ذلك يوما عسيرا على الأهل واشمأز الجميع من طبخ هكذا حيوان في مطبخنا. الذي نعرفه إن الضفدع أكلة شهية في بعض البلدان! ولكن المهم عندي هو أن الحيوان قد سلق تماما وعند إخراجه من القدر نزعت عنه كل العضلات وبقي الهيكل العظمي خاليا من أي نسيج آخر، ونضدت العظام المنفصلة على ورقة سميكة وثبت العظام كما يجب. ذهبت بها الى الكلية ولله الحمد فقد لاقى الهيكل العظمي هذا رضا الأستاذ حنا.
الأستاذ ستانسلاف سلبكا وعلم الاجنة (امبريولوجي)
حل الأستاذ ستانسلاف سلبكا في الصف الثالث بديلا للأستاذ الرائع زدنيك خرافات في مادة الأنسجة (الهستولوجي) وكلاهما جاء من جيكوسلوفاكيا التي قسمت الان الى دولتين (التشيك والسلوفاك).
تمتع الأستاذ خرافات بطول فارع ومعشر لطيف وكان محبوبا من الطلبة ومبرزا في احتفاليات الرياضة السنوية التي كانت تقيمها الكلية، كانت مقولته الدائمة لنا في مختبر الهستولوجي: أنكم إذا قمتم بدراسة شريحة (سلايد) أنسجة تحت المجهر يجب أن تعدونها كصحيفة أخبار العراق (عراق تايمز)، التي كان يقرأها هو يوميا، حيث تقرؤون كل خبر فيها، فكذا الشريحة أرجو أن تدرسوا كل ما فيها من تفاصيل وليس فقط ما هو مطلوب دراسته في تلك الحصة! وبعد انتهاء عقد الأستاذ خرافات الدراسي جاء الاستاذ سلبكا ليحل محله.
كان الأستاذ سلبكا أصغر عمرا وأكثر حيوية وأصغر حجما مع أنه كان يفوق أحجامنا الطبيعية! توسع الأستاذ سلبكا في إحدى محاضراته ليخبرنا بنشاطاته البحثية في علم الأجنة. شدني ذلك كثيرا اليه ولم أنتظر لحظة بعد إكمال الحصة لأذهب الى مكتبه مبديا إعجابي بما عرضه علينا ورغبتي في الاطلاع على تفاصيل بحوثه. أسعدته مبادرتي هذه ووعدني بجلب كراس نشره في الأدبيات العلمية يبين جانبا من هذه البحوث. لا زلت أحتفظ بهذا الكراس الذي يضم 10 صفحات مليئة بالصور الفوتوغرافية. كان البحث في الكراس يدور بشأن تجارب عملية على بيضة الدجاجة حيث كان يفتح نافذة مربعة بمساحة سنتيمتر مربع تقريبا ويغلق تلك الفتحة بزجاجة رقيقة تستعمل في تحضير السلايدات (الشرائح) المختبرية. أنتج أنواعا غريبة من الدجاج، إذ كان يزرع جناح الجنين في مراحل النمو الأولي في مكان غير مكانه وإذا بالجناح يخرج من الظهر أو البطن، أو أن تولد الدجاجة بدون جناحين، أو بثلاثة أو أربعة أجنحة باستعارة مكونات الأجنحة من بيوض أخرى وهكذا. زرت مكتبه كلما سنحت لي الفرصة لأستمتع بحديثه عن هذه البحوث وغيرها. استوعبت بمساعدة تلك المتابعة طريقة العمل والأسلوب البحثي ولكن كان من الصعوبة القيام بذلك مع أعباء الدراسة. وحيث اني لم أتمكن من تحقيق ذلك، فقد أجلته الى حين، ولم يأت ذلك الحين مع الأسف، ولم يتبق لي إلا الاحتفاظ بكراسته التي أهداها لي والتي أعتز بها حيث أنه أكرمني بها في الوقت الذي لم تكن عنده نسخة أخرى معه في العراق.
الدكتور جيروم أوفي:
درّسنا الدكتور جيروم مادة فسلجة الدم في الصف الثاني. وفي شرحه لعملية تخثر الدم تطرق لمرض الهيموفيليا وأخطاره حيث لا يتخثر دم المصاب ويستمر في التدفق ما يسبب خطورة على الحياة. عند حديثه ذكر أن هؤلاء المرضى يمكن أن يستفيدوا من إعطائهم دما من متبرع كبير في العمر ما يساعد على التخثر. والسبب هو أن الإنسان بتقدم العمر يزداد تركيز العامل الثامن للتخثر لديه ما يؤثر سلبا على الإنسان حيث يكون معرضاً لأنواع الخثرة والجلطات. ولكن زيادة التركيز هذه عند تبرع المتقدم بالعمر تكون عاملا مساعدا لمرضى الهيموفيليا . عندما ناقشته بعد المحاضرة بخصوص تلك المعلومة أرشدني الى مقالة منشورة في آخر عدد من مجلة أمراض الدم البريطانية. ذهبت الى مكتبة الكلية للاطلاع على المقال ووجدته كما ذكر الدكتور جيروم. ذكرت له ذلك في المحاضرة اللاحقة وأثنى على متابعتي. وكانت تلك الحادثة بداية علاقتي مع المجلات الطبية والكتب غير المنهجية في مرحلة دراستي.
مصرف الدم :
شغلني، وأنا في الصف الثاني في الكلية بوصفي قليل المعلومات في فسلجة الدم، تفسير وجود طبقة بيضاء بين كريات الدم الحمر المترسبة ومصل الدم التي تتكون عندما تتم عملية السنتر فيوج (الطارد المركزي) بوضع أنبوب الدم في الجهاز بالحركة الدائرية بسرعة 1500 دورة في الدقيقة. توجهت إلى الدكتور سليمان الفخري مدير مصرف الدم للتعرف على المصرف وأعماله وليرشدني ويفسر لي تلك الظاهرة. رحب بي وشجعني للتعمق في البحث. شرح لي الدكتور سليمان تفاصيل تلك الطبقة وإذا بها طبقة الكريات البيض التي تكون كتلتها أخف من الكريات الحمر فتطفو فوقها ولكن المصل يكون الطبقة العليا.
سمح لي أن أتردد عليه حين سنوح أية فرصة احصل عليها. والذي شجعني على تكرار زيارتي له لطفه وعدم ممانعته بل وتشجيعه حيث كنا نتحدث عن مواضيع علمية تخص علم الدم وأمراضه وبطبيعة الحال يلقي عليّ ما استجد في الاختصاص بما يتناسب مع مرحلتي الدراسية. كان الدكتور سليمان الفخري مربوع الجسم دمث الأخلاق محبا لاختصاصه بإفراط ويعمل على تطور خدماته.
مع أستاذ التشريح هينس البريطاني:
كان الاستاذ ريتشارد هينس من أواخر الأساتذة الأجانب المتميزين الموجودين في العراق الى جانب أساتذتنا العراقيين الأجلاء ومن بين أولئك كان الأستاذ هينس رئيس قسم التشريح.
المهم هنا في مجال البحث العلمي أني سألته مرة سؤالا غير نمطي وكان: ما هو سبب حدوث صوت مسموع عند طقطقة الأصابع. وإذا بالأستاذ هينس يفتح عينيه ويحملق بي ويصحبني الى غرفته “منتشيا” من سؤالي ليشرح لي قصته مع هذه الظاهرة التي بحث فيها وتوصل الى نتائج ثابتة. فقد كان يدرس مفصل الإصبع المعين بتصويره شعاعيا قبل وبعد أحدات الصوت عند الشد عليه. وجد في التصوير الشعاعي وفي كل الحالات التي درسها ظهور فقاعة هوائية داخل المفصل. ومن المعلوم أنه لايمكن إحداث صوت عند محاولة الشد على المفصل ثانية مباشرة بعد المحاولة الأولى. فسـر تلك الظاهرة بأن الصوت سيحدث ثانية بعد ذوبان تلك الفقاعة الذي يتم بعد دقيقة تقريبا، وعند تكرار الشد يصدر الصوت وتظهر الفقاعة ثانية. ولا يمكن حدوث الصوت عند الشد في تلك اللحظة إلا بعد اختفاء تلك الفقاعة. بالمناسبة حدث أن سأل الأستاذ كامل الدباغ في برنامجه التلفزيوني الرائع “العلم للجميع” وعلى الهواء أن يفسـر احد المتخصصين تلك الظاهرة أي صدور صوت عند الشد على المفصل كي يجيب على سؤال احد المشاهدين. اتصلت به هاتفيا وأعطيته الجواب بعد أن اشترطت عدم ذكر اسمي عند إجابة المشاهد عن ذلك السؤال، استغرب من الطلب حيث قال أن المعلومة ستكون ذات وقع افضل على المشاهدين عند توثيق المصدر ولكني رجوته أن يلبي طلبي الذي حققه وذكر في البرنامج بان صاحب الإجابة طبيب رفض ذكر اسمه!!
الاستاذ فرحان باقر
لم أصدق حينما طلب مني الأستاذ فرحان وأنا في الصف السادس 1965 أن أسجل له التغيرات التي تحدث في تخطيط القلب عند فحص الجهد لدى مريض يشكو من الذبحة الصدرية، وكان حظي كبيرا حين تمكنت من تسجيل ذلك في اليوم التالي لمريض كان يشكو من ذبحة صدرية قلبية المنشأ وكان تخطيط القلب سليما ولكن بعد إجراء فحص الجهد عليه بدأت التغيرات تظهر في التخطيط، وقدمت له وباعتزاز لوحة كاملة فيها نماذج من تخطيط القلب الطبيعي لذلك المريض وبجانبه نماذج من التغيرات التي حدثت بعد إجراء فحص الجهد، واستخدم تلك اللوحة في تدريس التغيرات التي تنذر بالإصابة بالجلطة القلبية، ولازلت أحتفظ بنسخة من ذلك التخطيط لحد الآن.
الخدمة العسكرية:
عند تعييني بصفة ملازم طبيب في الجيش العراقي في معسكر الوند في منطقة مصفى الوند في قضاء خانقين عام 1967 في الكتيبة 22 المدفعية لم يمنعني ذلك من تحقيق رغبتي في اجراء بحث على بساطته حيثما توفر المناخ لذلك. ففي العيادة داخل المعسكر لاحظت العديد من الجنود مصابين بالتبول الدموي الناتج عن مرض البلهارزيا. قررت ان أفوم ببحث يخص مرض البلهارزيا بين العسكريين القادمين من المناطق الجنوبية الموبوءة بالمرض.
في إحدى سفراتي الى بغداد استعرت من مختبر أحد الأصدقاء الاختصاصيين جهاز الطارد المركزي(سنتر فيوج) اليدوي ومجهر قديم ومتطلبات إجراء ذلك البحث من المواد النبيذة من سلايدات وغيرها، وأقنعت الآمر النبيل الطيب العقيد علي حمدون كشمولة بالموافقة على القيام بالبحث الذي لا يسبب اي اذى للجنود وبقناعته بي وبجدية ما أود القيام به وبما ان تلك المدة لم تكن فيها حركات عسكرية فقد وافق الآمر على القيام بالبحث.
شخصت العديد من حالات البلهارزيا لدى من يشكو من التبول الدموي من الجنود وطلبت من المصاب شرب لتر من الماء في دقائق ومن ثم الركض لمدة عشر دقائق وبعدها يعطينا نموذج من ادراره، وكنت أضع الإدرار في انبوبتي اختبار متقابلتين في جهاز السنترفيوج ولمدة دقيقة واحدة حسب الطريقة المتبعة. بعدها وكما هو متعارف عليه يسكب كل ما في الانبوبة إلا القطرة الأخيرة في قعرها التي تؤخذ وتوضع على السلايد ويبدأ الفحص المجهري، وفي هذه المرحلة كنت أدعو الآمر والعديد من الضباط لمشاهدة ما سيجري، فكنت حينما أحدد موضع بويضة البلهارزيا أثبت موقعها وأسكب قطرات من الماء على حافة السلايد وذلك لتخفيف تركيز البول في العينة بخصوص البيضة. يسبب هذا التخفيف تخلخلا في الضغط الازموزي المعروف داخل البويضة ما ينتج عنه انتفاخها بسبب نفاذ الماء الى داخلها ومن ثم انفجارها ليخرج الطفيلي خارجها سابحا بطريقة مثيرة، وهذه اللحظة كانت من أحلى اللحظات التي كان يستمتع بها الضباط والجنود. مع ان هذا البحث لم يغير من الواقع والعلاج ولكنه ساعد في اكتشاف حالات جديدة من المصابين بمرض البلهارزيا فضلاً عن إشغال وقت الفراغ بنشاط علمي لذيذ وزيادة في المعرفة.
في الاردن:
حينما قامت حرب “الأيام الستة” كما سميت في حينها، بين الجيوش العربية واسرائيل عام 1967 انتدبت للذهاب مع قطعات الجيش العراقي في جحافل اللواء 21 ومعها وحدة الميدان الطبية 12 التي انتمي إليها وكانت بإمرة المقدم الدكتور عبد الغني عبد العزيز. وصلنا إلى مدينة المفرق الأردنية وكانت الحرب قد انتهت قبل أيام، ماعدا جبهة سوريا التي انتهت بعد أيام من وصولنا ونحن على وشك التوجه للمشاركة في الدفاع عن سوريا. كان قائد قواتنا اللواء الركن محمد يوسف طه الذي تمتع بالخلق العالي والهمة وفي متابعة الوحدات بكل أصنافها. وبالحظوة الخاصة التي يتمتع بها الأطباء في الجيش، فقد كنت ألتقي به أحيانا متجاوزا تسلسل المراتب.
استغربت من عدم توثيق الحالة الصحية للعسكريين في عياداتنا الخارجية الطبية عند متابعة حالتهم الصحية وسجل تاريخ صحتهم في الماضي قبل وعند وجودهم في الجيش. يتم فحص المنتسب الذي يراجع العيادة الخارجية وعلاجه وهو يحمل استمارة الإرسال إلى الطبابة ويعود الى وحدته ويهمل ما كان من تشخيص أو علاج ماعدا إن كان قد حصل على إجازة مرضية وهذه المعلومة الوحيدة التي تسجل في صفحة ذلك المنتسب.
ارتأيت أن أقدم مشروعا متكاملا يحقق ذلك التوثيق. عرضت المشروع على آمري الدكتور عبد الغني الذي أيده ومن ثم قدمته الى اللواء محمد يوسف، وبعد دراسته أبدى اللواء محمد يوسف إعجابه وأمر بتطبيقه ومن خلال اللقاء صرح لي: بأنه عمل طوال مدة خدمته العسكرية وتعامله مع العديد من الأطباء ولكنه لم يلتق بطبيب له الهمة والتصميم وفي أرض “المعركة” مثل ما كنت عليه، وكان ذلك وساما أعتز به وخصوصا عندما توجه بذلك الرأي للدكتور عبد الغني عبد العزيز كذلك. ولكن اللواء محمد يوسف نقل فجأة إلى منصب ملحق العراق العسكري في الباكستان. وحل محله اللواء محمد طيب كشمولة الذي كان ملحقا عسكريا في واشنطن. وبدأت بعض القطعات بالتهيؤ للعودة الى الوطن.
الإقامة في المستشفى الجمهوري في بغداد
الاستاذ زهير البحراني والتوثيق الحديث: في مرحلة الإقامة لم أجر أو أشارك ببحث ولكني كنت أساعد الأستاذ الدكتور زهير البحراني في بحوثه النوعية التي لم يعهدها كثير من الأساتذة الآخرين. فهناك الكارتات المفصلة لكل الأمراض الجراحية الأساسية للجهاز الهضمي. وفي كل كارت تجد كل ما يحتاجه الباحث من معلومات بشأن المريض وتفاصيل مرضه والفحوصات المختبرية والشعاعية والعملية الجراحية وما بعدها. كان مشروعه مثالا يحتذى به في أصالته وتصميمه البحثي وإدامة زخمه. وقد حقق ذلك نتائج باهرة بما نشره من البحوث عبر العقود اللاحقة التي اعتمدت على الجانب المهني والعلمي وحققت له الريادة في جراحة الجهاز الهضمي في العراق وخارجه..
الاستاذ محمود الجليلي وأكباد الفئران: عند مباشرتي في الردهة السادسة الباطنية في العام 1968 كطبيب مقيم وهي الردهة التي كانت تحت إشراف الأستاذ محمود الجليلي والأستاذ زهير قصير حاولت أن أقوم بتنظيم غرفة الطبيب المقيم التي تقع على يسار مدخل الردهة. وجدت في رفوف إحدى زوايا الغرفة ملفات وعلب مكدسة لم يدخلها النور لسنوات عديدة كما تبدو في حينها.عند القيام بتفريغ الرفوف شاهدت ما بهرني ولحد الان. تكدست على الرفوف العشرات من القناني الصغيرة بحجم 30 مليلتر محكمة الغطاء وتحوي سائل الفورمالين تسبح داخلها أكباد فئران مختبرية. كانت تلك بقايا البحوث التي قام بها الأستاذ محمود الجليلي في الأربعينيات من القرن، كما صرح بذلك الأستاذ زهير قصير. كان الأستاذ الجليلي مولعا بالبحث في أسرار تشمع الكبد. بهرني هنا الأستاذ كباحث حيث ان القيام بالبحوث المختبرية من أستاذ الطب السريري في ذلك الوقت شيء غير متعارف عليه وطريق لا يسلكه أغلب الأطباء. أحني رأسي أمام هذا المربي والرائد وعرفت حينئذ بأن الربط بين العمل السريري والبحث المختبري ممكن ومهم. (مقطع من كلمتي في تأبينه في الجزء الرابع من مذكراتي).
الاستاذ عبد اللطيف البدري ومفاجأة مع مريض: في تلك الحقبة حيث كان الأستاذ عبد اللطيف البدري في الوحدة الجراحية 17-18 التي ضمت الأساتذة الأجلاء خالد القصاب وعبد الكريم الخطيب وزهير البحراني. كان الأستاذ عبد اللطيف مولعا بالبحث والتطوير فقد أدخل في ذلك الوقت طريقة كانت قد استعملت في مراكز عالمية وهي استخدام جهاز لعلاج قرحة المعدة الشديدة التي لا تستجيب للعلاج النمطي. يعمل الجهاز بإدخال بالون متصل بأنبوب الى داخل تجويف المعدة ويعبأ البالون عن طريق الانبوب بالكحول حيث يعمل الكحول على تبريد الغشاء المخاطي المبطن للمعدة ويشمل ذلك موقع القرحة وبذا تتلف الخلايا التي سببت الالتهاب الموضعي والمؤمل تحسن حالة المريض. ليس المهم هنا إسلوب العلاج الذي لم يجد طريقه للتطبيق العملي ولكن المفارقة التي حدثت إنه في إحدى المرات كان المريض رجلا كبير السن فاضلا ومتدينا. وبعد ضخ الكحول وبكميته الكبيرة التي تملا البالون وإذا به يبدأ بالتفوه بكلمات غريبة غير مقبولة من أمثاله وبعدها بدأ بالصياح والهذيان بكلمات “شيش بيش” وتبين أن البالون كان مثقوبا وتسرب بعض سائل الكحول الى المعدة وأثر عليه في الحال. وقدمت الاعتذارات إلى آخر القصة.
المهم هنا أن روح البحث والتجديد كانت وثابة عند قادة الجراحة السريرية كما كانت لدى جل أساتذتنا.
الاستاذ حسين طالب و”تلوين” المرضى!!: في الردهة 19-20 كان الجراح الباحث الاستاذ حسين طالب الذي اشتهر بمجالات عديدة وأقتصر هنا على ذكر واحدة منها في مجال البحث التجريبي السريري. فقد كان الأستاذ حسين يتوخى العلاج الجذري لحالات السرطان. كما هو معروف بإن أهم مسرى لانتشار السرطان في الجسم هو الأوعية اللمفاوية والغدد اللمفاوية. ومن الممكن اكتشاف وجود الغدد اللمفاوية المشمولة بالسرطان إذا كانت متضخمة حيث يسهل اكتشافها بالفحص السريري. ولكن الغدد الصغيرة أو العميقة والأوعية اللمفاوية لا يمكن تحسسها ما يؤثر كثيرا على احتمال سعة انتشار المرض وخطورة تأثير ذلك على حياة المصاب.
استخدم الأستاذ حسين طريقة زرق المصاب بمحلول صبغة الجنشين فايولت (Gentian Violet) بين أصابع القدمين والذي حين سريانه ستظهر للعيان الأوعية اللمفاوية متلونة باللون البنفسجي وكذلك تتلون الغدد المصابة عند إجراء العملية. يتبدل لون جلد ذلك المصاب بلون بنفسحي شاملا بياض العينين. وحينما يتجول ذلك المريض في أروقة المستشفى وحدائقها لاسيما في الليل يجعل النظر إليه مصحوبا بالرعب!.
الأستاذ خالد ناجي وفرم الجلد: كان الأستاذ خالد منبعا للأفكار ومدرسة بحد ذاته. لكنه واجه كما واجه جميع المعنيين بعلاج الحروق حالة الحروق الشديدة التي شملت مساحة كبيرة من الجلد حيث لا يمكن تغطية الجزء المحروق الواسع بجلد سليم. ابتكر طريقة فرم بعض الجلد الطبيعي الباقي وتوزيعه على المناطق التي احترق فيها الجلد. وكانت قد استعملت طرق أخرى لعلاج تلك الحالة الصعبة منذ القرن التاسع عشر ولكن طريقة فرم الجلد لم تذكر. وقد يكون الأستاذ خالد أول من استعملها.
المملكة المتحدة:
اسكتلندا:
مستشفى مدينة برج أوف إيرن
عملت كما ذكرت في الجزء الأول كطبيب مقيم في قسم العيون في مستشفى برج أوف إيرن التابع لمستشفى مدينة برث الملكي في العام 1972 وهي المدينة المشهورة والمعروفة بوصفها عاصمة قديمة لإسكتلندا وكذلك شهرتها لدى الطيارين في العديد من دول العالم حيث توجد فيها اهم مدرسة للطيران في منطقة سكوون وقد تدرب فيها العديد من طيارينا العراقيين.
ترأس القسم الدكتور ستانسلاف كيبرت الاختصاصي في أمراض العيون وهو مهاجر من بولندا. كان الدكتور كيبرت آخر رعيل من جراحي المملكة المتحدة الذي كان يحصل على مسؤولية موقع اختصاصي في الجراحة أو الطب بدون الحصول على زمالة او عضوية الكليات الملكية. وفي تلك المدة صدر قرار بمنع تعيين اي اختصاصي لا يحمل شهادة الزمالة أو العضوية في اختصاصه.
كان الدكتور كبرت يجري تجارب عملية على المرضى الذين فقدوا نظرهم بسبب عتمة القرنية التامة حيث لا يمكن اجراء عملية زرع القرنية المتعارف عليها بسبب وصول العتمة الى حافات القرنية.
بدأت زراعة القرنية بنجاح منذ بداية القرن العشرين وحتى قبل ذلك التاريخ. اقتصر الزرع على إزالة عتمة صغيرة في القرنية لا تتجاوز بضعة ملمترات وتكون بعيدة عن حافة القرنية وتبديلها بقطعة بنفس المساحة من قرنية المتبرع. أما الذي كان يقوم به الدكتور كيبرت فزرع القرنية مع ما يحيط بها من الصُلبة (غلاف مقلة العين الأبيض اللون) بمقدار المليمترين. وهذه في الغالب تمر باختلاطات شبه مؤكدة أهمها نمو الأوعية الدموية التي تنفذ الى داخل القرنية الشفافة المزروعة وتسبب عتمة كاملة فيها كالتي كانت عليها القرنية المصابة قبل العملية. ولكن الدكتور كيبرت كان يتفاخر بنتائج عملياته التي لم تسنح لي الفرصة بمشاهدتها ولكن شاهدت إحدى المريضات بعد العملية وكانت قرنيتها شفافة في. ذلك الوقت، والذي يدل على نجاح تلك العملية. لا أعتقد أنه نشر أي بحث بخصوص تلك العملية لأنه غير أكاديمي التوجه. كانت تلك التجربة دافعاً لي لتجاوز الأفكار النمطية ومحاولة ابتكار الجديد.
المستشفى الجامعي في دندي
عندما غيرت اتجاهي في التخصص من العيون الى جراحة الدماغ باشرت عملي كمقيم في المستشفى الجامعي في دندي لمدة ستة أشهر وعندما قررت أن يكون هذا الاختصاص هو خط حياتي الجديد لزم أن أكمل متطلبات الحصول على شهادة زميل كلية الجراحين البريطانية. وهذا يعني أن أكمل تدريبي في الجراحة العامة وجراحة الطوارئ. كنت على اتصال بالباحثين في مجالات متعددة خارج نطاق عملي ومسؤولياتي. فهناك الأستاذ كثري في قسم الباثولوجي المتبحر في مرض أميلودوسز (الداء النشواني Amyloidosis ) وكنت أجلس معه ساعات على المجهر أتعلم منه هذا الأفق الجديد وقد استفدت مما تعلمته منه كثيرا في أداء امتحان زمالة كلية الجراحين الملكية، عندما جوبهت بسؤال بخصوص المرض وكانت إجابتي مبهرة للممتحنين اعتمادا على ما تعلمته من العالم كثري.
كذلك لازمت الاستاذ مردوخ اختصاصي جراحة العظام والخبير العالمي في تطوير عمليات بتر الأطراف وله نظرياته في هذا المجال. كان مركزه في دندي أحد ثلاثة مراكز متطورة متخصصة بعلاج البتر بتطوير الاطراف الصناعية في المملكة المتحدة. بدأ باستخدام الحاسبات الالكترونية والأرضية المتحسسة الكترونيا والكاميرات لدراسة أفضل طريقة لتعويض الشخص المصاب ببتر الساق بالطرف الصناعي المناسب له. استفدت من هذه المعرفة في الامتحان النهائي للزمالة حينما جابهت أسئلة من اللجنة الامتحانية بخصوص البتر وآخر تطوراته التي لم يلمّوا بها بعد.
انكلترا
المستشفى الجامعي في ليدز
التخثر الوريدي في مرضى الجراحة العصبية
استرعى انتباهي كثرة حالات تخثر الأوردة (في الساق) عند المرضى الراقدين في قسمنا بعد إجراء العملية أو بإصابتهم بمرض يعيق الحركة الحرة للجسم او للساقين. وتذكرت حينها بحثا كان قد نشره الأستاذ الدكتور مهدي مرتضى أستاذ الطب الباطني في كلية طب بغداد بخصوص تخثر أوردة الساقين في قسم العناية القلبية المركزة في المستشفى الجمهوري حيث كان من النادر أن يصاب بها المريض الراقد في القسم بالرغم من طول فترة البقاء وقلة الحركة. ربطت ذلك بأن نسبة الإصابة بدوالي الساقين عند النساء الغربيات أكثر منه عند النساء في بلادنا. وبدأت أحاول أن أجد ما يسوغ ذلك. اطلعت في حينه على بحث أنجزه الدكتور جون كليتون في قسم التوليد والأمراض النسائية في مستشفى سان جيمس، المستشفى التعليمي الآخر في ليدز واستنتج جون وجود مركب في الدم عند زيادة نسبته فوق الطبيعي يكون المريض مرشحا للإصابة بالتخثر الدموي. وصممت على هذا الأساس بحثا متوازنا لدراسة التخثر الدموي في سيقان المرضى في قسم الجراحة العصبية في مستشفانا. طلبت من أستاذي مايلز كيبسون أن يتصل بالأستاذ ماكنيكول رئيس قسم الطب في الجامعة والمتخصص بأمراض الدم وأحد محرري المجلة الطبية البريطانية، كتقديم لزيارتي له وعرض المشروع عليه.
عندما قابلته وشرحت له المشروع بدا عليه الشعور بالرضا عن المشروع من الناحية العلمية وعده من المشاريع المهمة ولكنه قال: لا يمكنني أن أساهم معك أو أساعدك إذا لم تهيء للمشروع مبلغا لا يقل عن خمسة آلاف باوند استرليني لتغطية تكاليفه. وكان هذا شرطا تعجيزيا لي. فقررت أن أحاول بالأسلوب المباشر مع المختبر ومع الدكتور بيتر كيرنوف (Peter Kernof) وهو زميل لي يعمل كمقيم أقدم في أمراض الدم والذي تعين بعد ذلك أستاذا في أمراض الدم في مستشفى الرويال فري (Royal Free Hospital) في لندن.
تم الاتفاق وبدأ البحث الذي لم يكلف أية مبالغ. كان البحث متميزا إذ شمل دراسة حالة مريض الجراحة العصبية في مجالات ثلاث: الفحص الدموي الذي قام به المختبر في المستشفى، الفحص الذري وأخيرا الفحص التصويري.
- الايرانيةلا يحضرني اسمه بإجراء الفحص الذري بدون كلفة وهو معروف بطيبته وكان يأتي إلى المستشفى على الدراجة الهوائية ما كان يثير فضول الجميع في حينه!. أما الفحص التصويري فكان باستخدام جهاز الأمواج فوق الصائتة لتقدير مدى نفاذ الدم في الأوردة لاحتمال وجود خثرة دموية في مختلف مناطق الساقين والذي كنت أقوم به شخصيا وبمساعدة من التقني المسؤول. وفي حالات قليلة أجرينا فحص تلوين الاوردة المعقد بزرق مادة التلوين في عظم الساق.
بعد سنة تقريبا من الجهد المتواصل أعطيت الأوليات الى بيتر عندما ودعته بزيارته في الكلية الجامعة في لندن لأن سفري وعودتي الى العراق قد أزفت وعدت ولم أسمع منه أية معلومة بخصوص نتائج البحث.
في العام 1975 ومن خلال العمل الجراحي في مستشفى ليدز كنت اشعر بأن علاجنا لأم الدم الدماغية (وهي انتفاخ في أحد شرايين الدماغ قد ينفجر تلقائيًا ويودي بحياة المريض) بالتدخل الجراحي أو بدونه، بحاجة إلى إعادة نظر.
ومن المعروف أن علاجها الجراحي من أهم عمليات الدماغ وأكثرها خطورة. والخطر كامن في انفجارها والمريض في حياته الاعتيادية ما يمكن أن يسبب موت الفجأة أو أن يحدث الانفجار عند إجراء العملية الجراحية. وهنا يعتمد على حالة الدماغ وخبرة الجراح في الانتهاء بالشفاء أو الموت وما بينهما. علاجها يتلخص بوضع “قراصّة Clip” على مدخل أم الدم ليمنع دخول الدم إليها وبذا ينتفي احتمال الانفجار. كنت أغرق في التفكير بوسيلة لتفادي خطورة العملية وإمكانية علاجها بطريقة أقل خطورة وأضمن نتيجة. وتوصلت إلى فكرة غلق المنفذ وملء تجويف أم الدم بمادة صلبة تبقى في داخلها ولا تسبب خطراً على الجسم بتفاعلها مع الدم. وبما أن إدخال هكذا مادة صلبة لتحقيق ذلك يعد مستحيلاً فالحلّ هو الحصول على مادتين في حالة السيولة تتصلبان عند امتزاجهما ببعضهما. يزرق هذان السائلان عبر أنبوبين منفصلين عبر أنبوب القسطرة الرئيس على أنْ يكون امتزاجهما داخل تجويف أم الدم عند دخول نهاية الأنبوب في التجويف فإذا ما امتزجا تفاعلاً سريعاً وتكونت منهما مادة صلبة تسدّ فجوة أم الدم وتقضي عليها. وبطبيعة الحال يكون ذلك باستخدام الفحص الشعاعي. وبنجاح عملية الزرق والتصلب في داخل أم الدم يصبح هذا العلاج علاجاً تاماً سالماً. ولكني لا أعلم ما هي هذه المواد التي تتوفر فيها هذه الصفات. فذهبت إلى صيدلية المستشفى حيث التقيت الصيدلي المسؤول وشرحت له الفكرة. استحسنها وعدها ممكنة التطبيق. وبعد أنْ قام بالبحث المعمق جاء بالحلّ وسمّي السائلين وكتبتهما على قصاصة ورق.
وكان من المحتمل أنْ يكون لهذه الفكرة شأن لو كان بمقدورنا إيصالها لمن يمكن أن يدرس احتمال تطبيقها. أحمد الله أن هناك من ابتكر وطبق هذه الفكرة التي نجحت واستخدمت وأنقذت الأرواح من أخطار هذه الآفة. ولا أعلم أن كانت المواد التي استخدمت هي نفس المواد التي استنبطها صيدلي مستشفانا أم لا.
معهد السرطان الأوربي
في بداية السبعينيات بدأ معهد السرطان الأوربي (معهد بورديه Bordet) في بروكسل عاصمة بلجيكا بمشروع بحثي سريري باستعمال عقاقير جديدة تجريبية لعلاج أورام الدماغ المتقدمة إتماما للعلاج الجراحي والإشعاعي. شارك في المشروع البحثي عدد كبير من المراكز السرطانية في أوربا. ترأس المشروع الأستاذ جان هيلدابراند رئيس قسم الأعصاب في جامعة بروكسل في بلجيكا. شاركت مستشفانا في مدينة ليدز بهذا المشروع. لاحقاً سأذكر تفاصيل المشروع والبحث في فصل مسيرتي مع السرطان.
الرغبة الأكاديمية والاطروحة:
الطموح الأكاديمي: بعدما اجتزت امتحان زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية علم 1973 اي بعد سبع سنوات من تخرجي في كلية الطب وكان عمري ثلاثين عاما في حينه، وجدت أن هذا لا يحقق طموحي الأكاديمي. لذا قررت أن أسلك السبيل الأوسع وذلك بالتحضير لامتحان الطب الباطني والحصول على عضوية كلية الأطباء الملكية البريطانية في إدنبرة فضلا عن للشهادة الجراحية. شمل امتحان العضوية في ذلك الوقت شقين؛ الاول الطب العام والثاني يكون من اختيار المتقدم للامتحان. على سبيل المثال اختار الأستاذ محمد علي خليل للشق الثاني من الامتحان أمراض الغدد الصماء حسب ما ذكره لنا في إحدى الجلسات معه. كان أملي أن اجتاز الشق الاول العام بعد ان اخدم كطبيب مقيم في الباطنية لعدة أشهر وان يكون الشق الثاني متخصصا بطب العيون العصبي والذي كنت أهواه. وحينما هممت بالتقديم للإقامة علمت بأن الكلية الملكية ألغت هذا الأسلوب وأصبح الامتحان عاما لكل فروع الطب. وهنا ارتأيت بأن التحضير لامتحانٍ ابتعد فيه عن المجال العصبي والذي يحتاج الى قاعدة وخبرة واسعة في الطب الباطني يكون أكثر ما أروم وأستطيع. فألغيت الفكرة ولكن استبدلتها بفكرة التقديم على الدراسات العليا (الدكتوراه).
التوجه للدراسة الجامعية العليا: بدأت بالبحث والتقديم لعدة جامعات، ولكن الذي واجهته كان عدم إمكانية دراسة الدكتوراه بدوام جزئي في الجامعات القريبة من مقر عملي في ليدز حيث لم يمكنني أن أترك مزاولة مسؤولياتي في الجراحة العصبية وأن أتفرغ تماما للبحث. ولكن جامعة برادفورد قبلت أن أعمل على الحصول على ماجستير فلسفة علوم بدوام جزئي. وسجلت على الدراسة في العام 1975 ومن حسن حظي فقد كان المشرف على دراستي عميد كلية الدراسات العليا شخصيا الاستاذ روبرت تيرنر.
تصميم البحث: بدأت بتصميم البحث وخطة العمل وكان عنوانه: “عقابيل (ما ينتج من تأثيرات سيئة بعد) الشدة على الرأس عند الأطفال” (Patterns and Sequalae of head injury in children). شملت الدراسة 450 طفلا وكانت دراسة موسعة جدا. سافرت خلالها ولعدة مرات الى مقر المكتبة الوطنية البريطانية في مدينة بوسطن سبا (Boston Spa) حيث لم يوجد الانترنت في حينها وحصلت على مساعدة مسؤولي المكتبة في جامعة برادفورد وكذلك جامعة ليدز.
في العراق: أكملت متطلبات البحث في إنكلترا وعندما عدت الى العراق عام 1976واصلت التحليلات الإحصائية التي ساعدني فيها العديد من الشباب الناهض في مجال الحاسبات في حينها وعلى رأسهم الآنسة سهاد في مركز الحاسبة التابع لوزارة الصحة. وفي العام 1980 عدت الى المملكة المتحدة للتحضير لكتابة الأطروحة حيث تفرغت في حينها تفرغا كاملا. وواصلت البحث والتنقيب والكتابة ووصل بي الحد الى أن أغطي أطراف أصابعي بلفاف من القماش كالذي يستعمل في لف الجروح لتقليل الألم الذي أصابني بها من كثرة الشد على القلم لتدوين المعلومات المطلوبة من مصادرها حيث كنت أقضي ساعات طويلة متصلة في الكتابة.
تقديم الأطروحة إلى الجامعة: أكملت كتابة الأطروحة بعد أربعة أشهر. تمت طباعتها وتجليدها حسب مواصفات الجامعة. قدمت خمس نسخ مجلدة رسميا إلى الأستاذ المشرف البروفسور تيرنر.
ترقية الدراسة من ماجستير الى درجة الدكتوراه: بعد يومين من التقديم استدعاني الأستاذ تيرنر الى مكتبه وفاجأني بالقول إن هذه الأطروحة أعلى من أن تكون أطروحة ماجستير فلسفة علوم فهي ترقى الى مستوى الدكتوراه. وعدني بأن يقدم توصية الى مجلس الجامعة بالموافقة على أن تقبل على الدكتوراه وبدون أي تغيير فيها. وكان ما أراد إذ وافق مجلس الجامعة على أن ترقى الى مستوى الدكتوراه.
أعدت طبع الغلاف وبعض الصفحات الواجب تغييرها وقدمت بحلتها الجديدة، الدكتوراه. وبطبيعة الحال كان فرحي كبيرا بهذا التقييم الذي يندر أن يحدث في الدراسات العليا.
الامتحان:
بعد إكمال الإجراءات اللازمة تعين يوم الامتحان وهو يقتصر على الأساتذة الممتحنين والمشرفين فقط ولا يسمح لغيرهم بالحضور وهو غير ما اعتدنا عليه في العراق بان يكون الامتحان أمام الجمهور العلمي وغيره. كانت لجنة الامتحان تتكون من الأستاذ جون بيكر (John Baker) من جامعة برادفورد والدكتور جون شو (John Shaw) اختصاصي الجراحة العصبية في ادنبرة وهو من الجراحين المعروفين ولكنه غير أكاديمي. وهذا عرف مقبول حيث انه خبير في الاختصاص وليس بالضرورة ان يكون أكاديميا. وحضر أستاذي مايلز كيبسون ولكن بمزيد من الأسف لم يستطع أستاذي المشرف عميد الدراسات العليا روبرت تيرنر الحضور بسبب إجراء عملية استئصال سرطان القولون وبعدها عملية رفع المرارة الملتهبة.
ما قاله رئيس اللجنة:
دخلت الامتحان متوكلا على الله وبثقة تامة ولكن حز في نفسي غياب مشرفي الأستاذ تيرنر. بعد الامتحان الذي استمر بحدود الساعتين طلب مني رئيس اللجنة ان اترك القاعة كي يتداول مع الأعضاء. خرج رئيس اللجنة الاستاذ بيكر ودعاني ليقول لي ما ترجمته بالحرف الواحد ” لقد امتحنت طلبة في كل أنحاء بريطانيا، وأقول لك بان أداءك كان متميزا وأرجو ان يقيّمك وطنك بما تستحق”. وللأسف قررت اللجنة وبتوصية من جون شو ان تجرى بعض التغييرات وإضافة معلومات اخرى وعليه يجب إعادة الامتحان بعد إكمال ما طلبه الدكتور شو. وتقرر ان يعاد الامتحان بعد ثلاثة أشهر تبعا لتعليمات الجامعة وهو إجراء مقبول في العرف الجامعي.
بعد أن أكملت امتحاني، لدرجة الدكتوراه، في جامعة برادفورد قررت العودة الى العراق بالرغم من إن الحرب العراقية الإيرانية قد اشتعلت في العام 1981. عند وصولي الى الوطن باشرت في الكلية واستلمت واجباتي المهنية والأكاديمية. بدأت بالتوجه الى جبهات القتال لعلاج الجرحى في واجبات دورية تشمل كل زملائي في الاختصاص.
عندما اقترب موعد الامتحان قدمت على إجازة سفر الى بريطانيا لأداء الامتحان بعد ان أكملت المتطلبات فاجأني عميد كلية طب بغداد حيث كنت عضواً في هيئة التدريس في الكلية، بتصريحه للمسؤولين في الجامعة بعدم قناعته بضمان عودة أي عضو هيئة تدريسية الى العراق بعد سفره علما بان عائلتي كانت باقية في بغداد. وكان ضمان العودة هوشرط العميد اللازم لمنح الإجازة. وبذا حرمت من تلك الفرصة.
الخذلان: كتبت لجامعة برادفورد بذلك وانتظروا طويلا وبعد اليأس من الحصول على الإجازة للسفر بسبب الحرب بعد أكثر من سنتين واستمرار عدم القدرة على السفر كتبت الى الاستاذ تيرنر باستحالة ذهابي فأجاب ان الجامعة قررت في هذه الحالة ان تنهي الموضوع وتمنحني الشهادة الاولى التي سجلت عليها وهي ماجستير فلسفة علوم. المهم كما ذكرت للأستاذ تيرنر بان هدفي كان الحصول على بعض القدرة على التعمق البحثي في دراسة الأدبيات العلمية واستنباط المفيد منها واستثمارها وهذا ما تحقق لي. كما ان شهادة زمالة الكلية الملكية البريطانية كانت كافية بتقديري كشهادة مهنية.
كان موضوع أطروحتي وما صاحبها من إشكال حديثاً يتناقله منتسبو الكلية والجامعة في برادفورد كما ذكرت ذلك لي الدكتورة ساهرة التي كانت تدرس على الماجستير في الجامعة في ذلك الوقت. وأنا لست بآسف على ذلك ولا مبتئس للأسباب التي ذكرتها للأستاذ تيرنر.
الاخلاف في العصب الثالث الدماغي:
استمراراً لرغبتي في متابعة حالات أمراض الاعصاب العينية كانت احدى مشاهداتي السريرية في العراق الاخلاف (إعادة بناء ووظيفة) في العصب الثالث الذي يسيطر على جل حركات مقلة العين. ظهر لي عن طريق خبرتي مع مرضاي بأن العصب الثالث المصاب في حالات الشدة على الرأس بتقديري يعود الى النشاط بخلاف المعروف بأن الانسجة الدماغية ليس لها القابلية على الإخلاف حيث أن ما يتلف منها لا يتجدد. والغريب أن عملية الإخلاف في هذا العصب تأخذ احيانا منحىً غير طبيعي حيث ان الألياف العضلية “تضل طريقها” وتتجه نهاياتها المتجددة الى غير ما كانت عليه في الاصل. وتسبب هذه حركات غريبة في المقلة والبؤبؤ ليس لها علاقة بالوظيفة الطبيعية لذلك العصب. وهذه الظاهرة كانت تؤكد عملية الإخلاف وبدون أدنى شك.
عند وجودي في المانيا في العام 1979 في جامعة يوهان غوتنبرغ للتدريب على جراحة محجر العين والاطلاع على ما استجد في مجال الجراحة العصبية وجراحة محجر العين، تنامت عندي فكرة إجراء مشروع بحث مختبري بشأن الإخلاف (إعادة بناء) في العصب الثالث الدماغي الذي يسيطر على حركة العين. ناقشت المشروع مع السيد خليفة التقني الرئيس في مختبر الحيوانات في القسم الذي استوعب الفكرة وامكانية تصميم مشروع بحثي لدراسة تطبيق تلك الفكرة واقترح أن نجري التجارب على حيوان الأرنب. ولكي يكون البحث بمستوى علمي مقبول اتصلت بالأستاذ شرويدر (Schroeder) أستاذ علم الأمراض (الباثولوجي) في تلك الجامعة وناقشت معه تفاصيل البحث ففاجأني بتبرعه بان يقوم بالفحص النسيجي المختبري بعد الانتهاء من البحث لدراسة مدى وجود الإخلاف في العصب حين إرساله من العراق.
حينما عدت إلى العراق لم انتظر طويلا لكي اتصل بأخي وزميلي الأستاذ الدكتور محمود حياوي في قسم التشريح في كلية الطب الذي كان تواقا لان نعمل معا في أي بحث مشترك في مجال العلوم العصبية حيث إن أطروحته في الدكتوراه كانت في ذلك الميدان. وعندما ناقشنا مشروع بحث الإخلاف في العصب الثالث أعجب بالفكرة وبدأنا بكتابة المشروع مع متطلباته من العدد المطلوب من حيوان الأرنب والمواد المختبرية اللازمة لا نجازه. قدمنا المشروع إلى عمادة الكلية الطبية وحصلت الموافقة.
قررنا أن تكون العينة 12 أرنبا تنطبق عليهم المواصفات الكاملة للعملية الناجحة و4 أرانب تعد كقياس طبيعي للمقارنة. وهذا يعني أن العمليات غير الناجحة أو غير الكاملة تحذف من البحث. تم الاتفاق مع مسؤول بيت الحيوانات في الكلية على أن يخصص لنا 20 أرنبا. بدأنا بالعمل بعد تهيئة متطلبات البحث وبدأت الحيوانات ترسل تباعا من بيت الحيوانات في الكلية الطبية.
صعوبات البحث: كنا نجري التجارب في يوم واحد من أيام الاسبوع خصصته بالرغم من زحمة عملي في الجراحة العصبية في مستشفى جراحة الجملة العصبية وتدريس الطلبة واللجان التخصصية. هناك مشكلة تخديرية وجراحية في استخدام حيوان الأرنب التي أثرت كثيرا على سير التجارب. فحيوان الأرنب يصعب تخديره وإبقاؤه تحت التخدير بمستوى ثابت يسمح بإجراء العملية الجراحية بدون أي تغيير في ذلك المستوى، والمشكلة كانت إذا كان مستوى التخدير ضعيفا يبدأ الحيوان بالحركة وإذا رفعنا مستوى التخدير قليلا توفي الحيوان وكان هذا المجال بين مستويين ضيقين جداً ما سبب فقدان العديد من الأرانب. والمشكلة الأخرى كانت جراحية حيث يوجد جيب وريدي كبير في مؤخرة هرم محجر العين حيث موقع التجربة وإذا انفجر ذلك الجيب الوريدي فقد الحيوان الكثير من دمه ولا يمكن السيطرة عليه وسبب ذلك موت الحيوان. كنا نعوض الحيوانات النافقة بأخرى.
أكملنا البحث بإنجاز اثنتي عشرة تجربة ناجحة حيث استبعدنا الحالات المشكوك بنجاحها. قبل الانتهاء من التجربة الناجحة كنا نقطع من إذن الأرنب قطعة مثلثة صغيرة كعلامة فارقة وهذا أسلوب متعارف عليه في حقل التجارب على الحيوانات المختبرية.
رعاية بيت الحيوانات: كنا نعيد الأرنب بعد نجاح تجربته إلى بيت الحيوانات حيث الرعاية الخاصة للحيوانات التي كانت تحت إشراف أستاذ طب بيطري. استغرق البحث بحدود السنة وكنا فرحين جداً بإنجازه. شاهدنا عند متابعاتنا للحيوانات في تلك السنة وبفرح بالغ عودة الوظيفة إلى العصب الثالث بعد شلله عند إجراء التجربة عليه. بعد اكمال التجارب والاستعداد للبدء بمرحلة تحليل النتائج طلبنا من حارس بيت الحيوانات ان يرسل الحيوانات تباعا كي نأخذ الجزء الذي اجريت عليه التجربة واجراء اللازم من تثبيتها بالمواد الكيميائية وارسالها الى الاستاذ شرويدر في المانيا.
الصدمة والابتسامة: لم يدر في خلدنا أن نصدم عندما فاجأنا عامل بيت الحيوانات بتصريحه بعدم وجود أي من تلك الأرانب حيث كان قد وزعها على باحثين آخرين لإجراء تجاربهم عليها وذلك لقلة عدد الحيوانات لديه وليس لنا ان نعرف اين ارانبنا وماذا اجريت عليها من تجارب بحثية في اقسام اخرى. وهكذا انهار المشروع الهائل الذي كان سمكننا أن نضيف كثيرا من المعلومات في هذا المجال.
هنا يجب أن اذكر باني عندما علمت بذلك الخطأ الكبير من بيت الحيوانات كان ردّ فعلي أن ابتسمت ابتسامة الألم ولم أنبس ببنت شفة حيث لا ينفع اللوم بعد أن وقع المحذور. وهذا ثمن ندفعه ونستمر في دفعه أن رمنا أن نتقدم ونتطور في مجتمع غير متطور بأغلب قطاعاته.
طائر العنقاء يحترق ثم يخرج من الرماد!: تذكرت الاسطورة القديمة بخصوص طائر العنقاء ووجوب نسيان الذي حدث والنظر الى المستقبل. وكانت تلك التجربة المؤلمة درسا في الحياة ودافعا على الإصرار بالمضي في الطريق الذي كنا نؤمن به بالرغم من وجود العقبات الاجتماعية والإدارية. بعد مرور الأزمة التي مررنا بها محمود وأنا لم نترك المشروع البحثي المشترك وبدأنا بالتخطيط لإجراء بحث جديد مهم وهو بحث زرع النخاع الشوكي.
زرع (غرس) النخاع الشوكي
بالرغم من “هول الصدمة” التي أصبنا بها في التجربة السابقة في الاخلاف في العصب الثالث الدماغي قررنا، زميلي محمود وأنا، أن نعمل على القيام بتجرية مهمة وهي زرع النخاع الشوكي. وقد استرشدنا بفكرة أستاذنا الدكتور خالد ناجي بزرع الجلد في حالات الحروق حينما يفرم الجلد المتبرع به ليغطي مساحات الجلد المفقود بالحريق.
صممنا التجربة على هذا الاساس بفرم عصب من أعصاب الفأر ووضع ذلك في منطقة القطع في النخاع الشوكي التي قمنا بها بسكينة مدببة ودقيقة. وبعد ان ارسينا تفاصيل واسلوب تحقيق هذا المشروع بدأنا بالاستعداد لذلك بتهيئة المتطلبات كافة.
قمنا عام 1982 بالبحث في مختبر تشريح كلية الطب جامعة بغداد. استخدمنا الفأر بوصفه الحيوان المختبري. وبعد اربع سنوات تقريبا تكللت نتائج بحثنا بالنجاح. استخدمنا في تحليل النتائج المجهر الالكتروني الذي أثبت أن هناك نموا أكيدا في القطع الذي قمنا به في النخاع الشوكي. نشرنا البحث في أفضل مجلة عالمية متخصصة بالعمود الفقري في المملكة المتحدة وتحت عنوان زرع النخاع الشوكي؛ طريقة تجريبية جديدة. ويمكن الحصول على المقال من التفاصيل لاحقاً.
انهالت علينا طلبات نسخة من البحث المتعارف عليها وكانت من أغلب انحاء العالم ولم تكف الـ 25 نسخة التي ارسلها الناشر لنا. بعد صدور هذه المقالة وفي لقاء مع جراحة دماغ دنماركية كانت تعمل وقتيا في مستشفى ابن البيطار في بغداد التي كانت تدار كليا باشراف فريق أوربي حيث كانت تلك الاختصاصية بصدد اكمال كتاب لها بخصوص نفس الموضوع اتهمتنا في ذلك اللقاء بالكسل العلمي لعدم تطبيق النتائج على الانسان. ولم نكن في حينها مقتنعين ان نجاح البحث على حيوان مختبري صغير يؤهل تطبيقه على الانسان.
استمر العمل بالمشروع في كلية صدام الطبية حيث تسلم الدكتور محمود منصب عمادتها. كان مختبر البحوث قد جهز بما هو أفضل من مختبر كلية طب بغداد.
المرحلة الثانية في زرع النخاع: في بحث زرع النخاع الشوكي وعودة الى الوراء الى مؤتمر الجمعية الطبية العراقية في البصرة عام 1978 وفي لقاء جانبي مع جراح البصرة المتميز على مستوى العراق وخارجه الاستاذ الدكتور محمد حسين السعدي بدأت عندي فكرة استخدام الثرب(omentum) في امراض الجهاز العصبي.
استخدم الدكتور السعدي الثرب في ذلك الوقت لعلاج داء التفيّل (Elephantiasis) في السيقان وكانت نتائجه توحي بالنجاح.
فرضية استخدام الثرب لمرض دماغي؟؟: فكرت في الوهلة الأولى في استخدام الثرب لعلاج حالات ارتفاع ضغط الدماغ الحميد(Benign Intracranial Hypertension) او ما يدعى بورم الدماغ الكاذب. ولكن لم يكن ذلك سهل التحقيق مختبريا لعدم امكانية استحداث حالة ارتفاع ضغط الدماغ عند الحيوان بما هو متوفر لدينا ثم علاجها بالثرب. الأمل أن يسعى شبابنا لدراسة امكانية تطبيق ذلك في المستقبل.
المرحلة الثانية: الثرب في علاج قطع النخاع الشوكي: تكونت لدي فكرة استخدام الثرب في زرع النخاع الشوكي باستخدام الحيوانات المتوسطة مثل الكلب بوصفه حيوان تجارب. ناقشت الموضوع مع الدكتور محمود حياوي بخصوص هذا المسعى البحثي فأيد ذلك بقوة. لم تتح الفرصة لتطبيق الفكرة التي نضجت بمرور الزمن حتى بدأت التواصل مع كلية الطب البيطري في جامعة بغداد. وبعد مناقشات مستفيضة مع الاستاذ الدكتور عبد الجبار غازي رئيس فرع الجراحة في كلية الطب البيطري تم الاتفاق على أن يكون ذلك مشروعا لإطروحة دكتوراه وتكون التجارب على الكلاب.
في تلك المدة كانت الدكتورة البيطرية نادية حنا تروم الحصول على مشروع بحث لدراستها للدكتوراه التي سجلت فيها حديثا. تمت الموافقة من كل الاطراف على أن يكون هذا المشروع للدكتورة نادية لنيل درجة الدكتوراه وتحت اشرافي واشراف والدكتور عبد الجبار غازي ومشاركة الدكتور محمود.
الدكتور نادية تبدأ في المشروع البحثي: شمل المشروع استخدام الثرب في تطعيم النخاع فضلا عن تكرار التجربة السابقة الناجحة على الفئران وهي استخدام عصيدة العصب المفروم في منطقة قطع النخاع الشوكي. بذلت الدكتورة نادية حنا جهودا استثنائية جدا لإكمال التجارب. قمت بإجراء العملية الجراحية لمرتين امامها وبمشاركتها فخبرت الطريقة المطلوبة بإتقان وقامت بعد ذلك بأجراء العمليات جميعها بنفسها. استمر البحث ما يقارب السنتين كانت خلالها تلك الطبيبة تجمع بين مسؤوليتها البحثية وواجباتها التدريسية والعائلية في رعاية زوجها وأولادها. كانت تجري تجاربها يوم العطلة الأسبوعية، الجمعة، حيث تفتح باب قسم الجراحة بنفسها لعدم وجود اي شخص ايام الجمعة فتجلب الكلب وتخدره تخديرا عموميا ثم تجري العملية وبعد الانتهاء توقظ الحيوان وتقدم له الطعام وتطمئن على سلامته وتتوجه الى عائلتها!
تحسنت في نهاية التجارب حالة الشلل السفلي في سيقان الكلاب الى درجة لا تصدق وثبت ذلك بالصور والفيديو ودافعت عن الاطروحة وحصلت على درجة الدكتوراه عام 1998.
خسارة كبيرة: بعد عدة سنوات اصبحت الدكتورة نادية رئيسة لقسم الجراحة في الكلية. وبمزيد من الأسى فارقت الحياة في حادث إجرامي في طريق عودتها من سوريا جرح خلالها زوجها وولدها. وبفقدانها خسر الطب البيطري وخسر العراق نجمة علمية واجتماعية صاعدة كان يمكن أن يكون لها شأن كبير في الاختصاص والمجتمع.
الشدة على الرأس في الارنب مع أ د صاحب الموسوي وأ. د. موركاش:
استمرارا وتطبيقا لما أؤمن به من تزاوج العلوم السريرية بالعلوم الاساسية فقد تباحثت مع الاستاذ الدكتور صاحب الموسوي الذي يعرفه الجميع وهو من خيرة أساتذة الفسيولوجي.
عمل معنا أستاذ الفسيولوجي الزائر من جيكوسلوفاكيا الدكتور موركاش في موضوع التغيرات الفسيولوجية على القلب والتنفس بعد الشدة على الرأس وكان جزءا من رسالة ماجستير للدكتور علي عبد اللطيف. تم تصميم البحث وكان الأرنب هو الحيوان المتفق عليه. كانت وسائل البحث مبتكرة محليا. فبعد تخدير الأرنب وربط المجسات لقياس الضغط والتنفس يثبت رأسه والجمجمة الى اعلى على طاولة بحيث لا يمكن للرأس ان يزحف من مكانه أبدا. ومن ثم يهوي على رأسه ثقل محسوب وأوزان متباينة لكل تجربة. ويتم حساب المتغيرات. أنجز البحث ونشر في مجلة الكلية الطبية وألقي في المؤتمر العربي للفسلجة ولقي استحسانا مرموقا. ومن ثم تطور منهج البحث حيث كان موضوع رسالة ماجستير تحت إشرافنا نحن الثلاثة لطالب متميز أبدع في عمله وحصل على الشهادة.
البحث بخصوص الخوذة الواقية والمرور:
عقد اتحاد الأطباء العرب في العام 1978 مؤتمراً في تونس. قررت في حينها ان ابحث في موضوع مهم لأقدمه في المؤتمر. قررت أن أبحث في مشروع توعية المجتمع بوجوب لبس سائقي الدراجات النارية الخوذة الواقية لتفادي إصابتهم بصدمة الرأس. ولكي يكون الحدث مبنيا على الوقائع المسجلة في مجتمعنا طلبت من عمادة الكلية ان توجه طلبا الى مديرية المرور العامة لتسهيل إجراءات اطلاعي على سجلات حوادث الدراجات النارية في العراق.
حملت الكتاب وتنقلت لمدة أسبوع بين دوائر مديرية المرور كي أصل الى مصدر المعلومات المطلوبة وكنت على وشك ان أفقد الأمل. صادف ان وجهني أحدهم الى منطقة علي الصالح في بغداد حيث توجد هناك دائرة يمكن ان تفيدني بما أروم. وكان ذلك فعلا المكان المطلوب وهو أحد مكاتب مديرية المرور. عند وصولي سلمت كتاب كلية الطب وجهني المسؤول الى غرفة فيها مكتبان يشغل أحدهما شرطي مرور والآخر فارغ. اعتذر الشرطي عن غياب زميله الذي كان المسؤول عن تحقيق طلبي. أستدرك ذلك الشرطي وقرر ان يساعدني بفتح السجلات ويعطيني الإحصاءات التي كنت بصددها. اخرج لي ملفاً سميكا ثقبت الأوراق فيه بقوة باليد وليس بالمثقب الالي وكانت الأوراق قد قطعت باليد بحافة مشرشره كتبت فيها معلومات بالقلم الرصاص في جدول مبوب بعدة أعمدة فيها عدد المركبات مجتمعة بأنواعها التي شملت السيارات الصالون الى اللوريات الى مكائن الزراعة والدراجات النارية والدراجات الهوائية ويعقبها حقل بعدد حوادث المرور مجتمعة. قلت للسيد بان أملي هو الحصول على حوادث الدراجات النارية فقط وليس العدد الاجمالي واذا به ينظر الي بعين الاستغراب قائلا: دكتور “انت تفتهم”، اطرح عدد الدراجات النارية من مجموع المركبات في الشارع فتظهر النسبة بينهما واستخدم نفس النسبة في عدد الإصابات المرورية وبذا تعرف عدد إصابات الدراجات النارية!!! اعتذرت من ذلك الشرطي على عدم إدراكي تلك الحقيقة. خرجت من تلك الدائرة متوجها الى العمادة للاعتذار عن عدم سفري الى المؤتمر حيث ان الوقت قد ضاق لتحضير ما يليق بالمؤتمر بالرغم من أني أكملت تحضير الدراسات المقارنة لتلك الحوادث في دول اخرى للتهيئة لهذا البحث. وبسبب ضيق الوقت لم يكن بوسعي تحضير بحث اخر. أملي ان يأخذ الاهتمام بالإحصاء منحا جادا في مديرية المرور وخارجها.
الاستاذ الدكتور عبد الصاحب الموسوي وعملية ازالة ورم قرب العصب السابع:
اتفقت مع الاستاذ عبد الصاحب الموسوي لمساعدتي في عملية رفع ورم قرب العصب السابع الذي يجهز عضلات الوجه. والهدف من مشاركته هو تفادي تضرر ذلك العصب عند استئصال الورم. وطريقة التفادي تجري بتحفيز ما يعتقد انه العصب السابع الذي اختلط بجدار الورم المجاور له فإذا تحركت وتقلصت عضلات الوجه الذي تركناه مكشوفا أثناء العملية. عندئذ نبتعد عن العصب ونتجنب إضراره.
بسبب عدم توفر أية اجهزة متطورة لاستخدامها في تفادي أي ضرر جانبي لأنسجة الدماغ بسبب الحصار الجائر فقد ابتكر الاستاذ الدكتور عبد الصاحب تحويرا يؤدي المطلوب ولو بنتائج أقل دقة من الاجهزة المتخصصة. التحوير الذي صممه هو الدبوس الاعتيادي الذي التحم بسلك معدني دقيق اتصل بنهايته الاخرى مع جهاز التحفيز فالحاجة أم الاختراع!.
متلازمة غير مسجلة
هذه متلازمة مرضية أي مرض من عدة مواصفات غير واضح السبب لم تذكر في الكتب. تصيب هذه المتلازمة الاطفال الذين يبدؤون حياتهم بصورة طبيعية ثم تتدهور حالتهم العامة وتتدهور الذاكرة وكذلك يتدهور الإبصار. والعامل المشترك الأساس هو ضخامة الجيوب الأنفية. وقد قدمت فيها عرضا في مؤتمر العلوم العصبية الثامن المنعقد في بيروت عام 2000.
مقياس علامة ” الشمس الغاربة” في حالات الاستسقاء الدماغي لدى الاطفال
وهذا مقياس سهل الاستيعاب والتطبيق لتقييم التغيرات التي تطرأ على موقع العين من خلال مشاهدة استدارة القرنية الى أسفل حتى اختفاء البؤبؤ في حالات استسقاء الدماغ.
تحوير عملية فتح سقف محجر العين:
امتدادا “لهوايتي!” في جراحة محجر العين حاولت أن أبحث في وسيلة أفضل للوصول الى داخل المحجر بأقل ما يمكن من “الازعاج” للأنسجة الأخرى الدماغية أو أنسجة المحجر. وبما تعلمته من التشريح في مركز البحوث التابع للجراحة العصبية في ماينز بألمانيا والعمل مع الاستاذ رايت في لندن وخبرة الدكتور راب هايد في كلاسكو تولدت عندي فكرة تحوير الدخول الى محجر العين عن طريق الجمجمة. وقد قدمت هذا الطريقة في عدة مؤتمرات. وستذكر تفاصيلها في فصل محجر العين.
عملية مبتكرة لاستئصال الأكياس المائية من محجر العين والمفاجأة!!:
لكثرة حالات الاكياس المائية في محجر العين التي تعاملت معها تولدت عندي خبرة بابتكار طريقة جراحية سهلة لاستئصال الكيس من المحجر. في العام 1989 قررت ان اذهب في دورة تخصصية في جراحة محجر العين في المملكة المتحدة للعمل لمدة ثلاثة أسابيع مع أشهر اختصاصي في هذا المجال حينذاك البروفسور جون رايت في مستشفى مور فيلد في لندن. وعندما ثبت الموعد في منتصف العام فكرت ان اقدم للمتختصصين في المستشفى أيام وجودي هناك عرضا لمشكلة الأكياس المائية في محجر العين التي يعاني منها مرضانا في العراق وكذلك عرض فلم فيديو عن عملية استئصال هذا الكيس من محجر العين بطريقة سهلة ابتكرتها عند التعامل مع هذه الحالات.
فلم العملية في محطة التلفزيون الرئيسة: كان عليّ ان احضر فلما قصير معبرا وبتقنية مقبولة والتي كنا نفتقر اليها في مجتمعنا العلمي آنذاك. كان المكان الوحيد في العراق حينذاك هو استوديوهات الإذاعة والتلفزيون. بعد حصولي على الموافقات “الأمنية” اللازمة عن طريق الكلية تمكنت من القيام بزيارات متكررة الى مديرية الإذاعة والتلفزيون للعمل مع تقني في الاستوديوهات لتحويل ثلاثة أفلام طويلة كنت قد سجلتها لعمليات أجريتها وسجلتها لهذه الحالة تصل كل منها الى حوالي الساعتين. كي يكون طول الفلم مقبولا في الأوساط المهنية تم اختيار اللقطات المعبرة جراحيا كي يكون طول الفلم النهائي بحدود العشر دقائق. استمر العمل معهم في أوقات فراغي وكذلك فراغ التقني الشاب الطيب والكفوء (حيدر) الذي كان يكلف بواجبات آنية اخرى خلال عمله معي وحينها يجب علي الانتظار كي احصل منه في كل زيارة بعض الدقائق لإكمال عمل جدي مثمر. المهم اننا حققنا اختيار اللقطات الجراحية المهمة ولكنها تجاوزت الزمن المقرر.
الانتقال الى ستوديو التلفزيون التربوي: تبرع الدكتور جاسم الصافي مدير التلفزيون التربوي في الأعظمية الذي كان يواكب عملي مع دار الاذاعة والتلفزيون متفضلا لإكمال المهمة. ذهبت الى مقر عمله هناك وكان يشرف بنفسه على المتطلبات الفنية للتسجيل. تكررت هذه الزيارات لأربع مرات تم إنجاز الفلم بأفضل ما يمكن من تقنية متوفرة في العراق.
مفاجأة غريبة طفل معجزة يرى عبر الجدار: أثناء زياراتي الى الاستوديو حدثني الدكتور جاسم بخصوص فلمين وثائقيين مهمين بخصوص طفلين خارقي القدرة كان يعدهما “لرئاسة الجمهورية”.
الأول كان عن طفل يدعى أحمد صلاح الدين وهو طالب في المدرسة الابتدائية لعله من كركوك كانت له القدرة على النظر وهو مغطى العينين حيث يرى التفاصيل الدقيقة وكأنه جدار شفاف من زجاج! والظاهر بعد ذلك أصبح لهذا الطفل شان عظيم حيث احتجزه الرئيس في القصر الجمهوري في سنوات المراهقة الى حين الاحتلال عام 2003 ولهذا الطفل قصص كثيرة تدور بخصوص قدراته الخارقة وتنبؤاته التي كانت تؤخذ بجدية منها تنبؤه بموت وزير الدفاع عدنان خير الله ودخول العراق الى الكويت وغير ذلك حسب ما صرح في مقابلة تلفزيونية نشرت على اليوتيوب.
الطفلة المعجزة ترى حتى الالوان في الظلام: اما الفلم الثاني فكان للطفلة حنان سلام التي لها القدرة ان ترى كل شيء وحتى الألوان وعيناها مغلقتان أو مغطاة بما يحجب النظر تماما. تأكد لي ان لهذه الطفلة تلك القدرة حينما سمعت مباشرة من اختصاصي طب العيون الصديق الدكتور غسان ربيعة. يذكر الدكتور غسان بأنه اختبر قدرتها على النظر من عبر الحجاب وتحقق من أنها حقيقة قدرة خارقة.
يبدو ان ديوان الرئاسة اهتم بالموضوع بعد عرض حالتها على شاشة التلفزيون. تم توجيه الدكتور جاسم لتحضير الفلم الوثائقي عنها ولا أعلم ماذا حصل لها بعد ذلك.
صدمة في لندن:
حلّ موعد السفر وتوجهت الى لندن للعمل مع الاستاذ جون رايت. بينت له ما كنت أقوم به في علاج الأكياس المائية في محجر العين أبدى رغبة في أن ألقي محاضرة بخصوص تلك العملية. عند عرضي التجريبي للفلم على قسم التصوير في مستشفى مورفيلدز فوجئت بان المستوى الإخراجي للفلم ضعيف جداً ولا يليق عرضه ولا يمكنهم بما يملكوا من تقنيات ان يحسنوا من مستواه الفني. أصبت بصدمة فبعد الجهود المضنية في العراق لإنتاج فلم بعشر دقائق جاءت هذه المفاجأة المزعجة.
مع شركة آي بي أم (IBM): بطريق الصدفة علمت بأن الدكتور عادل العولقي من اليمن الشقيق الذي كان يعمل بمعيتي في مستشفى ليدز الجامعي في إنكلترا حينما كنت رئيس المقيمين فيها كان يعمل في تلك الشركة بمنصب مسؤول علمي في تلك المؤسسة العملاقة. تطوع أن يقدم متفضلا كل ما يمكن. عندما بينت له الإحباط الذي كنت فيه أجاب بانه سيعمل على تذليل ذلك.
اتصل بالمسؤولين الفنيين وذهبت الى الاستوديو في هامل هامستد وهناك قاموا بما لم أتوقع، فقد سجلوا الفلم تسجيلا جديدا بتقنياتهم وحسنوا كثيرا من مستوى الفلم حيث أصبح لائقا للعرض أمام المجتمع الطبي البريطاني.
المحاضرة في لندن مستشفى مورفيلدز (Moorfields Eye Hospital) : كنت على استعداد لتقديم محاضرتي في المستشفى بخصوص الاكياس المائية في محجر العين والعملية التي ابتكرتها. حضر في القاعة اختصاصيو المستشفى وأطباؤها المقيمون.. كانت الجلسة بمحاضرتين الأولى لأستاذة اختصاصية في الأذن والأنف والحنجرة من احدى مستشفيات لندن لعلها من تشارنك كروص (Charing Cross) واسمها الاول فاليري (Valerie) التي كان موضوع محاضرتها أمراض المحجر الناجمة عن أمراض الجيوب الأنفية. كانت محاضرتها قبل محاضرتي وبطبيعة الحال لقيت محاضرتها الاستحسان ولكن ما ذكرته يمكن ان يتوفر في الأدبيات واللقاءات لشيوع تلك الاختلاطات في كل مكان ولكن اهتمام الحضور ازداد بمحاضرتي لأنها تتعلق بمرض غريب عنهم. ومن اهتمامهم الشديد أنه عندما حصل عطل فجائي في أحد جهازي العرض في القاعة غير نصف الحضور مكانهم ليتجهوا الى الجانب الآخر من القاعة حيث كان الجهاز مستمراً بالعرض. استقبلت المحاضرة استقبالا متميزا من الجميع ولله الحمد.
الدكتور عبد المحسن أبو تراب: كان من بين الحضور لمحاضرتي الدكتور عبد المحسن ابو تراب اختصاصي العيون وأحد الذين تدربت على يديهم من الاختصاصيين حينما كنت مقيما في مستشفى الرمد في العراق. كان الدكتور محسن يتمتع بسنة تفرغ من قسم العيون الذي يعمل فيه في كندا. والدكتور محسن هو من أفضل أطباء العيون العراقيين والذي اضطرته الظروف السياسية اللعينة لترك البلد وذهب الى كندا ليرأس قسم العيون في احد مستشفياتها. ذهبت بعد المحاضرة الى مسكنه في لندن حيث قدمت لنا زوجته الانكليزية أكلة عراقية صميمة وهي مرق السبيناغ الذي أجادت طبخه بأفضل ما يمكن!
بحث في تفسير ظاهرة شعاعية في مرض الاكياس المائية في محجر العين
اكتشفت بان جهاز المفراس (CT Scan) يشخص الكيس المائي في محجر العين وكأنه ورم مكتنز وليس كيس مليء بالسائل المائي. وبذا يختلف الكيس المائي في المحجر عن كل الأكياس المائية في أعضاء الجسم الاخرى بضمنها الدماغ التي يشخصها الجهاز بأنها كيس يحوي سائلا مائيا. يؤدي هذا التشخيص المربك لكيس المحجر أحيانا إلى إجراء عمليات استئصال عدد من الأكياس المائية عن طريق فتح الجمجمة والمفاجأة بان يكون “الورم” الذي شخصه الجهاز ما هو الا كيسا مائيا وكان يمكن التعامل معه بدون فتح الجمجمة.
حاولت تفسير تلك الظاهرة واستعنت بزملائي من اختصاصيي الأشعة والفيزيائيين فلم نصل الى نتيجة. وهنا وضعت ثلاث احتمالات لتفسير ذلك: أولها ان الكيس في محجر العين يختلف بطبيعته عن بقية أكياس أعضاء الجسم الاخرى، او الضغط داخل الكيس يتفاقم بسب استمرار غشاء الكيس بإنتاج السائل ولوجود الكيس في كهف عظمي كالمحجر يتزايد الضغط داخل الكيس ليظهر وكأنه ورم. اما التفسير الثالث فهو موقع الكيس في كهف عظمي ما يصعب على السكانر الانتقال من الكثافة العظمية الشديدة الى حالة السيولة المائية والربط بينهما فيزيائيا.
كان هناك شك كبير في صحة الاقتراح الاول بكون الكيس داخل المحجر يختلف عن أكياس أعضاء الجسم الاخرى. ولتطبيق التفسير الثاني طلبت من الصديق السيد عمو بابا الرياضي المعروف ان يجد لي كرة قدم من النوعية القديمة حيث كانت الكرة مكونة من غلاف جلدي صلد وبداخله كيس مطاطي يملأ بالهواء المضغوط. الهدف كان ملء الكيس المطاطي بالماء وفحصه في جهاز السكانر ثم ضخ كمية من الماء وبشدة بداخله بحيث يرتفع الضغط كثيرا بعد ان نضع الكرة بكيس مصنوع من الجوت ككيس الرز او السكر لنضمن عدم انفجاره.
اعتذر عمو بابا بعد مدة لعدم تمكنه من الحصول على تلك الكرة المطلوبة. صممت في حينها تجربة بسيطة في متطلباتها لمعرفة سبب هذا التغاير في معيار فحص الجهاز للكيس في داخل المحجر والجمجمة. اقتصرت الأدوات البحثية على قفاز جراحي، جمجمة إنسان مفتوحة القحف، مصدر ماء اي الحنفية (الصنبور)، شريحة شحم شاة تماثل الشحم الطبيعي في المحجر.
من حسن الصدف كان هناك في ذلك الوقت في مستشفانا مهندس أيرلندي خبير جاء لصيانة جهاز السكانر والذي “تطوع” ان يبقى معي في المساء بعد الدوام الرسمي لإجراء الفحوصات بعيدا عن الصخب في النهار.
بدأت بالعمل بأن ملأت القفاز الجراحي بالماء المتدفق من الصنبور الى ان انتفخت الأصابع وتدلت بحيث توسعت لتكون كرات مائية. اخترت أصبع الخنصر والابهام واقتطتعهما من القفاز بعد ان أوثقت مكان اتصال الاصبع بالكف. حصلت على كرة صغيرة من الخنصر وأخرى كبيرة من الإبهام. وعندها وضعت شريحة الشحم داخل احد المحجرين بحيث التصقت بالجدار وأدخلت في داخله الكرة الصغيرة. اما الكرة الكبيرة فأدخلتها داخل الجمجمة بعد رفع القحف ثم إعادته كي تكون الجمجمة كاملة كحالتها الطبيعية.
قمنا بإجراء فحص السكانر على الجمجمة الذي استمر لعدة جلسات وغيرت موقع الكيس داخل الجمجمة كي نرى اذا كان هناك تغير في نتائج الفحص. وبعد دراسة النتائج بصورة دقيقة وبمساعدة المهندس الأيرلندي تأكد ان الجهاز سجل تركيز الكرة المائية في المحجر بما يساوي التركيز الذي سجله من الكيس في الجمجمة بزيادة تتراوح بين 5-7 أضعاف.
وهنا يمكن مناقشة الاحتمالات الثلاث التي بدا بها البحث التي كان أولها ان طبيعة السائل في كيس المحجر تختلف عن الأكياس في الأعضاء الأخرى فمحتوى الكرتين هو الماء. والثاني كان احتمال ارتفاع ضغط الكيس داخل المحجر الذي انتفى كون الضغط في الكرتين هو الضغط الجوي الاعتيادي. والفرضية الثالثة كانت وهي الأصح التي تقول بان الموقع “الجغرافي” للكيس محاطا بعظام المحجر هو السبب الفيزيائي لهذا الاختلاف في كثافة الكيس في هذا الموقع. وتشويش الجهاز في التسجيل يكون بسبب الانتقال المفاجيء من النسيج القمة في الكثافة وهو العظم الى الأوطأ كثافة وهو الماء. وعلى أساس هذا البحث كتبت مقالة طبية نشرتها في مجلة الأشعة الرقمية الامريكية (Computerized Radiology) في العام 1987.
الآلة البغدادية لاستخراج الأكياس المائية:
من خلال مشاهداتي وخبرتي عبر السنين منذ أن كنت طالبا في كلية الطب تحققت لي خطورة مرض الأكياس المائية الذي يسببه تلوث الخضار بمخلفات الكلب المصاب بالدودة الشريطية. كان الاستاذ خالد ناجي أستاذ الجراحة في الكلية يطلق اسم “سرطان العراق” على مرض الاكياس المائية وذلك لصعوبة علاجه في كثير من الحالات واحتمال انتقاله الى كل أجزاء الجسم عند انفجاره داخل الجسم تلقائيا أو عند استئصاله جراحيا.
تنبع الخطورة من تسرب السائل في داخل الكيس الى خارجه والسائل هذا يحوي المئات بل الألاف من البيوض التي يمكن أن تولد كل بيضة منها كيساً جديداً. وبسبب خطورة التسرب تتخذ احتياطات شديدة عند العملية الجراحية لاستئصاله كي تمنع التسرب او تقلل من تأثيره. وبطبيعة الحال تكون الخطورة اشد عند إصابة الدماغ والعمود الفقري ومحجر العين.
كنت دائم التفكير بابتكار طريقة نتفادى بها خطورة التسرب عند التداخل الجراحي. خطر على بالي المسدس البلاستيكي الذي يقذف قطعة من البلاستك تشبه القلم وفي نهايتها قرص مطاطي طري يلتصق بالجدار عند قذفه.
“ترجمت” تلك الظاهرة الى ما يمكن أن يحقق تصميم آلة مماثلة للمقذوف البلاستيكي بحيث يحدث فيها تخلخل الضغط ما يحقق التصاقها على جدار الكيس المائي وإدخال أنبوب في داخله لسحب السائل من داخل الكيس ومن ثم إخراج الكيس بأمان.
وضعت مخططا لتلك الآلة وأوحى لي دوش (دش) الحمام أن يكون السطح الذي يلتصق بالكيس وفي وسطه انبوب داخلي يدخل من خلاله مسبار (قطعة معدنية أطول من الالة مدببة النهاية لتفجر الكيس وفي عين اللحظة يعمل جهاز سحب السوائل لتفريغ الكيس الذي يبقى ملتصقا بالألة لحين استئصال الكيس من الجسم.
صممت الآلة بحيث يحدث تخلخل الضغط بواسطة جهار سحب الهواء الكهربائي المستعمل في العمليات الجراحية وفيه تفاصيل تقنية تتيح للجراح إفراغ السائل من الكيس أملا بعدم تلوث الانسجة خارج الكيس بالبيوض المنتشرة في داخله.
اتصلت عند وجودي في انكلترا عام 1981 بشركة ثاكري ناقشتهم وقدمت لهم التفاصيل والمخططات لاحتمال تصنيع الآلة. أرسلت الشركة كتاباً بالموافقة المبدئية بتصنيعه.
لم يستمر المشروع بسبب عودتي الى العراق واشتعال الحرب العراقية الايرانية.
سوق الصفافير والطلاء بالنيكل: أكملت المخططات وناقشت الفكرة مع صديق من “خبراء” سوق الصفافير السيد عبد الامير النركيلجي الذي تبنى صنع نموذج من النحاس. طلب من أحد المهرة من الصناع في سوق الصفافير الذي عمل أنموذجا بما كنت قد خططته. أكمله بصورة متقنة. وبعدها طلبت من أحد الأخوة الصناعيين السيد سامي بلاش بطلاء النحاس بالنيكل حيث كان لديه معمل لطلاء الاثاث. وخرجت الالة وهي تزهو بالطلاء الفضي اللماع.
خبير الزجاج ومجلس البحث العلمي: وبعد ذلك وفي مجلس البحث العلمي وفي مختبر الزجاج حيث كان يعمل السيد موفق من الموصل الحدباء وهو الخبير الذي لا يجارى في صناعة الزجاج عمل لي ببراعة نموذجا للألة بتعقيداتها الزجاجية والتركيبية.
التصنيع العسكري: بعد مدة ثم عرض اقتراح على الأخ الدكتور المهندس عبد القادر أحمد في منظمة الطاقة الذرية بأن يحقق لي صناعة الآلة في دائرته حيث تتوفر أفضل الورشات الهندسية. كلف الدكتور عبد القادر أحد المهندسين الشباب واسمه نبيل وأنجز المطلوب بصناعته من الالمنيوم بما يبهر حتى المؤسسات الغربية بعدم وجود أي خط لحام وكأنه صب صبا! استخدمت الالة في المختبر لتجربتها على أكياس مطاطية ملئت بالماء وبعدها على أكياس مائية كانت قد أخرجت من مرضى. كانت النتائج مشجعة.
الالة في معرض علمي: طلب مني عميد كلية الطب الدكتور محمد الراوي ان يتم يعرض الالة في معرض الوزارة للابتكارات وحضر الافتتاح وزير التعليم العالي الدكتور همام عبد القادر والدكتور عامر السعدي والدكتور جعفر ضياء جعفر وغيرهم وتبادلت الحديث معهم بخصوص الآلة.
معرض الكلية: وفي نهاية العام 2002 أقامت الكلية الطبية معرضا علميا لما أنجزته الكلية وسلمت الالة الى العميد الدكتور خضر الجنابي وكان ذلك آخر عهدي بالآلة حيث لم استلمها بعد ذلك. آمل أن تسنح لي الفرصة بأن تصنع لي في إحدى الدول الغربية حيث يمكن استخدامها عمليا.
بحث مقارن بشأن الوفيات بسبب الشدة على الرأس:
عند بدء استخدام جهاز المفراس في فحص أمراض وإصابات الجهاز العصبي في العراق عام 1978 تحسنت بطبيعة الحال سبل التشخيص وبعده العلاج مقارنة بما كان قبل الجهاز. ولدراسة مدى تأثير الجهاز بصورة علمية موثقة على ذلك التحسن جمعت ملفات ثلاثين من حالات الوفاة بسبب الشدة على الرأس حدثت قبل استخدام الجهاز وأخرى مماثلة حدثت بعد استخدامه. وحتى أتعرف على طبيعة الإصابة وتفاصيلها وسبب الوفاة كان عليّ ان اذهب الى الطب العدلي لدراسة التقارير الطبية العدلية لتلك الحالات في معهد الطب العدلي. قابلت مدير المعهد الاستاذ الدكتور وصفي محمد علي.شرحت له قصدي في البحث وأن يسمح لي بالاطلاع على تفاصيل تقارير تشريح جثث أولئك المتوفين. صدمت في حينها حينما قال لي يجب علي ان اجلب موافقة الحاكم في كل قضية تطلب دراستها من الحالات الستين! كان ذلك قبل أن أجري للأستاذ وصفي عملية إزالة خثرة دموية داخل الجمجمة سببت له شللا نصفيا شفي تماما وعاد الى العمل في المعهد!
ولم ينفع إصراري وضمانات المهنة التي شددت عليها بان البحث سري ولن تكشف اسماء المتوفين مطلقا. وللأسف لم أتمكن من القيام بتلك الدراسة المهمة.
بعد أشهر من تلك المقابلة أعفي الاستاذ وصفي من منصبه في إدارة المعهد وعين محله الاستاذ الدكتور ضياء الموسوي. أعدت الكرة عليه فإذا به يفتح كل أبواب وسجلات المعهد لدراسة الحالات التي في قائمتي.
وللتاريخ فاني أصبت بإحباط شديد آخر حينما اكتشفت ان تقارير الطب العدلي للعديد من تلك الحالات كانت عامة وليس فيها أية تفاصيل تشريحية دقيقة تساعد في تقييم الحالات من الناحية الجراحية. فبعد الجهد المضني والوقت المهدور فشل المشروع وفقدت الأمل.
مشروع علاج الصرع مع الجامعة التكنولوجية ولجنة الهندسة الطبية
الفكرة: عبر سنوات عملي في تخصصي كنت أجابه حالات متعددة من مرض الصرع التي لا تستجب للعلاج بالعقاقير المتوفرة التي يحتاج بعضها الى اجراء التداخل الجراحي لإزالة البؤرة الصرعية ان وجدت. تنتج نوبات الصرع عن زيادة الفعالية الكهربائية في الخلايا العصبية المصابة التي تنتقل الى الخلايا المجاورة وما بخصوصها لتتهيج وتسبب تفاقما للشحنة الكهربائية ما يؤثر على الجهاز العضلي وتنتج حالات التشنج. كنت اعتقد اننا اذا كان في مقدورنا استلام إشارة مبكرة تنذر بقدوم حالة الصرع نحاول ان نبتكر جهازا او وسيلة كهربائية يمكنها امتصاص الشحنة الكهربائية باتجاهها ومنع تسرب الشحنة للخلال العصبية المجاورة وبذا نتخلص من حالات التفاقم الكهربائي وحدوث حالة الصرع. جاءتني الفكرة مما تعمله مانعة الصواعق التي تمتص الشحنة الكهربائية الساقطة على البنايات العالية وتوجهها الى داخل الأرض لتتخلص منها ومن تأثيراتها المدمرة.
مع مهندسي شركة ثاكاري في مدينة ليدز (Thakray): حينما سافرت بإجازة قصيرة الى بريطانيا في العام 1978 عندما زرت “مدينتي” ليدز. التقيت هناك وناقشت الفكرة مع مهندسين متخصصين في شركة ثاكري وهي إحدى الشركات الهندسية الطبية التي كنا نتعامل معها حينما كنت اعمل في المستشفى الجامعي سابقا. استحسنوا الفكرة ولكن تطبيقها يحتاج الى بحوث معمقة. كان حلمي ان نصنع جهازا نقالا يتصل بالمريض المصاب بالصرع الشديد يتحسس بداية الصرع ويكون قادرا على امتصاص الشحنة مبكرا.
مع أساتذة الجامعة التكنولوجية: حينما عدت الى الوطن ناقشت الفكرة مع اخي الاستاذ الدكتور ضامن الخليلي الاستاذ في قسم الكهرباء في الجامعة التكنولوجية في بغداد. اتفق الدكتور ضامن مع ما طرحه المهندسون البريطانيون بصعوبة تحقيق ذلك ولكن بعدم استحالة تحقيقه. تطورت الفكرة وتداولنا معا مع زملاء له في القسم. وفي ذلك الحين ذاع صيت الاستاذ ابتون من جامعة ما كماستر في كندا حيث كان يدرس إمكانية علاج حالات الصرع الشديدة بتأثير بعض موجات (ألفا) على دماغ المصاب بالحالات الصرعية.
استحداث قسم الهندسة الطبية: بعد دراسة معمقة ونقاش مع أطراف متعددة طـُرحت فكرة ان تبدأ الجامعة التكنولوجية بمشروع إنشاء قسم الهندسة الطبية. وبالفعل فقد أصدر رئيس الجامعة الاستاذ الدكتور طه النعيمي أمرا جامعيا بتشكيل لجنة مشتركة لاستحداث ذلك القسم.
الهدف الآني المشروع:
يحتاج المشروع البحثي هذا في بدايته الى متطوعين من الطلبة لتسجيل تخطيط دماغ كل منهم وتحليله الى مكوناته من الموجات الأربع المعروفة (ألفا، بيتا، دلتا وثيتا). بعد ذلك تحويل موجات الدماغ الى صوت بحيث يسمع الشخص صوت دماغه وهو فحوى رسالة الماجستير. اعتمد هذا المشروع على بحث قام به الاستاذ أبتون (Prof. Upton)، في جامعة ماكماستر في كندا. يهدف المشروع مستقبلا لاستخدام طريقة (التغذية العكسية Bio feedback) لعلاج حالات الصرع الصعبة الاستجابة للعلاج.
ومن ثم تحويل الموجات الكهربائية الى موجات ضوئية وموجات صوتية. أمكن سماع صوت الموجات الدماغية الأربع كل على حدة. والمفترض ان المصاب بداء الصرع المستعصي يمكن ان تتحسن حالته بسماع صوت موجات ألفا الصادرة من دماغه.
طالب ماجستير: تقرر بعد ذلك ان تكون باكورة العمل في هذا الاختصاص تسمية طالب ماجستير ليكون المسار عمليا وذو آفاق مستقبلية. وفعلا تهيأ الطالب وكان من المهندسين الكهربائيين الشباب المَوَهوبين. وضعت مع قسم الكهرباء في الجامعة تفاصيل البحث والاحتياجات وبضمنها شراء جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي. تم ذلك كله وأنهى الطالب بحثه وحقق نتائج باهرة وكانت باكورة لبحوث مستقبلية تطبيقية في هذا المجال. ناقش الطالب أطروحته في العام 1980ونجح بامتياز.
نهاية مشروع الهندسة الطبية: تعثر مشروع الهندسة الطبية وتفتت الجمع بسفر الدكتور ضامن الى الخارج لسنة تفرغ جامعي وكذلك اشتعال نار الحرب العراقية الإيرانية.
مشروع علاج الصرع مع مجلس البحث العلمي:
امتدادا للبحث الذي شاركت فيه مع الجامعة التكنولوجية ولجنة الهندسة الطبية في نهاية السبعينيات بشأن مرض الصرع فقد تمكنت وبدعم من صديقي الاستاذ الدكتور منذر التكريتي مدير عام مركز البحوث الالكترونية في مجلس البحث العلمي وضع الأسس لتطوير ذلك البحث. وبالتعاون مع فريق بحثي متكون من ثلاثة مهندسين كهربائيين وبإشراف رئيس الباحثين الاستاذ الدكتور غسان تحسين ابراهيم في الجانب الهندسي وإشرافي من الجانب الطبي. كان الفريق الرباعي من الشباب الواعد بضمنهم كمال دانيل وفرنسيس بلصيل. كان هدف البحث العمل الى استشعار بداية النوبة الصرعية قبل حدوثها والتخلص منها باتجاه جهاز محمول يمتص الكهربائية (Portable Earthing) وبذا نتجنب انتشار الشحنة الكهربائية المتولدة من البؤرة الصرعية الى الخلايا العصبية المحيطة بها والتي تسبب نوبة الصرع. عمل الفريق بكل جدية برغم الإمكانيات المحدودة والخبرة المتواضعة في مثل هذا الموضوع الشائك. رغم كل محاولاتنا لم نتمكن من توفير كل ما يحتاجه البحث بسبب الظروف التي كان البلد يمر بها. تمكنت المهندسة فرنسيس في آخر المطاف وبعد ثلاث سنين من البحث المشترك مع الفريق من تحقيق أطروحة ماجستير في مجال الإنذار المبكر لنوبة الصرع حصلت فيها على درجة التميز في العام 1989. في ذلك العام أصدرت الدولة العراقية أمرا بإلغاء مجلس البحث العلمي وجعله مؤسسة تابعة لهيئة التصنيع العسكري!!
اقتراح وزير التعليم العالي مشروع دراسة ما بعد الدكتوراه (الـ دي أس سيDSc )
بمناسبة احتفالات عيد العلم في نهاية العام 2002 بحضور وزير التعليم العالي والبحث العلمي اقترح الوزير الدكتور همام عبد الخالق في ذلك الاجتماع أن تبدأ الوزارة بمشروع ما بعد الدكتوراه (DSc) واقترح أن تكون البداية في العلوم الصرفة والطب. اقترح أن يتبنى ذلك الدكتور جعفر ضياء جعفر في العلوم ورشحني في مجال الطب في ذلك المشروع. فكرت بمشروع بحثي في موضوع مرض الأكياس المائية لمحاولة أيجاد أسلوب لإذابة الغلاف الداخلي الذي يحيط بالكيس ما يساعد في دخول المضادات الحيوية والادوية للقضاء على المرض. لم يستمر المشروع بسبب ما حدث من احتلال العراق!
الاختصاص الدقيق:
قدمت في فترة تدريبي في العام 1971 على طبّ وجراحة العيون في مستشفى الرمد في بغداد على طلبات القبول في جامعات عديدة في الولايات المتحدة. حصلت على قبول من جامعة هارفرد، معهد العين والأذن في ماساشوستس، الولايات المتحدة (Mass Eye And Ear). قبلت فيه للدراسة والتدريب للحصول على شهادة البورد الأمريكي في العيون على أن أبدأ في العام 1974. أرسلوا لي برنامج التدريب الكامل. شمل هذا تدريباً لمدة ستة أشهر مع أستاذ الساد (الماء الأبيض) ، وستة اشهر مع أستاذ داء الزرقاء، وأخرى مع أستاذ الحول وغيرها. استغربت في حينها من ذلك وعلّقت على الامر بأنه عام 1974 الموعود لالتحاقي بالدراسة أحتمل أن أرى بان هنالك تطورا في التخصص بحيث ترى هناك أستاذا لساد العين اليمنى والآخر متخصصا في ساد العين اليسرى وهكذا!! وتصورت بأن هذه مبالغة في التطور العلمي ولا داعي لهذا التخصص الدقيق. ولكن وبعد أن توسعت مداركي وزادت خبرتي في الطبّ والحياة تبين لي أن هذا هو الأسلوب الأمثل والوحيد لإدامة التطور والارتقاء الأكيد في الطبّ والعلوم كافة.
ثبط عزيمتي ويا للأسف العديد من الاساتذة حيث كان التوجه نحو التدريب والدراسة في المملكة المتحدة. وقد شاع بأن من يتوجهون الى أمريكا لن يعودوا الى الوطن!!
في اجتماع لجنة البحوث لمنظمة الصحة العالمية التي كنت عضوا فيها، في بيروت سألتني الأستاذة بوليصي الحائزة على جائزة نوبل الزائرة التي ألقت محاضرة على اللجنة عن مرض جنون البقر، سألتني عن اختصاصي فلما أجبت الجراحة العصبية إذا بها ترد ببعض الاستغراب أنا أعلم ذلك ولكن ما هو اختصاصك؟ أدركت مقصدها فأجبتها إنّه جراحة محجر العين. فردت: ذلك جيد إذن. فالكُلّ مؤمن بأنَّ الاختصاص الدقيق ضرورة. وعليه يجب أنْ يتخصص أطباؤنا في مجال دقيق ضمن اختصاصهم العام وهنا فأنّهم سيعرفون كلّ شيء عن شيء ولا يقتصرون على بعض الشيء عن كلّ شيء كما هو الغالب الآن. ففي العيون مثلاً هناك عدد من الاختصاصات الدقيقة مثل جراحة الساد، الزرقاء، الشبكية، انفصال الشبكية، السائل الزجاجي، طبّ العيون العصبي وغيرها. وفائدة هؤلاء الاختصاصيين لمرضاهم ولاختصاص العيون وللطب ولتقدّم العلم والحضارة لا تقارن بما يقدمه طبيب العيون العمومي. مع إننا نبقى بحاجة إلى طبيب العيون العام أو أي اختصاص آخر ولا يمكن الاستغناء عنهم ولكن يجب أنْ ندرك أهمية التخصص الدقيق. يجب علينا أن نرسي الأسس وبعد النظر لتهيئة الملاك المتخصّص في الاختصاصات الدقيقة. ولا يمكننا أنْ ننافس العالم في المستقبل القريب ولا حتّى الوقت الحاضر إنْ لم ننهج هذا النهج. وبالرغم من الصعوبات الآنية في مجتمعنا يجب ألا نحبط ولا نتخلف، بل يجب أنْ نشجع شبابنا من الاختصاصيين على أنْ يتجهوا لذلك ونساعدهم بجدية وبكلّ ما يتوفر لدينا من تسهيلات. وجعلهم على الأقل مستعدين لاستثمار الفرص حينما تسنح. فعلى حدّ قول باستير “أنَّ الفرصة تفضل الشخص المتهيئ لها”. بهذه الطريقة فقط يمكننا أنْ ننهض بطبنا في أغلب الاختصاصات وأن ننافس الأقربين والأبعدين.