الكلية الطبية والجراحة العصبية (مستشفى الجراحات التخصصية)
تمهيد
من الأهداف التي كنت قد خططتها لنفسي المساهمة بالحياة الأكاديمية فضلا عن الحياة المهنية. عند التحاقي بمستشفى جراحة الجملة العصبية بدأت بالاتّصالات لتحويل خدماتي إلى كلية الطب. وهكذا كان فالتحقت في الشهر العاشر عام 1976 بكلية طب جامعة بغداد وتم تعييني بدرجة “مدرس” في فرع الجراحة. ولكن لعدم وجود شعبة للجراحة العصبية في مدينة الطب في بغداد ذلك الحين فقد تمّ تنسيبي إلى مستشفى جراحة الجملة العصبية على أن أقوم بالعملية التدريسية للصف الخامس في كلية الطب. أما طلبة الصف السادس فكانوا يفدون إلى المستشفى لتدريبهم سريرياً.
تاريخ انشاء مدينة الطب ومستشفى الجراحات التخصصية:
لا أتذكر التفاصيل كاملة لبداية مشروع مدينة الطب ولكن أذكر أفي الصف السادس نه كان لي الشرف أن صاحبت الأستاذ صائب شوكت رائد الجراحة في العراق وأحد مؤسسي كلّية الطب بمعية أحد أساتذتنا. كنا نسير صوب العمران لتشييد بناية مدينة الطب الذي كان قائماً على قدم وساق وكانت الأرض مليئة بالحفر والأعمدة ترتفع والمكائن بصخبها تملأ الأجواء. نظر الأستاذ صائب بقامته السامقة ورفع رأسه إلى أعلى ونظر للمجمع وكان فرحاً ومعتزاً بما حقق طموحه وآماله وهو من أسهم شخصياً بالتخطيط لذلك المشروع العظيم.
أرسل إليّ صديقي العزيز الدكتور مثنى عبد المجيد القصاب، مدير مستشفى الجراحات التخصصية سابقاً وقد تقاعد وسكن في لندن، بعض المعلومات وصورة تاريخية عن بداية التخطيط لإنشاء مدينة الطب. قال: “أعتقد أن مجلس الأعمار خطط لهذا المشروع قبل عام 1956. وعندما كنت طالباً في كلية الطب في الصف الخامس عام 1956، كان أستاذ الجراحة المرحوم الدكتور صائب شوكت يعرض علينا نحن الطلبة في محاضرته بموضوع الجراحة السريرية خرائط لهذا المجمع ويقول أولادي هذه نعملها لكم.
يلاحظ في الصورة من اليمين بناية مستشفى بغداد التعليمي والمعروفة عند الناس بمدينة الطب وهي أوّل بناية نفذت بعد تموز 1958 كمرحلة أولى، وتم تأخير العمل في البنايات الأخرى، بناية الجراحات ودار الأطباء وسكن الأطباء المقيمين. المرحلة الثانية من المشروع شملت مدرسة ودار سكن الممرضات وقسمت لأغراض التنفيذ إلى قسمين المرحلة الثانية “أ” والمرحلة الثانية “ب” التي تشمل دار التمريض الخاص وبناية قاعات المحاضرات الكبرى. يلاحظ أن بناية الجراحات في التصميم الأولي كانت من سبع طبقات فقط وفي أوائل السبعينيّات من القرن الماضي وعند بدء العمل في البناية الرئيسة الذي تأخر سنين لأسباب عديدة جداً وجد الأطباء أن الطب تطوّر والحاجة أصبحت ماسة لاختصاصات جديدة ظهرت في الطب لم تكن معروفة في الخمسينيّات. لذا طلبوا إضافة هذه الاختصاصات فغيروا في تصميم البناية لتصبح طبقاتها عشرون ولهذا الموضوع قصة سأتطرّق إليها في رسالتي لك عن تاريخ مستشفى الجراحات”.
افتتاح مستشفى الجراحات التخصصية:
تولت شركة هونداي الكورية بناء المستشفى حيث أنهت البناء في سنوات الحرب العراقية الإيرانية. وأتذكّر الافتتاح الأولي للمستشفى الذي تم في عام 1984، ثمّ أغلقت ثانية بانتظار التأثيث وتهيئة العاملين ولم يتم ذلك إلا بعد الانتهاء من الحرب وتوفر المال اللازم وكان ذلك عند منتصف عام 1989.
افتتحت مستشفى الجراحات التخصصية في أواخر شهر نيسان عام 1990. ولكنها لم تكن متكاملة وقد تسلم الإدارة كأول مدير لها الدكتور إياد البير اختصاصي الجراحة البولية، وبعده تسلم الدكتور وسيم علوان اختصاصي جراحة العظام. افتتح المستشفى رسمياً في نهاية شهر حزيران عام 1990 وكان المدير الدكتور مثنى القصاب.
شملت المستشفى التخصصات الجراحية الدقيقة ولكل اختصاص طبقة أو نصف طبقة من طبقاتها.
تم نقل الاختصاصات الجراحية من محل عملها تدريجياً من مجمع مدينة الطب إلى الطبقات المخصّصة لها في المستشفى وسميت الاختصاصات بالشُعب. شمل الانتقال كل ملاكات تلك الأقسام وعددها الجراحية والتمريضية.
بعد مدة من افتتاح المستشفى تم تغيير اسمها إلى “مستشفى الشهيد عدنان خير الله”، والذي أزيل في العام 2003 . وبعد مدة حملت اسم “مستشفى الشهيد غازي الحريري” ولا نعلم ماذا يكون اسمها في الأيام المقبلة.
لأن الشعبة بدأت من “الصفر” فلم يكن لنا أية ممرضة في بداية عمل الشعبة. اتصلت بعميدة كلية التمريض في جامعة بغداد واقترحت بأن تكون الشعبة ميدان التدريب التمريضي للكلية على أن تتكفل كلية التمريض بكامل أعمال التمريض. رحبت العمادة بالاقتراح ولكن لم يتحقق ذلك. تعاقدت وزارة الصحة مع دولة الهند لجلب عدد من الممرضات الهنديات فكان نصيب شعبتنا عدد منهن. وبالتدريج بدأت تشغل الممرضات العراقيات الموقع في قاعات العمليات والردهة بدلاً من الهنديات.
لم يكن لشعبة الجراحة العصبية عند افتتاح المستشفى أي ملاك تمريضي أو إداري. خصصت الطبقة الحادية عشرة من المستشفى للجراحة العصبية، وتضم الشعبة أسرة المرضى وقاعة للعناية المركزة بأربعة أسرة وهناك ثلاث قاعات للعمليات.
قررت وزارة التعليم العالي تسمية التدريسييْن في كلية الطب الدكتور عبد الهادي الخليلي والدكتور فاروق خيري للعمل في الشعبة كأخصائييْن. ومن ثمّ التحق من وزارة الصحة الدكتور سمير حسن عبود والدكتور طارق الزعين.
كنت رئيساً لشعبة الجراحة العصبية في كلية الطب وعين الدكتور سمير رئيساً للشعبة في المستشفى ضمن ملاك وزارة الصحة.
غادرت إلى كندا في نهاية الشهر السادس من عام 1990 بإيفاد إلى مدينة لندن أونتاريو للتدريب على جراحة الشرايين الدماغية. بعد إكمال الدورة دخل العراق إلى الكويت ليحتلها وبدأت القوات الأمريكية والدول المشاركة معها بالاستعداد لإخراج العراق من الكويت بقوة السلاح. وبسبب تأخري عن الفترة المحددة للإيفاد عدوني مستقيلاً، ولكني عدت إلى الوطن في نهاية الشهر العاشر بالرغم من إغراءات البقاء والحرب كانت على الأبواب. كانت طائرتنا آخر طائرة حطت في مطار بغداد. عدت إلى العمل في المستشفى والكلية حيث أكملت الإجراءات الرسمية اللازمة لإعادتي إلى الوظيفة رسمياً.
تفاصيل الشعبة:
حاولنا جميعاً أن نعمل بروح الفريق الواحد جراحون ومخدرون وملاك العمليات والردهة والإدارة وأن نقدم كلّ ما يمكن في ظروف الحصار لخدمة المرضى والطلبة والاختصاص.
الجراحون:
1. وزارة التعليم العالي:
الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي
الأستاذ الدكتور طارق الزعين
الأستاذ المساعد فاروق خيري
2. وزارة الصحة:
الدكتور سمير حسن عبود
الدكتور زيد سرسم
الدكتور وسام الحافظ
الدكتور علي الشالجي
الدكتور قيس شمال
الدكتور عماد صادق
المخدرون:
أطباء التخدير:
- الدكتور مازن جعفر خصباك؛ رئيس الوحدة
- 2. الدكتور لواء علي البدري
- الدكتور ذكاء عبد الحسين
- الدكتور خالد فاضل
- الدكتورة ليلى خليل
- الدكتور علي محسن
- الدكتورة ابتسام غانم
مساعدو التخدير:
- مساعد تخدير أقدم مكي مصطفى إبراهيم
- مساعد تخدير عباس رحيم
- مساعد تخدير نبيل جبار
- مساعد تخدير قيس حامد
- مساعد تخدير حسين فرحان
- مساعد تخدير سلوى فريح
- مساعد تخدير اميمه رعد
- مساعد تخدير ساره كاظم
أرسل السيد مكي مصطفى مساعد التخدير تلبية لطلبي بالتذكير بأسماء منتسبي التخدير ما يأتي:
“السلام عليكم ورحمة الله، باشرت في المستشفى 1990/4/4، افتتاح المستشفى 1990/6/6 ذكرى استشهاد وزير الدفاع عدنان خير الله. تمّ توزيع ملاك التخدير على طبقات المستشفى من مديرة قسم التخدير د. سوسن القيسي. أهم نقطة لاحظتها في العمل هي معاملة أستاذ عبد الهادي الخليلي إلى المنتسبين حيث أسلوبه وقوة شخصيته وأخلاقه الراقية جعلت جو العمليات والعمل فيها نوع من المتعة والاندفاع الذاتي، التفاني في العمل والحضور المبكر قبل الدوام بنصف ساعة. كان أستاذنا الغالي يجعل من جو العمليات الجدّي أقرب إلى المرح والنكتة الهادفة والمعلومة الطبية الجديدة، فهو يملك عنصر التشويق في العمل…”
الملاك التمريضي: من المعلوم أنَّ التمريض العصبي من أكثر الاختصاصات تعباً وجهداً على الممرضين لتعدد احتياجات المريض في هذا الاختصاص. يحتاج المريض إلى الفحص المتكرر لدرجة الوعي، بؤبؤ العين، التقليب على الجوانب، التغذية وغير ذلك. تقارن تلك المتطلبات مع تمريض طب العيون حيث لا يحتاج المريض إلى أكثر من وضع قطرات في العين وتبديل الضماد. لذا لم يكن من السهل الحصول على ممرضين في الجراحة العصبية.
تشجع الملاك التمريضي للتقديم للعمل في الشعبة وأخذوا يتنافسون في التقديم بما حصلوا عليه من تقدير واحترام ومساعدتهم مادياً خصوصا في أيام الحصار العصيبة.
- مارتا عيسى
- سلام الشويلي
- ليلى المشهداني
- داود فليح
- عبيد جبار
- مؤيد قاسم
- علي حريز
- ياسر هاشم
- صبيحة حلمي
ملاك العمليات:
- رئيسة ممرضات نجاة يرسف
- معاون طبي هشام علي
- ممرض رحيم جمعة الراشدي
- ممرضة جامعية جنان عبد الأمير
- ممرضة جامعية سعاد علي
- ممرضة لندا
- ممرضة سعاد ثاجب
حفل تكريم الممرضة نجاة يوسف:
بمبادرة مني تم إقامة حفل تكريمي لمناسبة تقاعد الممرضة نجاة يوسف رئيسة ممرضات العمليات. حضر الحفل كل منتسبي الشعبة من اختصاصيين وأطباء مقيمين والملاكات التمريضية والإدارية. ودعي للحفل مدير المستشفى وأرسل المدير العام ممثلاً عنه.
عملت السيدة نجاة كممرضة عمليات لثلاثين عاماً تقريباً في مستشفى جراحة الجملة العصبية، ثم نُقلت خدماتها بطلب مني إلى مستشفى الجراحات بعد ذلك.
تحدثت في الحفل عن تفانيها في خدمة المرضى وحسن أدائها كمساعدة للجراح وتسهيل عمله ومن ثمّ قدمت لها هدية عينية وبعدها تناول الجميع الطعام والمرطبات المقرونة بالسرور.
كان لتكريمها أهمية كبيرة لبعث روح البهجة في نفسها، وقد وددت بتكريمها أن يشعر أفراد الملاك التمريضي بأهميتهم في الفريق العلاجي الجراحي، وأن أعطي درساً للآخرين بأنَّ من يجتهد ويتفانى في عمله فسيحصل على ذات التكريم.
\
الملاكات الساندة:
الصيدلة: الصيدلانية صبا سليم
الإدارة: سكرتيرة الشعبة رغد الخالدي
التجهيز
العدد الجراحية والتمريضية:
بدأنا بمحاولة الحصول على ما تتطلبه الشعبة بالاتّصال بمديرية التجهيزات الطبية في وزارة الصحة. كنت أزور مخازنهم في منطقة الدباش في أطراف جانب الكرخ في بغداد.
صادف أن أحد موظفي المخازن الجراحية قد نكبه القدر بإصابة ولديه الصغار الاثنين تباعاً بفارق سنتين بورم في المُخيخ وقد أجريت لهما العمليات اللازمة. وهذه من الحالات النادرة حيث يصاب أخوان بنفس المرض وبنفس الموقع. بحكم تلك الصلة بين الطبيب المداوي ووالد المريضين كان الوالد تواقاً لأن يقدم ما يستطيع لخدمة مرضى الجهاز العصبي بما يتمكن من تهيئة العدد الجراحية المتواجدة في أماكن متعددة في المخازن. كنت أذهب إلى المخازن بدون تخويل رسمي وبدون قائمة أحملها بما نحتاج إليه، ولكني كنت أتمعّن في كلّ صندوق أو مجموعة من العدد العامة في رفوف مخازن العدد الجراحية وأختار ما أعتقد أنه يفيد الشعبة.
المجهر الجراحي: من أهم ما حصلت عليه هو المجهر الجراحي المتطور الذي كان مخصّصاً لشعبة أخرى ولكنه كان متروكاً في المخازن لأشهر على الرفوف. كانت استفادتنا من ذلك المجهر كبيرة جداً ولاسيما في عمليات محجر العين الدقيقة. كان لذلك المجهر منظومة تتصل بالتلفزيونات في الشعبة بحيث يمكن مشاهدة خطوات العمليات من المقيمين والأطباء. وكذلك يمكن تسجيل العملية بدرجة عالية من الوضوح باستخدام ذلك المجهر.
الملّاح الدماغي: ذهبت مع زملاء في الجراحة العصبية وطب الأعصاب في إيفاد للتدريب على التقنيات الحديثة في الجراحة العصبية وأهمها كان الملّاح الدماغي (Neuronavigation) والذي ابتكره الشاب الألماني ستيفان فالتزماير والذي أسس الشركة العالمية برين لاب (BrainLab) ومقرها الرئيسي في مدينة ميونخ الألمانيّة.
اطّلعنا على تلك التقنية وأجرينا بعض التطبيقات الأولية. والأساس في تلك التقنية هو أنْ يجرى فحص الرنين (MRI) للمريض المصاب بورم في الدماغ ثمّ يؤخذ المريض إلى قاعة العمليات ويثبت الجهازعلى رأسه.
اشترى العراق بعد مدة عدة وحدات من ذلك الجهاز وكان أحدها من نصيب مستشفى الجراحات. استعملت الجهاز في علاج اثني عشر مريضاً. أحد المرضى كانت طبيبة شابة أصيبت بورم الدماغ تحت القشرة الدماغية التي تقع فيها مركز الحركة. وبفضل الملّاح الدماغي أجريت العملية وتمت بدون أي خدش للمركز، ولو لم يستخدم الملّاح لسببت العملية شللاً في الجانب الآخر من الجسم.
تطوير الشعبة
تدريب الممرضين: أسلوب الحفاظ على المستوى الجيد في قاعة العمليات!
يجب في شعبة الجراحة العصبية على ممرضات العمليات في صالات العمليات أن يجتزن امتحاناً تحريرياً في مادة الجراحة العصبية التطبيقية. ويشمل الامتحان ورقتين، الأولى في خطوات إجراء العمليات الجراحية الأساسية، والثانية في معرفة أسماء الأدوات الجراحية المستعملة في العمليات الجراحية العصبية.
الإحصاء في الشعبة:
يقع قسم الإحصاء المركزي في المستشفى في الطبقة الأرضية وكان الوصول إليه مع انقطاع الكهرباء وتوقف المصاعد يحتاج إلى وقت ومشقة يبذلها منتسبو الشعبة لجلب ملفات المرضى. ولأهمية الإحصاء ومتابعة حالة المرضى بمراجعة ملفاتهم عند الحاجة الآنية والاطمئنان على عدم ضياعها فقد ارتأيت أن يكون خزن ملفات مرضى شعبتنا في موقع الشعبة. اتّصلت بالإدارة وحصلت على موافقة المدير على ذلك الإجراء. هيأت المكان في الطبقة الحادية عشرة وجهز بالرفوف، ونسبت موظفة خاصة لتكون المسؤولة عن الوحدة. وبهذا تمكنّا من حفظ ملفات المرضى والصور الشعاعية والحصول عليها عند الحاجة بطريقة سهلة. وحرصاً على عدم التلاعب بالمعلومات المدونة التي لها طابع رسمي أو طبي عدلي فلم يسمح لدخول الوحدة لغير المسؤولة والأطباء. وكانت شعبتنا هي الوحيدة في ذلك التنظيم بوجود وحدة الإحصاء في نفس الطبقة.
تطوير العمليات: إضافة قاعة للعمليات الطارئة، العارضة لمنضدة العمليات:
تشتمل كل طبقات المستشفى التي فيها قاعات عمليات جراحية على ثلاث قاعات فقط. ولكن لزيادة عدد المرضى الداخلين في شعبتنا ولحرصنا على عدم تأخير التداخل الجراحي لهم فقد توجهت بطلب موافقة الإدارة على فتح قاعة رابعة في الشعبة. وهذا يتطلب تجهيز متطلبات القاعة من الناحية الجراحية والتخدير والملاك. وقد لبّى المدير الطلب متفضلاً وافتتحت القاعة وخصصت إلى العمليات الطارئة وغير المعقّدة.
تدريب على الحاسبات:
كما ذكرت في فصل النشاط العلمي، مسيرتي مع الحاسبات، فقد شمل برنامج التدريب الأولي على الحاسبة الذي أقمته في مكتبة الجراحات الملاك التمريضي في الشعبة.
الاستمارات:
صممت طبلة المريض في الجراحة العصبية بحيث تشمل كل ما هو مطلوب من القصة المرضية والفحص السريري والفحوصات المختبرية وغيرها وكذلك تفاصيل العملية والعلاج. بالرغم من الحصار الجائر فقد تم طبع الاستمارات المخصّصة لكلّ حقل من حقول الطبلة. أعطي لكل استمارة رقم دال لمعرفة تلك الاستمارة والطلب لتجهيز الجديد منها عند نفادها. (تفاصيل الطبلة والاستمارات في الملحق).
برنامج عملي الأسبوعي:
تشعبت واجباتي الأسبوعية فشملت إدارة شعبة الجراحة العصبية ومركز جراحة محجر العين وما يتطلب من العلاج الجراحي في الموقعين وتدريب المقيمين وتدريس طلبة الكلية، إدارة مجلس السرطان في وزارة الصحة حيث كنت نائب الرئيس، ورئاسة لجنة المكتبة في الكلية الطبية ومسؤولية المكتبة واللجنة العلمية في المستشفى. كان جدول عملي مزدحما جداً ولكنه منظم ومنسق بين تلك الواجبات.
استحداث وحدة الفسلجة العصبية:
تأسست وحده الفسلجه العصبيه التابعه إلى شعبه الجراحه العصبيه فى عام 1990 مع افتتاح مستشفى للجراحات. تعينت فيها أربع شابات خريجات كلية العلوم (الفيزياء) وهن: شروق عبد الجليل، زينب صالح، ومنتهى جبار وبيداء. أرسلتهن الى دورات تخصصية بتخطيط الدماغ في مستشفى بغداد في مدينة الطب ومستشفى جراحة الجملة العصبية. كذلك كنت أعطيهن محاضرات حول فسلجة وتشريح الجهاز العصبي.
انطلاقاً من إيماني بأهمية العلاقة بين العلوم الطبية الأساسية والسريرية فقد شعرت بأهمية وجود وحدة للفسلجة العصبية في شعبة الجراحة العصبية. بعد الحصول على موافقة الادارة اتصلت بصديقي وزميلي في الدراسة الدكتور ضياء السنوي عضو الهيئة التدريسية في فرع الفسيولوجي في كلية الطب ليترأس تلك الوحدة.
كنت أزور مخازن وزارة الصحة لأحصل منهم على الآجهزة اللازمة والاوراق الخاصة ومستلزمات أخرى إذ لم أعتد على أسلوب كتابنا وكتابكم وإرسال موظف ليقوم بذلك.
اجتماع الشعبة:
كنت أجتمع والملاك الطبي للشعبة دورياً لمناقشة وضع الشعبة والتعرف على آرائهم والمشاكل المنظورة والحلول المقترحة. نستهل الاجتماع بكلمة من رئيس الشعبة ومن ثم يطرح أي من الحضور ما لديه من اقتراح أو ملاحظة بخصوص عمل الشعبة ومشاكلها واقتراح الحلول.
الاجتماع الترفيهي الشامل لكل المنتسبين:
كنا نعقد اجتماعات شبه دورية لكل منتسبي الشعبة مرة على مدى عدة أشهر يجتمع فيها الاختصاصيون والأطباء المقيمون والممرضون والملاك الإداري والخدمي في قاعة اجتماعات الشعبة. نناقش في الاجتماع ما يدور في الشعبة وما يقترحه أي من المنتسبين وكذلك سماع الشكاوى والاقتراحات وتتخلل ذلك النكات وا”لقفشات”. بعد الاجتماع تقدم للجميع وجبة شهية من الكباب وغيره مع المرطبات. ويحقق هذا التجمع علاقات حميمة بين المنتسبين مما يعزز الرغبة في العمل وتقديم الخدمة الأفضل للمرضى.
المحاضرات والتدريب:
تدريب ملاك العمليات التمريضي
للحفاظ على المستوى الجيد للأداء كان على ممرضات صالات العمليات في شعبة الجراحة العصبية اجتياز امتحان تحريري في مادة الجراحة العصبية التطبيقية. يشمل الامتحان ورقتين، الأولى في خطوات إجراء العمليات الجراحية الأساسية، والثانية في معرفة أسماء الأدوات الجراحية المستعملة في العمليات الجراحية العصبية.
التدريب السريري:
يتطلب تدريب طلبة كليات الطب تدريباً سريرياً عملياً في كلّ الفروع ومن ضمنها الجراحة العصبية. كنت في السبعينيّات والثمانينيّات أدرب الطلبة في مستشفى جراحة الجملة العصبية. ولكن بعد افتتاح مستشفى الجراحات التخصصية في عام 1990 كان تدريبهم يتم في شعبة الجراحة العصبية في مستشفى الجراحات.
طرفة:
في أحد الأيام جاء الطلبة للتدريب وبعد السلام سألوني من سيأخذنا اليوم للتدريب من الأساتذة؟ أجبتهم أنتم اختاروا من تريدون الأستاذ طارق أم الأستاذ سمير أو تختاروني. واستدركت قائلاً أم تريدون الله سبحانه وتعالى فأجابوا جميعاً: بالطبع الله سبحانه. أجبتهم إذن “خلّي الله يأخذكم!” وهنا انتبهوا إلى ما ألمحت له من قصد مما ضحك له الجميع.
تدريب المقيمين:
تعمل في كلّ شعبة جراحية مستويات متفاوتة من المقيمين فهناك المقيمون الدوريون والمقيمون الأقدمون والمقيمون المنخرطون بدراسة البورد العراقي في الاختصاص. يُستهل تدريب المقيمين الدوريين الذين يستمرّ دوامهم في الأغلب لمدّة ثلاثة أشهر بمحاضرة ألقيها عليهم لتعريفهم بالشعبة والعمل فيها والواجبات الملقاة على عاتقهم وما نأمل أنْ يكسبون من خبرة في الاختصاص.
تدريب طلبة البورد العراقي:
يتدرب طلبة البورد العراقي في الشعبة في رعاية المرضى والمساعدة في إجراء العمليات الجراحية، وعند وصولهم إلى مراحل متقدمة يقومون بإجراء العديد من العمليات الجراحية بما تراكمت لديهم القدرة الجراحية في غضون سنين التدريب. تكون قمة تلك المسؤولية الجراحية في السنة الخامسة النهائية لبرنامج تدريب البورد العراقي.
يوم العلم:
يخصص يوم الخميس من كل أسبوع للمتابعة العلمية والمهنية ويدعى ذلك اليوم بـ: “يوم العلم.”.
يشمل النشاط عرض موضوع علمي من أحد المقيمين ومن ثم عرض بعض الحالات الجراحية للمناقشة وكذلك مناقشة المستجدات في الاختصاص.
نظام التمويل الذاتي:
قامت الدولة باستحداث نظام التمويل الذاتي في نهاية التسعينيّات. ومن مميزات هذا النظام هو أنْ تخصص أسرّة في ردهات المستشفى للمرضى الذين تستوفى منهم أجور الرقود والعمليات الجراحية والأدوية وغيرها. خصصت عدة غرف في الطبقة الحادية عشرة لأسرة التمويل الذاتي حيث تعطى الحرية للمريض في اختيار الجراح الذي يرغب في أن يعالجه.
تستوفي المستشفى كلّ العائدات من تلك الأسرة لخزينتها. يستلم الجراح أجور العملية المثبتة حسب جدول يحوي أنواع العمليات وأجورها. ومع أنَّ الأجور كانت متدنية ولكنها كانت توفر للجراحين مورداً إضافياً لا بأس به إذا ما قورن بما يحصل عليه من راتب من الدولة. كان راتب الطبيب المقيم لا يتعدى ما يقابل الثلاثة دولارات في الشهر فقس على ذلك ما يحصل عليه المضمد أو الممرضة أو عامل الخدمة.
التبرعات:
كانت التجهيزات بمختلف أنواعها محدودة جداً أثناء سنين الحصار الجائر على العراق. تشمل تلك الشحة في التجهيزات الطبية الجراحية والفندقية والمكتبية ؟. حاولت بكل ما أمكنني تقديم ما يمكن وكذلك توظيف علاقاتي مع مختلف وجوه المجتمع الرسمي وغيره أن أوفر لهم وللشعبة بعض من تلك الاحتياجات للشعبة.
الطباعة والمطابع:
لم تتوفر في تلك الأيام العصيبة أي من مواد القرطاسية مثل استمارات ملفات المرضى أو استمارات طلب الفحوصات المختبرية والأشعة وغيرها. ولكن بحكم علاقتي مع مدير مطبعة وزارة الصحة وكذلك مع مدير مطبعة وزارة التعليم العالي فقد توافرت لنا كل أنواع القرطاسية من المطبعتين وبالمجان. بلغ مجموع الاستمارات ما يزيد على العشرين استمارة وكان ملف المريض الرئيسي قد طبع على ورق كارتون خفيف للحفاظ على كل الاستمارات في داخله.
مكيفات الهواء:
بسبب عطل التبريد المركزي في المستشفى ولعدم وجود منافذ للقاعات من شبابيك وغيرها كانت قاعات العمليات تشبه الفرن الحار في فصل الصيف. كنا ونحن نجري العمليات التي معدل وقتها يتجاوز الثلاث ساعات في الأقل نسبح في العرق وتبتل ملابسنا به.
تحدثت مع ممثل منظمة الصحة العالمية في بغداد صديقي الدكتور الحبيب رجب وهو من تونس الخضراء، حول تلك الأزمة فتفضل بالتبرع بثلاث أجهزة تبريد من النوع المتطور والتي تدعى (Split units). فكانت قاعات عملياتنا إلى فترة طويلة القاعات الوحيدة في المستشفى التي تبرد.
ملابس العمليات:
بحكم علاقتي مع مدير معمل الألبسة الجاهزة في النجف فقد تبرعوا للشعبة بأربعين بدلة عمليات وكذلك تبرعات أخرى إلى مركز جراحة محجر العين من شراشف وأغطية المناضد وعليها شعار المركز.
الأدوية:
كان النقص في الأيام العصيبة شديداً في كلّ شيء ومن ذلك نقص الأدوية وخصوصاً المضادات الحيوية. أخبرني يوماً صديقي الدكتور عبد القادر عبد الرحمن وكيل وزارة الصناعة بأنَّ وفداً من ماليزيا أهداه مجموعة من أدوية مضادات الحيويات ؟. عرض علي الدكتور عبد القادر أن تسلم لي تلك الأدوية وأتصرف بها بما أراه. وكذلك قدم الدكتور حمودي عباس مدير معمل سامراء للأدوية مجموعة من الأدوية من انتاج المعمل. سلمت كل تلك الأدوية إلى مدير عام مدينة الطب لغرض توزيعها والاستفادة منها.
تسلمت وجبة أخرى من الأدوية المتنوعة من الدكتور عبد القادر سلمتها إلى الدكتور خالد العبيدي مدير عام المدينة واقترحت أن يوزع قسم منها بين الأساتذة والأطباء الاختصاصيين.
التبرع للملاك الطبي والصحي:
آليت على نفسي أنْ أساعد الملاك الطبي والتمريضي والإداري في الشعبة. كنت أقدم لهم نصف ما أكسبه من التمويل الذاتي في نهاية كل شهر. يشمل ذلك الأطباء المقيمين كافة ، الممرضات والممرضين، وكل العاملين في شعبة الجراحة العصبية ومركز جراحة محجر العين ومنتسبي المكتبة وبعض إداريي المستشفى. كان ما يحصل عليه العديد منهم من تلك المبالغ يزيد أحياناً على راتبهم الشهري الحكومي.
أصبت بالانزلاق الغضروفي وشلل كفّ القدم في العام 2000 مما اضطرني إلى البقاء في البيت بحدود الشهرين لم أكسب خلالهما أي مورد من التمويل الذاتي. ولرغبتي بعدم قطع مساعدتي للملاك فقد أرسلت إليهم من كيسي الخاص في نهاية الشهرين وبقدر ما كانوا يحصلون عليه في الأشهر الاعتيادية. امتد ذلك التبرع الشخصي ليشمل تغطية أجور المريض الراقد في أسرة التمويل الذاتي والذي ليس له القدرة على دفع التكاليف.
والله يشهد بأني لم أرغب أن أذكر ذلك هنا، ولكني وددت أن أثبت ذلك للتاريخ فقد كنت وكان العديد من الزملاء من يقدم كلّ ما يستطيع لخدمة ومساعدة المرضى وخصوصاً في تلك الأيام العصيبة أثناء الحصار الجائر على شعبنا.
وهنا أورد بعض ردود الفعل لدى المسؤولين حينما وصل إلى أسماعهم ذلك وما ثبت بكتب رسمية. ولقد نشرت جريدة الزمان في بغداد عام 2016 مقالاً يشار فيه إلى ذلك أيضاً ولعل الذي أدلى بالمعلومة هو محاسب مدينة الطب السيد هاني إبراهيم (أبو ماهر).
التسوق للشعبة:
كنت بين فترة وأخرى أصحب معي مسؤول العمليات المعاون الطبي هشام علي ومسؤول الطابق الممرض سلام الشويلي لشراء ما تحتاجه الشعبة من لوازم قرطاسية وفندقية وغيرها. وكانت جميع التكاليف أتحمّلها شخصياً ولم أكلف الدولة شيئاً من ذلك.
أداء الشعبة:
نظمت استمارة بعنوان “كيف كان أداؤنا؟” نقدمها للمريض أو مرافقه، بالخصوص أولئك الذين يمكن أن يتعاونوا في هذا الطلب. الهدف هو معرفة نقاط الضعف ومجالات تحسين الأداء.
.
العمليات الجراحية:
يجري الجراحون في شعبتنا أغلب أنواع العمليات التي تُجرى في غالبية المراكز المشابهة في العالم. تشمل عمليات الدماغ للبالغين والأطفال وكذلك عمليات العمود الفقري بالإضافة إلى حالات الشدة على الرأس والعمود الفقري.
الوفيات في الشعبة:
من المعروف أن تتسبب بعض العمليات الجراحية بوفاة المريض لأسباب عديدة منها حالة المريض عند وصوله إلى المستشفى، توفر متطلبات العملية الجراحية، عمر المريض، صحته العامة وعوامل أخرى.
تحملنا صعوبات جمة بسبب الحصار الجائر، وبالرغم من شحة المواد المطلوبة لإجراء العمليات لم يتوان الجراحون من إجراء كل أنواع العمليات الجراحية في الشعبة. وكانت هناك حالات متقدمة ومتفاقمة بسبب الحصار وحالات الشدة على الرأس التي نتج عنها اختلاطات بسبب صعوبة الوصول إلى المستشفى لضعف الحالة المادية لدى المريض وأهله مما يعيقهم عن مراجعة الاختصاصيين في بغداد. تداخلت عدة عوامل في التأثير على نسبة الوفيات في المستشفى منها تكرر انقطاع التيار الكهربائي في المستشفى، شحة مواد وأدوية التخدير وكذلك العطل المتكرر في عمل الجهاز المركزي لتجهيز غازات التخدير لقاعات العمليات.
أجرى الدكتور أحمد طُعمة الحائز على شهادة البورد العراقي في الجراحة العصبية ومن الأطباء المتميزين في المهنة والبحث العلمي دراسة مفصلة شملت الوفيات التي حصلت في الشعبة بين العامين 1990 – 1999. بلغ مجموع العمليات التي أجريت في الشعبة 5347 عملية ومنها ما أجريتها شخصياً 2694 (53.5%). كانت نسبة الوفيات للمرضى 5.7% وهي تشمل الذين أجريت لهم العمليات والذين لم تجر لهم العملية الجراحية. من المعلوم أن نسبة الوفيات في مراكز عالمية أخرى للجراحة العصبية (حيث تتوفر لها الظروف المثالية من توفر العدد والمواد الجراحية والتخدير) تصل إلى 3% . ولا يمكن مقارنة حالة مرضانا بغيرهم بما يعاني جلهم من ضعف الجسد وقلة المناعة بسبب سوء التغذية في ظل الحصار وأسباب أخرى عديدة مما يؤثر على تحملهم لثقل أعباء تحمل الجسم لها.
عمليات لأول مرة:
ناظور المسالك البولية في داخل الدماغ!
بسبب الحصار الذي فرض على العراق كان التواصل مع العالم الخارجي متعثراً ويمر بصعوبات كثيرة. لذا كنا نحاول تأمين وسائل علاج مرضانا في الحالات غير الاعتيادية بوسائل علاجية بديلة.
من تلك الحالات مثلاً حالة المريض المصاب بورم دماغي عميق يقع في البطين الثالث الدماغي وليس لنا أن نعلم عن طبيعة الورم إذا كان حميداً أو ورماً خبيثاً وما هي درجة خبثه. والطريقة الوحيدة هي أخذ عينة من الورم للفحص النسيجي. يستخدم الناظور الدماغي في مثل تلك الحالة ويكون إدخاله لأخذ العينة عبر ثقب صغير في الجمجمة. وهذه عملية لا تخلو من المخاطر ولكنها أقل خطورة بدرجة كبيرة من الطريقة الأخرى التي تتضمن إجراء عملية كبرى بفتح الجمجمة والتي تكون أخطارها على المريض هائلة وهي بنهاية الأمر عملية تشخيصية وليست علاجية.
ولعدم توفر الناظور في ذلك الوقت فقد فكرت أنْ نستخدم ناظور الجهاز البولي للأطفال لذلك الغرض والذي يحتوي على ثلاثة أنابيب (لأخذ عينة، والآخر لغسل المنطقة والثالث للإضاءة). اتّصلت بالصديق والزميل الأستاذ طارق الجميلي اختصاصي الجراحة البولية الذي أيد الفكرة وأبدى استعداده للمشاركة في العملية. وهكذا تمت العملية بنجاح تام بأخذ العينة المطلوبة من الورم بالدخول من خلال ثقب صغير في الجمجمة.
“….. دائرة مدينة الطب 3737 في 28/5/1995 إلى الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي/ مدير شعبة الجراحة العصبية، استنادا إلى كتاب وزارة الصحة/ دائرة الأمور الفنية؟ قسم العلاجية ذي العدد 8621 في 22/4/95..وتقديرا للجهود العلمية الرائعة التي بذلتموها في إجراء عملية تنظير البطين الدماغي مستخدمين جهاز تنظير المسالك البولية ولأول مرة في العراق متحدين بذلك الحصار العلمي المفروض عليكم وضمن الحصار الجائر الذي يعاني منه قطرنا المناضل لا يسعنا إلا أن نقدم لكم بالغ شكرنا وتقديرنا متمنين لكم دوام التقدم والمزيد من الإبداع والابتكار خدمة لعراقنا العظيم. توقيع: خالد حسن العبيدي، مدير عام دائرة مدينة الطب”
عملية لمرض مويا مويا:
يعرف مرض “مويا مويا Moya Moya” بأنه مرض نادر يصيب الجهاز العصبي عند الأطفال عادة. يسبب المرض حالات من الشلل الجزئي أو الكلي وصعوبة أو انعدام النطق وغير ذلك.
أحال لي الأستاذ الدكتور عدنان الأعرجي اختصاصي طب الأعصاب الطفلة حنان البالغة من العمر سبع سنوات. كانت حنان تشكو من شلل في الجانب الأيمن من الجسم وصعوبة في النطق منذ عام وقد تطوّر ذلك إلى شلل الجانب الآخر وكذلك صعوبة في البلع وعدم القدرة على الكلام.
تبين بالفحوصات أنّها تشكو من مرض مويا مويا الذي يحدث بسبب تشوهات في الأوعية الدموية الدماغية. ليس هناك علاج شاف للمرض ولكن هناك بعض العمليات الجراحية التي ابتكرها جراحون في اليابان (حيث يكثر المرض) وغيرها ولكنها غير مضمونة النتائج. أجرينا إحدى تلك العمليات على الطفلة حنان وذلك بتحويل مسار أحد الشرايين من مساره الخارجي في فروة الرأس لربطه بسطح السحايا الدماغية. ولله الحمد تحسنت حالتها بعد العملية بتقييم الدكتور عدنان الأعرجي حيث أخذت تتكلم قليلاً وتحسنت حالة الشلل عندها.
الآلة التي توضع على منضدة العمليات:
بسبب الحصار المفروض على العراق في التسعينيات حاول الجميع ابتكار طرق بديلة للأدوات والعدد المفقودة وعدم الإذعان للواقع الأليم من الحرمان. من ذلك ما تحقق في شعبة الجراحة العصبية في مستشفى الجراحات.
من المبادئ الجراحية الأساسية ضمان جو خال من التلوث في منطقة العملية الجراحية. يتم ذلك في مجال جراحة الدماغ بوضع عارضة عمودية تفصل بين منطقة العملية الجراحية في الرأس والرقبة ومنطقة فريق التخدير. لم تتوفر لدينا هكذا عارضة ولم يكن من السهل طلب استيرادها. ولحاجتنا الماسة لتلك العارضة ذهبت إلى شيخ الحدادين في بغداد الحاج عبد الأمير الحداد الذي أبدع في مجالات صناعية متعددة في بغداد أهمها صناعة سياج جامع الخلفاء في شارع الجمهورية المزين بالإبداع المنقطع النظير بالآيات القرآنية الكريمة وبالخط الديواني الجميل على طول السياج المطل على شارع الجمهورية في بغداد.
تتكون العارضة من قضيب معدني بشكل ثلاثة أضلاع متصلة عمودياً على بعضها تثبت نهايتاها بمنضدة العمليات وتأخذ المحور العمودي على المنضدة. يتصل بزاويتيها العلويتين “جناح” في كل منهما. يمكن أن يحرك الجناحان بمحور واسع في كل الاتجاهات لاتصالهما بذراع لولبي صغير في كلا الجانبين. وحينما تثبت العارضة بجناحيها عموديا على منضدة العمليات يطرح على هذه العارضة الأفرشة المعقمة لتحقيق العزل بين الفريق الجراحي وفريق التخدير. وقد حققت هذه العارضة المطلوب وبالمجان وبكفاءة الحاج عبد الأمير الذي صنعها من الألمنيوم وليس من الحديد وهذا ليس بالعمل السهل.
دليل شعبة الجراحة العصبية:
أصدرنا دليلاً للشعبة باللغة الإنكليزية بتسع صفحات كي يكون منهاجاً ينهجه الأطباء في أسلوب ثابت يبدأ من استقبال المريض إلى طريقة الفحص السريري والفحوصات المختبرية والشعاعية وغيرها إلى التحضير للعملية والرعاية بعد العملية لحين مغادرته المستشفى.
الجمعية العراقية للعلوم العصبية:
انفصلت مجموعة العلوم العصبية عن الجمعية الأم التي كانت تضمّ أطباء الأمراض النفسية والعلوم العصبية. كانت الهيئة الإدارية تستلم المسؤولية لمدة سنة بعد انتخاب يجرى تحت إشراف مسؤول من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
رشحت في إحدى الانتخابات وفيها سطرت أهداف الجمعية كما كنت أتمنى:
- خلق روح التعاون بين الزملاء القدامى والجدد.
- تقوية العلاقات العلمية والاجتماعية مع الجمعيات العراقية الأخرى.
- إقامة وإدامة الروابط العلمية مع الجمعيات المعنية العربية والعالمية.
- إقامة مؤتمر علمي سنوي.
- إقامة ندوات تخصصية دورية.
- تشجيع الزملاء في المراكز خارج بغداد للمشاركة الفعلية في النشاط العلمي للجمعية.
- العمل على إنشاء لجان علمية تخصصية داخل الجمعية لمواضيع علمية معينة ودراستها بصورة مستفيضة.
- تشجيع النشاط الاجتماعي للجمعية.
- القيام بمحاضرات مسائية دورية بدعم من الشركات المتخصصة.
- العمل على استضافة الجمعية العربية للعلوم العصبية لإقامة المؤتمر العربي القادم في بغداد.
لم أفز بأعلى الأصوات بسبب المناورات خلف الكواليس في عملية التصويت!
أقامت الجمعية عدة مؤتمرات علمية تخصصية ناجحة. بزغت في السنين الأخيرة بعد الاحتلال فكرة فصل الجمعية إلى جمعية الجراحين وجمعية أطباء الأعصاب وقد تحقق ذلك بعد مغادرتي الوطن.
الختام:
بعد اختطافي في العام 2004 وما مرّ علي من استهداف غادرت مرغماً الشعبة العزيزة على نفسي وكانت البيت العامر الذي بنيته بجهدي وعرق جبيني وجهد وعرق جبين زملائي الاختصاصيين ومنتسبي الشعبة الذين أدين لهم زملاءً وأطباءً مقيمين ومخدرين ومنتسبي العمليات والردهة والإدارة لما وصلت إليه شعبتنا وبما حققته من سمعة عالية داخل وخارج العراق.
أرسل إليّ أحد منتسبي الشعبة هذه الأبيات العاطفية التي تعبر عن شعور الجميع:
عاشَرنه النحِبهم أحلى الأيام
نشتاك بعطش للعاشرونه
موإحنه الكَطعنه بوصل الأحباب
الزمن هو الغِدرنه وفاركَـونه
ما غيّر طبعنه طول الفراكَـ
لا إحنه نسينه ولا نسونه
حوادث تذكر:
استشهاد السيدة سلوى البحراني:
تعرضت السيدة سلوى البحراني زوجة الأستاذ الدكتور سلمان تاج الدين وشقيقة أستاذينا الدكتور إحسان وزهير، في شهر حزيران 1980 إلى التسمم بمادة الثاليوم العالية السمية. وقد ذكر أنها دُس لها السم مع اللبن حين توقيفها ليومين في مديرية الأمن العامة.
بدأت تشكو بعد يومين من إطلاق سراحها من التقيؤ والإسهال والآلام، وتدريجياً ضعف في الأطراف وفقدان الشعر وغير ذلك من الأعراض.
أدخلت مدينة الطب وشاركت برعايتها مع الجمع الغفير من الأساتذة. ظهرت عليها علامات شلل الأطراف ثمّ فقدان الوعي وتوقف عمل الكليتين وبعد ما يقارب الثلاثة أسابيع انتقلت إلى رحمة الله.
استشهاد الأستاذ الدكتور ضياء الموسوي:
في صيف بغداد اللاهف وبعد عناء العمل في معهد الطب العدلي والتدريس في الكلية وفي جلسة استراحة يوم الأربعاء السادس من آذار عام 1985 جلس الأستاذ الدكتور ضياء الموسوي رئيس فرع علم الأمراض في الكلية الطبية، مع زملاء له كان من بينهم الدكتور جبار يلدا المنتسب للمعهد والدكتور رجاء الأعظمي في فرع التشريح في الكلية وتدريسيين آخرين. تقدّمت إحدى طالبات الكلية الطبية التي كانت متأخرة في دراستها في مادة علم الأمراض وقدمت للحضور قناني مشروب “مشن” المبرد والذي يتقبله الجميع لينتعشوا به في ذلك الجو الحار. أخذ الدكتور ضياء قنينته وأفرغها بكاملها في جوفه، وبعد لحظات أحس فجأة بحرارة شديدة في جسمه فخلع سترته وصاح: شنو (ما هذا) هذا كافور؟ أما الآخرون فلم يبدأوا بشرب قنانيهم حينما سمعوا ما قاله الدكتور ضياء ما عدا الدكتور جبار الذي شرب جرعة قليلة منه. سقط الدكتور ضياء أرضاً وبعد دقائق فقد الوعي بصورة كاملة. نقل الاثنان إلى مستشفى مدينة الطب حيث بقي الدكتور جبار يلدا تحت المراقبة وأخرج بعد 48 ساعة بحال جيدة. لكن الدكتور ضياء أدخل الطابق السادس (طب الأعصاب) فاقداً للوعي تماماً. تطور فقدان الوعي إلى فقدان القدرة على التنفس، فوضع في شعبة العناية المركزة وثبت له جهاز التنفس الصناعي. تبين بالفحوصات السريرية أنه قد تسمم بمادة السيانيد التي كانت ممزوجة بشراب المشن.
أثناء وجوده في العناية المركزة كان مدار اهتمام ورعاية كلّ الأساتذة ومنهم الأستاذ يوسف النعمان الذي حاول الحصول على مصل مضاد من خارج العراق ولكن الحالة كانت مستفحلة. بقي الدكتور ضياء على جهاز التنفس الصناعي. أجريت شخصياً له فحص “الفحص السعري Caloric Test ” وتخطيط الدماغ وكذلك التأكد من عدم قدرته على التنفس التلقائي وفحوصات سريرية أخرى. كان ذلك بالاشتراك مع أساتذة زملاء في طب الأعصاب وبحضور الأستاذ يوسف النعمان. تأكد لنا جميعاً أن ليس هناك أي رمق للحياة في الدماغ. توفي رحمه الله شهيداً لعلمه وتفانيه في خدمة المجتمع باختصاصه وخارجه. كان فقدانه خسارة كبيرة للمجتمع الطبي والعراق. وكم خسر العراق ممن ضحوا في سبيل تقدمه وتطوره.
كثرت الأقاويل حول تسميمه وكان أحد الآراء هو إنّه كان مستهدفاً في تلك العملية ليس فقط بسبب تلك الطالبة التي قدمت الشراب ولكن هناك استهداف سياسي لكونه مديراً لمعهد الطب العدلي ومطلع على أسرار كثيرة لا تود الدولة إفشاءها.
عملية الأستاذ الدكتور وصفي محمّد علي:
الأستاذ وصفي هو المؤسس الثاني لعلم الطب العدلي في العراق بعد الأستاذ الدكتور أحمد عزت القيسي. أصبح الأستاذ وصفي مديراً لمعهد الطب العدلي لسنوات طويلة.
تعرض لحادثة شدة على الرأس بسيطة ولكنها تطورت إلى أن سببت له شللاً نصفياً. حدثني عن تلك الحادثة زميلي الدكتور سمير هادي الموسوي قائلاً: “صحبت الأستاذ وصفي في نهاية العام 1987 بسيارتي متجهين لزيارة أحد منتسبي معهد الطب العدلي في أطراف بغداد. عند نزول الأستاذ من السيارة ارتطم رأسه بحافة باب السيارة. سبب ذلك ألماً وقتياً وأكملنا الزيارة ولم يشكُ الأستاذ من أي شيء بعد تلك الضربة. بمرور الأيام بدأت ساقه اليمنى بالضعف تلته الذراع اليمنى وبعد ذلك تطور ذلك إلى شلل الجانب الأيمن مصحوباً بصعوبة التعبير”.
عند مشاهدتي للأستاذ وإجراء الفحوصات اللازمة تبين أنه مصاب بنزف متراكم داخل الجمجمة سبب خثرة تتزايد تدريجياً بمرور الزمن. أجريت له العملية الجراحية لتفريغ الخثرة وغادر مستشفى الجراحات وعاد إلى كامل صحته والاستمرار في إدارة المعهد.
السيد ستيفان دي مستورا والدواء لمريضة:
جمعني في أحد أيام شهر أيلول عام 1998 لقاء في بغداد مع الدكتور الحبيب رجب ممثل منظمة الصحة العالمية والسيد ستيفان دي مستورا منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق والسيد دنيس هاليدي الذي كان يترأس برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق. تحدث في حينها السيد دنيس هاليدي وكان حديثه متركزاً حول عزمه على تقديم استقالته من المنصب احتجاجاً على ما يجري في العراق من تدمير للإنسان والحياة!!
أخبرتهم في تلك الجلسة بما يؤلمني في تلك الأيام من عدم وجود علاج لمريضة من مرضاي اسمها أسماء مصابة بالتهاب الدماغ والسحايا الفطري (جراثيم فطريات) وتكونت بسبب ذلك كتلة فطريات في دماغها وهي معرضة لاختلاطات متفاقمة في جهازها العصبي وحتى احتمال فقدان حياتها. كان ألمي كبيراً لعدم توفر العلاج الشافي في العراق بسبب الحصار. حينما أخبرتهم حول تلك المأساة وتأثير الحصار على حياة المرضى كما هو حال مريضتي خيم على الجميع السكوت، وهنا قال لي دي مستورا أرجو أن تكتب لي اسم الدواء المطلوب، وكان عقار الفلوكوزول الخاص بعلاج الفطريات. بعد ثلاثة أيام وصلتني رزمة تحوي العقار والذي حصل عليه من الكويت. كانت تلك المفاجأة فرحة لا توصف للجميع. تناولت أسماء العقار وبمرور الأيام تحسنت صحتها تدريجيا. بقيت تلك المريضة وأهلها ممتنين للسيد دي مستورا ولما بذلته في سبيلها.
أرسلت إليّ المريضة أسماء عدة رسائل شكر وقصيدة أحتفظ بها. فكم من المرضى الذين كان شفاؤهم وحياتهم يعتمدان على عقار شافٍ لم يتوفر في ذلك الحين.
سرقة السيارة من كلية الطب 1989:
احتفظت في صندوق سيارتي التويوتا (سوبر) أوراقاً وملفات بالإضافة إلى كاميرتين وملحقاتهما وحاجيات أخرى. كانت تلك الملفات والأوراق مسودات ترجمة لكتاب الموجز المصور لفحص الجهاز العصبي الذي كنت قد ترجمته في غضون فترات الهدوء عند الإيفادات إلى مستشفى العمارة في سنين الحرب العراقية الإيرانية.
كنت في العادة أركن سيارتي أثناء دوامي في كلية الطب في موقف سيارات الكلية. لم يكن يوم الرابع من حزيران عام 1989 كبقية الأيام حيث عدت بعد الدوام الرسمي إلى سيارتي فلم أجدها، علماً بأن ساحة وقوف سيارات الكلية مفتوحة ومكشوفة أمام المارين من الطلبة والموظفين، وكذلك كانت هناك غرفة مراقبة في مدخلها يحتلها موظف أمني لا يسمح بدخول من يشك بعائدتيه للكلية إلا لسبب مقبول. أثار اختفاء السيارة استغرابي الشديد وعندما سألت المسؤول في تلك الغرفة “الأمنية” وبعض من كانوا متواجدين عند الساحة لم يعلم أي منهم عمن أخذ السيارة!
ذهبت إلى مكتب مكافحة الإجرام في الأعظمية حسبما اقترحه المسؤول الأمني في الكلية وهو المكتب الأقرب للكلية لتسجيل حوادث السرقة وقدّمت إخباراً رسميا بحادث السرقة لغرض اتخاذ إجراءات التحري والبحث عن السيارة. تم الاتصال الهاتفي مع شبكة المكافحة وأنا جالس في المكتب عند الضابط المسؤول وكان أحد المتكلمين من الجانب الآخر يطلب منه الاهتمام “الشديد” بموضوع سرقة سيارتي.
أخبرني بعد يومين مكتب مكافحة الإجرام بأن السيارة قد وجدت في منطقة بوب الشام في أطراف بغداد وعلي أن أذهب مع ممثل من المكافحة لاستلامها. كانت السيارة بحال جيدة ولكن صبغت مقابض أبوابها بلون فضي قال المسؤول إن ذلك هو مادة كيميائية ترش على المقبض لأخذ طبعات أصابع السارق. المهم أن كل محتويات صندوق السيارة قد سلبت وترك الصندوق فارغا.
كان قلقي من الدافع الذي جعل السارق يستهدف سيارتي ومن ثم يتركها بعد يومين سالمة من أي خدش أو نقص، حيث لم تكن سرقة السيارات شائعة في ذلك الوقت. كان تحليلي الوحيد هو أن السرقة تمت من قبل الجهات الأمنية لشكوك تتعلق بمحتويات صندوق السيارة عندما لمح “أحدهم” ذلك عند فتحي الصندوق لأخذ أوراق منه. والشك يتعلق حسب تقديري بنشاط مضاد للدولة. ولله الحمد انتهت العملية بالخير ولكني فقدت محتويات الصندوق كافة. عند صدور كتابي الذي نوهت عنه والذي تبنته كلية الطب ومطبعة التعليم العالي ذكرت في المقدمة ما حدث من سرقة أوليات الكتاب.
رجال الأمن وصحن الساتلايت (القمر الصناعي):
تعتبر حيازة الصحن الهوائي لاستقبال القنوات التلفزيونية الخارجية ممنوعة قانوناً وتعتبر جريمة يعاقب عليها بمصادرة الصحن وأجهزته الإلكترونية للإضافة إلى غرامة تصل إلى الأربعمائة ألف دينار واحتمال السجن لمدة ستة أشهر. بالرغم من خطورة ذلك فقد نصب العديد من الزملاء الأطباء وغيرهم الصحون على سطوح المنازل بصورة تخفى على الجيران خوفاً من إفشاء “السر” إلى السلطات الأمنية. يبدو أن خبر وجود الصحن على سطح دارنا قد وصل إلى السلطات الأمنية، فداهم البيت رجال الأمن ولم أكن هناك فقاموا بما “يجب” من المصادرة والغرامة وتفضلوا علينا بالإعفاء من السجن!
بسبب استمرار الحاجة للتواصل مع العالم الخارجي لانقطاع كل وسائل التواصل جازفت بإعادة نصب الصحن في نهاية العام 2002. حاولنا هذه المرة إخفاءه بصورة محكمة. يبدو أن هناك من لاحظ وجوده وتكرم بإخبار السلطات. داهمني في عيادتي وأنا أقوم بفحص المرضى ضابط مخابرات وطلب مني مصاحبته إلى بيتي. هناك أجرى اللازم كالسابق من مصادرة العدد والغرامة وعدت إلى عيادتي ولله الحمد. ولقد تكرر ذلك مع عدد كبير من الزملاء وممن أعرفهم من غير الأطباء وقد ذهب بعضهم لقضاء أشهر في السجن!
تلفون السيناو اللاسلكي:
مع منع وجود هاتف خلوي لاسلكي في العراق، كان التواصل مع المستشفى والأهل والآخرين تقتصر على الهاتف السلكي فقط. تكرمت الدولة في العام 2002 بالسماح بنصب هاتف خلوي ولكن من نوع بدائي. يحتاج الهاتف إلى هوائي (أريل) حديدي مصنوع محلياً وبارتفاع ما يزيد على العشرين قدماً. تم نصب ذلك على سطح داري وظهر للعيان من الشارع وكأنه برج حفر بئر نفط. حصلت على جهازي هاتف من نوع “سيناو” وبمبلغ عالٍ لا أتذكر بالضبط كم كان. لم يكن بالإمكان استخدامه لأبعد من خمسة كيلومترا وكان الصوت مشوشاً ومن المؤكد كان هناك من يتنصت على كل مكالمة!
عملية الأستاذ الدكتور خالد ناجي:
أصيب الأستاذ خالد بنزف داخل الجمجمة تحت السحايا في نهاية العام 2003 مما سبب له شللاً نصفياً. أجريتُ له عملية جراحية شافاه الله بعدها. ذكرت تفاصيل حالته في فصل ما بعد العدوان.
بعض أحداث حرب الخليج 1990
بعد احتلال العراق للكويت في الثاني من آب 1990 وسيطرته على كل الأراضي الكويتية قامت الدنيا ولم تقعد. حشدت الولايات المتحدة، والعشرات من الدول بضمنها دولاً عربية متحالفة معها، الجيوش لإنهاء احتلال الكويت.
كنت مع عائلتي في زيارة إلى كندا مقرونة بإيفاد إلى جامعة وسترن أونتاريو للتدرب في جراحة الأوعية الدموية الدماغية. كانت المغريات والأسباب كثيرة للبقاء هناك وعدم العودة حيث بدأت بوادر الحرب تأخذ طابع الجد. كان تقديري وتقدير زوجتي وأولادي هو العودة إلى الوطن مهما حصل. عدنا في نهاية الشهر العاشر عام 1990 وكانت سفرة متعبة في تلك الظروف.
تم بدء الاستعدادات الكاملة للحرب والتي شُنّت في السادس عشر من كانون الثاني عام 1991 واستمرّت حتّى الثامن والعشرين من شباط 1991.
لقد أشبع المؤرخون تفاصيل تلك الحرب المدمرة وهنا سأذكر بعض ما عشته وباختصار.
بدأت الطائرات قصفها لبغداد بعد منتصف ليلة السادس عشر من كانون الثاني 1991 حيث توقفت الساعات الكهربائية في المؤسسات ومنها كلية الطب على الساعة الثانية وخمس وثلاثين دقيقة! وبقيت كذلك لحين عودة الكهرباء الوطنية بعد انتهاء الحرب.
كنا في ذلك الوقت في دارنا الواقعة في حيّ المستنصرية القريب من الباب المعظم. اجتمعنا أنا وزوجتي وأولادي الثلاثة في غرفة واحدة وكنت أبعث فيهم روح الأمل وعدم الخوف. في الصباح الباكر تركتهم في البيت متوجهاً إلى مستشفى الجراحات (الشهيد عدنان) في الباب المعظم لأرى ما تقرره إدارة المستشفى والوزارة من توجيهات. شاع الهرج والمرج في الشوارع وكذلك في المستشفى.
قررت الوزارة توزيع الجراحين التخصصيين على مستشفيات بغداد الرئيسة لخدمة المصابين هناك لصعوبة وصول المصابين إلى المستشفيات التخصصية حسب تقديرهم. تقرر التحاقي بمستشفى جراحة الجملة العصبية في بغداد. كان في ذلك الوقت الدكتور نبيل ساكا مديراً للمستشفى.
عندما عدت إلى بيتي وبعد المباحثة مع زوجتي اتفقنا على ضرورة أنْ تذهب مع الأطفال إلى بيت عمي والد زوجتي الواقع في شارع أبي نؤاس والذي يبعد بحدود المائتي متراً عن الجسر المعلق. أثناء توجهنا بالسيارة إلى منطقة الكرادة شاهدنا سرباً من الطائرات تحلق عالياً فوق رؤوسنا فأسرعت كي نصل إلى بيت العم والأطفال يشاهدوا خطر الموت فوق رؤوسهم.
الجسر المعلق: كنا نياماً في الطابق السفلي من البيت وإذا بالدنيا تهتز من فوقنا ومن حولنا بحدود الساعة الحادية عشرة مساء حيث استهدفت الطائرات القاصفة الجسر المعلق. شعرنا في وقتها بأنَّ البيت سيتهدم علينا. بحمد الله لم يتصدع البيت ولكن تهشّم زجاج جميع النوافذ. عقدنا العزم في صباح اليوم التالي أنْ نعود إلى بيتنا في حيّ المستنصرية الذي قدّرنا أنّه أكثر أماناً نسبياً، وكذلك علمنا أن بعض جيراننا قد عادوا إلى بيوتهم بعد أنْ كنا الوحيدين الذين بقينا في بداية الهجوم. أثناء مغادرتنا بيت العم ذهبنا لمشاهدة التدمير الذي حصل في الجسر المعلق فكانت الصدمة الهائلة حيث سقط جزء كبير من الجسر إلى قاع النهر مما أدمى عيوننا.
حالة تعبر عن معاناتنا ومعاناة المرضى:
عند اليوم العاشر من الهجوم الأمريكي بما يعرف بحرب الخليج أي في يوم الجمعة السادس والعشرين من كانون الثاني 1991 أذاع راديو بغداد بحدود الساعة 3:00 ظهراً بياناً صادراً عن مجلس قيادة الثورة يقضي بانسحاب القوات العراقية من الكويت إذا انسحبت إسرائيل من الضفة الغربية! ومن المؤسف أنَّ الناس في بغداد اعتقدوا أنَّ العراق قرر الانسحاب من الكويت فقاموا بإطلاق العيارات النارية بغزارة شديدة في الهواء. وكما هو معروف فإن العيارات النارية بعد إطلاقها في الهواء تهوي إلى الأرض فتسبب إصابات بالغة في أجسام من تصيبهم وخصوصاً الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشوارع. بدأت تتقاطر على المستشفى بعد ما يقارب الساعتين من حملة الإطلاق حالات إصابات الرأس والعمود الفقري، وكذلك كانت حصيلة المستشفيات الأخرى المئات من الجرحى.
استقبل مستشفى جراحة الجملة العصبية في ذلك اليوم ما يقارب 82 حالة من حالات الإصابة بطلق ناري مستقر في الدماغ أو العمود الفقري. استدعاني الدكتور نبيل مدير المستشفى بإرسال سيارة إسعاف الى بيتي حيث كنت الجراح المناوب لذلك اليوم واستدعى كذلك الدكتورة فردوس عباس طبيبة التخدير لإجراء العمليات الجراحية اللازمة. حاول مدير المستشفى جاهدا تنظيم الأمور في تلك الساعات الحرجة جداً. تولى بنفسه تسلسل إرسال الجرحى إلى صالات العمليات حسب درجة خطورة الإصابة. ولكن كان هناك صعوبة في ذلك لأن عدداً من أهل الجرحى وأكثرهم من الأطفال حملوا أطفالهم بأيديهم إلى صالة العمليات يستنجدوا لإجراء العملية لطفلهم قبل غيرهم. لم يكن في المستشفى غير مولدة كهرباء واحدة والتي وجه المدير بتشغيلها لتجهز صالة العمليات. تمكنا من إجراء اثنتي عشرة عملية جراحية حتّى الصباح وعندها حدثت المفاجأة بعطل تلك المولدة الوحيدة في المستشفى. ولا يمكن تخيل حالنا وإحباطنا وألمنا وفزع الأهل وصراخهم في تلك اللحظات، إذ لايمكن الاستمرار بإجراء العمليات بدون الكهرباء حيث أن الأجهزة المستخدمة تشتغل بالطاقة الكهربائية. كان ذلك جزء مما عاناه الشعب في تلك الأسابيع الست المريعة المدمرة.
جنود من الحرس الجمهوري:
كان هناك على سطح المستشفى جنديين من الحرس الجمهوري ومعهما مدفع رشاش محمول ضدّ الجو. كنا نخشى أنْ تستهدفهم الطائرات المعادية مما يسبب تدميراً للمستشفى وإصابات للمرضى والعاملين ولكن يبدو أنَّ الطيارين قد شخصوا أن موقع الجنود هو مستشفى ولم يحدث أي هجوم أو ربما كان السبب غير ذلك!
وزارة التخطيط: شاهدنا القصف المريع على بناية الوزارة وكانت طريقة القصف غريبة إذ كانت القنابل الموجهة من الطائرات القاصفة تتجه لكلّ طابق من طوابق البناية وليس فقط قصف للبناية ككل. تشابه تلك القنابل لدى انفجارها القنابل العنقودية التي تنفجر بطريقة تردد أفقي. وبذا دمرت الطوابق جميعها ولم يسلم أي طابق من التدمير حسب تقديرنا.
المطر الأسود: غطى سماء بغداد دخان كثيف ناتج من حرق الإطارات بهدف التشويش على الطائرات في تعيين أهدافها. كان هذا رأي خاطئ في الواقع حيثُ إنَّ طيار القاصفة لا يسترشد بالنظر بل بالتقنيات الحديثة التي لا تتأثر بالتغيرات الجوية.
زيادةً على ذلك فقد تم إحراق العديد من الآبار النفطية في الكويت وجنوب العراق وتصاعد منها الدخان الكثيف وبفعل الرياح توجهت غيوم سوداء إلى منطقة بغداد لتتحد مع دخان الإطارات فكانت سماء بغداد مغطاة بالدخان الأسود الكثيف. يبدو أنَّ الغيوم قد غطت طبقة الدخان وإذا بالمطر يهطل علينا وكان لونه أسوداً فاحماً لم يسبق أن شاهدنا مثله من قبل. صبغ المطر الأسود كلّ البنايات ومنها بيتنا الذي كان لون جدرانه الخارجية لون فاتح وإذا به اصطبغ بالخطوط السوداء. كان الشخص منا إذا نظف أنفه يخرج السائل منه مصبوغاً باللون الأسود الفاحم. وبطبيعة الحال امتلأت رئات الجميع بذلك الدخان الذي يسمم الأجسام وأضاف هذا التسمم إلى مسببات السرطان التي لوثت الهواء والماء والغذاء.
انقطاع الماء والكهرباء: استهدفت الطائرات في بداية الهجوم وغيرها محطات الكهرباء حيث انقطع الكهرباء كلياً. انقطع تجهيز الماء بسبب انقطاع الكهرباء وكان ذلك شاقاً جداً على الكبار والصغار. قبيل انقطاع الماء ملأنا حوض الاستحمام (البانيو) بالماء وكذلك كلّ ما لدينا من صحون وقدور. كان ذلك الماء مصدر الشرب والطبخ والاستحمام. المشكلة الأخرى كانت عدم توفر البنزين وكان بعض الأصدقاء يتفضل علينا بما نحتاج من ذلك ولو بكميات قليلة.
الشيء بالشيء يذكر: كنت أذكر دائماً أن بيت أحلامي الذي أتمناه يجب أنْ يحوي ثلاثة متطلبات: شجرة أتظلل بها، مكتبة أقضي وقت الفراغ فيها والثالثة هي أنْ يكون لدي بانيو (حوض الاستحمام). أما بقية مرافق البيت فالاختيار للزوجة. ولكن أصبح من الصعب جداً عليّ أن استعمل حوض الاستحمام بعد تلك الظروف التي مرت في تلك الحرب. لم أدخل بعد ذلك في حوض الاستحمام لا في بيت ولا في فندق مطلقاً متذكراً تلك الأيام العصيبة التي كانت شربة ماء نظيف حسرة على قلوب العراقيين.
الخوف من الهجوم الكيمياوي: حينما هدد رئيس الجمهورية إنّه سيضرب إسرائيل بالقنابل الكيمياوية، دب الخوف فينا جميعاً باحتمال أن ترد إسرائيل بمثل ذلك. لم تكن لنا أية معرفة بكيفية الوقاية من الهجوم الكيمياوي للحذر منه وحماية أطفالنا.
من المضحك المبكي أن وزّعت إدارة المستشفى بين المنتسبين، ولعل ذلك شمل الأطباء فقط، قناعاً واقياً من الغازات السامة المنبعثة من القنابل. لم نكن على ثقة بأن تملك تلك الأقنعة المهيبة في شكلها قدرة وقايتنا من الخطر. ثمّ ماذا نقول لعوائلنا الذين ليس لديهم تلك الأقنعة؟ هل نلبس القناع بصورة دورية وما هو حال الأطفال؟ وما هو حال مرضانا وموظفي المستشفى!!
كان علينا أن نتأكد من عدم نفاذ الهواء بما يحمله من سموم في حالة الهجوم الكيميائي إلى داخل بيوتنا. بالرغم من أن شبابيك بيتنا كانت محكمة، ولكنها لم تمنع نفاذ الهواء كلياً. دار بيننا نحن الأطباء الحديث حول وقاية بيوتنا فكان الاقتراح أنْ نعبئ في أطر الشبابيك ورقاً صحياً مليئاً بمسحوق الفحم! وهكذا عملت لكلّ شبابيك البيت وأنا أهزأ من ذلك في داخل نفسي، ولكن ليس هناك أية طريقة أخرى نقنع بها في تلك الظروف. لله الحمد لم ينفّذ التهديد بضرب إسرائيل بالقنابل الكيمياوية لذا استقرت نفوسنا بعدم الهجوم المضاد.
كليلة ودمنة: لم تكن لدي أية وسيلة أملأ بها الفراغ الذي يعيشه الأطفال طول اليوم حيث ليست هناك مدرسة ولا كهرباء ولا جيران. أما في الليل فالوحشة تملأ المحيط من حولنا والأطفال يغشاهم الخوف ولا شيء يملأ ذلك الفراغ. كنت أقرأ لهم في كل ليلة وفي ضوء الفانوس قصة من قصص كليلة ودمنة حيث فيها من المتعة والسلاسة مما يمكن أن يستوعبوها، وكذلك فهي غنية بالحكم التي كنت آمل أن تبقى عالقة في أذهانهم.
ملجأ العامرية:
قصفت في يوم الرابع عشر من شهر شباط 1991 طائرتان أمريكيتان بقنابل “ذكية” ملجأ العامرية في بغداد حيث كان يحتمي فيه المئات من العوائل كباراً وأطفالاً خوفا من القصف الجوي.
أدى تفجير تلك القنابل إلى إحداث ثقب هائل في سقف الملجأ الكونكريتي المسلّح ما سبب فضلا عن تدميره حريقا هائلا داخل الملجأ. ومما زاد في حجم الكارثة عدم القدرة على فتح أبواب الملجأ التي تأثرت بالقصف مما سبب اختناقهم وإصابة العديد منهم بالقصف المباشر. ذهب ضحية القصف والحريق المئات من الرجال والنساء والأطفال.
صور الفنان المبدع الدكتور علاء بشير تلك الجريمة بإقامته عمل نحتي معبر.
وكذلك عبر الفنان المتألق نصير شمّه عن تلك الساعات بمقطوعة موسيقية أطلق عليها اسم “ملجأ العامرية” ورابطها على الانترنت: https://www.youtube.com/watch?v=3cNp9LCyjm0.
الختام: خاتمة الحرب كانت كما هو معلوم خيمة صفوان!!!
اخترت الصورة اللاحقة التي تعبّر عما يدور في عقل وقلب ذلك العسكري وهو أفضل ما يعبر عما في عقولنا وقلوبنا جميعاً.
الهجوم الجوي عام 1998:
قامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في السادس عشر وحتّى التاسع عشر من شهر كانون الأوّل 1998 بهجوم باسم “عملية ثعلب الصحراء” بقصف بغداد من الجو والصواريخ العابرة بحجة أنَّ العراق لم يطبق قرارات الأمم المتحدة ولم يذعن للجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة.
قصفت العديد من المنشآت العراقية وكان التركيز على بناية المخابرات مما سبب تهدم العديد من المنازل المجاورة وكان من بينها دار الفنانة ليلى العطار فقد هدم عليها الدار وكانت وزوجها عبد الخالق جريدان تحت الأنقاض. كان رجال الدفاع المدني يتكلمون معهما بواسطة أنبوب المياه الذي أوصلوه من تحت الأنقاض.
لم يستطع منتسبو الدفاع المدني إنقاذهم لضخامة الركام ولعدم وجود أية وسيلة تقنية متوفرة للوصول إليهما حتّى سلمت الأرواح إلى بارئها فجر ذلك اليوم الساعة السادسة. ومن تحت الأنقاض الجانبية تم إنفاذ ابنتهما من موت محقق.
التدريب في الجراحة العصبية
دورة الجراحة المجهرية زيورخ سويسرا 1975:
أقام الأستاذ محمود غازي يازاركيل دورة في الجراحة المجهرية لأوعية الدماغ في قسم جراحة الدماغ الذي يرأسه في جامعة زيورخ. كانت الدورة من أفضل ما شاهدت في الجراحة العصبية. كان الأستاذ محمود غازي يازاركيل التركي الأصل الذي يعد ملك الجراحة العصبية في أوربا رئيساً للقسم في جامعة زيورخ. كانت الدورة مكثفة وذات مستوى عال جداً.
دورة في الطب العصبي الإبصاري (العيني) لندن إنكلترا 1975:
أقامت مستشفى المركز الوطني للطب وجراحة الأعصاب في لندن دورة تخصصية في طب الأعصاب العينية. ولرغبتي الشديدة في ذلك المجال أخذت إجازة من مستشفى ليدز لأشارك في تلك الدورة العالية المستوى. استمرت الدورة لأسبوعين ولكنها مكثفة تعادل أربعة أسابيع قياساً بالدورات الاعتيادية.
التدريب في مدينة ماينز ألمانيا 1979:
بحثت في أماكن عديدة في العالم الغربي عن مركز يجمع بين الجراحة العصبية وجراحة محجر العين. وجدت الأستاذ كورت شورمان (Kurt Schurmann) في جامعة يوهان غوتنبرغ في مدينة ماينز الألمانية الغربية والأستاذ بيرجوزيه (Pertchuise مستشفى سال بترييه (Salpêtrière Hospital) ) في باريس يحققان ما كنت أطمح له. اتصلت بهما وحصلت على إجابة ودية من الأستاذ شورمان. بقيت أنتظر فرصة التقديم الى الكلية بطلب إجازة للذهاب الى ألمانيا. حصلت صدفة غريبة في شهر تموز من العام 1979 حين علمت بأن ألمانيا الغربية منحت كلية الطب عدة زمالات من مؤسسة (الداد DAAD) الألمانية. قدم على تلك الزمالة العديد من الزملاء. وتمت المقابلة مع اللجنة الخاصة ولكن لم يحصل اي منهم على تلك الزمالة لعدم حصولهم على قبول من مركز طبي الماني بعد. قدمت أوراقي والرسائل المتبادلة مع الأستاذ شورمان فوافق العميد على الطلب الذي رفعه إلى الجامعة وتمت الموافقة والإحالة إلى السفارة الألمانية والحصول على الفيزا. كانت مدة الإيفاد ثلاثة أشهر أقضيها في قسم الجراحة العصبية في الجامعة.
سافرت الى مدينة ماينز وبدأت العمل في الشهر الثامن عام 1979. مدينة ماينز تقع على ضفة نهر الراين وهي مدينة عريقة يرجع تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد حيث أنشأها الرومان. والمدينة ساهمت بقفزة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية بإبداع أحد مواطنيها وهو المبتكر العظيم يوهان غوتنبرغ مخترع الطباعة في القرن الخامس عشر.
أثار استغرابي أن الاستاذ شورمان شخصياً كان في استقبالي في المطار. أصبت في السفرة بنوبة صداع الشقيقة الشديد الذي لم يسمح لي بتقديم الشكر له حتى بعد أن أوصلني وزوجتي الى الشقة المخصصة للإقامتنا.
بالرغم من أن الزمالة كانت للتدريب على جراحة محجر العين كما سيرد لاحقاً ولكني استفدت من تلك الزمالة حيث شاركت في الحضور في كافة العمليات الجراحية العصبية والاجتماعات والنقاشات والتباحث مع الجميع بما يجري وبما هو جديد في مجال الجراحة العصبية.
بدأت الدوام في قسم الجراحة العصبية في جامعة يوهان غونتبرغ في اليوم التالي بعد وصولي. كان القسم يشغل بناية من بنايات المجمع وهي مجهزة بأحدث ما يحتاج إليه الجراح والمريض في الاختصاص. يتكون القسم من الرئيس وهو الأستاذ كورت شورمان ولديه مساعدين الدكتور فوته (Voth) والدكتور زايبرت (Sehubart) وهناك العديد من المقيمين وعلى كافة المستويات. وهناك السكرتارية المتطورة. وعندما أقارن ما كنا عليه في إنكلترا حيث كنت أعمل في جامعة ليدز أرى الفرق الشاسع بين الفخامة هنا والتواضع هناك على الأقل في الوقت الذي عشته فيه. والملّاحظة الأخرى المهمة للمقارنة بين البلدين هي الجدية الشديدة في العمل هنا حيث كان الجميع متواجدين في الساعة السابعة وخمس وأربعون دقيقة صباحا لمناقشة الحالات الجراحية في القسم وما يجب عمله ومتابعة الحالات التي أجريت لها العمليات. بينما في ليدز كنا لا نجتمع كهذا الاجتماع اليومي والدوام يبدأ عادة في الساعة التاسعة. وبالمناسبة حينما عملت في كندا عام 1990 كان الدوام يبدأ الساعة السادسة والنصف صباحاً وليس للعمل اليومي نهاية ثابتة.
كان النظام السائد في القسم نظاماً “عسكرياً” فالكلّ تحت رحمة الأستاذ من الموظفين الصغار إلى الممرضات وإلى المقيمين وحتى الاختصاصيين الكبار. فكان، مع بعض المبالغة منّي، الابيض أسودا والاسود أبيضا إذا كان ذلك ما يريده الأستاذ! تدرب الأستاذ كورت شورمان على يد الجراح الشهير فيلهلم تونس الذي كان مسؤول الجراحة العصبية في الحرب العالمية الثانية ومؤسس أول مجلة للاختصاص في العالم.
وهذا يفسر الروح “الدكتاتورية!” والالتزام بالنظام التي تطغي على المجتمع في ألمانيا حتّى المجتمعات العلمية وليس بالضرورة انها دكتاتورية تخريبية ولكنها تهدف إلى البناء الرصين. ومع هذه الدكتاتورية فقد كان الأستاذ شورمان طيب القلب عطوفاً على الجميع. هنا قدرت أهمية تقدير الاستاذ شورمان لزيارتي حينما استقبلني في المطار وهو على هذه الدرجة من المنزلة.
الجراح ماينش: تفرغ الجراح ماينش للعناية المركزة وترك صالة العمليات! ساهم في جزء من تحسين علاج حالات الإغماء بسبب الشدة على الرأس بطريقة مبتكرة وطبقت طريقته على مستوى العالم في ذلك الوقت. وكانت “إغراق” المريض بكميات كبيرة جداً من عقار مشتقات الكورتيزون.
القهوة في قاعة العمليات: دعاني الأستاذ شورمان إلى حيث يحتسي قهوته بين العمليات والتي لا يشاركه أحد من المنتسبين في تلك الصومعة. ولكن كوني “استاذا” زائرا كنت أحظى بتلك المكرمة. ولكن أكثر الأوقات يجتمع الجراحون الآخرون في غرفة الاستراحة بين العمليات وكنت أحتسي القهوة معهم. وفي يوم من الأيام قال لي أحد الاطباء المقيمين: دكتور خليلي انتهت المجاملة وعليك أن تشارك في أجور القهوة التي نشتريها وكذلك يجب عليك غسل كوب قهوتك بيدك كما نفعل نحن. أعجبني ذلك كثيراً وأكبرت روح الفريق وكذلك الصراحة وعدم المجاملة والبعد عن النفاق.
الأستاذ شورمان وعصبيته: حدثني المقيمون عن الأستاذ شورمان في أيام شبابه عندما تعين رئيساً للقسم بأنه وأثناء انغماسه بالعمليات المعقدة يتوقع من الجراحين المساعدين أن يكونوا بنفس سرعة استجابته وتفاعله مع ما يحدث من مفاجأت أثناء العملية الجراحية وهذا يصعب في الغالب. ولدكتاتوريته يطرد المساعدين إلى خارج صالة العمليات ويطلب مساعدين غيرهم ويحدث أن تطول العملية وتزداد الاختلاطات ويتأخر المساعدون عن تلبية ما يروم فيكون نصيبهم مثل أقرانهم طرداً إلى خارج الصالة وتطوع فريق ثالث للقيام بتلك المهمة وبكلّ عصبية بعد أن يماثلوا زملائهم يطردهم كما فعل سابقاً. ولا يتوفر مساعدون آخرون وهنا يصيح بأعلى صوته “عليَّ بمنضدتيMein Tisch ” فتجلب له الممرضة المسؤولة منضدة صغيرة عليها شرشف عمليات معقم لتضعها أمامه وإذا به يرفع يده إلى أعلى ويضرب بكل قوته على سطح المنضدة وحينها يهدأ فيعود الفريق الجراحي المساعد الاول للعمل معه. ربما يكون هناك بعض المبالغة ولكني أنقل ما ذكره لي المقيمون الألمان شخصياً. وهو مالم أشاهد ما يدل على ذلك ولو أن عمره الان متقدم.
سفرة إلى بخاراخ (Bacharach): تقع مدينة بخاراخ في أطراف مدينة ماينز وهي منطقة جبلية اختارها الأستاذ شورمان لتكون المكان الذي يحتفل به كافة منتسبي القسم سنوياً والذي صادف وأنا هناك.
ترى هناك الجانب الآخر للرئيس شورمان فها هو يتصرف كأبسط شخص فيهم يضحك مع الجميع يجلس معهم على الأرض ويأكل مما طبخ وشوى من لحوم متنوعة على النار. استمتع الجميع بأنواع اللعب ومنها لعبة وضع صورة لثعلب مرسومة على قطعة فلين بيضوية كبيرة وضعت على مسافة عدة أمتار ويتبارى الجميع “باصطياد” الثعلب ببندقية صيد بسيطة كانوا قد جلبوها معهم. أعطوني المجال لتجربة قدرتي على الصيد الذي ليس لدي أية خبرة فيه وللأسف لم أتمكن من اصطياد المسكين! استمرت السفرة طول النهار. عادت الحياة كما كانت في الصباح التالي وبنفس العلاقات السابقة.
استاذ الإحصاء في قاعة العمليات: لاحظت أثناء وجودي واختلاطي مع كل الملاك في قاعة العمليات لمحت شخصاً غريباً عن القسم بكامل لباس العمليات يقف خلف الجميع ويتابع مراحل العمليات بكل اهتمام. استمر بالحضور لمدة اسبوعين تقريبا. صادف أن جلسنا معا في وقت الاستراحة نحتسي القهوة. استأذنته بالسؤال عن المركز الجراحي الذي يعمل فيه ومن أية مدينة جاء منها ليزور الأستاذ شورمان؟ أجاب والابتسامة على وجهه: أنا لست طبيباً وإنما منتسب لنفس الجامعة واختصاصي هو الإحصاء الطبي. استغربت من ذلك وقلت له ولكنك كنت تتابع تفاصيل العملية تقنيا. فقال نعم وهدفي من ذلك هو أني حينما يطلب مني تحليلاً أو دراسة إحصائية في هذا المجال فلدي فكرة واضحة عن طبيعة العمل والمعاناة وأهمية تحليلي الإحصائي. بهرت من النضوج العلمي في ذلك المجتمع الذي لا يرضى إلا بالكمال والصدق والحقيقة بأفضل صورها.
دورة جراحة الأعصاب المحيطية في هانوفر 1979:
أقام الأستاذ الدكتور مجيد سامعي (Dr. Majid Samii) في مدينة هانوفر دورة في مجال الجراحة المجهرية للأعصاب المحيطية. والأستاذ مجيد سامعي هو رئيس قسم جراحة الدماغ في هانوفر ألمانيا وهو من أصول إيرانية أصبح رئيس اتّحاد جراحي الدماغ العالمي لاحقاً. تدرب الدكتور مجيد في قسم جراحة الدماغ في ماينز ألمانيا والذي كان بحقّ “المعمل” الذي أنتج قيادي جراحة الدماغ في ألمانيا وكان الرائد هو الأستاذ كورت شورمان (Kurt Schurmann). استغرقت الدورة عشرة أيام كانت من الدورات المهمة حيث كانت تجمع بين المحاضرات النظرية والتطبيق العملي المختبري على الحيوانات الصغيرة.
أقيمت الدورة في المستشفى الجامعي في هانوفر واشترك فيها العديد من جراحي الدماغ الشباب من ما يقارب العشرين دولة. كانت علاقتي بسامعي علاقة خاصة حيث كان على علم بأني قد عملت مع أستاذه الذي يكن له احتراماً كبيراً،شورمان، والذي رتب لي القبول في الدورة بعد أنْ كان باب القبول مغلقاً. التقيت بسامعي بعد عشرين عاماً في مؤتمر جراحة الدماغ في القاهرة وكان لقاء مفعماً بالمشاعر الطيبة والتقطنا صوراً تذكارية أعتز بها.
كانت الدورة ذات فائدة كبيرة وكونت لدي فكرة تشجيع أحد الجراحين الشباب في المستقبل ليتخصص في هذا الجانب الدقيق المهم من الجراحة وبدأت به بعد ذلك مع أحد الشباب الذي كنت أحيل له حالات تضرر الأعصاب المحيطية وذلك فضلا على عمله في الجراحة العصبية العامة.
زيارة مدينة تسَلَـَهْ (Celle): تلفظ محلياً بحرف التاء الذي يسبق السين. نظم الدكتور سامعي ضمن أيام الدورة التدريبية في هانوفر سفرة إلى مدينة تسلة قرب مدينة هانوفر. وهذه مدينة بنيت قبل عدة قرون وقد حافظت على طابعها القديم في بيوتها ومحالها وشوارعها المبلطة بالطابوق فأصبحت قبلة للسواح من داخل وخارج ألمانيا.
زيارات إلى مراكز جراحية شمال ألمانيا:
قمت بزيارات إلى مراكز جراحية شمال ألمانيا بعد انتهاء الدورة الجراحية في هانوفر. اتّصلت برئيسَي أقسام الجراحة العصبية في مدينتي كولون (Koln) وهامبورغ (Hamburg) المشهورتين. طلبت منهما في ذلك الحين قبول زيارتي لأقسامهم لمدّة يوم واحد لكلّ منهم. التقيت بالجراحين ودخلت صالات العمليات واطّلعت على الأقسام وكانت الزيارة مثمرة جداً بالاطّلاع على المستوى الراقي للقسمين وتكوين علاقة زمالة مع الجراحين.
زيارة جامعة كوبنهاكن الدانمارك 1979:
تّصلت وأنا في هانوفر بالأستاذ جون ريشهيذه (John Riishede) رئيس قسم الجراحة العصبية في المستشفى الجامعي في كوبنهاكن (Rigshospitalet) والذي كان قد زار بغداد في العام 1978 لإبداء الرأي في حالة جراحية لأحد المسؤولين العراقيين. دعاني جون عبر الهاتف لزيارته في كوبنهاكن فرحت بدعوته ورتب الفيزا التي حصلت عليها من القنصلية الدانماركية في هامبورغ.
عند وصولنا إلى كوبنهاكن (مع زوجتي وابنتي ذات السنتين) قادمين من هامبورغ كان مع زوجته في استقبالنا ورافقونا إلى فندق الأرميتاج وكان أفضل فندق في كوبنهاكن حيث حجز لي غرفة فيه. عند الصباح اكتشفت بأنَّ أجور الغرفة في الفندق كان مبلغاً خيالياً بالنسبة لميزانيتي. وعند مجيء الدكتور ريشهيدة ليصحبني إلى المستشفى قلت له نحن لا نريد أنْ نستنفذ ما بقي لدينا من نقود على غرفة بأربعة جدران! ورد بابتسامة ذات معنى ماذا كنت تريديني أن احجز لك غير ذلك وأنت قادم من بلد النفط؟ اتفقنا أن أنتقل في ذلك اليوم إلى شقة في أطراف كوبنهاكن. وكانت شقة واسعة فيها كلّ المتطلبات وكان أجور استئجارها لمدّة أسبوع يماثل مبلغ أجور ليلة واحدة في ذلك الفندق.
المفاجأة الأولى، السكن:
دعانا الدكتور ريشهيذه بعد أن انتقلنا الى الشقة لتناول العشاء في بيته بعد زيارة المستشفى. ذهبنا في سيارته من شقتنا إلى حيث يسكن وأنا أتخيل “القلعة” التي يسكن فيها مستذكراً القلعة الفخمة التي سكنها الأستاذ شورمان في ماينز وإذا بي أتفاجأ بأنَّ سكنه نسخة أخرى من الشقة التي استأجرها لنا. فقلت مستغرباً هل هذا سكنك؟ فرد بالإيجاب قائلاً أنا أعلم بالبذخ الذي يعيشه أمثالي في دول أخرى ولكن في الواقع نحن لا نحتاج لأكثر من ذلك حيثُ إنَّ الدولة قد وفرت لنا كلّ ما نحتاجه في الحياة من سكن وصحة وتعليم وكُلّ السفرات العلمية وغيرها. علمت أنَّ الدنيا بخير ما زال هذا الفكر والفلسفة يطبقان في بعض أرجاء المعمورة.
المفاجأة الثانية، في قاعة العمليات:
ذهبنا سوية مساءً في جولة في أروقة المستشفى ومنها قاعة العمليات وفجأة وفي لحظة وجوم وجدت أننا أصبحنا في وسط الصالة بأحذيتنا! تسمرت في مكاني وقلت له سامحني بأنّنا بأحذيتنا بالقرب من طاولة العمليات في وسط الصالة. ابتسم وقال هذا اعتيادي عندنا وتعال غدا أثناء إجراء العملية وستتعجب أكثر. وفي اليوم التالي ذهبت إلى الصالة وقيل لي يمكن أن تدخل بملابسك فاستغربت حيث لم أعهد أي شيء من هذا من قبل. فمثلاً في ماينز كان التطرف في الوقاية على أشدّ حالاته حيث يلزم أن تضع قدميك أمام جهاز بخاخ ينفث ذرات الكحول على قدميك أو جواربك إضافة لكلّ الاحتياطات المتعارف عليها. لم أقبل أن أدخل الصالة بملابسي فأعطوني بدلة عمليات ارتديتها فوق ملابسي. كان الجراح يجري عملية أم الدم الشريانية. ولم يكن هناك غطاء نايلون معقّم يغطي المكروسكوب الجراحي والذي كان الأسلوب الوحيد الذي عهدته في جميع الصالات لاستخدامه في العملية. كان الجراح يمسك بالمكروسكوب بيديه (مع القفاز الجراحي) ليركز موقعه حسبما يتطلب نظره ثمّ يغمر كفيه بمحلول اليود ثمّ المحلول الملحي ويعود للعمل. قال لي الأستاذ ريشهيذه لا تستغرب فنحن لسنا غافلين فلقد قمنا بكلّ ما يتطلب من فحوصات مختبرية على كلّ المستويات وراجعنا كلّ الحالات الجراحية وبالتعاون مع مراكز علمية دولية وثبت أن نسبة التلوث الجراحي في قسمنا لا تزيد على أية نسبة في المراكز العالمية الأخرى.
السفر إلى أآهوس (Aarhus):
دعانا الأستاذ ريشهيذة إلى سفرة لبيته الصيفي في أآهوس على الجانب الغربي من الدانمارك على البحر. كان بيتاً متواضعا بغرقتين وصالة. قضينا هناك ليلتين من أجمل الليالي واستمتعنا بجمال البحر والطبيعة.
ودعنا الأستاذ ريشهيذه وعقيلته الفاضلة وعدنا إلى بغدادنا بعد سفرة جاوزت الثلاثة أشهر قضيناها محملين بذكريات لا تنسى والحصول على خبرة في الجراحة العصبية وجراحة محجر العين أضافت لخبرتي المتواضعة الكثير.
ريشهيذة وعقيلته في بغداد:
أكتب هنا بعض الذكريات عن زيارة الأستاذ ريشهيذه وزوجته إلى العراق في العام 1978. استمتع الزوجان أثناء سفرة إلى خارج بغداد (الصويرة) حيث دعانا أخي وصديقي الدكتور موسى سالم الحسوني إلى مزارع آل الحسوني الأكارم. شاهدوا الحياة الريفية العراقية وطريقة عمل الخبز في التنور والسمك المشوي بالتنور وكانت تجربة فريدة لهما تحدث لي عنها عند زيارتي له.
طرفة في مستشفى جراحة الجملة العصبية:
زارنا الدكتور ريشهيذه إلى المستشفى برفقة صديقه سفير النرويج في العراق. استقبلهم مدير المستشفى والجراحون وجلسوا في غرفة المدير. من واجبات الضيافة تقديم الشاي للضيوف. وبما أنّهم من ذوي “العيون الزرق” فأنّهم يشربوا الشاي بالكوب وليس بالإستكان! جلبت الأكواب والقوري والحليب الضروري للشاي وهو المتعارف عليه في الغرب. ولتحسين أتيكيت التقديم للضيوف فقد استدعى المدير رئيسة الممرضات (م) كونها أكثر الممرضات “ثقافة”. ملأت الأكواب بالشاي وأضافت الحليب ثمّ وضعت في كلّ كوب ملعقتين من السكر كلّ ذلك والضيوف يتطلعون حيثُ إنَّها لم تسألهم عن تفضيلهم للحليب أو السكر. استعملت الملعقة بيدها لإذابة السكر تماماً. قدمت تلك الخلطة من الشاي والأكواب مليئة تماماً بحيث حينما وصلت لهم كانت صحون الشاي مليئة بتلك الخلطة! كان على الضيوف شربها كما هي وبدون تعليق!!
طرفة في المطار والايدز:
نقل لي الدكتور جون ريشهيذه ما حصل له ولعقيلته عند الدخول إلى العراق فقد طلب منهم المسؤول في الحدود أنْ يذهبوا إلى الفرقة الطبية لأخذ عينة من الدم للتأكد من سلامتهم من مرض الأيدز. أبلغهم رئيس الفريق بأنَّ النتيجة ستظهر بعد أسبوعين. ولقد كانت مدّة بقائهم في العراق أربعة أيام فقط. فكان جون يضحك ويطلب مني أن أرسل له النتيجة إلى الدانمارك.
دورة في جراحة شرايين الدماغ لندن، كندا 1990:
علمت لدى اطلاعي على أسماء قيادي الجراحة العصبية في العالم بأنَّ الأستاذ الدكتور جارلس دريك (Charles Drake) هو الأوّل في جراحة مرض أم الدم الشريانية الدماغية في خلف الجمجمة. وهو رئيس قسم الجراحة العصبية في جامعة غرب أونتاريو في كندا. اتّصلت به مباشرة بالمراسلة وإذا به يرحب ترحيباً حاراً بجراح يزوره من العراق. قدمت طلباً إلى العميد للموافقة على إيفادي للتدريب على يد الأستاذ الدكتور دريك.
الفيزا:
كان الحصول على الفيزا إلى كندا ليس بالسهل ولا سيما انها كانت لكلّ عائلتي التي ستصاحبني. طلبت من صديقي وزميلي الدكتور نبيل مجيد ناصر الذي كان مديراً لمستشفى ابن البيطار التي تملكها وتديرها شركة أيرلندية، وكُلّ منتسبيها من غير العراقيين. صادف وجود جراح كندي من بين الجراحين رجوت من الدكتور نبيل أن يطلب منه مساعدتي في الحصول على الفيزا وكان ذلك. ذهبنا إلى السفارة الكندية في محلة المنصور وكانت المعاملة والتسهيلات كما توقّعتها. حصلنا على الفيزا وجرت الاستعدادات للسفر.
مدينة لندن الكندية:
تقع مدينة لندن أونتاريو في منتصف المسافة بين مدينة تورنتو الكندية ومدينة ديترويت الأمريكية حيث تبعد بمائتي كيلومتر عن كلّ منهما. يبلغ تعداد سكانها بحدود المائتين والخمسين ألف نسمة. يخترقها نهر ا”لتايمز” وشوارعها تحمل نفس أسماء مدينة لندن آلام في بريطانيا.
جامعة غرب اونتاريو وجائزة نوبل:
تعد جامعة غرب اونتاريو من الجامعات المرموقة في العالم.
ومن أهم ماتعرف به الجامعة هو الدكتور السير فريدريك بانتنك (Sir Frederick Grant Banting) الذي اكتشف الانسولين وعلاقته بداء السكر وحاز بذلك على جائزة نوبل للطب عام 1923.
تمثال السير بانتينك مكتشف الانسولين والحائز على جائزة نوبل
الأستاذ الدكتور جارلس دريكCharles Drake:
ترأس الأستاذ دريك قسم الجراحة العصبية في الجامعة وقد نال شهرة عالمية في مجال جراحة شرايين الدماغ. أصبح رئيساً لكلية الأطباء والجراحين الكندية، ثمّ رئيس الجمعية الأمريكية لجراحي الدماغ، وبعدها رئيساً لكلية الجراحين الأمريكية وأخيراً رئيس الاتّحاد العالمي لجراحي الدماغ. بالرغم من تلك المواقع المهمة فقد كان بسيطاً في تعامله لطيف المعشر محبوباً من الجميع. التقيت به ثانية في العام 1993 في مؤتمر العلوم العصبية العربي في تونس وكان لقاء حميماً.
وصلت الى كندا في نهاية الشهر السادس وتوجهت الى مدينة لندن أونتاريو وكان سكني قد تم حجزه. التقيت هناك بزميل دراستي الدكتور ضياء السنوي حيث كان يدرس على الدكتوراه في تلك الجامعة وكنا نقضي وقتاً لطيفا عند سنوح الفرص. اطّلعت ضمن أيام إيفادي على آفاق جديدة في الجراحة العصبية من عمليات الأستاذ دريك التي كان السيد فيها وهي جراحة شرايين الدماغ وكذلك الجراحة العصبية العامة. وكذلك اطلعت على تفاصيل ما تحويه قاعة العمليات من العدد المستعملة وغيرها. زادتني تلك الزيارة خبرة فيما وصلت اليه جراحة الدماغ ولا سيما جراحة الأوعية الدموية الدماغية من تقدم.
مقارنة العمل في كندا مع بريطانيا وألمانيا:
كان دوامنا في مستشفى مدينة ليدز الجامعية في بريطانيا يبدأ صباحا في الساعة الثامنة والنصف ويحضر الاختصاصيون بحدود الساعة التاسعة ويبدأ العمل ويتخلله شرب القهوة. وكانت هناك جلسة استراحة في العصر تقدمّ فيها للأطباء المقيمين في غرفة استراحتهم ساندويتشات بسيطة وينتهي الدوام بحدود الساعة الخامسة ما عدا أيام العمليات التي تبدأ في الثامنة صباحاً ويمكن أن تنتهي في الساعة السادسة أو السابعة مساءً لحين إكمال العمليات لذلك اليوم.
حينما ذهبت إلى ألمانيا في دورة تدريبية عام 1979 استغربت من أن الدوام يبدأ في الساعة الثامنة إلا ربع صباحاً حيث يتواجد في قاعة اللقاء الأستاذ شورمان رئيس القسم والاختصاصيين والمقيمين ولا يسمح بالتأخير ولا دقيقة واحدة.
تفاقم استغرابي حينما كنت في كندا حيث كان الدوام يبدأ الساعة السادسة والنصف صباحاً وحينما كنت أصل الى الردهة في ذلك الوقت بالضبط أرى أن رئيس الأطباء المقيمين وكل المقيمين متواجدون وبكلّ نشاط وكذا المرضى كانوا يقضين وبكلّ انتباه. بعد أنْ نكمل الدورة الصباحية بزيارة المرضى يكون الوقت بحدود الساعة السابعة والنصف يتوجه الجميع إلى الكافتيريا لتناول الإفطار ثمّ التوجّه إلى قاعة العمليات التي ليس لانتهائها حدود حيث يمكن أنْ تستمر حتّى الساعة التاسعة مساءً أحياناً.
دورة تطورات الجراحة العصبية ميونيخ وهامبورغ أعصاب 1999:
ذهبنا إلى ألمانيا كوفد لجراحي وأطباء الأعصاب يضم الوفد معي الجراحين الدكتور علي الشالجي، الدكتور وليد وهيب الراوي والدكتور يقظان عبد الكريم وكذلك الدكتور خليل الشيخلي اختصاصي الأعصاب. للاطّلاع والتدريب على “الملاح الدماغي Neuro navigation” في مدينة ميونيخ وكذلك للاطّلاع على العدد المتطورة المستخدمة في الجراحة العصبية في شركة “زورنغ Soring”.
الملّاح الدماغي:
ابتكر الملّاح الدماغي شاب ألماني يدعى ستيفان فالتسمير حينما كان طالباً في جامعة بروكسل في بلجيكا. تعاقد وهو في الصف الأول في الجامعة مع شركة لتطبيق برنامجه بدون علم الجامعة وتم تطبيق ابتكاره وسُوِّق الابتكار تجارياً ما سبب له مشاكل قانونية مع الجامعة ما اضطره للعودة إلى ألمانيا قبل إكمال دراسته للتخلص من التبعات القانونية في أحقية الملكية الصناعية لابتكاره. أسس شركته “برين لاب Brainlab ” التي تطورت حتّى انتشرت بعد سنين في العديد من دول العالم.
اطلعنا عند زيارتنا على العديد من التطوّرات الأخرى في الجراحة العصبية وحضور عمليات والاطلاع على أدوات جراحية حديثة.
- حضور عرض خاص مع تطبيق عملي على جهاز VECTOR VISION وهو الذي يدعى “بالملاح الدماغي”
- حضور عرض لأجهزة عمليات الدماغ الوظائفية مثل مرض باركنسون
- حضور عرض لاستخدام تقنية برمجة الحاسبات على عمليات العمود الفقري
- حضور عرض استخدام جهاز الأمواج فوق الصائتة أثناء إجراء عمليات الدماغ لتصحيح الصور المثبتة قبل العملية ومزجها مع برمجيات الملاح الدماغي
- حضور عرض خاص عن جهاز نوفالس NOVALIS .
- زيارة إلى المستشفى الرئيس لوزارة الصحة في ميونيخ لمشاهدة استخدام جهاز VICTOR VISION عملياً في صالة العمليات.
- حضور عرض خاص لشركة MIDAS REX المتخصّصة بإنتاج جهاز تثقيب وفتح الجمجمة. وقد تمّ القيام بتدريب عملي على استخدام الأجهزة المعروضة.
- حضور عرض خاص لشركة LUXTEC المتخصصة في إنتاج أضوية الرأس التي يلبسها الجراح
مدينة هامبورغ:
قمنا زيارة إلى منشآت شركة SORING المتخصّصة في إنتاج أجهزة سحب الأورام الدماغية بطريقة الأمواج فوق الصائتة.
وكذلك حضور عرض خاص بخصوص تقنيات الأمواج الراديوية RADIO FREQUENCY في العمليات الجراحية الدماغية والتي استعملت كسكين جراحي وكذلك كموقف للنزف في منطقة العملية.
ورشة جراحة الجمجمة والعمود الفقري القاهرة 1999:
سنحت لي الفرصة وأنا أشارك في مؤتمر اليوبيل الذهبي للجمعية المصرية للجراحة العصبية، أن أشارك في ورشة عمل لجراحة قاعدة الجمجمة والعمود الفقري. أقامت الجمعية الورشة بالتعاون مع مؤسسات طبية أمريكية. أقيمت الورشة في مستشفى تابع للقوات المسلّحة المصرية في القاهرة.
جلب منظمو الورشة معهم من أمريكا عدداً من الجثث ألبشريةً المحنطة مع طن من الأدوات الجراحية الخاصة. كانت الجثث محنطة بطريقة لم نشهد لها مثيلاً في حياتنا الطبية حيث كان منظرها وملمسها يشبه الحالة الطبيعية لجسم الإنسان وليس كما عهدناه في جثث مختبر التشريح في كلية الطب حينما كنا طلبة بأنَّ تكون الجثث مشابهة للمومياء المصرية بمنظرها الخارجي!
قام بالتدريب فريق أمريكي يضم عدداً من الجراحين والتقنيين على الطرق الجديدة في جراحة قاعدة الجمجمة والعمود الفقري. جهزوا كلّ المشاركين بأحدث الأدوات الجراحية والمجهر الجراحي.
طرفة: لأن الدورة أقيمت في منشأة عسكرية في القاهرة كان علينا عند الدخول أنْ نسلم هويتنا الشخصية للحرس في مدخل المستشفى ونستلمها عند المغادرة. سلمت هويتي في اليوم الأوّل من الدورة وعند الخروج طالبت الحرس بهويتي شاهدت على وجههم الاستغراب من سؤالي. أعدت عليهم بأني سلمتكم هويتي عند الدخول فلم ينفع ذلك. وأخيراً كان من بينهم من عمل سابقاً في العراق تدخل وهو يقول لماذا لم تقل البطاقة “البِطاءَة”؟ وعندها علمت بما اقترفته وتعلمت الاسم الصحيح للهوية والذي استخدمته في الأيام التالية.
دورة جراحة العمود الفقري أليكانته، أسبانياAlicante 2004:
سافرت مع الزميل الدكتور ضياء سعيد اختصاصي جراحة العظام إلى مدينة أليكانته في اسبانيا للتدريب على جراحة العمود الفقري.