إصابة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ووفاته
(دراسة في مجالي الجراحة العصبية والطب العدلي)
تقديم الدكتور علاء الدين الأعرجي
هذه دراسة نادرة يقدمها شيخ الأطباء المتخصصين في جراحة الدِماغ والجملة العصبية، البروفيسور عبد الهادي الخليلي الذي تلقى علومه في أهم المعاهد العلمية، الوطنية والدولية، تضاف إليها خبرة سنوات طويلة في ممارسة جراحة الجملة العصبية.
لقد ركِبَ المؤلف مركباً صعباً فأقدم على دراسة الواقعة التاريخية المهمة التي غيرت مجرى التاريخ العربيّ الإسلاميّ، ألا وهي إصابة الإمام عليٍّ (ع) ثم وفاته، التي أقدم عليها عبد الرحمن ابن ملجم.
ومن خلال خبرته الطبية الواسعة، مضافاً إليها تبحّرُه في المصادر التاريخية الموثَّقة، والتمعُّن في أدقّ تفصيلاتِها وشوارِدها، حاول الكاتب أن يحلّلَ هذا الحدث ويفسّرَه، بل يفككه، بجدارة ودِقَّة.
ربما للمرة الأولى في تاريخ الطبِّ العدليّ في العالم العربي، استطاع هذا الطبيب الأديب الأريب أن يَعْرِفَ هو أولاً، ويُعَرِّفَ القرّاء ثانياً، كيف استُشهد الإمام، ولماذا، وماذا قال قبل وفاته.
رصد المؤلف الواقعة وما بعدها، حيث ظلّ الإمام على فراش الموت قُرابة 48 ساعة قبل أن يُسلِم الروح. وهذه الفترة كانت موضع دراسة مُعمّقة من جانبه إذْ يستنبط منها أسباب الوفاة، بنظرة العالِم الحصيف المتمكّن.
لا شكّ أن الدكتور الخليليّ قدّم أطروحة علميَّة وعمليَّة بارعة لا تتعلّق فقط بحالة المريض المقصود، بل هي درسٌ ثرٌّ في الطبِّ العدليّ.
فالمؤلف يضع أسئلة صعبة ويجيب عنها بكفاءة عالية:
أين كان موضع الإمام عند الإصابة؟ أين مكان الإصابة في الرأس؟ هل سببتْ إصابة الرأس الوفاة؟ هل تسبّب السُمّ بالوفاة؟ هل هناك احتمال آخر سبّب الوفاة؟
وهذه أسئلة عسيرة أجاب عنها الكاتب الحصيف بكفاءة عالية مستنداً إلى مراجع تاريخيةٍ عديدةٍ، بالإضافة إلى آخر ما توصلت إليه العلوم التشريحية الحديثة.
وللإجابة عن هذه الأسئلة بدقّة، قسَّم المؤلفُ الدراسة إلى ثلاثة أقسام: الأولى إصابة الرأس، الثانية السُمّ، الثالثة أسباب أخرى أدّت إلى الوفاة. وفي كل فصل من هذه الفصول يثير المؤلفُ أسئلة دقيقة، لا يطرحها إلا المتبحِّرُ في اختصاصه بالإضافة إلى اختصاصات أخرى تتعلّق بعلم التاريخ ووقائعه وطريقة نقله للواقعة.
وفي مجال إجاباته عن تلك الأسئلة يعرض مختلف الروايات ويذكر المراجع بدقّة الأكاديميّ البليغ والحريص.
والأمر المهم الآخر الجدير بالاعتبار هو وصية الإمام عليٍّ بطريقة معاملة الجاني، إذ يقول: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه، فإنْ أعشْ فأنا وليُّ دميْ؛ إمّا عفوتُ وإمّا قصّصتُ، وأن مُتُّ فأَلحقوه بي، ولا تعتدوا إنَّ الله لا يحبّ المعتدين.
والمؤلف لا يكتفي بالشرح التشريحيّ المفصّل والبارع لجميع الاحتمالات الممكنة لنتائج ضربة السيف التي شجَّتْ الجمجمةَ ووصلتْ إلى نخاع الدماغ، بل يُعزّز شرحَه برسومٍ ملوّنةٍ توضِّح الشرح وتثريه، ما يدلّ على ثِقته بما توصَّل إليه من استنتاجاتٍ ناضجة.
وقد وَضَّحَ في الخاتمة مثلاً الأسباب السريرية، المباشرة وغير المباشرة للوفاة بوجه عام.
علماً بأنّه استخدم في بحثه المتعمِّق هذا 50 مرجعاً عربياً و 23 مرجعاً إنكليزياً.
وهكذا فنحنُ نعتبرُ هذه الدراسة قِطعة فريدة جديرة بالاهتمام والتقدير، ليس فقط من جهة كوْنها تمثل جهداً علميّاً وتشريّحياً سامقاً، ولا لأنها تعتمدُ على مراجع تاريخية أصليّة موثوقة، وحسبُ، بل لأنها تتجلى وتسمو في ذات الوقت، بتحليلات الباحث واستنتاجاته البارِعة والمقنِعة.
الدكتور علاء الدين الأعرجي، باحث ومفكر عراقي نيويورك
ملخص الدراسة:
إن دراسة حياة أولئك الذين غيروا مجرى التاريخ تقتصر في الغالب على سيرتهم وما قدموه. ولكن من المفيد إتمام تاريخ سيرتهم بدراسة أيامهم الأخيرة وكيف انتقلوا إلى العالم الآخر. وفي هذا قدمت العديد من الدراسات بشأن تفاصيل وفاة أنبياء ومصلحين وسياسيين وعلماء وموسيقيين وغيرهم بتفاصيل تبين كيفية وأسباب وفاتهم. في هذه الدراسة يحاول الباحث الوصول إلى أسباب وفاة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعد أن ضربه عبد الرحمن بن ملجم بسيفه المسموم وأصاب رأسه بجرح نافذ إلى عمق الجمجمة وحتّى الدماغ. وبعد الإصابة بيومين انتقل الإمام إلى بارئه. كانت هناك عدة أسئلة: أين كان موضع الإمام عند الإصابة؟ أين مكان الإصابة في الرأس؟ هل سببت إصابة الرأس الوفاة؟ هل تسبب السم بالوفاة؟ هل هناك احتمال آخر سبّب الوفاة؟ تمت الإجابة عن هذه التساؤلات عن طريق الدراسة والتوصل إلى أن: الإمام أصيب بمواجهة وهو منتصب القامة، وكان موضع الإصابة في مقدمة الجانب الأيسر من الرأس والجرح النافذ بطول الإنجين تقريبا وبعمق بحدود الإنج. لم تكن إصابة الرأس السبب المباشر للوفاة حيث لم تظهر علامات التهاب السحايا ولا التهاب الدماغ وبقي وعي الإمام كاملا حتّى لحظة وفاته. ولم يتبين أنّ السمّ كان سببا للوفاة لعدم تطابق الحالة السريرية بعد الإصابة بما يحدث للمصاب بالسموم المعروفة. ولم تكن الأسباب الأخرى المحتملة قريبة إلى مستوى القبول النهائي كي تعد سببا للوفاة مثل التسمم الدموي الجرثومي أو خذلان جهاز الدوران الناتج عن فقدان السوائل. ومن المحتمل أنّ الوفاة حدثت بتداخل الأسباب المذكورة آنفا أو بنوع من السمّ لم تشمله الدراسة.
الكلمات المفتاحية:
علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن ملجم، الجراحة العصبية، الطب العدلي، إصابات الرأس، السموم، تاريخ المشاهير، حوادث مهمة في التاريخ.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
بدعوة كريمة من منتدى الرُواد تحدثت في قاعة القصر الأبيض ببغداد عام 1996 بحديث عنوانه: “المجتمع وجراحة الدماغ”! وتعرضت في حديثي إلى العلاقة الوثيقة بينهما. ومن الشواهد التي ذكرتها الصداع والصرع وحوادث المرور وغيرها وتأثيرها على المجتمع. والموضوع المهم الآخر الذي تطرقت إليه كان إصابات الشدة على الرأس مستذكراً عدداً من الأمثلة لرموز تاريخية من الذين توفوا بسبب إصابة في الرأس، وكان يمكن لو توفر جراح الدماغ في زمانهم أن يحقق بعلاجهم ومحاولة إنقاذهم أن يغير بفعله مجرى التاريخ! وذكرت أمثلة كان أهمها إصابة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
وعند وقوفي عند إصابة الرأس التي تعرض لها أمير المؤمنين بعد أنْ ضربه عبد الرحمن بن ملجم بالسيف المسموم وتفاصيل الأحداث بعد ذلك حتّى لحظة الوفاة (استشهاده) وجدت أن هناك ما يستحق التأمل والتحقيق في سبب الوفاة الحقيقي من ناحية جراحة الدماغ وكذلك من الناحية الطبّية العدلية، مستفيداً من تخصصي وخبرتي المتواضعة! وما يمكن أن تسري عليه الأحداث الصحية في مثل هكذا إصابة وما يؤول إليه حال المصاب! وبما أنَّ الإصابة كانت مصحوبة بالتعرض للسُمّ فقد احتمل ذلك تشابكاً وتفاقماً لتأثيرات مزدوجة على الجسم.
وفي مجال دراسة كيفية وأسباب وفاة بعض من غيروا مجرى التاريخ البشري والمشاهير نشر العديد من الباحثين دراسات طبّية تاريخية مفصلة ومن هذه البحوث ما شمل النبي موسى والنبي عيسى عليهما السلام ومصلحين مثل كونفوشيوس وبوذا وعلماء من أمثال: نيوتن وآينشتاين وسياسيين مثل لينين وكندي وموسيقيين مثل بيتهوفن وموزارت وغيرهم. (انظر قائمة المصادر الأجنبية: 1 – 10)
إن دراسة وفاة الإمام علي هذه مبنية على ما استنبطته طبياً من الأخبار التي سطرها المؤرخون نقلاً عن شهود العيان ممن كانوا مع الإمام منذ لحظة إصابته وحتّى وفاته والتي جاوزت الـ: 48 ساعة. (6، 8، 22، 27، 31، 36، 39)
وإنَّ واقع الحال يقضي بأنْ أشير إلى أنَّ هذا البحث ما هو إلا مجرد محاولة على طريق معرفة الحقيقة الطبّية لهذا الحدث الهائل، والدراسة تحتاج إلى تواصل من قبل باحثين آخرين.
ملخص تاريخ الإصابة:
في صبيحة اليوم التاسع عشر من رمضان عام 40 للهجرة المصادف للعام 661 ميلادي أصيب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بضربة نافذة على رأسه بسيف مسموم من قبل عبد الرحمن بن ملجم المرادي. وبعد يومين من الإصابة توفي الإمام (1- 50). وعند الدراسة الأولية للإصابة من الناحيتين الجراحية الدماغية والطبية العدلية تبين أن هناك ما يدعو إلى التعمق في هذين المجالين لكشف بعض التفاصيل الطبية ومحاولة معرفة سبب الوفاة المباشر.
مناقشة الحالة:
قسمتْ مناقشة الإصابة إلى ثلاثة أقسام بحيث ينصرف القسم الأوّل إلى إصابة الرأس ويتوقف القسم الثاني عند السُمّ بينما يقارب القسم الثالث الاحتمالات الأخرى.
أوّلاً: إصابة الرأس
ثانيا: السم
ثالثا: أسباب أخرى محتملة للوفاة
أوّلاً: إصابة الرأس:
إذا حاولنا الدخول في التفاصيل الطبّية العدلية وكذلك التفاصيل الجراحية الدماغية ستواجهنا عدة تساؤلات منها:
– أين كان موقع عبد الرحمن بن ملجم حين الضربة؟
– أين كان موضع الرأس عند الضربة؟
– وهل أصيب الإمام عليه السلام حينما كان ماشياً أو خلال الصلاة في السجود أم أثناء رفع الرأس من السجود، أم بعد أنْ اعتدل جالساً؟
– حالة الوعي
– أثير السكوني الطبيب
– هل اعتم الإمام بعمامة؟
– الجرح
– جهة الإصابة
– أين كان مكان الإصابة في الرأس؟
– ما هي التفاصيل الجراحية للإصابة؟
– وما هي تفاصيل حالة الجهاز العصبي بعد الإصابة؟
أين كان موقع عبد الرحمن بن ملجم حين الضربة؟
أقول اتّفق العديد من المؤرخين أن ابن ملجم وشريكه في الإصابة شبيب بن بجرة (1، 2، 3) كانا بانتظار الإمام في طريقه ليدخل إلى المسجد عند صلاة الصبح وهجماً عليه فأخطأ شبيب الإصابة بينما أصاب ابن ملجم رأس الإمام (3، 30).
وذكر مؤرخون آخرون أنَّ الإصابة حدثت حينما كان الإمام يؤدي صلاة الصبح (25، 30، 31، 32، 33).
ووثّق آخرون بأنَّ الإمام ركع وسجد سجدة واستوى قاعداً، وأراد أن يسجد الثانية حينها ضربه ابن ملجم (34) أو أنَّ الإمام كان يصلي فلما رفع رأسه من سجود الركعة الثانية هجم عليه شاهراً سيفه وضربه على رأسه. (8، 24، 30، 31، 33، 34)
أين كان موضع ابن ملجم من الإمام؟
الرواة يتفقون جميعاً بأنَّ الإصابة كانت في مقدمة الرأس. فقالوا في قرنه (القرن: الجانب الأعلى من الرأس. (1، 2، 5، 6، 7، 12، 13، 17، 21، 24، 26، 29، 30، 35، 36، 37) وقيل جاءت الضربة في جبهته (38) وجبهته إلى قرنه (18). وذكر آخرون أن ابن ملجم ضربه على صلعته (31، 39).
وأكَّد عدد من المؤرخين إنَّها كانت في موضع ضربة عمرو بن ودّ العامري في واقعة الخندق حينما حمل العامري على الإمام وضربه على رأسه (31، 33، 34) فاتّقاها بالدرقة، فقدَّها السيف ونفذ منها إلى رأسه فشجه. (8، 31، 33، 40)
حالة الوعي:
– عند الإصابة:
حينما أصيب الإمام لم يفقد الوعي حيث قال عندها: “فُزتُ وَربّ الكعبة”: (17،22،38)
– بعدها مباشرة:
ومن ثمّ قال: “لا يفوتنكم الرجل”: (2، 3، 4، 6، 27، 36). قال الإمام: عليَّ بالرجل فأُدخل عليه… (9، 13، 15، 16، 17، 20، 22، 23، 24، 31، 36، 39، 41)، أو: احبسوا الرجل (17، 19، 29)
في المنزل:
ثمّ حُمِل إلى منزله وأتاه العوّاد فحمد الله وأثنى عليه… ثمّ قال:… (16)
وبعدها وعندما جُلِب ابن ملجم إليه قال له: أيه عدو الله ما حملك على هذا؟ (17، 21) ألم أحسن إليك؟ (26، 41). قال له ويحك ما حملك على ما فعلت (17، 33) أخا مراد أبئس الأمير كنت لك؟ (34). يقول له النفس بالنفس (18، 23، 24)
ثمّ قال الإمام: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فأنْ أعشْ فأنا ولي دمي إما عفوت وأما قصصت وأن مُتْ فالحقوه بي ولا تعتدوا أنَّ الله لا يحبّ المعتدين (2، 5، 6، 27)
قال الإمام: عليَّ بالرجل فأُدخل عليه… (9، 10، 13، 15، 16، 17، 20، 22، 23، 24، 30، 31، 36، 39، 41)
خلال فترة إصابته:
دَخل عليه جُندب بن عبد الله يُسليه فقال يا أمير المؤمنين إنْ فقدناك لا فقدناك فنبايع الحسن. ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ثمّ دعا الحسن والحسين فقال لهما أوصيكما… (4، 8، 13، 14، 41). وكان يقول لمن في المنزل: أرسلتم إلى أسيركم طعاماً؟ (34). قلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني وأُغمي عليه، فبكت أم كلثوم، فلما أفاق قال: لا تؤذيني يا أم كلثوم، فإنَّكِ لو ترين ما أرى لم تبك (42).
دخل عليه الأصبغ بن نباتة فقال له أمير المؤمنين: “أما سمعت قول الحسن عن قولي؟.. وقال لي: أقعد فما أراك تسمع مني حديثاً بعد هذا… “. (50)
قبيل وفاته:
فلما حضرته الوفاة دعا عند ذلك بدواة وصحيفة وكتب وصيته (2، 10، 23، 24، 30، 43) فكانت وصيته: “بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به… ” (17، 41).
لما فرغ من وصيته قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثمّ لم يتكلم إلا بـ: “لا إله إلا الله” حتّى توفى (38)، حتّى قُبض (8). وكان آخر ما تكلّم به بعد أنْ أوصى الحسن بما أراد لا إله إلا الله يرددها حتّى قُبض (26، 43). وقد قيل أن آخر ما تكلّم به: “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (26).
خرجت أم كلثوم عند أبيها فقال لها علي: أي بنية أجيفي عليك الباب، ففعلت ذلك. قال الحسن: وكنت جالساً على باب البيت فسمعت هاتفاً أخر يقول: أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة…، قال الحسن فلم أصبر أن فتحت الباب ودخلت فإذا أبي فارق الحياة (34).
أثير السكوني الطبيب:
أجمع المؤرخون أنه جمع للإمام أطباء الكوفة، وكان فيها آنذاك ما يقرب من مائة وخمسين طبيباً (1، 44)، فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هانئ السكوني وكان متطبباً صاحب كرسي يعالج الجراحات وكان من الأربعين غلاماً الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين دعا برئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً (حسب تقدير الباحث يجب أن يكون العرق قصيبة هوائية وليس العرق الشائع لغوياً بأنّه الوعاء الدموي كالشريان أو الوريد) وأدخله في الجرح ثمّ نفخه ثمّ استخرجه وإذا عليه بياض الدماغ فقال يا أمير المؤمنين إعهد عهدك فإنَّ عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك فدعا علي عليه السلام عند ذلك بدواة وصحيفة وكتب وصيته”. (2، 10، 23، 24، 43)، وقد ذكر أحد المؤرخين أنَّ السكوني جاء لعيادة الإمام في يوم الإصابة. (10).
هل اعتم الإمام بعمامة:
في الغالب كان العرب يعتمون بعمامة لاسيماً أثناء الصلاة (25، 45، 46) وعليه يحقّ القول بأنَّ الإمام عليه السلام كان يعتم بعمامة. فهل كانت العمامة على رأسه في حينه؟ وذلك هو الأرجح فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ الضربة كانت في الموضع المكشوف من الرأس وليس فوق العمامة. حيث لم يذكر طبيب الكوفة أثير السكوني عند الفحص أن هناك أثار دخول قطع من قماش عمامته داخل الجرح وهو ما يحدث حينما يكون الجرح من خلال غطاء الرأس، العمامة مثلاً.
الجرح:
عند الإصابة نزف جرح فروة الرأس وكان الإمام ينقل رأسه من الدم (30) وسال الدم على لحيته (26) ونزف وأصفر وجهه (47،48). ومنها ما روي عن عمرو بن الحمق قال: دخلت على علي عليه السلام حين ضرب الضربة بالكوفة فقلت: ليس عليك بأس، إنّما هو خدش. قال: لعمري إنّي مفارقكم (42، 43).
جهة الإصابة:
لم يذكر أحد من المؤرخين أنَّ ابن ملجم كان أعسر، فإذا كان السيف في يمينه وهو يواجه الإمام عند الضربة! ومن حرصه على أن لا يخطئ إصابة الإمام، ومن رهبته من الإمام، وخوفه من مريديه، فإنّه يضرب حيث يمكنه إصابة رأس الإمام بأسرع ما يستطيع وليتمكن من الهرب. وبما كان أقوى مسار للسيف هو مسار اليد الطبيعي العمودي على الجسم بامتداد خطّ حركة ذراع ابن ملجم اليمنى فإنَّ الإصابة كانت على الأرجح في الجانب الأيسر من مقدمة الرأس (القرن).
مكان الإصابة:
والإصابة لم تعبر إلى يمين الجبهة وإنّما كانت على الأغلب موازية له! ولو كانت الإصابة مائلة واخترق الجرح خطّ الوسط لأحدث ذلك نزفاً داخل الجمجمة ما يسبب في البداية تلون بياض الدماغ بحمرة الدم وهذا ما لَمْ يشاهده السكوني الطبيب، وبمرور الوقت وبسبب قطع حتمي في جيب وريدي طولي كبير يسري في خطّ الوسط داخل الجمجمة من أمام الجبهة إلى مؤخرة الرأس يدعى بالجيب الوريدي السهمي العلوي وبعمق الجرح الذي وصفه أثير السكوني، يحدث نزفاً دموياً داخل الجمجمة. انظر الشكل رقم (1). وإذا حدث ذلك فإنَّ النزف الحاصل داخل الجمجمة يستمرّ ويسبب ضغطاً على الدماغ. ويعتمد مقدار النزف على حجم الجيب الوريدي في تلك المنطقة. ويؤدي ذلك إلى تدهور متسارع في الوعي وتشلّ الأطراف ويفقد الوعي تماماً وتنتهي الحالة بالوفاة.
هل جاءت الضربة في أسفل الجبهة أي فوق الحاجب مباشرة؟
فإذا كانت كذلك فإنَّ الإصابة ستصيب الجيوب الأنفية الجبهوية التي تقع عند مستوى الحاجبين في قاعدة الجمجمة. وهنا يحصل في الغالب نزف من الأنف لارتباط الجيوب الأنفية في قاعدة الجمجمة بالأنف. انظر الشكل رقم (2) وهذا ما لم يذكر في الأحداث الموصوفة، حيث إنَّ الدم كان مصدره جرح فروة الرأس ولم يذكر أبداً أن هناك نزفاً من الأنف. وكذلك فإنَّ الجرح فوق الحاجب يمكن أنْ يسبب نزفاً داخل فروة الرأس وكدمة تسبب حمرة وزرقة في الجلد عند الحاجب وحول محجر العين وهذا ما لم يذكره شهود العيان أبداً.
هل جاءت الضربة في أعلى الرأس:
إذا كان ذلك فإنَّ السيف سيصيب وبعمق نفّاذ الجرح الذي تبين من تقرير السكوني القشرة الحركية الدماغية (انظر الشكل رقم 3) المسيطرة على حركة الجانب المعاكس من الجسم مما يسبب شللاً نصفياً جزئياً أو كلياً فيه. ومن سير روايات المؤرخين نجد إنَّ ذلك لم يذكر مطلقاً ولم تتوفر أية إشارة إلى وجود ضعف في الذراعين أو الساقين حتّى لحظة وفاته.
هل نزف الدم بكثرة؟
ليس هناك ما يعطي فكرة واضحة عن شدّة النزف من الجرح عند الإصابة. ولكن من المعلوم أن فروة الرأس من أغزر مناطق الجسم للأوعية الدموية انظر الشكل رقم (4). وعليه فإنَّه يمكن القبول بفرض حالة فقدان دم كثير من الجرح.
إصابة الجمجمة:
من المؤكّد أنَّ الإصابة قد نفذت إلى داخل تجويف الجمجمة، أي أنّها وصلت إلى الدماغ وشملته! والذي يدعم ذلك أنَّ الطبيب أثير السكوني عندما أدخل عرق رئة الشاة (قصيبة هوائية) في جرح رأسه نفذ من خلاله إلى داخلها وظهر بياض الدماغ على العرق عندها قال: يا أمير المؤمنين اعهِد عهدك… إلى آخر الوصية (24).
هل كان كسر الجمجمة كبيراً؟
مما لا شكّ فيه أنَّ الإصابة سببت كسراً في الجمجمة لنفاذ الجرح إلى بياض الدماغ. ولكن الكسر لم يكن بالكبير وذلك لعدم قدرة السكوني الطبيب على وصفه واضطر لإدخال عرق الرئة داخله لاستكشافه ومشاهدة المادة الدماغية عليه عند إخراجه؟ فلو كان الجرح كبيراً لاستطاع مشاهدة داخل الدماغ مباشرة من خلال الفتحة التي أحدثها الجرح. وعليه فإنَّ كسر الجمجمة كان بعرض نصل السيف النافذ فقط.
هل تمزقت السحايا؟
بما أنَّ الإصابة قد نفذت إلى داخل المادة الدماغية فيستدلّ أنَّ الإصابة نفذت ومزقت السحايا وهي الأغشية التي تغلف الدماغ من كلّ جهاته. انظر الشكل رقم (5). ولكن تمزق السحايا هذا لم يسبب نزفاً حول السحايا مما يحدث أحياناً في هكذا إصابة. والدليل هو عدم تلوّن بياض الدماغ بحمرة الدم لسهولة سريان الدم من خارج السحايا إلى داخل الدماغ.
الجرح الدماغي:
نفذت الإصابة إلى الدماغ ولكنها لم تنفذ عميقاً داخله حيث البطينات الدماغية. أنظر الشكل رقم (6). والتي عند وصول الدم النزفي إليها تحدث حالة تدهور في الوعي وصداع شديد مما لم يشر المؤرخون إلى حدوثه. وعليه فإنَّ عمق الجرح في المادة الدماغية لم يتجاوز الإنج أو أكثر بقليل.
مما يدعم أنْ يكون عمق الجرح الدماغي لا يزيد كثيراً على الإنج هو عدم حصول نزف داخل الدماغ لعدم بلوغه الأوعية الدموية الدماغية الموجودة في ذات العمق ولكن بجنب البطينات. وإذا حصل تمزق في تلك الأوعية الدماغية ينتج عنه نزف مستمر داخل الدماغ يتزايد ساعة بعد ساعة ما يؤدي إلى الشلل المتفاقم وتدهور في الوعي ثمّ فقدانه ومن ثمّ الموت.
من المهم أنْ نؤكد أنَّ الإمام علي بعد الإصابة وحتّى وفاته كان واعياً وعياً كاملاً ما عدا نوبات إغماء وقتي متكررة حيث أوصى بوصيته وتحدّث إلى أهل بيته وزائريه بلغة لا تختلف عن وصاياه وخطبه أيام كمال صحته لا في سمو الأسلوب ولا في إصابة المقصد.
الاستنتاج الأوّل:
كانت الضربة بالمواجهة، والجرح (الإصابة) عموديا موازيا لخط الوسط في الجانب الأيسر من أعلى الجبهة (القرن). وكان طول الجرح يقارب، أو يزيد على الإنجين، وبعمق يقارب، أو يزيد قليلاً على الإنج. وكان الإمام عند الضربة ماشيا منتصب القامة ولا يمكن أنْ تكون الضربة والإمام جالس أو راكع عند الصلاة. ففي هاتين الحالتين ستكون الضربة في أعلى الرأس أو في خلفه وليس في مقدمته.
الاستنتاج الثاني:
هل كانت إصابة الرأس سبباً للوفاة؟
أصيب الإمام بضربة سيف حاد نافذة إلى داخل الجمجمة مخترقة فروة الرأس والجمجمة والسحايا وبعمق إنج في داخل المادة الدماغية.
مما سبق تفاصيله فإنَّه من المستبعد جداً حصول التهاب السحايا أو التهاب الدماغ أو خراج الدماغ وذلك لعدم حصول المضاعفات المتوقعة مثل الحمى والصداع وتدهور الوعي وفقدانه قبيل الوفاة. ففي حالات التهاب السحايا أو الدماغ يفقد المصاب وعيه قبيل الوفاة أما الإمام فقد بقي واعياً إلى لحظة مفارقة روحه جسده. وكذلك من المعلوم أنَّ الوفاة بسبب الالتهاب السحائي أو الدماغي لا تحدّث إلا بعد أيام عديدة أو أسابيع اعتماداً على سُمِّية الجراثيم المسببة التي تتسرب إلى الجرح عن طريق الجلد حول الجرح الملوث الملتهب والذي لم يكن تبين أنه كان ملوثاً في حالة الإمام، فقد علق أحد عائديه قائلا ما جرحك بشيء. وكذلك لم يكن هناك تلوث الجرح ببقايا نسيجية نافذة من عمامته التي يمكن أن تسبب التهاباً “كيمياوياً” في السحايا والدماغ.
الاستنتاج النهائي:
إن سبب الوفاة المباشر لم يكن إصابة الرأس
ملحوظة:
من الجدير بالذكر هنا القول بأنَّ هناك حالة لا يمكن تفسيرها بسهولة وهي أنَّ الرجة الدماغية الآنية الناتجة عن ضربة السيف على الرأس بسرعة هائلة وبشدة بالغة ونافذة إلى داخل الجمجمة لم تسبب فقدان الوعي عند الإمام والذي يحدث عادة عند الشدة على الرأس مهما كان سببها؛ كسقوط من مرتفع أو ارتطام أو ضربة مباشرة على الرأس. فقد قال الإمام عند الضربة مباشرة: فُزتُ وَربّ الكعبة. ومن ثمّ وبكامل الوعي: لا يفوتنكم الرجل.
ثانياً: السُمّ كسبب للوفاة:
من المؤكّد أن ابن ملجم قد سمم السيف حيث قال: سممته بألف (كذا) (6 11، 30، 49)، “أن سيفي اشتريته بألف وسممته بألف…” (4، 8، 13، 15، 16، 17، 23، 24، 26). وفي الأحاديث الأخرى: احذروا السيف فإنَّه مسموم (29) وسيف مسموم، (22) وسقاه بالسُمّ (14، 19)، وفي الكعبة… فأخذوا سيوفهم فسموها (4، 8)
لم يشر المؤرخون في ذلك العهد بأية إشارة إلى أنواع السُموم المستخدمة ولا طرق استخدامها في تسميم السيوف.
أنواع السُموم التي كان من المحتمل استخدامها في ذلك الزمان كانت متعددة كما يلي:
أما طرق استخدامها فيذكر أنَّ هناك طرقاً متعددة لتسمم السيف فمنها أن يطلى السيف مباشرة بالسُمّ. أو ما يدخل في صناعة السيف حيث تحفر فيه أخاديد طولية يُطلى فيها السيف بالسُمّ ويجف وتكون كميته أكبر مما يطلى به السطح الأملس. وهناك طريقة وضع السُمّ في غمد السيف فيخرج منه السيف مبتلاً بالسُمّ عند استخدامه. وكذلك طريقة إحماء السيف وصبَّ السُمّ عليه لتتشرّب مسامه بأكثر ما يمكن من السُمّ. وليس لنا أن نعرف الطريقة التي استخدمها ابن ملجم عند تسميم السيف. وإن ما قاله فقط هو سَمَمْته بألف.
الإشارة إلى تأثره بالسُمّ:
لم تكن هناك إشارة واضحة لتأثير السُمّ على حالة الإمام الصحية بعد تعرضه للسُمّ ما عدا ما ذكر في بحار الأنوار للمجلسي: حيث قيل: كان يرفع فخذاً ويضع أخرى من شدّة الضربة وكثرة السُمّ. وكذلك في البدء والتاريخ: ولم يبلغ الضربة مبلغ القتل ولكن عمل فيه السُمّ.
أنواع السُموم وتأثيرها:
أنَّ السُموم القاتلة يمكن أن تدخل الجسم عن طريق الفم أو الشمّ أو الدم أو الجلد. وفي حالة الإمام يكون السُمّ قد دخل عن طريق الجرح الذي شرّب به ابن ملجم سيفه.
وهنا سنتطرق إلى أكثر السُموم شيوعاً في تلك العهود وبيان تأثيرها الصحي على الجسم وكيفية تسببها الوفاة.
في الغالب كانت السُموم التي يستعملها الأقدمون والتي تُطلى بها الأسلحة البيضاء والسهام على أنواع ثلاثة: نباتي وحيواني أو معدني. (انظر قائمة المصادر الأجنبية: 1 – 23)
أولاً: السُموم النباتية مثل:
- نبتة الدجتالس التي تؤثر على القلب مباشرة، وهذه تستعمل الآن لعلاج عجز القلب ولكن بمقادير ضئيلة جداً. الشكل رقم (7)
- نبتة الكراري التي تعمل على نهايات الأعصاب فتحدّث شللاً في عضلات الجسم. استخدمها الهنود الحمر لطلي السهام، وهذه أساس التخدير العمومي في عصرنا الحاضر ولكن بكميات ضئيلة جداً كذلك. الشكل رقم (8)
- نبتة الأكونايت التي تؤثر على الجهاز العصبي والقلب. الشكل رقم (9)
- نبتة الأستركنين التي تؤثر على النخاع الشوكي مباشرة. الشكل رقم (10)
ثانيا: السُموم الحيوانية:
السُموم التي تؤخذ من الحيوانات مثل الأفعى والعقرب وغيرهما
ثالثا: السُموم المعدنية:
مثل الزرنيخ والسايانايد
المناقشة:
إنَّ أعراض النوع الأوّل، أي التسمم بالدجتالس، متعددة ويهمنا منها في هذا المجال هو فقدان الوعي بسبب اضطراب شديد في نبضات القلب والوفاة الفجائية. وهذا لا ينطبق على ما حدث للإمام فوعيه موجود إلى آخر لحظة. (15)
أما أعراض تسمم الكراري فتتمثل بالشلل المتفاقم لكلّ عضلات الأطراف وعضلات الرقبة ومن ثمّ الرأس وأخيراً عضلات البلع والنطق ثمّ عضلات التنفس فالوفاة ولا يتأثر الوعي في البداية. وهذا أيضاً لا ينطبق على ما حدث للإمام فحركته دائمة وكلامه مسموع إلى اللحظة الأخيرة. (16)
أما الأكونايت فيبدأ تأثيره على اللسان حيث يثقل وربما تُشلّ حركته وتكون أطراف المصاب شاحبة اللون باردة والجلد بارد ولكن مع التعرق. وتختلج العضلات وتحدّث حالة مشابهة للصرع، وتحدّث الوفاة بتباطؤ التنفس وتوقف القلب ويسبقها حالة تدهور في الوعي وهذا ما لا ينطبق كذلك. (17)
وفي حالة التعرض لسُم الأستركنين تحدّث اختلاجات وتقلصات ظاهرة في عضلات الجسم كافة وشعور بالاختناق. ثمّ يأخذ الجسم وضع التقلص العضلي الشديد ويسحب الرأس إلى الوراء. وتتكرر هذه النوبات وبشدة حتّى تسبب الوفاة. (18)
والتسمم بسُمّ العقرب يبدأ تأثيره مصحوباً بألم شديد في موضع دخول السُمّ وارتفاع في درجة الحرارة مع ضعف في البلع وزيادة مفرطة في إفراز اللعاب وتقلصات عضلية تشابه نوبات الصرع ومن ثمّ يتوقف التنفس فالوفاة.(19)
والتسمم بسُمّ الأفعى يختلف بعض الشيء باختلاف نوع الأفعى ولكن في جلّ الحالات يشعر المصاب بالضعف الشديد المتزايد، والنعاس وبعده ضعف الأطراف ثمّ شللها. ويشاهد وجود النزف تحت الجلد أو من اللثة والأنف والإدرار والخروج. ويصعب عليه الكلام ولا يتمكن من البلع ويصعب التنفس ثمّ يتوقف. وهذه كلها يسبقها فقدان في الوعي. (20)
التسمم بالسايانايد يسبب صعوبة في التنفس مع نوبات تشبه الصرع وتشوش في حالة الوعي وبعده فقدان الوعي ثمّ الوفاة. (21)
أما التسمم بالزرنيخ فيسبب الصداع واضطراب في درجة الوعي مع التقيؤ والإسهال الدموي ويكون نَفَس المصاب ذا رائحة غريبة تشبه رائحة الثوم مصحوباً بألم شديد في المعدة وتقلص مؤلم في العضلات ونوبات صرعية وفقدان الوعي التام تتبعه الوفاة. (22)
وفي بعض حالات التسمم يمكن أن يكون سبب الوفاة مصحوباً بتلف وعجز في الكبد وتكون من علاماته الصفرة الشديدة أي اليرقان ولكن اصفرار وجه الإمام قد ذكر مباشرة بعد الإصابة حينما كان رأس الإمام في حجر ابنه الحسن ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة وكان ذلك بسبب هبوط الضغط الدموي. (23)
وكذلك ذكر أنَّ الأصبغ بن نباتة عندما دخل على الإمام بأنّه لم يدري أنَّ صفرة وجهه الواضحة كانت أشدّ أم صفرة عمامته الصفراء؟ (50) ولم يذكر أنَّ بياض العينين قد أصفر وهي العلامة الأكيدة لليرقان! والتي تتمثل باصفرار الجلد بسبب عجز الكبد. إنَّ سبب الصفرة هنا إما اليرقان أو شحوباً سببه فقدان الدم. يحدث اليرقان بهذه السرعة في حالات تلف الكبد المفاجئ في بعض حالات التسمم. ولكن صفرة وجه الإمام كانت بسبب فقدان الدم وهبوط الضغط الدموي وليست باليرقان. حيث أنَّ هذا الوصف لم يتكرر من الحاضرين ثانية وكذلك لم يظهر أنَّ هناك أية علامة طبّية تدلّ على عجز في الكبد حدث بهذه السرعة. وإنَّ عجزاً في الكبد بهذه الشدة ولأنّه بسبب سُمّي يجب أنْ يكون مصحوباً بفقدان الوعي، وتأثيرات جسمية وعصبية وهذا لم يحدث في حالة الإمام.
الاستنتاج:
ولعدم تطابق التغيرات الفسلجية والمرضية في حالات التسمم المذكورة آنفا مع حالة الإمام الصحية منذ إصابته وحتّى وفاته فأنَّ الرأي بالقول أنَّ الوفاة حدثت بسبب أحد السُموم التي تمت مناقشتها لا يمكن قبوله.
ثالثاً: أسباب أخرى محتملة للوفاة:
هنالك احتمالان آخران لسبب الوفاة:
أوّلهما التسمم الدموي الجرثومي: وهذا يحدث عند تلوث الجرح بجراثيم عالية السُمية ومنه تسري إلى الدم مُحدثة تسمماً دموياً قاتلاً. ومن جملة أعراض هذه الحالة المرضية، توسع الأوعية الدموية الجلدية واحمرار الجلد لا سيما في نهايات الأطراف. ولكن في هذه الحالة يكون التسمم الجرثومي مصحوباً بالحمى والتعرق. ويجب أن يظهر التهاب الجرح في فروة الرأس الذي هو مصدر التلوث على شكل تقيح الجلد عند الجرح والتهاب السحايا والدماغ، وهذا لم يحدث استناداً لما ذكر آنفاً. حيث ذكر عمرو بن الحمق الخزاعي حينما نظر إلى جرح الإمام قال يا أمير المؤمنين ما جرحك هذا بشيء، الذي يشير إلى إن الجرح يخلو من آثار الاختلاطات الموضعية تلك. ولم يرد أي ذكر للحمى مطلقاً.
الاستنتاج:
وعليه فإن التسمم الجرثومي كسبب للوفاة ضعيف الاحتمال.
أما الاحتمال الأخير فهو خذلان القلب وجهاز الدوران بسبب فقدان الدم وتيبس الجسم في أيام الصيام السابقة واحتمال عدم تناول السوائل اللازمة في يومي الإصابة. يسبب ذلك عدم قدرة القلب على الحفاظ على المعدل الطبيعي للضغط الدموي. وهذه تضعف القلب تدريجياً حتّى يتوقف. ولكن لم يذكر لنا الرواة إن دم الإمام كان يسيح على الأرض مثلاً أو غرق في دمه كوصف متعارف عليه في حالات النزف الغزير، ولكن الدم قد خضب وجهه ولحيته. ولكن إذا أضفنا لهذا الفقدان في الدم كون الإمام عليه السلام كان صائماً شهر رمضان فهو بحاجة إلى السوائل بالأصل، وكان لا يزيد على اللقمتين أو ثلاث فقيل له فقال: أنّما هي ليال قلائل يأتي أمر الله وأنا خميص (12، 32، 39). وذكر ابن الأشعث حينما شاهد الإمام: يا أبت رأيت عينيه داخلتين في رأسه. فقال الأشعث: عيني دميغ ورب الكعبة (30، 4) وهذا دل على قلة السوائل في الجسم ولكن هذا الوصف كان لحالته في صبيحة اليوم الأول بعد الإصابة، ولا يمكن أن يؤخذ ذلك كدليل على جفاف الجسم إلى درجة أن يكون سببا للوفاة. علما بأنَّه ليس من الضروري في هذه الحالات فقدان الوعي قبيل الوفاة.
نستنتج أنَّ هذه جميعاً قد سببت هبوطاً متزايداً في الضغط الدموي مما أضعف القلب بشدة ولكن هل يمكن اعتبار ذلك سبباً للوفاة؟
الخاتمة:
ما المقصود بسبب الوفاة؟
في الغالب أن للوفاة سببين: مباشر وغير مباشر. فالمباشر مثل تهشم الرأس الشديد الناتج عن دهس مركبة أو إصابة بطلقات نارية متعددة في الرأس أو القلب أو إصابة بجلطة شديدة في القلب أو الدماغ. أما السبب غير المباشر فمثل توقف القلب بسبب فقدان الدم الشديد فالمباشر هو توقف القلب وغير المباشر هو فقدان الدم. أو الوفاة بجلطة الرئة الناتجة عن تخثر في أوعية الساق فالسبب المباشر هو عجز الرئة وغير المباشر هو الخثرة الوريدية في الساق أو توقف التنفس عند المصاب بسرطان القولون المنتشر إلى الرئة حيث المباشر هو توقف التنفس وغير المباشر هو السرطان.
الاستنتاج النهائي:
مما تبين من العرض نتوصل إلى الاستنتاج بأنَّ إصابة الرأس ليست السبب المباشر للموت ويبقى احتمال كون السبب المباشر للموت هو السُمّ قائماً! فإذا كان كذلك فإنّه يمكن أن يتسبب من غير السُموم المذكورة في هذا البحث.
ويبقى سبب الوفاة الحقيقي بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتحقيق. آملاً أن تستجد بعض الإضافات البحثية في المستقبل.
وأختتم بقول الشيخ الرئيس ابن سينا والذي كان يردده دوماً أستاذي المرحوم العلامة الدكتور حسين علي محفوظ: “ندعو الله أن يجنبنا الزيغ والزلل، والاستبداد بالرأي الباطل، واعتقاد العجب فيما نرى ونفعل، والحمد لواهب العقل”.
مصادر البحث:
المصادر العربية: 50 مصدراً
المصادر الأجنبية: 23 مصدراً