مستشفى جراحة الجملة العصبية
البداية:
بدأت العمل في المستشفى في السابع والعشرين من شهر حزيران 1976. بدأت بلقاء الأخ الأكبر الدكتور سعد الوتري وبعض الزملاء الأطباء ومن ثمّ الدكتور وليد القرة غولي الذي كان قد عُين حديثاً في موقعه كمدير للمستشفى. هيأت لي الإدارة غرفة خاصة أسوة بالزملاء الاختصاصيين الآخرين. أصدر في نفس يوم التحاقي جدول خفارة الاختصاصيين الأوّل بالنسبة لي وكذلك تحديد واجباتي العيادة الخارجية والعمليات.
وهكذا بدأت الصفحة الجديدة من حياتي في العراق.
تسمية الاختصاص:
تعددت تسميات الاختصاص في الدول العربية، حيث يدعى جراحة مخّ وأعصاب في بعضها وجراحة الجهاز العصبي في أخرى، وأخذت تسمية جراحة الجملة العصبية في بلدنا. أميل شخصياً لتسميتها بالجراحة العصبية على سياق الجراحة البولية وهي جراحة الجهاز البولي مثلاً.
نبذة حول تاريخ الجراحة العصبية في العراق:
عند بداية انفصال الاختصاص عن الجراحة العامة على يد الأستاذ نجيب اليعقوبي كان المقر في نهاية الثمانينيات في المستشفى الملكي (الجمهوري لاحقاً). وهناك التحق بالشعبة الدكتور عبد الرسول صادق. ومن ثم نُقلت الشعبة في العام 1968 إلى مستشفى الكرخ الجمهوري في الكرخ حيث التحق الدكتور سعد الوتري بالأستاذ اليعقوبي.
انتقل فريق الاختصاص في العام 1968 إلى مستشفى دار السلام التي أسستها الطائفة السبتية الكريمة في العراق عام 1958. اشتُهر المستشفى بدخول الزعيم عبد الكريم قاسم فيه بعد أنْ أصيب بحادث محاولة الاغتيال عام 1959. كان الرائد هو الدكتور سعد الوتري.
انتقل فريق الاختصاص مرة أخرى في العام 1972 ليحل محل مستشفى الشرطة الملغى في ساحة الطيران في بغداد وأصبح المقر الحالي لمستشفى جراحة الجملة العصبية. أضيفت إلى البناية الأساسية منشآت جديدة وهي قاعات العمليات والعناية المركزة وإضافات إلى قسم الأشعة في الثمانينيّات. أدخل جهاز السكانر (المفراس) عام 1978 متزامناً مع نصب الجهاز في مستشفى مدينة الطب.
الأستاذ نجيب اليعقوبي: كانت بداية اختصاص الجراحة العصبية على يد الأستاذ الدكتور نجيب اليعقوبي. تخرج اليعقوبي في كلية طب بغداد عام 1936 وتدرب في بريطانيا. لم يكن معلوماً سبب اختيار الأستاذ نجيب لهذا الاختصاص.
بدأ الأستاذ نجيب في العام 1946 بداية متواضعة عندما درب نفسه على الجراحة العصبية وهو الجراح في اختصاص الجراحة العامة. في العام 1950 بدأ الدكتور عبد الرسول صادق الإقامة في المستشفى الملكي وعمل مع الأستاذ اليعقوبي حتّى سفره إلى أمريكا للتخصص عام 1960.
بدأ الأستاذ نجيب بإجراء عملية تثقيب الجمجمة في أعلى الجهة الجبهوية لقطع الألياف الدماغية في الفصّ الأمامي (leucotomy) لعلاج أمراض نفسية مثل الفصام والاكتئاب أو اضطرابات الهوس ((psychosis.
كان المرضى يحالون للأستاذ لليعقوبي من الدكتور جاك عبودي، رئيس شعبة الأمراض العصبية والطب النفسي في المستشفى الملكي في بغداد لإجراء تلك العملية. ومن ثم كانت إحالة المرضى من قبل الأساتذة هاشم الوتري وصفاء الدين حامد اللذين اختصا في طب الأعصاب بالإضافة إلى الطب العام.
لم تكن هناك وسائل تشخيصية للحالات الجراحية العصبية غير أشعة الرأس لذا كان التشخيص السريري هو الأساس في تقدير الحاجة لإجراء التداخل الجراحي.
انتقل الأستاذ اليعقوبي في العام 1960 من المستشفى الجمهوري (الملكي سابقاً) إلى مستشفى الكرخ الجمهوري في بغداد حيث أسس فيها شعبة الجراحة العصبية فكان المركز الوحيد للاختصاص في العراق. ذكر لي الدكتور برهان أمين سعيد اختصاصي التخدير الذي كان المخدر الخاص للأستاذ اليعقوبي أنَّ الأستاذ نجيب استمرّ في رعاية الاختصاص حتّى نهاية الستينيّات في ذلك المستشفى. كان يجري معدل عمليتين في الشهر للحالات العصابية وكذلك يجري عمليات إصابات الرأس. أحيل على التقاعد سنة 1972 وانتقل إلى جوار ربه عام 1980.
ولا بأس من ذكر أنَّ هذه العملية بدأها الجراح إدكار موينز (Edgar Moinz) من البرتغال في نهاية ثلاثينيّات القرن الماضي وقد حصل على تكريم المجتمع الجراحي والنفسي العالمي ومنح في العام 1949 جائزة نوبل. ولكن وبتقدم العلم وكثرة الاختلاطات التي تحصل بسببها فقد توقف الجراحون عن إجرائها واستخدمت أساليب جراحية وطبية أخرى لعلاج تلك الحالات النفسية.
وبالمناسبة فإن الدكتور موينز كان من ابتكر عام 1927 فحص تلوين الشرايين والذي أحدث ثورة في اختصاص جراحة الدماغ.
.
الدكتور مالكولم برهارد: ولد الدكتور مالكولم برهارد عام 1908 في محلة الدواسة في الموصل وتخرج في كلية الطب في جامعة إدنبرة عام 1937. تدرب في الجراحة العصبية في عيادة ليهي Clinic) (Lahey في أمريكا ثمّ ذهب إلى السويد وعمل لمدّة سنة مع الأستاذ الشهير أولفكرونا (Herbert Olivecrona) . مارس الجراحة العصبية منذ عام 1950.
غادر الدكتور مالكولم إلى بيروت حيث عين تدريسياً في الجامعة الأرمنية. عاد بعدها إلى العراق وعمل في مستشفى دار السلام حيث أجرى فيها عمليات الجمجمة وعمليات العمود الفقري. نشر بحثاً حول تلوين شرايين الدماغ ونشر تفاصيل عملية جراحية من ابتكاره لعلاج حالات انفصام الشخصية. توفي في بغداد في شهر تشرين الثاني عام 1960 حينما كنا في الصف الأوّل في كلية الطب. كان ولده الوحيد هارفي من زملائي في المرحلة وأخواته الثلاث كريستا وليللي وكريتا في الصفوف المتقدمة من كلية لطب.
الدكتور وحيد الدين توفيق:
جاء إلى العراق في منتصف الستينيّات الدكتور وحيد الدين توفيق متخصصاً من الولايات المتحدة. أجرى وحيد الدين بعض العمليات الجراحية ولكن بعد أشهر قليلة غادر العراق إلى أمريكا ليعمل في فيلادلفيا.
الدكتور عبد الرسول صادق:
ولد الدكتور عبد الرسول في العام 1927. تخرج في كلية طب بغداد عام 1948. ذكر لي الدكتور رسول صادق حين لقائي معه في العام 2009 وكان متقاعداً بعد أن شغل منصب أستاذ الجراحة العصبية في جامعة نيويورك أنه كان طبيباً مقيماً في الجراحة ويعمل لدى الأستاذ اليعقوبي. تضمّنت الحالات الجراحية التي كانت تجرى في ذلك الحين عمليات تثقيب الجمجمة وعدداً قليلاً من أورام الدماغ. أما حالات أمراض العمود الفقري والانزلاق الغضروفي فيشاركهم في علاجها اختصاصيو جراحة العظام. وفي أحيان قليلة كان يجري فحص تلوين القناة الفقرية (Myelogram).
جمع الدكتور رسول 100 حالة من حالات علاج الحالات النفسية بقطع الحزم العصبية ودرسها بعمق وقدم فيها أُطروحة منح عليها درجة الماجستير من جامعة بغداد حيث كانت تلك الشهادة تمنح في العراق.
أكمل الإقامة في الجراحة في المستشفى الجمهوري في بغداد في العام 1960 وغادر إلى أمريكا ليحصل على شهادة البورد الأمريكي في الجراحة العصبية. عاد إلى العراق عام 1965 بعد حصوله على الشهادة فالتحق بالهيئة التدريسية في الكلية الطبية. وهنا أتذكّر أول محاضرة ألقاها الدكتور رسول علينا في الصف الخامس في كلية طب بغداد عام 1965 حيث بدأ محاضرته بالتعريف بنفسه باللغة الإنكليزية بلهجة أمريكية لم نعتد عليها قائلاً: “أنا الدكتور رسول وسأعطيكم محاضرات الجراحة العصبية” مما أثار الفضول والتعليق من الطلبة!
باشر الدكتور رسول بطلب الأجهزة الأساسية في التشخيص والجراحة وبدأ بممارسة الاختصاص بإجراء فحوصات الدماغ التخصصية بتلوين تجاويف الدماغ وتلوين شرايين الدماغ بالطريقة اليدوية البحتة وإجراء العمليات الجراحية بالطرق الجراحية الحديثة التي خبرها في الولايات المتحدة. وكما ذكر لي فيما ذكر عن تاريخ الجراحة العصبية الذي عاصره، أنه أصيب بالإحباط بما لاقاه من مصاعب في إكمال متطلبات العمل. لذا غادر العراق في العام 1967 عائداً إلى الولايات المتحدة وعمل في جامعة نيويورك التي تدرب فيها سابقاً إلى أن أصبح أستاذاً فيها وترأس قسم الجراحة العصبية فيها ثم تقاعد في التسعينيات ويسكن الآن في ولاية نيوجرسي.
حينما عقد مؤتمر الأكاديميين العراقيين الأمريكان في العام 2009 تمّ تكريم الأستاذ رسول صادق بدرع الإنجازات مدى الحياة لكونه أكاديمياً تجاوز الثمانين عاماً من العمر وكان من ضمن مجموعة بلغ عددهم الأربعين أكاديمياً.
الأستاذ الدكتور سعد الوتري: ولد الأستاذ الدكتور سعد الوتري عام 1933 وتخرج في كلية الطب 1957. عاد إلى العراق بعد حصوله عام 1962 على شهادة زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية وتدريبه في المملكة المتحدة ليبدأ رحلته، رحلة العمر الطويلة التي اتسمت بالتفان والنبل والكفاية الجراحية العالية. كافح كفاحاً بالغاً وتخطى صعوبات جمة على طول الطريق ونجح في تثبيت الاختصاص في العراق وبأفضل ما يمكن. (تفاصيل عن الدكتور سعد في فصل أشخاص وذكريات).
الجراحون الذين وصلوا إلى العراق بالتتابع:
عمل الجراحون جميعاً في مستشفى جراحة الجملة العصبية ثم توزع العديد منهم على مختلف المراكز في العراق.
- · 1965 سعد الوتري
- · 1972 سمير المفتي
- · 1973 فاروق خيري
- · 1973 طارق الزعين
- · 1976 عبد الهادي الخليلي
- · 1977 حكمت صديق
- · 1977 جعفر النقيب
- · 1980 سمير حسن عبود
- · سمير عطو
- · 1980 أمين عباس أمين
- · 1986 عماد هاشم
البصرة: افتتحت شعبة للجراحة العصبية في البصرة في العام 1979 وكان الجراح فيها الدكتور جعفر النقيب ومن ثمّ التحق به الدكتور أمين السادن. بعد ذلك شاركهم الجراح المصري الجنسية الدكتور شفيق الزيات.
الموصل: افتتحت شعبة الموصل في نفس العام أي 1977 والتي كان مسؤولاً عنها الدكتور حكمت صديق والتحق به الدكتور عماد هاشم.
مستشفى الجراحات التخصصية: أما مدينة الطب فقد افتتحت فيها شعبة الجراحة العصبية في مستشفى الجراحات التابعة إلى مدينة الطب في العام 1990. التحق بها عبد الهادي الخليلي، سمير حسن عبود وطارق الزعين. وفي 2002 أضيف إلى الشعبة مركز جراحة محجر العين.
الجيش العراقي: أما في الجيش العراقي فقد بدأ العمل بالاختصاص عند عودة الدكتور طارق كركجي من بريطانيا في العام 1974. التحق بالشعبة بعده في مستشفى الرشيد العسكري الدكتور طارق عبد الواحد.
- ملاك المستشفى
المديرون:
- فاضل يحيى
- مصطفى عبد الرحمن
- رضا عجينة
- جواد العبادي
- وليد القره غولي
- منعم الجادر
- سالم خطاب عمر
- مفلح الدليمي
- سمير عطو
- نبيل ساكا
- أياد الدهوي
المقيمون: شملت وجبة المقيمين الأولى زميلي في الدراسة صباح جزراوي (رئيس المقيمين)، عبد الحسن حبيب، عبد الأمير الأنباري، ألياس راجي وأحمد عبد الرزاق. وبعدهم الدكتور نبيل ساكا والدكتور علي القيسي، والدكتور فاضل بلام والدكتور علي حسين.
تولى مسؤولية العيادة الخارجية الدكتور إبراهيم توتنجي الذي كان مقيماً أقدماً قبيل التحاقي بالمستشفى. تسلّم مسؤولية العيادة الخارجية بعده الدكتور فاضل بلام.
اختصاصيو التخدير:
- · 1964 الدكتور برهان أمين سعيد: وكان قد حصل على الدبلوم العالي في التخدير من الدنمارك. وهو شاب رائع متعاون جداً.
- · 1971 الدكتورة فردوس عباس: بدأت طبيبة مقيمة وتدرجت بالخبرة والكفاية حتى أصبحت موضع ثقة واعتماد واحترام الجميع.
- · 1972 الدكتور كمال الحيالي: كان منتسباً إلى مستشفى الشرطة وبقي في البناية حين تحولت إلى مستشفى الجملة العصبية.
- · 1977 الدكتورة غادة حلمي: وهي بنت أستاذنا في العيون الدكتور غازي حلمي.
- · 1987 الدكتورة فاتن عفاص: تسلمت مسؤولية العناية المركزة وأبدعت فيها وأحياناً تقوم بمهمة التخدير في صالة العمليات.
ممرضات الردهات:
فريال صادق (جامعية)
أناهيد كيغام (جامعية)
هدى … (جامعية)
هيفاء فتح الله
إقبال عزت
عالية مسعود
عايدة بهنام
وفاء جرجيس
فاطمة جعفر
علية فاخر
ندى جاسم
غصون..
قاعة العمليات:
الممرضات: نجاة، عجيبة، شوقية، سميرة، كمال، كميلة، مجبل، حازم بهنام (الطويل)، حازم الآخر (الصخل! للمحبة) وكليانا والممرضة حدّود.
مساعدو التخدير: هرمز الياس، الممرضة كميلة راضي، بتول الدركزلي وحسين شعلان.
الأشعة: كانت الأشعة التخصصية تشمل بالإضافة للأشعة الاعتيادية، تلوين شرايين الدماغ بواسطة زرق المادة الملونة عن طريق شرايين الرقبة وتحت التخدير العام وكان قد بدأها الدكتور سعد الوتري قبل وجود طبيب أشعة في المستشفى. وكذلك يقوم الجراحون بعمليات تلوين التجاويف الدماغية باستخدام الهواء أو المادة الملونة لتشخيص آفات الدماغ، وقد بدأ بها الدكتور سعد كذلك. أما تلوين القناة الشوكية في العمود الفقري فكانت من نصيب المقيمين في الغالب.
عمل في قسم الأشعة كلّ من الدكتور فاضل شمال، الدكتور عبد الله الحلي، الدكتور شايع البهادلي، الدكتور أنور المفتي. نصب في العام 1978 جهاز المفراس وكان الثاني في العراق حيث نصب الآخر في مدينة الطب.
الصيدلية: الصيدلاني رمزي أبو ديما، الصيدلانية هيلانة بطرس والصيدلانية إقبال دحام رومي.
المختبر: الدكتورة منى عبد
الموظفون الإداريون: مناتي (مدير إدارة)، حكمت، ووليد سبتي (حسابات)
دبلوم الجراحة العصبية: حين التحاقي بالمستشفى عام 1976 كان هناك كما ذكرت سابقا عدد من الأطباء المقيمين. تم منحهم زمالة دراسية إلى فرنسا للتدريب على الجراحة العصبية لمدة أربع سنوات تضاف لها سنة تعلم اللغة الفرنسية. تمتع بتلك الزمالة كل من الدكتور صباح جزراوي، الدكتور عبد الحسن حبيب، الدكتور عبد الامير الأنباري، الدكتور أحمد عبد الرزاق والدكتور سمير عطو. غادروا جميعهم إلى فرنسا في العام 1977 على وجبات متلاحقة عاد منهم سمير عطو فقط.
البورد العراقي في الاختصاص:
تم طرح مشروع دراسة البورد العراقي في الاختصاصات الطبية المختلفة والحرب العراقية الإيرانية على وشك نهايتها. كنّا في مجتمع الجراحة العصبية نناقش المشروع بإسهاب. في تلك السنين لم تمنح أية إجازات دراسية طبية ولا أية زمالات أو بعثات في الاختصاص. كان تدريب المقيمين من الأطباء الشباب يتم في العراق ولم يكن هناك حد أعلى لعدد السنين التي يقضيها المقيم كي يتأهل لأن يتحمل المسؤولية الجراحية كاختصاصي. اقتنع الجميع بأن فترة إقامة الاطباء في الاختصاص تكون مثمرة ومقبولة أكاديمياً إذا كان تدريبهم منهجياً ولمدة خمس سنوات تنتهي بامتحانات نظرية وعملية شاملة. بذلك يتحقق تخرجهم بخبرة عملية ونظرية واضحة المعالم.
تم تأسيس المجلس العراقي للجراحة العصبية عام 1988 وبُدئت الدراسة فيه عام 1989. ترأس المجلس العلمي (البورد) للجراحة العصبية منذ بدايته الأستاذ الدكتور سعد الوتري. كان من شارك معي بالمجلس كل من الزملاء الدكتور فاروق خيري، الدكتور سمير حسن عبود، الدكتور طارق الكركجي، الدكتور طارق الزعين، الدكتور حكمت صديق، الدكتور جعفر النقيب والدكتور طارق عبد الواحد.
تقرر أن يتقدم للدراسة في البورد العراقي في كل اختصاصاته وبضمنها اختصاص الجراحة العصبية خريجو الكليات الطبية العراقية الأطباء بعد إكمالهم سنة إقامة دورية. يتدرب الطالب بعدها لمدة خمس سنوات في أي من تلك الاختصاصات وكل ما يتعلق بها. تزايد عدد الخريجين المؤهلين لتحمل المسؤولية والاعتماد على أنفسهم وغطت خدماتهم أنحاء العراق كافة. ففي العام 1999 بلغ العدد الكلي لجراحي الأعصاب في العراق 48 جراحاً.
الأطباء الاختصاصيون في الجراحة العصبية:
مستشفى جراحة الجملة العصبية
- د. سعد هاشم يحيى الوتري
- د. سمير إيليّا عطّو
- د. جعفر صادق النقيب (متقاعد)
- د. مازن عبد النبي التميمي
- رافد أمير حمودي الصفار
- يقظان عبد الكريم حسين
- علي رضا حميد
- ليث نافع كاكا
- زكي إبراهيم بطرس
- أحمد أمان أحمد
- عبد الكريم سامي القطان
- فارس إبراهيم الخطيب
- وسام نوري عبد السلام الحافظ
- عبد الرحيم حسن المالكي
- مضر سعد الوتري
كلية طب جامعة بغداد ومستشفى الشهيد عدنان خير الله
- عبد الهادي الخليلي
- طارق جمال الزعين
- ئاري سامي حسين
- قيس فاضل شمال
- زيد داود سرسم
كلية طب الجامعة المستنصرية
- حكمت صدّيق آغا
- عمار شاكر مجيد
كلية طب جامعة صدام، المستشفى التعليمي
- 23. سمير حسن عبّود
- وليد وهيّب الراوي
- عبد الأمير جاسم محمد
جامعة الموصل، المستشفى التعليمي
- عماد هاشم أحمد
- عمار محمد سليمان الشماع
كلية طب جامعة البصرة، المستشفى التعليمي
- محمد عبد القادر المير
- أردم جمال أحمد
مستشفى التأميم التعليمي
- يلدرم عباس جعفر
مستشفى النجف التعليمي
- علي كامل الشالجي
مستشفى واسط التعليمي
- عماد صادق عباس
مستشفى الأنبار التعليمي
- صلاح عبد الرحيم الصالح
- أنور نوري السوداني
مستشفى ديالى التعليمي
- منير خماس فرج
مستشفى بابل التعليمي
- فراس محمد حسن البياع
المستشفى العسكري
- طارق عبد الواحد الهيتي
- محمد خليل القيسي
- سعد شكر عبد علب الوزني
- حميد ياسين الدليمي
- هشام مداح الآلوسي
- مساعد حكمت حميد
- رعد ساجت سفيح
- كاظم حسن زامل
- عماد خليل
- باسم مزهر
- ستار رشيد
- حيدر مخلف
حوادث ونوادر
المضحك المبكي: من المفارقات التي تذكر أن شركة سيمنز حين جهزت المستشفى بجهاز السكانر عام 1978 أرسلت عاملين من ألمانيا قاما بكلّ متطلبات النصب من حفر الأرض وصب الكونكريت إلى عمل أنابيب التهوية والبناء ومن ثمّ أدق التفاصيل الإلكترونية. المضحك المبكي أن عمال وموظفي المستشفى كانوا يتناوبون على “التفرج” على هؤلاء “المساكين!!” الذين يعملون ليل نهار ولا يضيعون دقيقة من الوقت بخلاف “جماعتنا” الذين يحاولون صنع الأعذار للتوقف عن العمل. وللأسف هذا أحد أسباب تخلّفنا وعدم تعلمنا من الآخرين فما أكثر العبر وأقل الاعتبار.
حادثة السيارة: في أحد أيام الجمعة من العام 1983،ا كنت قاصداً بسيارتي المستشفى لأني كنت الاختصاصي الخافر. ولما تركت شارع المرور السريع كي أستدير نحو المستشفى وفي لحظة استدارتي عندما فتح ضوء المرور الأخضر وإذا بسيارة “برازيلي” تخترق الإشارة الحمراء بسرعة شديدة وتصدم سيارتي بزاوية قائمة وكانت الضربة على الجانب الأيسر من مقدمة السيارة أمام مقعد السائق ببعض الإنجات فقط. فقدت الوعي للحظة وصحوت على أصوات الناس من حولي يهنئوني على السلامة. كانت الصدمة مميتة لو كانت على الباب الأمامي حيث كنت جالساً. جاءني سائق السيارة معتذراً أمام شرطي المرور والناس الذين تجمهروا حولنا وقال بأنَّه مستعد لدفع التكاليف كافة. أصرّ الشرطي أنْ يرفع تقريراً عن الحادث يثبت فيه جرم السائق حيثُ إنَّ سيارتي قد تحطمت وقد حملتها بعدئذ سيارة الإنقاذ. طلبت
من الشرطي ألّا يرفع أية قضية ضدّ السائق الذي أخليت سبيله لعلمي بأنَّ قضية المحكمة فيما لو تحققت سوف تطول وتطول وتكون هناك أنواع التدخلات والمساومات وسأخسر الوقت والمال.
كاكه حمة: عامل البوريات (الصحيات) الكردي الكاكه حمه، كان رجلاً كبير العمر نسبياً طيب الخلق ولكن مزاجه يضيق من الذين لا يفهمونه، مخلص في عمله ومتقن لمهنته. كان على بساطته يخفي شخصية أخرى اكتشفتها عندما ساعدني في إصلاح بعض أنابيب الماء في بيتي. كان يقيّم الوضع السياسي في حينه بالدنيا عجاج (مغبرة) ويقصد الوضع السياسي المرعب. كنت أستمتع بحديثه وأستدعيه أحيانا إلى غرفتي في أوقات الفراغ لغرض التمتع بأحاديثه التي تلطف الجو.
نكتة مستشفى “المخابيل”: اتّصل مرة أحد الاشخاص هاتفياً بالمستشفى يسأل عن الطبيب الذي عالجه في وقت من الأوقات. عندما سئل من هو طبيبك، قال أتصور أن اسمه دكتور طارق. أجابه عامل البدالة هل هو دكتور طارق كركجي أو طارق الزعيّن أو طارق عبد الواحد؟ ارتبك السائل وقال أنا لا أتذكّر بالضبط، فسأله عامل البدالة هل من الممكن إنّه الدكتور سمير قال قد يكون إنّه الدكتور سمير. فأجابه العامل هل هو سمير المفتي أو سمير حسن عبود أو سمير عطو؟ ردّ السائل بعصبية بالغة: صحيح أنّها مستشفى مال مخابيل، وأغلق الخط! وفي الواقع كانت الأسماء لاختصاصيين يعملون جميعهم في المستشفى.
نكتة الرسالة إلى المستشفى: طلبني في أحد الأيام مدير المستشفى الدكتور سالم خطاب عمر إلى غرفته وعندما ذهبت إليه قدم لي رسالة مرسلة من خارج العراق إلى شخص في المستشفى وقد كتب الراسل على المظروف عبارة “The Neurotic Hospital” المستشفى العصابية! وكان الدكتور سالم في حالة من الانزعاج في تلك الساعة مما جعله يتفق مع الراسل بأنه مستشفى عصابي.
مرقد السيد حمد الله:
على الجانب الشرقي من المستشفى وفي نهاية طريق يمتد لمئات الأمتار من الشارع العام بمحاذاة جدار المستشفى يقع مرقد السيد حمد الله. هناك قصص عديدة تروى عن تاريخ السيد منها أنه رجل فقير من نسل الرسول الكريم (ص) كان قد توفي في الخمسينيّات (المصدر: موقع شلش العراقي) والرواية الأخرى أنه كان إنساناً أمياً يبيع السمك (المصدر: موقع وعد دانيال برخو). ولكن الأكيد ما قاله الاستاذ الدكتور طالب البغدادي في مقابلة له مع الاعلامي الدكتور حميد عبد الله. حينما كان الدكتور طالب معتقلا في السجن مع السيد حمزة الباهلي أمين عاصمة بغداد سابقاً. يقول السيد حمزة أن مجلس قيادة الثورة قرر أن المنطقة التي فيها سكن السيد حمد الله والتي تملأها الصرايف أوالبيوت الطينية يجب أن تخلى وينقل ساكنيها الى مدينة الثورة. تم تهديم كافة الدور والصرايف ولكن عند تقرب البلدوزر من موقع الصريفة التي كان السيد حمد الله قد غسّل جثمانه فيها فقط، ولم يدفن هناك، انكسرت البلدوزر. استبدلت بأخرى وإذا بها تنكسر عند تقربها من الصريفة. وصل الخبر الى رئيس الجمهورية عبد السلام عارف ورئيس الوزراء احمد حسن البكر وقرروا الحضور شخصيا في الموقع لتقصي صحة ما حصل. طلبوا من الامين ان يقود البلدوزر بنفسه. واذا بالبلدوزر تنكسر أمام الجميع واستغرابهم. عندها أمر البكر بإقامة جامع في تلك البقعة لما ظهر من قدسية الحدث وكرامة السيد حمد الله. كانت هذه الكرامة بداية إنشاء الضريح وتوسع دائرة الزائرين الراجين “شفاعته”. علمنا بحالات لا نجد المريض فيها في فراشه في الردهة قبل إجراء العملية، ويأتينا الخبر بأنَّه الآن يصلي ويدعو هو وأهله عند مقام السيد، وأحياناً ينحرون خروفاً وفاءً لنذر في رقبتهم! أما الطرفة الثانية فهي عندما كنا نعطي عنوان المستشفى لمن يطلبه ونقول قرب ساحة الطيران وهي العلامة الجغرافية المهمة في المنطقة يأتي الجواب دائماً: تقصد قرب سيد حمد الله؟! وهذه تشبه العنوان الذي كتبه والد لولده الجندي الذي كان يعمل في وزارة الدفاع وقد كتب العنوان على المظروف: وزارة الدفاع مقابل لبن أربيل (محل لبيع اللبن).
لجنة منح سيارات المعاقين (ذوي الاحتياجات الخاصة):
أصدر وزير الصحة الدكتور رياض إبراهيم الحاج حسين، أمراً بتاريخ 1/4/1979 بتشكيل لجنة لمنح المعاقين السيارات المحورة وبتسهيلات واسعة في سعر السيارة وطريقة دفع المبلغ. كانت اللجنة برئاسة الدكتور فائق علي عيسى مدير مستشفى ابن رشد حيث مقر اللجنة وكذلك الدكتور هاتف هديب الحاج حمود اختصاصي الكسور والدكتور كامل غرب اختصاصي العلاج الطبيعي وكنت عضوا فيها.
استمرت اللجنة في عملها لسنوات عديدة وكانت تردنا في كل أسبوع ما يقارب الخمسين طلبا للحصول على السيارة المخصصة. كان القرار بالمنح بالإجماع وكنا في الغالب نتوخى التساهل في القرار لصالح المتقدمين من المعاقين.
صدفة غريبة: أتذكّر في يوم كنت في سيارتي متجهاً من ساحة الفردوس إلى شارع أبو نؤاس، وكان هناك مطب مرتفع من أسفلت الشارع لتقليل سرعة السيارات. شاهدت شخصاً معاقاً يحاول أن يدفع كرسيه ذا العجلات كي يعبر ذلك المطب وكانت العجلات خالية من الإطار المطاطي لعدم تمكّنه من شرائه. أوقفت سيارتي على جانب الشارع ونزلت لأساعده على عبور المطب. وقبل أن يشكرني سألته لماذا لا تقدم على سيارة معاقين؟ أجابني باستحالة ذلك لعدم معرفته بأسلوب التقديم وعدم وجود “الواسطة”. كتبت له ورقة وطلبت منه أن يراجع لجنتنا في نفس الأسبوع. لم يصدق ذلك الإنسان الوديع ما شاهده من أن شخصاً نزل من سيارته ليعينه على عبور المطب ثمّ يعرض عليه أنْ يساعده في الحصول على السيارة. ولا أعلم ما دار في ذهنه في حينه. المهم أنه راجع اللجنة وحصل على السيارة التي من حقّه أن يحصل عليها لأنها خصصت له ولأمثاله. وفي المقابل أنقل القصة الاتية:
محافظ بغداد الأسبق واللجنة التحقيقية: في أحد الأيام راجع مسؤول حكومي سابق (محافظ بغداد ج ع) مستشفى جراحة الجملة العصبية ودخل مكتب الدكتور سعد الوتري وكنت معه في الغرفة. كان ذلك المسؤول يشكو من مرض الشلل الاهتزازي (الباركنسون) ومن النوع الشديد. وكان يصحب معه تقارير من اختصاصيين أمريكان كان قد راجعهم أثناء سفرته إلى أمريكا للعلاج. وكانت التقارير وما شاهدناه معا يدلّ على أن حالته شديدة وستستمر بالتدهور بالرغم من العلاج. بعد ما يقارب الشهر راجع هذا المسؤول لجنتنا للحصول على سيارة معاقين. وصادف أن كنت منشغلاً في ذلك اليوم بعملية طارئة في المستشفى مما سبب تأخري في الوصول إلى اللجنة، وكذا تأخر الدكتور هاتف هديب عن الوصول. كان من استقبل ذلك المسؤول الدكتور فائق علي عيسى والدكتور كامل غرب بالاحترام اللائق وتسلما أوراق التقديم على السيارة وحصلت لهما القناعة بمنحه السيارة. وكان من المتوقع أن تتم الإجراءات بعد أنْ يحضر العضوان الآخران، هاتف وأنا، ويوقعا على قرار القبول! عندما وصلتُ إلى اللجنة أخبروني بما حصل فقلت أنه لا يمكن منح هذا المسؤول، مع جلّ الاحترام له، سيارة معاقين حيثُ إنَّه مصاب بالشلل الاهتزازي الشديد الذي يمنعه من قيادة أية مركبة حفظاً على حياته وحياة وممتلكات الآخرين. بدأ الجدل بيننا وجاء الدكتور هاتف وبدوره أيد وجهة نظري. بدأ التململ على المستوى الرسمي وتعددت زيارات المفتشين من الوزارة للتحقيق معي بشأن قراري لكوني كنت غائباً عند مجيء صاحب الطلب إلى اللجنة ولم أقم بفحصه سريرياً. أوضحت لتلك اللجان التحقيقية طبيعة مرضه واطلاعي على حالته مسبقاً وعلى التقارير الطبية الصادرة عن أمريكا. اعتقدت بأنَّ تلك اللجان التحقيقية قد اقتنعت كما أخبروني في حينها وانتهى الموضوع. ولكنفوجئت بعد عودتي من دورة تدريبية في ألمانيا لمدّة ثلاثة أشهر أنَّ ذلك المسؤول قدم طلباً إلى القيادة القطرية لحزب البعث وكذلك إلى محكمة جزاء الكرخ يطلب محاكمتي لما قمت به من مخالفة وغبط حقوقه. وبما أني ضعيف سياسياً وهو القوي شعرت بالمرارة ولامني بعض الأصدقاء على ذلك الموقف المتزمت. كانت إجابتي أني أديت الأمانة المهنية الملقاة على عاتقي وإذا كانت له حظوة لدى الدولة فيمكنهم منحه سيارة عادية وليست سيارة معاقين يقودها سائق غير معاق. على أية حال بقيت في قلق مستمر حتّى موعد اجتماع اللجنة التالي.
دخل علينا بصورة مفاجئة ونحن في اجتماعنا الدوري، وزير الصحة الدكتور رياض إبراهيم الحاج حسين وبصحبته ثلاثة من رؤساء مؤسسات حكومية وبدأ بالتحقيق. كان لدي شعور شبه مؤكد أن من أرسل تلك اللجنة هو الرئيس صدام حسين. وبعد لحظات من الترقب و”الرعب” كانت أوّل جملة قالها الوزير هو أن الطبيب الذي يمنح شخصاً مصاباً بالشلل الاهتزازي سيارة معاقين لا أعده طبيباً وأحاسبه حساباً عسيراً. وقعت تلك الجملة علي كماء بارد صب على رأسي في يوم لافح الحرّ! وطلب الوزير من الموجودين معرفة من الذي أوحى لذلك المسؤول أنه سيحصل على السيارة؟ وتبين أن ذلك الشخص اعتقد بصحة منحه السيارة بدون تصريح أي من الأعضاء. وهكذا أغلق ملف مزعج كان يمكن أن يحصل لي بسببه ومن المحتمل الدكتور هاتف كذلك ما لا يحمد عقباه في تلك الحقبة من الزمن. ولكن بوجود نبلاء مثل الدكتور رياض فقد أعطي كل ذي حق حقه.
الحرب العراقية الإيرانية
تمهيد:
لا أودّ أن أدخل في هذا المقام بالحديث عن الجانب السياسي للحرب العراقية الإيرانية ولكني أذكر أنّها كانت في حينه من أطول حروب القرن العشرين. نشبت بين العراق وإيران في أيلول عام 1980 وانتهت في آب 1988 وخلفت أكثر من مليون قتيل ومثلهم ويزيد من كان جريحا أو معاقا. ألحقت أضراراً بالغة باقتصاد ومستقبل البلدين. لا نعلم من هو الكاسب في الحرب بجانب شركات تصنيع السلاح وسماسرتها والمستفيدين من الداخل والخارج.
عندما اشتعلت الحرب كانت لها بداية ولم يظهر في حينها أن لها نهاية. وعندما ولد ابني الوحيد في العام 1985 كنت أتوقّع أنه سيشارك في الحرب عندما يبلغ الثامنة عشرة من العمر!
إيفاد إلى جبهة القتال:
في أيام الحرب الطاحنة كان هناك جدول منظم لإيفاد الجراحين في كل الاختصاصات إلى مدن جبهة القتال وبالأخص مدينتي العمارة والبصرة. وكان للعمارة النصيب الأكبر من الإيفادات، حيث كان الملاك الجراحي الدائمي في البصرة يكفي لسد الاحتياج والسيطرة على الموقف هناك ما عدا بعض حالات المعارك الشديدة جداً حيث كنا نسعفهم حينها.
يستمرّ كلّ إيفاد لمدّة أسبوعين يقوم فيهما الجراح بكل المتطلبات الجراحية من العمليات والإشراف على العناية المركزة وإحالة من يحتاج إلى عمليات تكميلية في بغداد. وكان نصيبي منها 24 إيفاداً إلى العمارة وإيفاداً واحداً إلى البصرة.
مدينة العمارة:
تم تحويل مستشفى العمارة الجمهوري التابع إلى وزارة الصحة إلى مستشفى يخدم القوات المسلّحة وجرحى الحرب العراقية الإيرانية. وكان التركيز الإداري على أوجه فكان رئيس الصحة ومدير المستشفى والملاك الطبّي في المدينة يتواجدون طوال الوقت تقريباً في المستشفى. وفي الأيام الأولى انتدب الدكتور إبراهيم النجار من إدارة مستشفى الكرامة في بغداد ليكون مديراً لمستشفى العمارة دعماً لإدارة المستشفى. وفرت وزارة الصحة كلّ المتطلبات اللازمة من أثاث وعدد طبّية وأرزاق في ذلك المستشفى. كانت الطبقة الأرضية للمستشفى تضم الردهات وقاعات العمليات وغرفة استقبال الجرحى. أما سكن الأطباء فكان في الطبقة العليا من البناية.
المدير الدكتور إبراهيم النجار:
جاء الدكتور إبراهيم من بغداد في بداية الحرب كمدير منتدب لأهمية إدارة المستشفى الذي كان بمثابة مركز جراحي حربي متقدم. كان نشيطا معروفا بحسن الإدارة والحضور المهيب واللطف مع العاملين على تعدد مستوياتهم. كانت جلسات السمر الثقافية في أوقات السلم تجمع الجراحين وغيرهم. وكانت له خبرة فريدة في علم المقام العراقي يندر أن تجدها عند طبيب. أحَبَه الجميع وأحب الجميع. أصيب بجلطة قلبية مفاجئة وهو في المستشفى، ولوجود العديد من الاختصاصيين وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور بسام البرزنجي في تلك اللحظة فقد أعيدت له الحياة بعد فراقها لدقائق. أحيل على التقاعد بسبب حالته الصحية وربما لقربه من عمر التقاعد. كان تواقاً لزيارة ابنه نبيل الساكن في أمريكا وحينما كان في الطائرة وهي محلقة فوق المحيط كان القدر بانتظاره حيث أصيب بجلطة شديدة ولم يكن هناك من يسعفه، فالأجل محتوم وللأسف لم يتمتع برؤية ولده وأعيد جثمانه إلى الوطن.
أطباء العمارة الطيبون:
تحمل الزملاء الأطباء المنتسبون لمستشفى العمارة ولدائرة الصحة فيها العبء الأكبر في الحرب، فقد أغلقوا عياداتهم وكان عملهم في المستشفى صباحاً ومساءً ولا سيما الجراحين منهم في اختصاصات الجراحة العامة والتخصصية فقد كانوا متواجدين في قاعات العمليات مع زملائهم الموفدين عند حدوث المعارك طوال أيام السنة. أما الاختصاصيون من غير الجراحين في الباطنية والأشعة والمختبر وغيرهم فكان عملهم مستمراً في كل أيام الأسبوع. وكان دوام رئيس الصحة ومنتسبيه دواماً ليس له حدود الدوام الرسمي. قدم الزملاء في العمارة كل ما يمكنهم من حسن الضيافة والدعم والمساعدة بكل ما يمكن لضيوفهم من الموفدين.
النفير:
كان النفير للاستعداد لاستقبال الجرحى يصل من القطعات العسكرية إلى الإدارة فيستعد الجميع بتهيئة النقالات وصالات العمليات. عند وصول سيارات الإسعاف والناقلات ينقل كلّ مصاب بعد أنْ يتم فحصه الأولي وتتقرر حاجته إلى فحوصات شعاعيه ومعرفة صنف دمه ينقل مباشرة إلى الصالة المعنية.
كان مركز نقل الدم مفتوحاً طول الوقت ولم تواجهنا صعوبة في الحصول على الدم أثناء العمليات، حتّى في الحالات الحرجة التي يحتاج فيها المصاب إلى عشر قنان أو أكثر. تبرع المواطنون في المدينة وطلبة المدارس والعسكريون الذين لم يبخلوا أبدا بالتبرع بدمائهم بسخاء.
كان العمل يجري بروح الفريق في كل الأوقات فكان الكُلّ عونا لبعضهم ولم تحصل أية مشادة أو صراع أو انزعاج أو تذمر بين العاملين فالكُلّ مشدودون لخدمة هؤلاء الشباب الذين يمكن أن يكونوا أولادنا أو إخوتنا.
العمل لساعات طويلة:
كانت المعارك تدور لمدّة يوم أو بضعة أيام حيث يصعب على المستشفى والملاك في هذه الحالات أن يستوعبوا زخم العدد من الجرحى حيث يكون عدد المصابين أكثر من قدرة المستشفى والجراحين. وهنا يستمرّ العمل ليل نهار للتمكّن من إنقاذ هؤلاء الشباب الجرحى. وفي معركة من تلك المعارك الطاحنة استمرّ عملي الجراحي في صالة الجراحة العصبية إلى ما يقارب الست وثلاثين ساعة.
كان منظر الشباب وهم ملطخون بالدماء وأكثرهم قد فقد الوعي أو دخل في غيبوبة من هول الصدمة لما لاقاه، مما يدمي القلب وأنت تتذكر أمهاتهم وأهليهم الذين ضحوا بكلّ ما يملكون ليكبر أولادهم ويواجهوا الحياة بالعلم والعمل. وإذا بهم ملقون وحيدين على نقالة المستشفى وليس لهم إلا الله سبحانه ورعاية ملاك المستشفى من أطباء وممرضين وإداريين، والذين لم يفكر أي منهم بالسؤال لماذا وإلى متى؟ ولكن التفكير كان قد تركز على كيف نعمل على إنقاذ هؤلاء الأحبة.
توثيق العمليات الجراحية:
بالرغم من ضيق الوقت كنت أوثق كلّ تفاصيل الحالات وبثلاث مراحل، حالة المصاب قبل العملية وتفاصيل العملية الجراحية ثمّ حالته بعد الإفاقة. وكان بعضهم يستغرب ويتندر بخصوص ذلك التوثيق فكانت الإجابة لعل هناك من يبحث في المستقبل عن هكذا حالات ويحتاج إلى معلومات دقيقة يمكن أن تفيده في البحث، ولكن يا للأسف كانوا على حقّ فقد أصبحت تلك التفاصيل والأوراق في خبر كان!
بعض الحالات النادرة:
أصيب شاب مقاتل بشظية اخترقت خوذته واخترقت الجمجمة إلى مقدمة المخّ. وهذه حالة متعارف عليها وعلاجها في الغالب غير معقّد يتمكن من إجرائها مقيم متدرب في الاختصاص. أجريت العملية وتم تنظيف الجروح المشرشرة في الجلد والجمجمة والسحايا كالمعتاد ومن ثمّ تمّ تنظيف منطقة الإصابة والتخلص من المادة الدماغية التالفة. وفي العمق داخل الفصّ الدماغي الأمامي حيث الشظية المخترقة شاهدت عظماً صغيراً بعرض مليمترين وبطول ثمان مليمترات تقريباً. كنت متردداً في التخلص منه أم تركه. فإذا بقي سيتحلل وبوجود التلوث سيلتهب ويسبب اختلاطات خطرة على الدماغ. قررت أن أسحبه من العمق وإذا بالصدمة الكبرى أمامي بنزف دموي يخرج من داخل الدماغ كالنافورة والسبب أنَّ تلك العظمة الصغيرة كانت قد نفذت إلى داخل الشريان الدماغي الأمامي وأغلقت فتحة اختراقها. وعندما أخرجت العظم وسحبته انفجر النزف كنافورة شديدة، فكان لا بد من إيقاف النزف من الشريان المهم وظيفياً والمحاط بأنسجة مهمة لا يمكن خدشها. والمشكلة الكبرى هي عدم توفر العدد الجراحية في العمارة التي يمكن أن تستخدم لإيقاف النزف بدون التأثير على الشريان نفسه. وهكذا تعقد الموقف للمصاب الذي كان من المتوقع أن يشفى شفاءً تاماً من هكذا إصابة. ولم يكن أمامي إلا خيار واحد للعمل به وإلا فإنَّ الوفاة ستكون محققة ليس من النزف فقط، ولكن بسبب تأثير ذلك على الدماغ بانتفاخه المفاجئ إلى غير ذلك من الاختلاطات المميتة. وضعت بعض المواد التي تستخدم لإيقاف النزف السطحي البسيط على فوهة النزف العميق وتبعتها بلقم قطنية نستعملها في عملياتنا وكبست ستة منها داخل الدماغ. توقف النزف وكان الدماغ مستريحاً ولم تبد علامات الانتفاخ المقلقة، فتنفس الجميع الصعداء. وبعد أنْ تأكدنا أنَّ الوضع طبيعي تمت خياطة كلّ الطبقات، وما أن زال تأثير التخدير كان المريض صاح تماماً وبدون أي خلل عصبي ولا يعلم ماذا هو حال دماغه. وكان لا بد أن يعاد فتح الدماغ بكلّ هدوء بعد 24 ساعة لسحب تلك اللقم القطنية بعد إغراقها بالسوائل الجراحية وليكن بعون الله كلّ شيء على ما يرام. ولانتهاء فترة إيفادي وصل زميلي الدكتور نبيل ساكا موفدا من بغداد ليحلّ محلي. أبلغته بالتفاصيل وطلبت منه أن يجري اللازم، وهكذا كان وتمت العملية الثانية وأبلغني هاتفياً في لحظتها بأنَّ العملية تمت بنجاح ولله الحمد. وبالتأكيد هناك من الجراحين من واجه حالات غير نمطية في اختصاصه وابتكر طريقة آنية لم توجد في الكتب المنهجية.
المريض “الهارب!” والعجز الكلوي:
في خضم المعارك وتزاحم الجرحى والملاك في ممرات مستشفى العمارة وأنا أسير مسرعاً لمشاهدة كوكبة جديدة من الجرحى شاهدت أحد الجنود جالساً على كرسي يدفعه جندي آخر ويتجه به إلى حيث ينقل ليعاقب بتهمة الهروب من الجبهة. كان المسكين لا يشكو مما هو فيه حيث لم يكن يمكنه الكلام، والاعتقاد كان إنّه متمارض ليهرب من الواجب، والجندي الذي يدفع بالكرسي يولي المسكين بضربات على قفاً رقبته تنفيذاً للأوامر! لمحت وأنا في طريقي وجود شلل في حركة العينين أي كانت العينان متجهتين إلى جانب واحد بأقصى درجة ولم تكونا في الوسط. وهذا لا يخفى على أي متخصّص في الأعصاب بأنَّه يدلّ على مرض عضوي وليس نفسي أو ادّعاء المرض.
طلبت من الجندي المسؤول أن يجلب المريض ليضعه على السرير في غرفة الفحص. كان ضغط الدم هابطاً جداً فأعطي السوائل ثمّ أجريت له فحوصات الدم فتبين أنه مصاب بعجز الكلية. أخذ منحى حياته مع هذا الاستنتاج منحى آخر ولله الحمد. الدرس هنا أن هناك من تمت محاسبته وكأنه مجرم بحق الواجبات العسكرية ولكن عند التمحيص يمكن أن يكون لديه عذر معقول ينفي ذلك الاتهام.
المقيمون حديثو التخرج:
كنا بانتظار معركة حامية بين العراق وإيران حيث كان عدد الإصابات المتوقعة سيزيد كثيراً عما يمكن التعامل معه ضمن الإمكانات الطبّية المتوفرة في المستشفى، لذا أرسلت وزارة الصحة بحدود ثلاثين طبيباً مقيماً دورياً من البراعم من الأطباء الذين لم يخرجوا خارج بيوتهم من قبل وإذا بهم في ساحة الحرب. وصل هؤلاء الشباب وترى الوجوه الحيرى والوجل على محياهم. جلسنا معهم ولطفنا الأجواء عليهم وطمأناهم بأنَّ المستشفى بعيد عن أي قصف مدفعي مثلما يحدث في مستشفى البصرة مثلاً.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المطعم وإذا ببعضهم يشكو من قلة ما موجود على مائدة الفطور الصباحي. تأكدت من ذلك واتّصلت بمدير المستشفى ورئيس الصحة لأبلغهم بما أبلغني به هؤلاء الشباب. استغرب الاثنان حيثُ إنَّ أرزاقهم في المطعم قد ثبتت قبل وصولهم. وبما أن هناك طبيبا سيشرف على المطعم بجدول دوري طلبت من المدير ورئيس الصحة أن أشرف على المطعم ليوم واحد فوافقا على ذلك. ذهبت إلى المطبخ لأشرف على استلام المواد الغذائية التي وصلت بأحسن حال وكمية.
قطّع الطباخ اللحم إلى قطع مهيأة للطبخ وقبل وضعها في القدر تظاهرت بأني أعدّ كل قطعة لحم وقلت سأعد اللحم ثانية بعد الطبخ! علمت بأنَّ معمل الألبان في المدينة لم يجهز الألبان من حليب وزبد ولبن. ذهبت إلى مدير الإعاشة وطلبت منه الاتّصال هاتفياً بمدير المعمل. وفي لحظة إجابته أخذت السماعة من مسؤول الإعاشة وكلمت المدير بخصوص عدم إرساله وجبة الألبان فقال إنها جاهزة ولكن المستشفى لم يرسل أحداً لاستلامها. أشرت على الإدارة بإرسال سيارة لاستلامها وتم إيصال الألبان وفرشت مائدة الأطباء المقيمين وغيرهم مليئة بكلّ ما وفرته الدولة من أرزاق مخصّصة وغير منقوصة. ولكن لا يمكنني الاستمرار بذلك وتذكرت ما حصل في مطعم كلية الضباط الاحتياط في بداية خدمتي العسكرية حينما حدث الشيء نفسه فعلمت أنها “حليمة” وهذه عادتها القديمة!
الدكتور أسعد ناصر:
كان الدكتور أسعد آمر المستشفى العسكري في العمارة. بالرغم من وجود المستشفى العسكري في المدينة فقد كان المستشفى التابع لوزارة الصحة هو المقر الوحيد لاستقبال الجرحى ورعايتهم وذلك لصغر بناية المستشفى العسكري وقلة الاستعداد لهذا الزخم. بالرغم من ذلك فقد كان الدكتور أسعد وهو طبيب أسنان ناجح متواجد في أغلب الأوقات معنا في المستشفى وكان على استعداد للمساهمة والقيام بأي احتياج يتمكن هو ومستشفاه بتحقيقه.
الدكتور صباح ميخائيل:
عند نقل الدكتور أسعد ناصر تعين زميلي وصديقي الدكتور صباح ميخائيل آمراً للمستشفى العسكري. تفضل علي بالحصول على صور عديدة لمقبرة الانكليز حيث دفن مؤسس جراحة الدماغ في العالم السير فيكتور هورسلي.
مؤتمر العيون والفرقة القومية والضغط النفسي:
عدت من أحد الإيفادات إلى العمارة وعند وصولي إلى بغداد شاركت في مؤتمر أطباء العيون السنوي الذي عقد في بغداد. كان هناك نشاط ترفيهي للمشاركين في أوّل ليلة من ليالي المؤتمر في المسرح الوطني. كان النشاط الترفيهي عرضا فنياً راقصاً للفرقة القومية للفنون الشعبية. بُدئ العرض بظهور الفنانين والفنانات بملابسهم الجذابة وبمكياج الفنانات البراق وبدأ الرقص والغناء مع الموسيقى الصاخبة وإذا بالدنيا تدور من حولي وأمامي صور الشباب في عمر الورود المشاركين بالحرب والمعرضين لويلاتها، وتذكرت بكاء أهل الشهداء والدماء التي تسيل والآلام فاحتقن وجهي وصعد الدم إلى رأسي ولم أطق البقاء في هذا الجو الذي كان بعيداً كلّ البعد عن الواقع الأليم الذي يعيشه العراق في ميدان الحرب الطاحنة.
طلبت من المسؤول عن المؤتمر زميلي الدكتور فائز تبوني أن يسمح لي بمغادرة القاعة في تلك اللحظة. أجاب بأنَّ ذلك مستحيل حيثُ إنَّ الأبواب جميعها مغلقة وضباط المخابرات يحرسونها كي لا يغادر القاعة من يحتمل أن يزرع قنبلة فيها، ولم تكن ثقافة الانتحار بالتفجير قد بدأت بعد!! قلت لفائز إني يجب أن أغادر حالاً وإلا أصبت بجلطة لا قدر الله. تحدث مع الضباط وأقنعهم بضرورة مغادرتي القاعة. فتح لي الباب الخارجي ولما أصبحت خارج القاعة انحسر عني كابوس فظيع وتنفست بعمق وحبست دمعة على ما شاهدت من انفصام في تفاعل المجتمع مع أولئك الشباب الذين يقضون في عمر الورود وهناك من يستمتعون بالموسيقى والغناء والرقص كأن ذلك لا يعنيهم.
في أوقات الهدوء على الجبهة
الطفلة التي فقدت بصرها!:
في يوم لم تحدث فيه معركة في الجبهة ولم ترد إلى المستشفى إصابات تذكر والهدوء يسود ويتوفر الوقت للنوم بعد الظهر، أيقظني الفراش المسؤول عن الغرف التي نسكنها في الطبقة الثانية قائلاً (عمّي رئيس الصحة في قاعة استقبال الجرحى ويقول أكو حالة مستعجلة؛ طفلة فقدت بصرها فجأة ويطلبون مشورتك). وكان رئيس الصحة والآخرون يعرفون بأني كنت طبيب عيون قبل دخولي ميدان الجراحة العصبية وهذه الحالة تجمع الاختصاصين معاً! نزلت بعد دقائق إلى الطبقة الأرضية حيث قاعة الاستقبال في العيادة الخارجية. وقد صممت القاعة بحيث أنَّ الجدار الفاصل بينها وبين الممر الرئيسي في المستشفى لا يزيد ارتفاعه على المتر فكان الذي يسير في الممر يرى من هم في القاعة ولكن عليه أنْ يدور حولها ليدخل من بابها الجانبي. ولذا يمكن أن يطلع من هو في الممر على تفاصيل من في القاعة قبل أنْ يدخلها. شاهدت هناك رئيس الصحة ومدير المستشفى وعدداً من الأطباء والضباط والنساء في القاعة والكُلّ يركز بألم وتعاطف مع طفلة مراهقة قد فقدت بصرها تماما بصورة فجائية!! والمسكينة كانت خائفة جداً ويصعب عليها الكلام والتفاعل مع الآخرين.
كان تقييمي الابتدائي وأنا أتطلع إليها أثناء سيري في الممر أن حالة فقدانها البصر سببها نفسي، ولكن هذا التشخيص من أصعب التشخيصات لمن مارس الطبّ من موقع الخبرة المتراكمة، ولكنه يبدو من أسهلها للخريج الحديث حيث تختلط عليه مظاهر أمراض عضوية مهمة يظن أن سببها نفسي.
سلـّمت على الجميع وعلى والد الطفلة الذي كان ضابطاً ربما برتبة عقيد وهو من أهل المدينة ومحبوب ومحترم من الجميع حيث هب الأطباء تعاطفاً معه في محنته ورعاية ابنته باستشارة المتخصّص! وأنا أنظر إلى الطفلة بعين الجد أكملت الفحص العصبي العام وفحص الإبصار بكلّ دقة للتأكد من عدم وجود سبب عضوي. أيقنت أنَّ الحالة هي كما تصورتها أوّلاً أي أنها “عمى نفسي المنشأ” وليس حقيقيا.
يجب أنْ يكون الطبيب في هكذا موقف حاذقاً متوازناً في التعامل مع الحالة. فهذه تجربة ستتذكرها الطفلة وأهلها طول العمر. يجب أنْ يقتنع الأهل بأنّها أصيبت بعمى “حقيقي” كي لا تتهم بالتحايل والادعاء وفي نفس الوقت يجب أنْ تقتنع الفتاة بأنّها مريضة حقيقة كي لا تفقد الثقة بنفسها.
قررت عندها ما يجب عمله وهو تمثيلية محبكة تحقق المطلبين. صرحت للجميع بعد الفحص الكامل بأنَّ الحالة جدية ومقلقة ولكني سأبذل جهدي لعلاجها آنيا. وترقب الجميع ماذا سيكون العلاج وهم يؤمنون بقدراتي الطبّية. طلبت من رئيسة الممرضات المتواجدة الست آسيت أنْ تعطيني حبوب “النظر” التي جلبت لنا من ألمانيا! وأشرت إلى المدرج الأوسط من المنضدة أمامها وكان فيه حبوب الباراستول الكبيرة الحجم. لم ير أي من الحضور الحبوب وأنا أتسلمها من آسيت. وبطبيعة الحال استغربت هي والجميع من هذا الطلب فما علاقة العمارة في وقت الحرب مع حبوب النظر التي تجلب من ألمانيا؟ ولكنها فهمت القصد. أخذت حبة واحدة وقسمتها إلى نصفين حيث سيكون بلعها مصحوباً ببعض الألم لخشونة الحافة المكسورة. طلبت أن يجلب لها كأس ماء مملوء بالماء. وهنا شرحت وبصوت جهوري وصارم ماذا سأقوم به، وهو أنْ أسيت ستعد من واحد إلى ثلاثة وعندها سأطلب من الفتاة أنْ تبلع حبة النظر وحينئذ سأضرب الفتاة بين دفتي ظهرها وعندها سيعود بصرها حالا وكاملاً. وهنا طلبت أنْ تبدأ الممرضة آسيت بالعدّ وعندما بدأت قلت لها إنَّك سريعة في العدّ ويجب أنْ تتباطئي وكان ذلك إكمالاً للصورة الدرامية. أخذت الفتاة نصف حبة الباراستول وعند عدّ ثلاثة ضربتها بين دفتي ظهرها ضربة متوسطة الشدة! وإذا بالفتاة تتجه إلى والدها قائلة بابا أنا أرى الآن، وهلل الجميع فقد حققت التمثيلية الطبّية المرجو حيث إن الفتاة آمنت أنّها كانت مصابة فعلاً وشفيت بتناول عقار، وكذلك تيقن الأهل أنّها لم تكن تتظاهر بالعمى. وعمت الجميع الفرحة والدهشة والهمس كلّ من منظاره الخاص.
الترجمة ووقت الفراغ:
كان الوقت يمضي بطيئاً اًفي الأوقات التي ليس فيها معارك. وكان العديد من الزملاء يقضون وقتهم في نادي الأطباء، وكنت أقضي بعض الوقت معهم، ولكني كنت منشغلاً بمشروع آخر مهم وهو ترجمة كتاب من أفضل ما كتب في طريقة فحص الجهاز العصبي في أميركا وخارجها إلى العربية وقد أشرت إلى ذلك في فصل الكتب المؤلفة والمترجمة.
مؤسس جراحة الدماغ في العالم يرقد في مقبرة الانكليز في العمارة:
علمت من متابعتي وأنا في بريطانيا بأن السير فيكتور هورسلي مؤسس اختصاص جراحة الدماغ في العالم وهو بريطاني الجنسية قد توفي ودفن في مدينة العمارة عام 1916.
في أوّل إيفاد لي إلى مستشفى العمارة وعند وجود فسحة من الوقت ذهبت إلى مقبرة الإنكليز بصحبة زميل من أهل المدينة والتقطنا بعض الصور التذكارية.
طرفة في الأجواء الساخنة:
من بين الجراحين الموفدين كان هناك جراح أكمل دراسته وتدريبه خارج العراق لم يكن يتقن اللغة العربية، فكانت تعبيراته العفوية في بعض الأحيان مدعاة لتندر أخوي بدون خدش لمشاعره حيث كان يتمتع بروح الدعابة. في إحدى جلسات السمر حيث كانت الجبهة هادئة لأيام كان العديد من الجراحين والمخدرين يستريحون في غرفة المدير المنتدب الدكتور إبراهيم النجار (أبو نبيل) والذي كان من بين الحضور. عرضت إحدى الممرضات الموفدات والتي كانت تعتني بمظهرها كثيراً ألبوم صور شخصية لها وفي مناسبات مختلفة. أثارت تلك الصور التعليقات من كلّ من تصفح الألبوم حينما كان يدور على الجميع واحداً بعد الآخر. وحينما تصفحه صاحبنا ركز كثيراً على بعض اللقطات ولم يتمكن من أن يخفي إعجابه فقال وبصوت عال: والله هذه الصور جميلة أنتِ صحيح آرتيست! ويقصد بكلّ براءة مدحها كونها فنانة. وإذا بالهرج والمرج يطغى على الجلسة وتوجّه كلامها له وبغضب بالغ وبصوت مرتفع: “آرتيست أمك… آرتيست أختك…وو… وو” ولم تنته الصرخات إلا بعد أنْ اقتنعت بأنَّ قصده كان نبيلاً ولم يقصد الطعن أو المساس بها أبداً. تصالحا وتصافيا ولكن ذكرى تلك اللحظات بقيت في المجتمع الصغير لبعض الوقت.
النجار حافظ جون:
في دائرة الصحة تعمل موظفة طيبة من عائلة كريمة من أهل العمارة كنت قد أجريت لها عملية استئصال كيس مائي من دماغها في نهاية السبعينيّات. وعند إيفادي إلى العمارة وبحكم عملها في دائرة الصحة زارتني في المستشفى ودعتني لزيارة عائلتها. كان لها أخوين يكبرانها كثيراً أحدهما كان نجاراً من الطراز الأوّل. ذهبت إلى معمله وهناك شاهدت الجمال في الحفر والتصميم مما أثار إعجابي بطاقته اليدوية الفنية الفريدة في هذا الزمن. ولما علم أني كنت في طور بناء بيتي في بغداد أخذ يسأل أسئلة مهنية لم أفهم قصده منها. وفي زيارة أخرى إذا به يقدم لي باباً من الخشب الراقي وبسمك يزيد على الإنجين وبحفر زخرفي مبهر ويقدم الباب هدية منه ومن العائلة ككل. رفض أن أقدم له أي مبلغ مقابل ذلك والأدهى أنه أرسل الباب وهو بقطعتين إلى بيتي في بغداد. وكانت الباب وزخرفتها مثار إعجاب الأصدقاء والأهل.
إيفاد إلى البصرة وخبر استشهاد زميل عزيز:
في شهر شباط من عام 1987 كان إيفادي إلى البصرة وهي المرة الوحيدة إليها حيث ذهبنا لمساعدة زملائنا هناك بالرغم من وجود العدد الجيد من الاختصاصيين الأكفاء في كلّ الاختصاصات. كانت المعارك طاحنة جداً هناك قبيل وصولنا بيوم أو يومين. عند وصولنا فوجئنا بخبر استشهاد زميل عزيز على الجميع هو الدكتور قيس عبد المجيد محمود اختصاصي جراحة العظام. أثناء وجوده مع عدد من الزملاء الشباب والممرضين سقط صاروخ هائل على موقع إقامتهم فاستشهد العديد منهم بالحال.
الأهوار والسيد جبار ابن السيد صروط:
أثناء فترة اتسمت بهدوء المعارك طلبت من السيد رئيس الصحة أن يصحبني في سفرة إلى عمق الأهوار القريبة من العمارة. هيأ لنا زورقاً بخارياً وبدأنا رحلتنا في مياه الأهوار. كانت النسمات عذبة ورائحة القصب من أطيب العطور وحينها تذكرت سفرتي في مياه فينيسيا في إيطاليا بالـ “جندول” وكانت الرائحة غير طيبة لا تقارن بنقاء الهواء ورائحة الأهوار العطرة.
والأهوار عالم خاص ليس له مثيل في العالم وأهله أصل الحضارة البشرية. لكثرة المسالك المائية ليس بإمكان أي شخص من خارج السكان المحليين أن يتعرّف على تلك المسالك التي تتفرع إلى مئات الفروع. وترى الجُزر على جانبي المسالك المائية وهي جُزر صناعية بناها أهلها من المواد المحلية من القصب والبردي وغيره. ويسكن في تلك الجُزر عائلة أو أكثر ومعهم كلّ حيواناتهم من الجاموس (البقر المائي) والكلاب والدواجن. وبمرور زورقنا البخاري الذي يحدث موجات عالية ترى تلك الجُزر تتموج مع الموجات صعوداً ونزولاً وبدون خطورة عليها.
المشكلة الصحية الأساسية في ذلك المجتمع هو وباء مرض البلهارزيا الذي يصيب في بعض المناطق 70% من السكان ويطول الأعمار كافة. ويعتقد الأهالي سابقاً أن من يتبول دماً قد بلغ “الرشد” ولم يدركوا بأن التبول الدموي هو بسبب إصابته بالبلهارزيا.
اتّجهنا إلى هور “الصحين” حيث شاهدنا آثار الفندق العائم في الصحين وللأسف كان أثراً بعد عين وهو بناء خشبي قائم على أعمدة مثبتة في قاع الهور. وبنيت قاعدة خشبية على الأعمدة وعليها أنشئ الفندق.
كنا نشاهد المضايف عن بعد وهي تزهو بجمالها وتاريخها الذي يمتد لما يزيد على الخمسة آلاف عام.
.
وصلنا إلى المضيف حيث كان بانتظارنا السيد جبار ابن السيد صروط الشهير في العمارة وفي جنوب العراق. كانت هناك جلسة مصالحة بين عشيرتين يقوم بها السيد جبار. والمضيف مبني من القصب بنفس طريقة البناء التي استخدمها آباؤهم السومريين.
السيد صروط بن السيد محسن:
أما عن السيد صروط فهو من سادة ميسان الأجلاء ومن أعلامها العالية والشاخصة، وأحد وجوه القوم المعروفة بين عشائر ميسان في الريف والمدينة.
وللسيد صروط مقام في مدينة المجر الكبير حيث دفن فيه يزار من أهل المنطقة وخارجها.
تصفحت في موقع كوكل GOOGLE باحثا عن تاريخ السيد صروط، فوجدت فيديو للسيد مع شخص يبدو أنه إنكليزي، يدل ملبسه على كونه سائحاً، ويتحدث العربية بطلاقة.
خبر غريب بخصوص موعد انتهاء الحرب:
كنت مدعوّاً من أصدقاء في نادي اتّحاد الصناعات العراقية في شارع أبو نؤاس في بغداد في الشهر السابع من العام 1988 وكان يجلس على المنضدة المجاورة عدد من الأشخاص بينهم من هو صديق لأحد الجالسين على طاولتنا. جاء ذلك الشخص ليجلس معنا والذي تبين أنه يعمل مذيعاً في محطة إذاعة كردية موجهة إلى إيران. بطبيعة الحال اقتصر الحديث على مجريات الحرب وإذا بالمذيع يصرح بأنَّ الحرب ستنتهي بعد أسبوعين!! قابل الجميع هذا التصريح بعدم المبالاة أو بالأحرى بالاستهزاء حيث لم يبد في الأفق أي دليل على انتهائها. ولكن واقع الحال أثبت بأنَّ الحرب توقفت بعد أسبوعين من تلك الجلسة في الثامن من الشهر الثامن. فهل كان ذلك تخميناً أم إنّه يعكس واقع أنَّ الذين بدأوا بالحرب بين البلدين الجارين قد قرروا نهايتها؟
انتهت الحرب وفاز تجار الحروب:
أعلنت القيادة العراقية في الثامن من الشهر الثامن من عام 1988 انتهاء الحرب وطلبت من الشعب الاحتفال بتلك المناسبة التي طال انتظارها والتعبير عن الفرحة بأية طريقة. خرجت الجموع إلى الشوارع يصدحون بالأغاني وهم يرقصون وعبّر البعض عن ابتهاجهم بإطلاق العيارات النارية. وهكذا طويت صفحة أخرى أليمة من التاريخ العراقي المليء بالمفاجآت الأليمة والدموية. خسر العراق وخسرت إيران من الشباب مئات الألوف ومن الاقتصاد مئات المليارات من الدولارات وربح من خطط للحرب وساهم في إدامتها وأتخمت مردودات الحرب المادية تجار الأسلحة.
حدثان يستحقان الذكر في سنوات الحرب
- معسكر تدريب الأساتذة والطلبة عام 1986
- نهاية مدينة عانه التاريخية 1986
معسكر تدريب الأساتذة والطلبة: (22/6/1986 – 22/10/1986)
في بداية الشهر السادس من عام 1986 والحرب لا زالت تدور رحاها قرر رئيس الجمهورية بأنَّ كل أساتذة وطلبة الجامعات في كل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي ممن لم يبلغوا الخامسة والأربعين من العمر يجب أن يجندوا ويدربوا في معسكرات في مختلف أنحاء العراق. ولم يستثن من الالتحاق إلا “الأعمى والميت”!!
كان معسكر تكريت هو المقر الذي خصص لكلية طبّ جامعة بغداد مع كلية طبّ الأسنان وكلية الصيدلة وكلية الهندسة وكلية القانون والعلوم السياسية وكلية التربية الرياضية. يقع المعسكر خارج المدينة وعلى بعد بضعة كيلومترات شمال المدينة على الطريق العام المتجه إلى الموصل. تم توزيعنا على عدة فصائل بتشكيلة فصيل لكل كلية وبمجموعنا سرية واحدة حسب القياسات العسكرية.
تدربنا تدريباً بدائياً يشبه أو يقل عما كنا نتدرب فيه في كلية الضباط الاحتياط عام 1967.
خيم على الجميع الإحباط حيثُ إنَّ المجتمع قد حرم من خدمات هذه المجاميع القيادية في كلّ الاختصاصات وهم يقضون وقتهم في مشروع لا يحسنون ولن يحسنوا العمل فيه وهو المشروع العسكري بهذه الطريقة من التدريب البدائي الهامشي. كنت إذا راقبتهم عند المسير “يسار يمين” تحسبهم شباباً اعتياديين يمكن أن يكونوا أميين أو أكملوا الابتدائية. وفي الحقيقة تقبع تحت “بيرياتهم” عقول وطاقات علمية هائلة. وفي عين الوقت ترى الجميع مؤمنين بحب الوطن والاستعداد للقيام بكلّ ما يجب في خدمته.
الشيء الذي خفف على الجميع هو أن المعسكر أصبح “محفلاً” للتعارف بين أساتذة الكليات المشاركة فتكونت صداقات جديدة وتوثقت علاقات أخرى وفي حالات قليلة جداً انكشفت حقيقة مرة للبعض من الموجودين. التقيت العديد من الأساتذة من الكليات الأخرى فكان منهم الدكتور سعد ناجي جواد من كلية العلوم السياسية والدكتور محمّد باقر الهاشمي من كلية الهندسة وغيرهم.
كنا نستخدم سياراتنا الشخصية بالتناوب في الذهاب إلى المعسكر حيث نركنها هناك لحين موعد الإجازة الدورية فنعود إلى بغداد محملين في الغالب بما اشتريناه للعائلة من “الأورزدي”!
“أورزدي” تكريت: أورزدي هو السوق الحكومي للتبضع وهو موجود في أغلب مدن العراق. التقينا بشخص أعرفه من السابق يعمل في أورزدي تكريت، عند ذهابنا إلى هناك لشراء بعض الحاجيات الشخصية والبيتية التي لم تكن متوفرة في بغداد. أبدى استعداده ليجلب لنا ما هو أفضل من أورزدي ناحية “العوجة” القريبة من تكريت، وهي مدينة رئيس الجمهورية وعشيرته. وكان ذلك الأورزدي يزخر بالساعات الراقية والأقلام الفاخرة والحلّي وهكذا اشترينا العديد من تلك المواد.
ألم في الصدر ودخول المستشفى: في أحد أيام التدريب شعرت بألم في صدري وأنا في فترة التدريب. قرر الطبيب العسكري الفاحص أن من المفضل عدّه ألما قلبيا المنشأ فأدخلت إلى مستشفى تكريت العسكري القريب وأجريت الفحوصات اللازمة، ولله الحمد لم يكن هناك أي اختلال في القلب ومنحت إجازة لأربعة أيام قضيتها مع الأهل في بغداد.
زملاء في المعسكر: كان بين الزملاء المقربين من كلية الطبّ اللذين أسافر معهما إلى بغداد الدكتور عادل مكية والدكتور قاسم عبد الحميد. تضم قاعات المنام كل منتسبي الكلية الواحدة مصفوفة جنب جدران القاعة. جاورني في المنام الدكتور محمود حياوي وكثيراً ما كنا نتسامر معاً قبيل النوم.
بقية الأساتذة في معسكرات جنوب العراق:
علمنا فيما بعد أننا كنا محظوظين بوجودنا في تكريت حيث أن العديد من المعسكرات في الجنوب تعرضت لظروف جوية قاسية من عواصف غبار متكررة إلى حر شديد ورطوبة لا تطاق وأصيب العديد من الأساتذة بضربة الشمس وأمراض أخرى.
الانتهاء من المعسكر:
أعلن في 22 من شهر تشرين الأول 1986 انتهاء مرحلة التدريب و”سرحونا” إلى حال سبيلنا. انتهت بنهايتها مدة أربعة أشهر تعطلت فيها الخدمات الطبّية للمجتمع وتعطلت الحياة الأكاديمية ولا سيما الدراسات العليا التي تستمر الدراسة فيها خلال الصيف. وتأثر المجتمع بحرمانه من كل ما تقدمه تلك الكفاءات التي أرسلت إلى معسكرات التدريب. لم تكن تلك الخسارة المعنوية والمادية الهائلة لتقابلها أية فائدة تذكر من الانخراط في تلك الخدمة العسكرية غير تحقيق “ما في نفس يعقوب”.
إغراق مدينة عانه (عنه) التاريخية:
تزامن وقت الانتهاء من المعسكر مع حدث تأريخي مؤلم وهو قرب الوداع الأخير لمدينة عانه لينتهي وجودها عندما تلتهمها مياه سدّ حديثة المزمع إكماله في ذلك العام أي عام 1986.
تقع مدينة عانة في محافظة الأنبار على ضفاف الفرات الأعلى القريب من سوريا. تبعد نحو 212 كيلومتراً غرب مدينة الرمادي. يرجع تاريخها إلى ما يزيد على الأربعة آلاف سنة. تعدّ من المدن العراقية القديمة التي يمتد تاريخها إلى زمن الدولة الآشورية. ويقال إنّها المحطة التي توقّف عندها الملك آشور بانيبال في العام 879 قبل الميلاد.
ومن سوء حظ هذه المدينة العريقة وقوعها في منطقة منخفضة لتصبح لقمة سائغة لمياه بحيرة سد حديثة. أجبر سكان مدينة عانه في محافظة الأنبار على مغادرة مدينتهم لينتقلوا مع كل ما يملكون تاركين بيوتهم وذكرياتهم وإرثهم التاريخي العريق ليسكنوا في الصحراء في مدينة اسمها عانه الجديدة أو “الريحانة”! وبكلّ ألم ضاع ذلك التراث الذي امتدّ إلى ألوف السنين.
قرار زيارة المدينة:
قرّرت في اليوم الأول بعد انتهاء فترة التدريب وبالرغم من التعب البدني من أيام المعسكر أن أكون شاهداً على ذلك الحدث الفريد لتلك المدينة العريقة التي لم أزرها سابقاً. وودت أن تشاركني عائلتي في توثيق تلك الذكريات وأن نسافر بصحبة صديق عزيز وعائلته وهو المهندس غسان الجبوري. توجّهنا بسيارتين عبر مدينة الرمادي ووصلنا ظهراً إلى عانه. ومدينة عانة من أقدم المدن المأهولة في العالم وتعود الى الدولة الاشورية، وهي معروفة ببساتينها وطبيعتها الجميلة، فقد شيدت بمحاذاة نهر الفرات تحدها تلال مرتفعة لتشكل شريطاً ضيقا، ولذلك تعتبر أطول قضاء في العراق.
الدخول إلى عانه:
دخلنا المدينة التي كانت خاوية من أهلها وليس فيها سوى أفراد يعدّون بعدد الأصابع. كانت بناياتها مخرّبة وأبواب وشبابيك بيوتها مخلوعة والماء بدأ يتسرب إلى بعض شوارعها.
كنت أشعر ونحن نتجوّل في رحابها بأنها مدينة حزينة تندب حظها على ما كتب عليها من فقدان لتاريخها وحاضرها ومستقبلها. ولكن السبب والمسبب لم يكن هدفه التخريب، ولكن بناء سدّ يحيي أرضا ويساهم في تعزيز الأمن المائي والغذائي للشعب، ألا وهو سد حديثة.
شاهدنا رجلا كبير طاعنا في السن يجلس وبقربه كلبه وآثار الحزن بادية عليه. سلمنا عليه ورد علينا السلام وهو يحدق صوب أشجار النخيل الباسقات حوله وهو يطلق الزفرات.
منارة عنة:
المنارة الشهيرة المثمنة الشكل يبلغ عرضها خمسة أمتار ولها 99 “درْجة” تنتهي بحجرة صغيرة في الأعلى. لها أربع فتحات محاطة بأطر مستطيلة بنيت من كِسِر الحجر والجص، ويعتقد أنها تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي. وقد نقل خبراء الآثار والمهندسون العراقيون تلك المنارة وبدقة إلى موقع مدينة عانه الجديد.
الوداع يا مدينة النواعير الفراتية:
أوجز تلك المشاعر الحزينة وعواطف أهل عانه ومحبيها في وداعها الشاعر وليد مهدي العاني بقصيدة (بكائية عروس النواعير) منها:
قف عند عانة واندّب حظ بانيها ** إذ جاءها نبأ يغزو ضواحيها
جاء النعيّ بها من قبل موتتها ** فأذهل النبأ الآتي أهاليها
عانه الجديدة:
بدأبناء مدينة عنة جديدة في العام 1984 تعويضاً لأهاليها عما سيفقدونه من مساكن ومنشآت. ولكن مهما بلغت المدينة الجديدة من جمال وتحقيق الراحة في السكن لن تعوض ما فقده السكان الذين عاشوا حياتهم في تلك “العنه” الأصيلة من الذكريات والآمال.
وهكذا أسدل الستار وإلى الأبد على تأريخ عبق امتد لألوف السنين متمثلاً بمدينة صمدت عبر الزمن ولكنها أصبحت خبراً بعد عين.