كلمتي بحفل تكريمي لحصولي على جائزة الأستاذ الأول في كلية الطب جامعة بغداد 1994
يسعدني أن أقف موقفي هذا.. وإني على يقين بأن الكثير ممن في هذه القاعة من الأساتذة الكرام يستحق ان يحظى بهذا الشرف.
إن طلب العلم فريضة على كل إنسان. ويجب أن يستمر طلبه من المهد إلى اللحد. وأن يسعى إلى تحصيله مهما كانت الصعوبات في طريقه وإن كان بعيد المنال ولو في الصين.
وكما أن التعَلــّم فريضةٌ فإن التعليم واجب. واجب على من عَـلـِم، حيث يجب عليه أن يبذل علمه لمن يطلبه وأن يدعـو إليه من لا يطلبه، وإلا كان مَثــَلَـهُ كمن أُهْديَتْ له فاكهةً فلم يَطْعَمْها ولم يُطْعِمها حتى فـَسَدَتْ.” ومن عَلـِمَ علما وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار”. ويقال خرج الرسول الكريم ذات يوم فرأى مجلسين في أحدهما أُناس يدعون الله ويرغبون إليه وفي الثاني جماعة يعلمون الناس. فقال أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فأن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. أما هؤلاء فيعلمون الناس، وإنما بعثت معلما. ثم عدل إليهم وجلس معهم.
أيها النجم الذي شعَّ له الأفقُ وأشرقْ
طُلْ على الشمس فضوء الشمس من معناك مشتق
زورق أنت ببحر الدهر من يتركه يغرق
أيها الأستاذ في مدرجك النشء تسلق
رام أن يسعى إلى معراجك المدح فأخفق
سر إلى الغاية بالآمال حتى تتحقق
وفقنا الله جميعا أن نكون ممن ينفع طلبته ويخدمهم، وممن ينفع مرضاه ويخدمهم. وممن ينفع الناس ويخدمهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحياة والموت 1997
محاضرة ألقيت في نقابة الأطباء
(علق عليها من على المنصة الاستاذ خالد ناجي حيث شرفني بقوله: “أحيي تلميذي وزميلي وأستاذي” وهذا درس في قمة التواضع. كذلك علق عليها الأستاذ العلامة حسين علي محفوظ والأستاذ الدكتور أحمد الكبيسي).
الحياة: هي أساس القوة التي تمكن الحيوانات والنباتات على إدامة وظائفها، وهي عكس الموت وهي لم تبدأ مع الكون ولكنها استحدثت بعده.
تقدم العالم الفيزيائي جورج كاموف Gamov عام 1948 بنظرية مفادها بأن الكون نشأ من تمدد فجائي للمادة أطلق عليه أسم الدويِّ الأعظم Big Bang. وإن هذا الانفجار الهائل الذي هو لحظة عنيفة خاطفة وومضة ضوء وطاقة حددت لحظة الصفر في خلق الكون، الذي بدأ من جسيمات دون الذرة Sub atomic. ويقال إن ذلك حدث قبل 8 – 12 مليار سنة. وقد أثبت العالم ستيفن هوكنغ Steven Hawking وغيره بأنه يجب أن تكون للكون خواص معينة ثابتة من ضمنها وجود نظم متماسكة بفعل الجاذبية بين النجوم والمجرات. وكذلك فترة زمنية معينة تكفي لحدوث تطور بايولوجي. فلو كان الكون يتمدد ببطء شديد أو بسرعة مفرطة لما حدث التوازن الحالي. وعليه إن تكوين الكون على هذا النحو ووجود الحياة، هو نتيجة لتمدد الكون بمعدل سرعة محددة تماما. وهذا يفند ما قاله العلماء السابقون بأن الحياة حادث طارئ على الكون أي انه من باب الصدفة. ويقول الكثير من العلماء ومن بينهم كارتر إن الكون أنشئ بهدف الحياة. ويقول أي معنى يمكن استخلاصه من الحديث عن الكون ما لم يكن هناك أحد واع بوجوده؟ ولكن الوعي يتطلب الحياة والحياة أيا كان تصورنا لها تتطلب عناصر ثقيلة. وعملية إنتاج العناصر الثقيلة من الهيدروجين تتطلب احتراقا نوويا هائلا. وبعد مناقشة رياضية معقدة يستخلص منها ويلي تساؤلا؟: لماذا إذن يكون العالم بهذه الضخامة؟ فيجيب لأننا موجودون فيه. ” وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.
من جانب آخر يقول العالم فريمان دايسن Dyson: إن القوى التي تربط بين النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة لابد من أن تكون على ما هي عليه الآن كيما تصبح الحياة ممكنة. ولو أن القوة النووية كانت أكثر بقدر طفيف لتعذر وجود الهيدروجين وبالتالي انعدم وجود الشمس. ولو كانت أضعف بقليل لما أمكن احتراق الهيدروجين ولما وجدت عناصر ثقيلة ولما وجدت الحياة. ولو كان هناك تغير في الإلكترونات لما وجد الماء على شكله السائل. إذاً فخواص المادة على أصغر نطاق وخواص الكون كله تبدو ملائمة للحياة لا بل ضرورية لها.
وعندما تكونت الارض قبل 5 – 6 مليار سنة لم تكن فيها حياة. يقول بعض العلماء بأن أساس الحياة التي بدأت على الارض هو الحساء الأوَّلي Premordial soup والذي هو بحيرة تحوي بعض العناصر وبتأثير الأشعة فوق البنفسجية تكونت فيها الجزيئات الحيوية الأولى من المركبات البسيطة والحامض النووي وتكونت الخلية وانقسمت، وتكاثرت. وقد عثر العلماء على بعض المتحجرات (Fossils) لبكتريا عمرها 700 مليون سنة ونملة عمرها 100 مليون سنة، وتطورت مراحل التكوين.
وقال تعالى: ” ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون “.
فتكون الانسان بأعضائه الكاملة ولكل عضو أهميته ومع أهمية كل عضو فإن بعض الأعضاء يمكن الاستغناء عنها كليا أو جزئيا. فمثلا يمكن للحياة ان تدوم مع فقدان العينين أو السمع أو طرف أو أكثر من الأطراف الأربعة أو غيرها. وعوض العلماء ما يفقده الإنسان من بعض أجزائه كليا أو جزئيا بفعل التطور العلمي الهائل المستمر. فقد صنعوا الهرمونات تعويضا لفقدان الغدد الصماء والطرف الصناعي وغيرها حتى حققوا القلب الصناعي وتوصلوا إلى تقنيات معقدة لغرس كاميرا للأعمى وجهاز سمع معقد ودقيق لبعض من فقد السمع كليا. وكذلك بفعل التقدم العلمي تمكن الانسان أن يغرس أعضاءه كاملة أو بعضا منها في جسم إنسان آخر يحتاجها لإدامة حياته. فقد غرس الكلية والقلب والبنكرياس والرئة والكبد والأمعاء، ودخل تعبـير “دكان الاعضاء BODY SHOP “على جسم الإنسان المتبرع. وآخرون حلموا أن يغيروا تركيبة الإنسان بإجراء بعض التغييرات الجسدية عليه والحصول على تركيبة بشرية مغايرة لها قدرات بدنية لم تكن موجودة لديه. وهذه كلها شملت أعضاء غير الدماغ. إذ لم يستطع العلم لحد الآن أن يغرس الدماغ أو تعويضه كليا ولا جزئيا إلا بالأحلام فغرس رأس ودماغ الإنسان في الثور الآشوري أو رأس دارون على جسم قرد للتـنكيل به. استمرت الدراسات طول القرن الحالي ابتداء بالعالم الجليل كاهال بغرس الجهاز العصبي وبعده ساهم فيلق من الباحثين في أغلب أصقاع العالم وحتى يومنا هذا، وبضمنهم ما تم في قطرنا من بحث مهم معترف به في الأوساط العالمية بهذا الخصوص قمت به مع الأستاذ محمود حياوي بغرس النخاع الشوكي. اقول لم يصل الباحثون في الجهاز العصبي لحد الآن إلى نتيجة توازي ولو بجزء يسير ما وصل اليه الباحثون الآخرون في مجال التعامل مع الأعضاء الأخرى. وذلك لأسباب عديدة أهمها إن تركيبة الجهاز العصبي المركزي فريدة ومعقدة لم يعرف كنهها العلم لحد الآن. فهي تركيبة كيماوية تشريحية كهربائية إلكترونية ميكانيكية غاية في التعقيد. وإن شكل الإنسان في دماغه تختلف كثيرا عن صورته الحقيقية التي نحن عليها.
إذا قارنا الدماغ بالكبد مثلا فان للكبد القابلية على تعويض ما يتلف من خلاياه بعد مدة وجيزة. ولكن ليس للدماغ القابلية على تعويض أية خلية تالفة. وإن مسارات الأعصاب داخل الدماغ وارتباطاتها على درجة من التشابك التشريحي والوظيفي يصعب حتى التيقن منها، فأنَّى للعلم أن يحاكي أو يعوض ما تلف من الدماغ وهو لم يحط به علما. والدماغ هو راعي الأعضاء جميعا يتحكم بها كليا أو جزئيا. فالقلب مع قدرته الذاتية على الحركة، للدماغ تأثير كبير عليه وكذا الرئة والكلية والكبد. وعليه فإنه لا حياة بدون دماغ والحياة بدون دماغ فاعل، وإن سلمت جميع الأعضاء، لا تعد حياة. ولكن الحياة يمكن أن تدوم بتعويض أي عضو آخر غير الدماغ.
نحن لم نعرف طعم الحلاوة إلا بوجود المرارة، ولا الجمال إلا بوجود القبح، ولا الخير إلا بوجود الشر، ولا السرعة إلا بوجود السكون ولا الحياة إلا بوجود الموت ( صورة ).
الموت: هو النهاية الحتمية للحياة. ويمكن أن يكون ظاهريا كموت جولييت كما صورها شكسبير، أو الذي لا يرقى له الشك مثلما يسحق رأس انسان بسيارة مثلا ويتهشم رأسه وتخرج مادة الدماغ عن طريق الجلد.
الموت حق:
من الحقائق المذهلة إن “كل نفس ذائقة الموت”. وفي هذا المقام أذكر قس بن ساعده الأيادي في قوله الذي عبّر عن إدراكه لحكمة الموت:
في الـذاهـبين الأولــين لما رأيت موارداً للموت ورأيـت قومـي نحوها فعلمـت انـي لا محـالـة | مـن القـرون لـنا بصــائر لـيــس لهـــا مـصــادر يمضـي الأصاغر والأكابر حـيث صـار القـوم صائر |
يختلف الناس بنظرتهم نحوه. فمنهم من ينحو نحو الشاعر الجواهري بقوله
أنا أبغضُ الموت اللئيم وطيفه ذئـب ترصـدني وفـوق نيـوبه | بُغضـي طيـوف مخاتل نصّابِ دم إخوتي وأقاربي وصحابي |
وآخرين مثل الشاعر بهاء الدين العاملي حيث يعد الموت راحة فيقول:
إن هذا الموت يـكرهــه وبعـين العقل لو نظروا | كـل من يمـشي عـلى الغبرا لرأوه الراحة الكبــــــرى |
أما إفلاطون فيقول لم لا يكون الموت الذي يخشاه الناس ويعتقدون بأنه أشد الشرور هو أعظم خيرٍ لهم.
الموت في التراث:
اتسمت مراسيم الدفن في بلاد الرافدين وبلاد النيل بما يهـيء للمتوفى أدوات تدفن معه في قبره عند دفنه ما يعينه على الحياة بعد الموت ظنا منهم بأنه سيعود للحياة يوما. ومن أقدم ما دون عن الموت هو كتاب الموت الذي كتب على ورق البردي في بلاد النيل في الألف الثاني قبل الميلاد. ويحفظ قسم من هذا المخطوط بين ساقي المتوفى او في حفرة بجوار قبره. ورد في ذلك الكتاب دعاء يدافع به الميت عن نفسه: “السلام عليك أيها الإله الأعظم؛ إله الحق. لقد جئتُك يا إلهي خاضعاً لأشهد جلالك، جئتك يا إلهي متحلياً بالحق، متخلياً عن الباطل، فلم أظلم أحداً ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد مِن رحمي ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أقل كذباً ولم أكن لك عصياً، ولم أسع في الإيقاع بعبدٍ عندَ سيدِه. إني (يا إلهي) لم أتسبب في جوع أحد ولم أجعل أحداً يبكي، وما قتلتُ وما غدرتُ، بل وما كنتُ محرضاً على قتلٍ، إني لم أسرق من المعابد خبزَها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئاً مقدساً، ولم أغتصب مالاً حراماً ولم أنتهك حُرمة الأموات، إني لم أبع قمحاً بثمنٍ فاحشٍ ولم أطفف الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمتُ بريئاً من الإثم، فاجعلني يا إلهي مِن الفائزين”.(علي عطا في جريدة الاندبندنت العربية)
دفن سكان وادي الرافدين والمصريون موتاهم بينما حرق الرومان جثث موتاهم ولكن الهنود القدماء كانوا يتركون موتاهم على التلال لتأكلهم النسور أو يرمون في نهر الكانجي المقدس لتأكلهم التماسيح.
اما المقابر الجماعية فأول ما وجدت في بيرو وهي تعود إلى ما قبل سبعة آلاف عام اذا وجدت فيها بقايا الجثث التي وضعت بأكياس قاومت الزمن.
في الوقت الحاضر الدفن هو الغالب وفي بعض المجتمعات الآسيوية والغربية يحرق الموتى.
تنقل حكاية غريبة عن الشيخ أبو علي الطبرسي إنه أصابته السكتة فظنوا به الوفاة فغسلوه وكفنوه ودفنوه وانصرفوا عنه فأفاق ووجد نفسه مدفونا فنذر إن خلصه الله من هذه البلية أن يؤلف كتابا في تفسير القرآن واتفق ان بعض النباشين كان قد قصد قبره ونبشه وجعل ينزع الاكفان، قبض بيده عليه فخاف النباش خوفا عظيما … إلى آخر الحكاية. ومثل هذه الحكاية قد حدثت كثيرا وأشهرها حكاية روميو وجوليت لشكسبير حيث اعتقد روميو بأن جوليت ميتة حينما رآها بينما كانت في غيبوبة فقط. وهناك لوحة مهمة في هذا المعنى رسمها الفنان الألماني فيرتز في القرن التاسع عشر، إذ صور متوفى في صندوق الموت وقد اخرج ذراعه حتى الكتف من الصندوق. وكان قد كتب على الصندوق: ميت وقد أكد طبيبنا ذلك.
ومن القصص المشهورة قصة الطبيب الأميركي الذي هجم عليه المتوفى وكان قد هم بتشريحه في غرفة تشريح الموتى بعد إعلان موته، وقتله في غرفة التشريح خنقا. لذا كان الموتى في بعض المجتمعات يُـتركون لأيام عديدة قبل دفنهم للتأكد من موتهم في هذه الأيام. وعلى مر الأزمان كم من البشر قد دفنوا أحياء في أوقات الأوبئة الشديدة والحروب بسبب غيبوبتهم وفي إعلان لإحدى جمعيات الدفن الغربية إنها تضمن عدم دفن الحي. ويقول ابن قدامه إذا اشتبه في أمر الميت اعتبر بظهور علامات الموت وإن مات فجأة كالمصعوق أو خائفا انتظر حتى يتيقن موته. إن الموت هو النهاية الحتمية الطبيعية للحياة.
تعريف الموت:
إن الموت هو النهاية الحتمية الطبيعية للحياة. عرفه الرازي في كتابه التفسير الكبير الموت بأنه خروج الروح من الجسد.
وعرفت الموسوعة البريطانية في طبعتها الأولى عام 1771 الموت بأنه انفصال الروح عن الجسد.
وعرفه القاموس المنجد بأنه زوال الحياة عمن كانت فيه. وعرفه الصحاح في اللغة والعلوم بأنه ضد الحياة. وفصل تعريفه قاموس وبستر الجديد بأنه توقف كل الوظائف الحيوية وانعدام القدرة على إنعاشها في الحيوان والنبات.
وأكد كذلك الدكتور عوض محمد في كتابه جرائم الأشخاص والأموال 1985 بأن الموت ليس مجرد فقدان الحياة بل هو استحالة استردادها على أي وجه من الوجوه. عرفه قاموس بلاك الأمريكي للقانون بأنه توقف الحياة ويعرفه الأطباء بأنه التوقف الكامل لدوران الدم وانعدام الوظائف الحيوية والحيوانية وإنه يحدث بالضبط عند توقف الحياة ولا يتم إلا عندما يتوقف القلب عن النبض وينتهي التنفس.
أما الدكتور عبد الحميد الشواربي في كتابه جرائم الإيذاء في ضوء القضاء والفقه عام 1986 فقد قال تنتهي حياة الإنسان بوفاته أي بتوقف قلبه وتـنفسه توقفا تاما وفي تلك اللحظة لا يعد إنسانا بل يعد شيئا.
أكد الدكتور منذر الفضل في كتابه التصرف القانوني في الأعضاء البشرية عام 1990 إن تحديد لحظة الموت وهي لحظة ميلاد الجثة مسألة مهمة جدا.
إن كل هذه وغيرها من التعريفات اللغوية والفلسفية لا يمكن أن تعطينا المعالم الحقيقية السريرية التطبيقية لتشخيص الموت. فإننا نواجه أحيانا المريض الذي يفقد على حين غرة وظائفه الحيوية في توقف القلب والتنفس وبعد إنعاش هذا المريض يمكن بعد الإسعافات أن تعود وظائف الأعضاء ومن المحتمل أنه يعيش بصورة طبيعية بعد ذلك فهل ندعو هذه الحالة من توقف الوظائف موتا؟ متى يمكننا أن نؤكد حدوث الوفاة؟
تشخيص الموت:
إن من أكثر اللحظات قدسية في الطب تلك التي يعيشها الطبيب وهو عند سرير المتوفى. كنت في تلك اللحظات وخصوصا عندما يقع على عاتقي أن أقرر أن الوفاة قد حصلت. أشعر في حينها بأن عليّ مسؤولية هائلة أمام الله والمجتمع والطب وأن قراري يعني إعلان نهاية إنسان من أشرف مخلوقات الله سبحانه. لذا على الطبيب أن يأخذ تشخيص الموت بكل جدية وأن يكون واثقا وبدون أدنى شك في صحة قراره.
يشخص الموت بدون أدنى شك في الحالات التالية:
- تهشم الرأس الشديد وظهور الدماغ
- تشوه الجسد وتكسر العظام
- الرأس مقطوع
- تحلل أو تعفن الجثة
- الصمل الرمي (تصلب الجثة)
أما في الحالات الاعتيادية فيشخص الموت بعلامات سريرية وعلامات بعد اختبارات معينة.
العلامات السريرية ومنها:
- فقدان الوعي التام
- القرنية تظهر كالزجاج المعتم
- العينان غائرتان
- البؤبؤان متوسعان ولا يستجيبان للضوء
- توقف النبض الرسغي وحتى السباتي
- انعدام صوت القلب
- انعدام التنفس
- عدم الاستجابة للألم مطلقا
العلامات باستخدام الاختبارات:
حاول الاطباء على مر السنين أن يجدوا وسائل تحقق لهم التيقن من حدوث الموت فمنها طرق استخدمت في القرون الماضية وهناك الاختبارات الحديثة.
- 1897 حيث تستقر كرة زجاجية على صدر المتوفى مرتبطة بعتلات إلى الخارج بحيث إن أية حركة في صدره تسمح بدخول الهواء له وتحرك العلم ويطرق جرس مرتبط بها لتنذر الآخرين بأنه حي.
- طريقة اعتراف المتوفى بموته: فإذا وضع امام انف المتوفى او فمه ورقه مبلولة بمحلول ملح الرصاص (استيت) اسود هذا بتفاعله مع الغاز الكبريتي المنبعث من أنفه أو فمه بعد الوفاة ويشير المخترع د.ابكار أن يكتب بالمحلول جملة أنا ميت .
- كانت تمسك مرآة أو ريشة أمام أنفه وفمه ففي حالة عدم تحقق الوفاة يشاهد بخار يتكثف على المرآة أو تشاهد حركة الريشة.
- إيقاف وصول الدم للجلد: حيث يمسك جلد المتوفى بالملقط لمدة خمس دقائق. تحدث حزة بارزة في الجلد وتشاهد آثار فكي الملقط ويكون فيها الجلد شفافا بحيث يخترقه النور. واستخدمت هذه الطريقة كثيرا في اكتشاف الموت عند الجنود في المعارك في السابق.
أنواع الموت:
هناك نوعان من الموت:
• الموت المتوقع، مثل ما يحدث لشخص مصاب بمرض مزمن مهلك
• موت الفجاءة، مثل توقف القلب، انفجار أوعية الدماغ او الشدة الخارجية
يقسم الموت إلى: الموت الأبيض؛ وهو الطبيعي أو الفجائي، والموت الأحمر؛ وهو الموت قتلا، والموت الأسود؛ وهو الموت خنقا.
عندما يموت الإنسان فإن هناك رد فعل طبيعي ألا وهو إن الطب قد فشل. إن هذا الشعور هو غير منطقي بالطبع لأن الموت حتمي لكل شخص تقدم موعده أو تأخر وكما قال كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول |
وإنه ليس للطب طريق لضمان حياة أزلية. ولكن تركيز التقدم الطبي الهائل وفي التقنية الباهرة لإنقاذ الحياة مركز حول تأخير موعد الموت. إن الطب كما يقال ضحية تقدمه ونجاحه. وإن كل تقدم في الكفاءات الطبية هو زيادة في مسؤوليتنا الأخلاقية.
في عصرنا الحاضر:
من الحقائق العلمية أن الانسان حينما يفقد القدرة على التنفس لعدة دقائق يفقد القدرة على الحياة ويموت. ولكن بعد اختراع جهاز التنفس الصناعي في منتصف القرن الماضي أصبح من الممكن إطالة حياة ووظيفة قلب المريض الذي فقد القدرة على التنفس التلقائي وهنا تموت أعضاؤه وأولها دماغه. وفي حالات عديدة تبقى حياة هذا الشخص مرتبطة بعمل الجهاز. خلقت هذه الحالة معيارا جديدا في الطب. حيث أن هذا الشخص أًديم نَفـَسُهُ ونبض قلبه ونشاطاته الكيماوية بالآلات الصناعية بالرغم من إن دماغه قد توقف عن العمل. وتدعى هذه الحالة بحالة موت الدماغ.
موت الدماغ:
عرّف قاموس بلاك القانوني الأمريكي الموت كما ذكرت سابقا بأنه يحدث بالضبط عند توقف الحياة ولا يتم إلا عندما يتوقف القلب عن النبض وينتهي التنفس. إن هذا التعريف كان قد استخدم في حالة قضائية في الولايات المتحدة. حيث ان سيدة دهست بسيارة أصيبت على أثرها بغيبوبة عميقة ثم موت الدماغ. أبقيت على جهاز التنفس الصناعي وكان قلبها ينبض بكفاءة. استعمل الأطباء قلبها بعد موافقة أهلها في عملية غرس قلب ناجحة لمريض قلب كان على وشك الموت. وفي المحكمة عند محاكمة الشخص الذي دهسها وجه له الإدعاء تهمة جريمة قتل السيدة. ولكن المحامي قال في دفاعه إن الموت لم يتحقق لأن قلب السيدة لازال ينبض ولو في جسم شخص آخر، فأسقطت الدعوى. وهنالك حالات مشابهة حاول المحامون فيها إسقاط التهم عن موكليهم ولكن لم يفلحوا. فمثلا أصيب شخص بطلق ناري ومات دماغه. أُخـِذ قلبه وغرس، وإذا بمحامي الدفاع يقول بأن الموت المباشر نتج عن فقدان القلب وليس بسبب الطلق الناري لأن الحياة لا يمكن ان تدوم بدون قلب نابض. وبسبب هذه القضايا وأمثالها برزت ظاهرة علمية تستدعي إعادة النظر بتعريف الموت، وإدخال موت الدماغ كجانب مهم في تعريفه.
إن مبدأ عدّ موت الدماغ رديفاً لتوقف القلب والرئة كتعريف للموت دخل الأدبيات العلمية لأول مرة عام 1968 في تقرير قدمته لجنة خاصة في جامعة هارفرد. ومن ثم استعملته مع بعض التغييرات هيئة الرئاسة الأميركية المشكلة لأجل وضع أسس أخلاقيات البحث الطبي والتقني الحياتي، والتوصية باعتماده كتشريع في المحاكم الأميركية. وكذلك هيئة القانون الأميركية. يتحقق الموت في حالة توقف اللارجعة في وظيفتي التنفس والقلب أو توقف اللارجعة في وظائف الدماغ ككل بضمنها وظائف جذع الدماغ.
ما هو موت الدماغ؟
يعرف موت الدماغ طبيا بأنه تلف اللارجعة للأنسجة العصبية داخل تجويف الجمجمة. ليس هناك تعريف دولي متفق عليه في أقطار العالم المختلفة.
قبل محاولة تشخيص موت الدماغ يجب علينا أولا- إقصاء حالات التسمم بالمواد الكيمياوية الخارجية أو تلك التي تنتج في الجسم، كذلك حالات فقدان الوعي بسبب انخفاض درجة حرارة الجسم. أن تقييم المصاب بإحدى هاتين الحالتين يجب أن يطول لفترة لا تقل عن 36 ساعة لأن مظاهر موت الدماغ يمكن أن تكون وقتية إذ أن الدماغ له القدرة على استعادة نشاطه في بعض الحالات.
ماهي أسباب موت الدماغ؟
هنالك أسباب أولية؛ مثل إصابات الشدة الخارجية على الدماغ أو نزف الدماغ التلقائي الشديد وغيرها. وأسباب ثانوية: التي تـنتج عن اضطرابات في وظائف الجسم بعيدا عن الدماغ، مثل جلطة القلب، هبوط الضغط الدموي الشديد أو توقف التنفس وغيرها.
ذكر الأستاذ براين جنت الرائد في استحداث التعريف البريطاني لموت الدماغ بأن بين الأربعة آلاف حالة موت الدماغ سنويا في بريطانيا تكون نصفها بسبب الشدة على الراس وثلثها بسبب نزف الدماغ التلقائي والبقية بسبب توقف القلب والاضطرابات الأيضية والتسمم وانخفاض درجة حرارة الجسم.
تشخيص حالة موت الدماغ:
يعتمد تشخيص موت الدماغ على ما يأتي:
1. التأكد من أن المريض فاقد للوعي بصورة تامة مع انعدام القدرة على الاستجابة للمحفزات الخارجية.
2. انعدام وجود أي من منعكسات جذع الدماغ مثل، البلع والسعال والتنهد والشهقة.
3. انعدام القدرة على التنفس التلقائي.
4. اختبار استجابات جذع الدماغ للتحفيزات العصبية المركزية.
ويجب أن تعاد هذه الفحوصات مرة أخرى بعد 6-24 ساعة للتأكد من حالة اللارجعة. ويجب إبقاء كل وسائل العلاج مستمرة بصورة متكاملة في هذه المدة قبل إعلان حالة موت الدماغ.
هناك حالة مهمة جدا عند ميت الدماغ وهي احتمال حصول حركات وتقلصات عضلية في أنحاء من الجسم ليس لها علاقة مطلقا بالنشاط الدماغي وإنما منبعها انعكاسي من النخاع الشوكي وفي حالات نادرة يتحرك المريض بكل جسمه. تشبه هذه تقلصات الدجاجة مثلا وحركاتها الواضحة بعد قطع رأسها. وأي حركة من هذا النوع لا تدل على وجود حياة في الدماغ.
وهنالك اختبارات آخرى تستخدم في بعض الحالات منها:
1.الفحص السعري: يزرق الماء المثلج داخل الاذن وتلاحظ حركة العينين بعد ذلك يزرق ماء دافئا داخل الاذن. تلاحظ حركة العينين إلى الجانب في حالات الحياة أم في الموت فلا تتحرك المقلتان مطلقا.
2.الحقن الشريانية: يزرق شريان المتوفى بمادة صبغيه أو مادة مشعة وإذا كان الشخص حيا تدخل الصبغة إلى داخل الجمحمة أما إذا كان ميتا فلا يحدث ذلك.
3.صمت الدماغ: تتوقف النشاطات الكهربائية في الدماغ عند إجراء تخطيط الدماغ حيث يسجل التخطيط خطوطا منبسطة بدون أية موجات.
بهذا نرى إن الأطباء على مر العصور لم يتوقفوا عن البحث والتقصي عن كل المعالم التي تؤكد لهم الموت. ولقد قيل بأن الطبيب الذي ليس له المقدرة على تشخيص الموت لا يستحق أن يكون طبيبا.
من الذي له الحق في تشخيص موت الدماغ؟
تؤلف في كل مستشفى لجنة من ثلاثة اختصاصيين بضمنهم اختصاصي أعصاب (طب أو جراحة). وليس بينهم الطبيب المعالج ولا الطبيب المستفيد من غرس الأعضاء إن كانت هناك نية لذلك. عندما تقرر اللجنة حالة موت الدماغ يجب عليها إعادة الفحص بمدة لا تقل عن 4 ساعات فاذا تحقق ما شاهدوه مسبقا فإنهم يعلنون عندئذ موت الدماغ.
ما هي أهمية تشخيص موت الدماغ؟
- اعتبارات طبية عدليه وقانونية لتقرير ساعة الوفاة وما يترتب على ذلك.
- الألم والعناء والمعاناة التي يتحملها الأهل وملاكات المستشفى في انتظار نهاية مريضهم الحتمية.
- الأسبقيات في العناية المركزة ووضع ضوابط لها لمحدودية عدد الأسرّة والحاجة الآنية والملـحّة لها.
- الحاجة لغرس الأعضاء
- التكاليف العالية لإبقاء مريض في الإنعاش لا يرجى شفاؤه ولا تحسنه.
لتوضيح بعض هذه النقاط أذكر قضية المريضة آن كوينلان عام 1975 في الولايات المتحدة عندما قاضى أهل المريضة الطبيب المعالج لرفضه سحب جهاز التنفس الصناعي الذي أبقى ابنتهم في حالة لا يمكن أن تدعى بالحياة حسب تقديرهم و قد قضت المحكمة لصالح الأهل و سحب الجهاز. وإن ما دفعهم لهذا العمل الذي أدخل هذه القضية التأريخ هو الألم والعناء والمعاناة التي كانوا يقاسوها عندما علموا بأن ابنتهم ليس لها أمل في الحياة وأن ابقاءها على هذه الحال هو شقاء وتعاسة وعذاب لها ولهم.
أما من الناحية العملية فلكل عناية مركزة في أي مستشفى عدد قليل من الأسرة تكون مجهزة بأحدث وأدق الأجهزة لإدامة الحياة. وهذه بطلب مستمر لمرضى يرجى شفاؤهم لا بل يعتمد شفاؤهم عليها. أما انعاشهم بعد إجراء عمليات جراحية لهم مثل عمليات الدماغ والقلبأاو بسبب أمراض شديدة طارئة مثل جلطة القلب أو إصابات الصدر وغيرها. فإذا ما تزاحم على طلب السرير مريض من هذا النوع مع ميت الدماغ فماذا يجب أن يفعل الطبيب المسؤول عن العناية المركزة؟ وما هو موقف أهل هذا المريض الذي تتعلق حياته بهذا الإنعاش؟ والجانب الآخر يخص التكاليف المادية فهي نقطة ليست جوهرية ولكنها مهمة خصوصا في البلدان التي فيها الخدمات الطبية تدفع كاملة من قبل أهل المريض أو ما شابه. ومن المعلوم إن أغلى تكاليف الأسرة في الخدمات الطبية هي أسرّة العناية المركزة. فإذا ما عَـلـِمَ الأهل بأن مريضهم قد مات دماغه فعلامَ هذه الخسائر المادية الكبيرة التي يمكن أن تفيد وارثيه وعائلته والتي قد تصل إلى آلاف الدولارات يوميا!
حالات تعقد قرار تشخيص موت الدماغ:
- هبوط درجة حرارة الجسم تحت 32 ْ مئوي. حيث يكون المريض في حالة سبات ويتوقف البؤبؤ عن الاستجابة ويصعب ملاحظة أي نشاط تنفسي، ولكن يمكن للمصاب أن يفيق من هذه الحالة.
- تسمم خارجي بمادة سمية أو أدوية أكثر مما يتحمل الجسم أو تسمم داخلي المنشأ مثل عجز الكلية أو الكبد.
- هبوط ضغط الدم تحت 90 مع قلة الأوكسجين في الجسم
- فقدان الوعي بسبب بعض الأدوية مثل أفينوباربيتال
هنالك بعض الملاحظات:
1.إذا كان المصاب طفلا فيجب عدم تطبيق الضوابط التي تطبق على البالغين.
2.إذا كانت الوفاة بسبب إصابة شديدة ظاهرة في الدماغ أو القلب أو إذا كان المريض مصابا بورم متقدم في الدماغ أو أصيب بطلق ناري في الدماغ ففي هذه الحالة يكون التيقن من موت الدماغ أسرع وأسهل.
3.إذا كانت الإصابة المميتة سببها اعتداء جرمي فيجب أخذ احتياطات قانونية ويستشار المعنيون قبل اتخاذ قرار نهائي.
كم من الدماغ يجب ان يتلف في حالة موت الدماغ؟
ينتج موت الدماغ عند توقف وظائف جذع الدماغ الذي تقع فيه مراكز التنفس والقلب وعن طريقه تنقل الإيعازات من المخ إلى الجسم.
ما هي نظرة التشريع لموت الدماغ؟
من الناحية القانونية أخذ موقعه اللازم في كل دول العالم، ولكن ضوابطه تختلف بعض الشيء. فاعتماد البريطانيين هو على التشخيص السريري فقط. والأمريكان أوجبوا إضافة إجراء تخطيط كهربائية الدماغ لذلك، وفي بعض الدول الأوربية يحتاج التشخيص إلى تلوين شرايين الدماغ. وبعد أكثر من عشر سنوات أعاد البريطانيون النظر بإسلوبهم وبنقد موضوعي علمي تأكد لهم بأن طريقتهم بالاعتماد على التشخيص السريري لوحده علمية ودقيقة وأكـَّدوا استعمالها.
حصلت معي حالة خاصة في انكلترا عندما كنت رئيسا للمقيمين في المستشفى الجامعي في ليدز. فقد أدخل العناية المركزة رجل تعرض لإصابة رأس شديدة فقد بعدها الوعي وكان على جهاز التنفس الميكانيكي وبعد يومين شخصنا موت الدماغ. عندها تحدثت مع زوجته وولديه لأخبرهم بحالة موت الدماغ وطلبت منهم الموافقة على التبرع بكليتيه. كان موقفا حرجا بالنسبة لي ولكن العائلة بعد حديثي معهم أبدوا رباطة جأش وتقبل الواقع. لا يمكن أن تكون هذه الاستجابة في حالات مماثلة في مجتمعنا. لذا يجب على الطبيب في العراق أن يكون حذرا جدا ويعطي العرف الاجتماعي والثقافة المجتمعية أهمية كبرى في توقيت إعلان موت الدماغ.
من الناحية الروحانية:
حدث جدل كبير في هذا المعنى، فعندما كان الاعتماد على القلب والرئة في تشخيص الموت لم يشكل ذلك صعوبة موضوعية عند الروحانيين. ولكن في حالة الاستعانة بالآلات للإبقاء على وظيفة القلب والتنفس، ظهرت صعوبات وخلط وتشكيك في تشخيص الموت. يعتقد الكاثوليك إن الموت يكون بتوقف القلب والتنفس. وقد صرح قداسة البابا بيوس الثاني عشر بأن الطبيب ملزم بأن يبذل كل ما بوسعه وبكل الوسائل الاعتيادية لإعادة الوظائف التلقائية والوعي. وأن يستخدم الطرق غير الاعتيادية لذلك. ولكنه غير ملزم لإدامة استخدام الوسائل فوق الاعتيادية إلى مدة غير محددة في الحالات الميؤوس منها. يقول أحد العلماء المسيحيين اذا كان هنالك إجراء صناعي يعيق مراحل الموت الطبيعي كما في حالة جهاز التنفس الصناعي فإن هذا المعيق يمكن أن يزال ويسمح للشخص أن يموت. وكذلك يقول آخر يجب أن تحترم الحياة لأنها أغلى شيء. ولكن لم يذكر في الإنجيل أو في تعاليم الكنيسة الرسمية ما يمنع من استخدام علامة موت الدماغ كموت حقيقي. أما في الدين اليهودي فإن التكوين يبدأ بالتنفس حينما بث الله الحياة في منخر الإنسان، والتنفس أهم من نبض القلب. وعليه فإن توقف النفس بسبب موت الدماغ يعتبر موتا حقيقيا. والصابئة يعتقدون بذلك تماما ويوافقون على إعلان الموت عند التحقق من موت الدماغ. وفي تعاليم الاسلام الحنيف فقد بحث هذا الموضوع على نطاق واسع في كل الدول الإسلامية، وألخصه فيما توصل اليه مجلس الفقه الاسلامي في قراره المرقم 5 في 1986:
يعد شرعا إن الشخص قد مات وتترتب جميع الاحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين الآتيتين:
1. إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تاما وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعةَ فيه.
2. إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل. وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة والله أعلم.
اتصلت بالمرجعين آية الله أبوالقاسم الخوئي والسيد عبد الأعلى السبزواري لمعرفة فتواهما في هذه المسألة. قدمت لسماحتهما أسئلة نقلها متفضلاً الصديق الأستاذ الدكتور محمد حسين الصغير. كانت الأسئلة وإجابة الإمام الخوئي:
- هل يجوز الإعلان عن موت شخص لثبوت موت الدماغ عنده، مع أن القلب يعمل بدون جدوى وهل تعتبر هذه الحالة وفاة شرعية؟
” بسمه تعالى إن كان للقلب عمل ضعيف يتقوى بالجهاز فلا تعد هذه الحالة وفاة الشرعية له وإن كان عمل القلب إلا بالجهاز في الفرض فهو يعتبر ميتا”. - ميت الدماغ لا يمكن أن تعود له الحياة طباً، فإذا كان قلبه يعمل بالجهاز، والطبيب يتحكم بإنهاء عمل القلب لو سحب الجهاز، فهل يجوز للطبيب سحب هذا الجهاز؟
إن كان بالقسم الأول أعلاه فلا يجوز سحب الجهاز إلى أن يتحكم بانتهاء عمل القلب، وإن كان من القسم الثاني فلا بأس بسحبه عنه. - هل يجوز الاستفادة من أعضاء ميت الدماغ – كالقلب والعين والكلية – لإنقاذ مريض آخرفي الحالات التالية:
أولاً: ابتداء بتصرف من الطبيب: لا يجوز
ثانياً: بموافقة ميت الدماغ قبل موته: يجوز ولا بأس
ثالثاً: بموافقة أهل ميت الدماغ بعد موته: لا يجوز والله أعلم
1403
أما آية الله السبزواري فأجاب عن سؤال:
ما هو حكم الشرع في رجل مات دماغه بحكم أهل الخبرة بحيث اعتبر كمقطوع الرأس ولكن قلبه ينبض بفعل جهاز التنفس الاصطناعي:
هل يعتبر ميت شرعا؟
هل يجوز رفع الجهاز عنه بحكم كونه ميتاً؟
بسمه تعالى في مفروض السؤال إذا أعتبر كمقطوع الرأس يكون بحكم الميت يجوز رفع الجهاز عنه إذا كان نبض القلب بفعل الجهاز والله العالم.
1413
قمت بزيارة لسماحة الشيخ عبد الكريم المدرس إمام الحضرة الكيلانية وحضرة المطران آفاك أسادوريان ورئيس طائفة الصابئة المندائيين الشيخ عبد الله نجم لمعرفة وجهات نظرهم في موضوع موت الدماغ. لم يكن الشيخ عبد الكريم مرتاحا لتشخيص الدماغ وكان رافضا رفضا قاطعا للتبرع بالأعضاء بأية حالة كانت. أما المطران آفاك أسدوريان رئيس طائفة الأرمن في العراق فقد أيد ما جاء به الفاتيكان من أن موت الدماغ يعتبر موتا حقيقا عندما يؤكد الأطباء باستحالة عودة النشاط الدماغي وكذلك بجواز التبرع بالأعضاء في حالة الوجوب وعدم الإضرار.
الحالة النباتية:
تعرف الحالة النباتية حينما يفقد المصاب نشاط دماغه بحيث يفقد كل وسائل الاتصال بما حوله. يكون الشخص مستيقظًا ولكن لا تظهر عليه علامات الوعي حيث إنه قد يفتح عينيه ولكن بدون أن يتابع ما يحيط به. يمكن أنه يسحب يده عند الضغط عليها بقوة. ولكنه لا يستجيب للأصوات. كما أنه لا يظهر أية علامات تدل على الشعور بالعواطف ولا الإدراك. يبقى القلب والتنفس وبقية وظائف الأعضاء تعمل بصورة طبيعية ما عدا وظائف الدماغ التلقائية.
إن السبب الفسلجي للحالة النباتية هو قلة إرواء الدماغ بالدم. يحدث ذلك نتيجة الشدة الخارجية أو تلف خلايا الدماغ بسبب التسمم أو الضمور أو غير ذلك. وفي الحالة النباتية نرى أن المريض قد فقد معنى كونه إنسان ولكن هذا لا يسمح بأي حال من الاحوال التعامل معه بتجريده من انسانيته.
نقل (زرع، غرس) الأعضاء:
تقدم الطب في العقود الماضية في مجال زرع الأعضاء ونقلها من جسم المتبرع إلى جسم الشخص الذي تتوقف حياته أو بصره على ما ينقل له من جسم المتبرع. اقتصر الزرع في البدايات على زرع قرنية العين من شخص توفي حديثاً ومن ثم زرع الكلية من متبرع حي. ومن المعروف بأن التقدم الحاصل في جراحة غرس الأعضاء ونجاح مجالات مهمة فيها إذا كان العضو المزروع يتغذى بالدم حال نقله أي ببقاء القلب نابضا عند عملية نقل العضو. وهنا يكون مصدر الأعضاء المقبول هو حينما يكون المتوفى على جهاز التنفس الصناعي وهو ميت الدماغ.
إن الأعضاء التي يراد نقلها من شخص حي أو من جسد ميت تحيطها صعوبات كبيرة ومشكلات قانونية وفنية من الناحية الطبية. فإلى جانب المشكلات الطبية اللازمة لنجاح عملية الغرس، توجد صعوبات كبيرة في الحصول على الأعضاء البشرية من أجساد الموتى، إذ لم يتم الاتفاق على وضع معيار ثابت للموت من الناحيتين الفقهية والطبية لاسيما بعد انتشار وسائل الطب الحديثة.
ذكر الدكتور جابر مهنا شبل عام 1991 في إطروحته الموسومة ” مدى مشروعية عمليات نقل وغرس الأعضاء البشرية “. وأوجز في نفس العام الدكتور عارف علي عارف في إطروحته الموسومة “مدى شرعية التصرف بالأعضاء البشرية”. وكذلك الدكتور منذر الفضل في كتابه التصرف القانوني في الأعضاء البشرية عام 1990. أقول ذكر هؤلاء جميعا وغيرهم جانبا من هذا الجدل في عالم الطب والقانون.
هناك مسائل قانونية وشرعية كما ذكرت سابقاً ومنها: هل تدخل الجثة في الذمة المالية للشخص المتوفى؟ بحيث إذا تم التصرف بها بيعا يدخل الثمن ضمن موجودات التركة؟ وهل يحق للدولة أن تتدخل في أعمال بيع الجثث البشرية وما صحة العقود الواردة على بيع الجثث لا سيما في العقود لشراء الجثث للأغراض التعليمية؟
يقول سافاتيه: إن جسد الانسان ليس محلا للتجارة ولا محلا للبيع بالتجزئة فالقيم الانسانية تسمو على المال. ولما كان الحب أسمى من هذه القيم، فان الإنسان يمكن أن يتنازل عن جزء من جسمه لشخص آخر بدافع الحب وليس المال.
جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية عام 1986 إن الاتجاه العام للمنظمة هو حظر بيع العضو البشري لأنه من الأعمال غير الاخلاقية أن يقدم الشخص أحد أعضائه مقابل ثمن نقدي. يجب أن يحظر بيع الأعضاء وتشجع الهبة.
ضوابط نقل الأعضاء:
نقل عضو من نفس الإنسان من مكان في جسمه إلى مكان آخر مثل الجلد أو الوريد هذا جائز. أما أخذه الى إنسان آخر ففيه ضوابط:
1. إذا لم يكن لهذا العضو نظير يقوم بوظائفه بعد الاستقطاع فإن هذا لايجوز. وعدم الجواز هذا لسببين:
- إن حياة الانسان ليست ملكا خاصا له بل هي ملك مشترك بينه وبين المجتمع.
- هذا الفعل يخلق مفاضلة غير جائزة بين شخص وآخر.
2. إذا كان للعضو نظير في الجسم كالكلية فالحكم بالجواز بالشروط الآتية:
- أن يتم التنازل عن العضو من صاحبه وهو بالغ عاقل مختار وأهلٌ للتبرع.
- إن هناك ضرورة بالخوف على حياة المتلقي.
- أن لا يكون هناك خطر على المتبرع.
- أن يكون تبرعا وليس معاوضة.
الخاتمة:
أخير وقبل ان أنهي حديثي عن الموت، هذا الموضوع الواسع الذي حمـَلنا إلى آفاق مرعبه للكثيرين منا يحاولوا أن يتناسوها في خضم الحياة اليومية، أُذكـِّر بان طـَرْق هذا الموضوع هو لإعطاء فكرة واضحة عن أن الأطباء يسعون دوما وبكل الوسائل إلى تحقيق سعادة المجتمع بالحفاظ على صحة الإنسان والحفاظ على القيم الإنسانية النبيلة للمريض وكرامته في حياته وموته. وإن هدف الطب تحقيق الصحة والسلامة والسعادة. أرجو الله سبحانه وتعالى أن يطيل في عمر الجميع وأن تتحقق لنا جميعا الصحة والسلامة وكذا السعادة قبل الموت وبعده.
إضافة:
في السنين الألفينية تقبل المجتمع بمرور السنين موت الدماغ كحقيقة علمية ولكن الدين لم يتقبل ذلك وهذا يشمل كافة الاديان الابراهيمية.
فتوى آية الله العظمى السيد السيستاني التي تفصّلها إجابة سماحته على الأسئلة الموجهة له من سائل :
السؤال: يذهب البعض الى أن موت الدماغ يعني موت الإنسان، حتى لو لم يتوقف النبض في الحال لأنه سيتوقف بعد ذلك حتماً، كما يقول الأطباء، فهل يعتبر ميتاً عندئذٍ؟
الجواب: العبرة في صدق عنوان (الميت) الموضوع لعدد من الأحكام الشرعية، إنما هو بالنظر العرفي، بأن يراه أهل العرف ميتاً، وهو غير متحقق في مفروض السؤال.
السؤال : هل يجوز للشخص أن يوصي بأن يتبرعوا بأعضائه بعد موته؟
الجواب: لا يفيد التبرع بعد الموت الحقيقي وانما يفيد بعد الموت الدماغي ولا يعتبر ذلك موتاً حقيقياً فلا يجوز قطع الاعضاء لبقائه حياً.
السؤال: انا طالب بكلية الطب وعندي اسئلة بخصوص الموت الرحيم وعدم الانعاش:
١ـ هل يجوز الموت الرحيم ؟
٢ـ هل يجوز للطبيب ان يفصل الجهاز عن المريض الذي يعاني من موت الدماغ ؟
٣ـ هل يجوز للمسلم ان يملأ استمارة عدم الانعاش ؟
هل يجوز للطبيب ترك انعاش المريض في ظل وجود الاستمارة اذا دخل المريض في حالة تحتاج إلى التدخل الطبي الطارئ ؟
الجواب: لا يجوز في الجميع.
4 – السؤال: إذا كان المريض لديه موت سريري وهو تحت أجهزة التنفس الاصطناعي ولم يكن أهل المريض قادرين على دفع أجور ذلك. فهل نستطيع شرعاً إيقاف الأجهزة هذه علما إن إيقافها يؤدي إلى الوفاة؟
الجواب: اذا كان المريض مسلماً فلا يجوز ذلك وعدم تمكن اهل المريض من توفير كلفة استخدام الاجهزة ليس عذراً في قطعها عنه فان واجب الاخرين توفيرها، اذ يجب على كل متمكن المساهمة في ادامة حياة المسلم، وعلى الطبيب الملتزم بدينه الامتناع من ايقاف الاجهزة ولا يضره قيام غيره بذلك.
أما الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق فقد اصدر فتوى مماثلة حيث قال ان موت جذع المخ لا يعتبر موتا كاملا بل لا بد من ظهور باقي علامات الموت الأخرى، واضاف انه ليس هناك موت اسمه موت الرحمة وان على الطبيب بذل كافة جهوده لانقاذ حياة المريض مهما بلغت نسبة اليأس من مرضه لان حياة الانسان أمانة لابد من المحافظة عليها.
في المذهب الكاثوليكي:فقد عارض تقبل موت الدماغ وموت الرحمة أغلب قادة الكنيسة ولكن وخبراء الخلق والقيم وكذلك الاطباء الكاثوليك يؤيدون اعتبار موت الدماغ موت حقيقي.
بابا الارثودوكس الاقباط: ان الموت والحياة بيد الله وحده وحياتنا ليست ملكا لأحد والمريض الذي يريد التخلص من حياته لان الموت بالنسبة له افضل من آلامه فهذا يعتبر لونا من الانتحار والاديان جميعا تحرم الانتحار لانه لا رجاء له عند الله. وأضاف ان مهمة الطبيب هي محاولة شفاء المريض وتحسين صحته على قدر الامكان وليس من اختصاصه ان يقتل مريضا فهناك فرق بين الهدف الطيب وانقاذ المريض من آلامه وبين الوسيلة غير الطيبة لإنها عملية قتل.
أما في الدين اليهودي :يعترض رجال الدين على رفع الاجهزة من المريض الذي ثبت موت دماغه ولكن بعض المؤسسات الصحية تسمح بذلك وعليه فليس هناك اتفاق كامل في المجتمع اليهودي على توقيت رفع الاجهزة.
سأحاول في المستقبل القريب كتابة مقال موسع حول موت الدماغ وموت الرحمة في عصرنا الحاضر لتكتمل الصورة للمتتبعين لهذا الموضوع الشائك.
موت الرحمة:
هنا أرى لزاما علي أن أذكر موضوعا مهما جدا، وهو حدث الساعة الآن في المجتمعات الغربية، وهو موضوع موت الرحمة او إماتة الرحمة أو تهوين الموت euthanasia وقد نشر عنه الدكتور شوكت موفق الشطي في كتابه دروس علم آداب الطب 1956 فصلاً مسهبا .
هذه حالة ليست جديدة على المجتمع البشري فقد كانت تمارس منذ زمن بعيد. وقد أشار لها ونهى عنها قسَم أبقراط الطبي قبل 24 قرنا حيث نص: ولا أعطي اذا طلب مني دواء قتالا ولا أشير أيضا بهذه المشورة. تنهى عن تطبيقها كل الأديان السماوية وينهى عنها الخُلُق الطبي الحديث كذلك. تبيح بعض الدول هذا الموت، وفلسفتهم في ذلك أولا: إن المريض المعذب الذي لا يرجى شفاؤه والذي يستصرخ الرحمة يجب السماح له في أيامه الأخيرة بأن يطلب من طبيبه إنهاء حياته. ثانيا: إن للمريض الحق للسيطرة على علاجه و إن ذلك يشمل حقه بتحقيق موت الرحمة. ومع أن الدولة الهولندية وضعت ضوابط تعتقد بأنها صارمة ولكن من المعلوم إن عملية موت الرحمة أخذت تسري كذلك على المسنين والمعوقين وبدون رضاهم في حالات كثيرة. وأن إنقاذ هؤلاء المرضى من العذاب الذي هم فيه بتحسين علاجهم وإعطائهم الأدوية المخففة للألم بصورة صحيحة ومساعدتهم على الموت الطبيعي بكرامة هو عنوان طبنا.
يبقى موضوع موت الرحمة يلقى المعارضة من كل الأديان السماوية ويعاقب مرتكبها بعقوبة القتل العمد. ولكن المجتمع في هذا الزمن بدأ يتقبل الفكرة وقد طبق في عدد من الدول الغربية وغيرها. سأتحدث في محاضرة قادمة حول موت الرحمة بالتفصيل.
تفاصيل محاضرة ألقيتها عام 2014 في مؤتمر الأطباء العراقيين الأمريكان:
قتل الرحمة أو “موت الرحمة” أو “الموت الرحيم” هو ممارسة القتل أو السماح بإنهاء حياة شخص مريض أو مصاب لا يرجى شفاؤه بطريقة خالية من الألم هدفها الرحمة والعطف عليه، (قاموس مريم وبستر).
إن إجراء قتل الرحمة ليس جديدا على المجتمع البشري فقد كان يمارس منذ زمن بعيد. أشار له ونهى عنه قسم أبقراط الطبي قبل 24 قرنا حيث نص (ولا أعطي إذا طلب مني دواءً قتالا ولا أشير أيضا بهذه المشورة). قال الدكتور محمد الفاضل في كتابه الجرائم الواقعة على الأشخاص: إذا أصيب الإنسان بداء عضال لا يرجى شفاؤه منه، وثبت أن المريض لابد هالك به وأن نهايته اصبحت معلومة ومحتومة فكل ذلك لا يبرر الاعتداء على حياته والتعجيل بالوفاة وإن كان ذلك برضى منه. إن فلسفة من يؤيد قتل الرحمة إن المريض المعذب الذي لا يرجى شفاؤه والذي يستصرخ الرحمة يجب أن يسمح له في أيامه الأخيرة أن يطلب من طبيبه بإنهاء حياته. طبق ذلك في الدولة الهولندية حيث وضعت ضوابط تعتقد بأنها صارمة ولكن من المعلوم إن عملية موت الرحمة أخذت تسري كذلك على المسنين والمعوقين بدون رضاهم في حالات كثيرة.
أنواع موت الرحمة
طوعي: بطلب من المريض وهو في كامل وعيه
غير طوعي: رغماً عن المريض
لا طوعي: عندما يكون المريض فاقدا للوعي ولم يعط موافقته مسبقا
السلبي: حينما يرفض المريض تناول الدواء اللازم والغذاء والماء
بالحرمان: حينما يحرم المريض تناول الدواء اللازم والغذاء والماء
الفعلي: بإعطاء المريض موادا تنهي حياته
مساعدة المنتحر: بمساعدة الذي يقرر على الانتحار بطرق إنهاء حياته
الحالات التي يمكن أن يشملها موت الرحمة:
- أمراض الإعاقة الجسمية أو العقلية
- الإجهاض لجنين مصاب بتشوهات خلقية شديدة
- المريض الذي لايرجى شفاؤه
أمراض الإعاقة الجسمية أو العقلية:
يجب في مثل هذه الحالات توخي الدقة القصوى في التشخيص والقرار بعد استنفاذ كل الوسائل العلاجية. وعلى الذي يفكر بموت الرحمة أن يتذكر حالات أشخاص لديهم إعاقة جسمية شديدة ولكنهم أبدعوا في حياتهم مثل:
حالة السيد نك فوجيجيك الذي ولد في استراليا عام 1982 بدون ذراعين ولا ساقين ولكنه استطاع بمساعدة والديه والمجتمع أن يتميز في الحياة ويصبح مصدر إلهام للشباب في العالم.
كذلك حالة السيد ماركوس توماس الأمريكي الذي أصيب بشلل أطرافه الأربعة عند تعرضه لحادث سقوط أثناء رياضة التزلج . لم تؤثر حالته على مستقبله وبفضل تصميمه أصبح من مشاهير العالم بالرسم حيث يمسك ريشة الرسم بفمه.
هناك حالة ثالثة لشخص ساهم في تغيير التاريخ وهو البريطاني ستيفن هوكنك الذي أصيب بمرض في الأعصاب والعضلات وأعاقه عن التواصل والحركة ولكنه وبفضل الرعاية والتكنولوجيا قفز بالعلم الحديث قفزة تاريخية.
الإجهاض لجنين مصاب بتشوهات خلقية شديدة:
هنالك حالات يتفق فيها الأطباء والمجتمع على إجراء عملية الإجهاض، مثال ذلك للسيدة التي تحمل جنينا ثبت أنه مشوه جسميا إلى درجة شديدة، كتشوهات الجهاز العصبي في حالة النخاع المشقوق. إن حياة هكذا طفل تكون مليئة بالمشاكل الصحية والاجتماعية والتي تشمل شلل الساقين وعدم السيطرة على الإدرار والخروج وغيرها، وفي أغلب الاحيان تكون حياته قصيرة حتى في الدول المتقدمة. ولكن في حالات نادرة ترى أن المصاب بتلك الحالة يمكن له أن يعيش حياته بالرغم من الصعوبات التي يواجهها.
الإعاقة العقلية:
أفضل مثال لذلك هو مرض الزهايمر المتقدم.
المريض الذي لا يرجى شفاؤه:
هناك حالات مرضية عجز الطب عن علاجها بالرغم من تطبيق كافة العلاجات الممكنة، مع تعرض المريض لألم وعذاب شديدين. من تلك الحالات الإصابة بالسرطان المتقدم المنتشر.
في كل هذه الحالات يجب على الطبيب والأهل والمجتمع الموازنة بين العاطفة والعقل وأن لا يغلب أحدهما على الآخر حيث يؤخذ بالحسبان ما يتوفر من مستوى طبي وصحي خدمي وتقبل مجتمعي. فالطفل الذي يولد مصابا بتلك الحالات في بلد متطور يعامل غير معاملة الذي يولد في بلد فقير تقل فيه الخدمات الطبية والصحية. لذا يكون اتخاذ القرار بإنهاء الحياة في هذه الحالات مبنيا على الواقع الذي يعيشه. لذا نرى تلك الحالات النادرة الناجحة في بلدان غربية كما ذكرنا.
هنالك حالات يطلب فيها المريض الذي لا يرجى شفاؤه مع تعرضه لآلام غير محتملة، من الطبيب المعالج والأهل أن ينهوا حياته كي يستريح. وقد وصلت بعض تلك الحالات إلى المحاكم يتهم فيها المريض أو أهله الطبيب المعالج بعدم الموافقة على إنهاء الحياة.
الآراء المتباينة حول موت الرحمة:
يرفض المجتمع العالمي قتل الرحمة ما عدا بعض الدول والولايات في أمريكا حيث أجيز الأطباء القيام بقتل الرحمة بموجب شروط معينة. يبدو إن الاتجاه العام هو تزايد عدد الدول التي تجيز تطبيقه.
الأديان الإبراهيمية ترفض قتل الرحمة، ففي الديانة اليهودية ” يجب على الانسان أن يصارع حتى النفس الأخير من حياته، وأن يحيي ويبتهج ويشكر الخالق”. (الدكتور راشاميم ميلامد كوهين في مجلة نيوزويك في آذار 2002).
أما في الديانة المسيحية فقد صرح البابا جون بول الثاني “أن قتل الرحمة هو انتهاك عظيم لقوانين الرب، لكونه قتل متعمد وغير مقبول أخلاقيا”.( في صحيفة إيفانجيليوم فايتي عام 1995). وهذا هو رأي بابا فرانسيس الحالي.
يقدس الإسلام حياة الإنسان لكونها منحة من الله تعالى، ولله فقط قرار متى تنتهي حياته. وليس على الآخرين التدخل في ذلك. جاء في سورة الفرقان “ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ” وكذلك في سورة الأعراف ” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ”.
تتفق الأديان غير الإبراهيمية مثل البوذية والهندوسية مع توجه الأديان الإبراهيمية في رفض قتل الرحمة.
ماهي حجج مؤيدي قتل الرحمة؟
- إن قتل الرحمة ينهي حياة الشخص المتعذب بطريقة “إنسانية” تحقق لهم الموت بكرامة.
- تقلل فترة آلام ومعاناة ذوي المريض ومحبيه.
- لكل إنسان الحق في تقريرمصيره ومتى ينهي حياته.
- إن الموت مسألة شخصية، فإذا لم تسبب أذى للآخرين فليس للدولة الحق في التدخل.
- هناك من يقوم بإنهاء حياة الحيوانات التي تتعذب ولا أمل في علاجها بتطبيق قتل الرحمة، فلماذا لا يطبق ذلك على الإنسان في تلك الحالة؟
- حينما يتغلب المرض على الإرادة الشخصية للمصاب يرى أن حياته غير ذات معنى عندها يطالب بالقتل الرحيم حيث يشعر بأنه صاحب القرار وليس أن يملى عليه.
إن إبقاء المريض بحالته الميؤوس منها مع ما تسببه من عذاب تكون عالية الكلفة، والأمول التي تصرف هنا يمكن أن يستفاد منها أهل المريض بدل أن تذهب سدىً.
ماهي حجج مضادي قتل الرحمة؟
- إن القتل الرحيم غير مبرر لاحتمال وجود علاج آخر لحالته.
- هناك العديد من المصابين الذين لا يتلقوا الرعاية الكافية لأسباب عديدة.
- إن المصاب وهو في تلك الحال يكون مهزوز المشاعر ويمكن التأثير عليه بسهولة.
- إن قتل الرحمة يمنح الطبيب صلاحيات أكثر مما يجب.
- زيادة الطلب على أعضاء الجسم للاستفادة منها في عمليات زرع الأعضاء يمكن أن يصاحبه سوء تقدير وتسهيل تطبيق قتل الرحمة.
من الممكن لقتل الرحمة الطوعي أن يتداخل ويسهل قتل الرحمة غير الطوعي أي رغما على المصاب.
ما هو الواقع الحالي لقتل الرحمة:
يعتبر موت الرحمة مباح قانوناً في هولندا، بلجيكا ولوكسمبورغ. أما في الولايات المتحدة فيعتبر غير مسموح ما عدا بعض الولايات منها فرمونت، أوريغون، واشنطن ومونتانا.
وضعت هولندا ضوابط قانونية منها:
- من يقوم بإجراء موت الرحمة يجب أن يكون طبيباً.
- يجب أن يكون بطلب من مريض كامل الأهلية.
- يجب أن يكون الطلب من المريض بدون أدنى شك وموثق وأن يتكرر منه ثانية.
- يجب استشارة طبيب آخر ليس له علاقة بالحالة.
- يجب التأكد من أن المريض لم يخضع لضغوط في أخذ قراره.
- يجب أن يشكو المريض من آلام مبرحة لا يمكنه تحملها.
يجب أن تستنفذ كل وسائل العلاج.
أما الضوابط التي وضعتها ولاية أريغون فتشمل:
- يجب أن يكون المريض في أيامه الأخيرة ويتوقع أن يتوفى خلال ستة أشهر. يكون كامل الوعي والادراك، وأن يخبر بتفاصيل حالة مرضه وما سيؤول إليه والمخاطر بتفاصيلها كي يقرر تلقائياً.
- يجب أن يوافق طبيب آخر على إن المرض مستعصي لا يرجى شفاؤه، وأن يتأكد من أن المريض قرر الموافقة طوعيا وقد تم إعلامه بتفاصيل ما سيجري بتنفيذ إجراء قتل الرحمة.
- إذا كان لأحد من هذين الطبيبين أي شك من قابلية المريض العقلية ما يؤثر على قراره يجب أن يستشيروا أطباء آخرين.
- يجب أن يوثق المريض موافقته كتابياً مرة واحدة ومرتين بموافقة شفاهية.
- يجب أن يطلب الطبيب من المريض أن يبلغ شخص قريب له ويحق للمريض رفض ذلك.
- يحق للمريض أن يغير رأيه في أي وقت.
- يجب أن تمر فترة 15 يوم بين قرار المريض بإلموافقة على موت الرحمة والبدء بالإجراءات من قبل الطبيب.
- يجب توثيق كل ما يجري في سجل المريض.
- لا يحق لشخص من خارج الولاية أن يشمل بموت الرحمة.
في مجتمعنا:
يستمد الطبيب في مجتمعنا قيمه بما جاء به القرآن الكريم والكتب السماوية وخلقه الطبي بما جاء في قسم أبقراط بتحريم قتل الرحمة. لكن في العصر الحاضر وبالتواصل مع العالم هناك اتفاق على وجود حالات يستغيث فيها المريض الذي لا يرجى شفاؤه لتخليصه مما يعاني من آلام مبرحة وحالة نفسية مضطربة. فالبرغم من وجود ما يجعل الطبيب يتعاطف مع المريض ويود الاستجابة لطلبه ولكن القانون والدين والعرف جميعها تمنعه من القيام بأي فعل يعجل بموت المريض وحينها يجّرم باتهامه بالقتل العمد. وكانت هذه نتيجة ما حكم به الدكتور جاك كيفوركيان في الولايات المتحدة الذي قام بإجراء الموت الرحيم على العشرات من المرضى وحكم عليه بالسجن.
المجتمع وجراحة الدماغ 1997
محاضرة ألقيت في منتدى الرواد، بغداد بدعوة من الأستاذ حميد الهيتي. حضرها لفيف من المثقفين والأطباء وعلق عليها الأستاذ كمال السامرائي.
يُعرفُ الدكتور أحمد زكي البدوي، المجتمع، في كتابه معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية: بأنه جماعة من الناس يعيشون معاً في منطقة معينة وتجمع بينهم ثقافة مشتركة ومختلفة عن غيرها وشعور بالوحدة. كما ينظرون إلى أنفسهم ككيان متميز. ويتضمن المجتمع جميع النظم الاجتماعية الأساسية الضرورية لمواجهة الحاجات البشرية الأساسية وهو مستقل لا بمعنى اكتفائه الذاتي التام اقتصاديا” ولكن بمعنى شموله لجميع الأشكال التنظيمية الضرورية لبقائه. (الدكتور أحمد زكي البدوي معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية). أما معجم راندم فيعرفه بأنه تجمع منظم للأفراد ارتبط فيه بعضهم ببعض برباط الدين، الثقافة، العلم، السياسة، والتفاني وأغراض أخرى. والمجتمع المقصود هنا أي مجتمع وفي أي زمان أو مكان.
في اللغة:
جَـرَحَ – جَـرْحا”: شقَّ بعض بدنه
جَرَحَ جَرْحاً بلسانه: عابه وتـنقَّصه. يقال: جرح الشهادة. أي أسقطها
جَوارحْ: الأعضاء من الإنسان ولاسيما اليد لأنها تكسب
إِجْـتَرَحَ الإِ ثْمَ: ارتكبه
جوارح النهار: كناية مصائبه
ومنه: نعوذ بالله من طوارق الليل وجوارح النهار
الإستجراح: العيب والفـساد ويقال قد وعظتكم فلم تزدادوا إلا استجراحا
“وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار” 60 الأنعام 6
جِراح وجراحات: الُجرح صنعة الجراح
والدِماغ: واحد الأدمغة
دمغه دمغا: شجه حتى بلغت الشجة الدماغ
دَمَغَ: قهر، دمغ الحق الباطل أي أبطله وسحقه
أدمغ الطعام: أبتلعه، أدمغ الشيء أدخله
الدماغ: مخ الرأس
الدماغ: كتلة من النسيج العصبي تملأ تجويف الجمجمة في الفقريات
وجراحة الدماغ هي ما تدعى كذلك بالجراحة العصبية. وهي إحدى اختصاصات الجراحة التي تتعامل مع الأمراض الجراحية الدماغية والعصبية. والمجتمع وجراحة الدماغ محور حديث هذه الليلة. وسيشمل الحديث نبذة عن الدماغ، معلومات عن ظاهرة المرض وبداية الطب، وقصة الجراحة بجذورها ومعوقاتها وتطورها كأساس لجراحة الدماغ، ومن ثم الحديث عن جراحة الدماغ: أصولها، وتطورها واهميتها للمجتمع وصفات جراح الدماغ. وبعدها ما ساهم به جراحو الدماغ في بناء المجتمع وتطوره. فالمجتمع بحاجة إلى جراحة الدماغ لعلاج آفات واصابات أدمغة أفراده، وجراحة الدماغ بحاجة للمجتمع لاستثمار خدماتها وتطوير خبراتها.
الدماغ هو النهاية العليا أو الأمامية المنتفخة للحبل الشوكي ويشكلان الجهاز العصبي المركزي، وهو أول أجهزة الجسم ظهورا في بداية التكوين الجنيني للإنسان. والدماغ هو العضو الذي ينظم نشاطات الكائن الحي الأساسية للحياة. وفي الفقريات العليا هو مركز التعلم. إن أدمغة الحيوانات الدنيا تتكون من مجموعة من الخلايا العصبية ولكن في الفقريات العليا تتكون كذلك من مسارات وأعصاب. وإن الدماغ في الحيوانات يختلف باختلاف حاجاتها وحياتها. ففي الأسماك نرى أن الفص البصري متطور جدا، وعند الزواحف تكون خلايا الشم أفضل من غيرها. أما عند الإنسان فنرى إن الدماغ قد تضخم كثيرا. والدماغ كتلة من الطيات الوردية في خارجها والرمادية في مقطعها، قوامها كالجلاتين وتحوي ما يقارب عشرة بلايين خلية ومقسم إلى نصفين كل منهما بحجم قبضة اليد. ويتكون من المخ والمخيخ وجذع الدماغ. يحوي المخ جزأين أساسيين: القشرة والمادة البيضاء. وفي الحيوانات الراقية يفوق المخ بقية أجزاء الدماغ حجما وفيه أخاديد وتلافيف لتزيد من سعة سطحه وبذا تزداد خلاياه العصبية عددا. . وتعتمد زيادة حجم الدماغ على كبر حجم الحيوان. ففي الحيوانات الصغيرة الحجم يكون الدماغ صغيرا وأملساً، بينما هو في الحيوانات الكبيرة مثل الحوت والفيل يكون كثير التلافيف. ومع ذلك فإن القشرة الدماغية خفيفة بالمقارنة بالإنسان. أما دماغ القرد فانه يشابه دماغ الإنسان لكن الأخير يتميز بكبر حجم الفص الجداري. وان الاختلاف العقلي هو في القدرة على الكلام والقوة الهائلة على التحليل المنطقي والتركيز والتقييم. وإن الأشخاص طوال القامة يكون دماغهم أثقل وزنا من قصار القامة. ولكن بالقياس إلى أطوالهم فإن دماغ قصار القامة كما جاء في الموسوعة البريطانية أثقل من الطوال ولكن لم يثبت مطلقا إن للذكاء علاقة بحجم الدماغ. والدماغ هو أحد معجزات الباري التي لا يرقى إلى عظمتها الإنسان والذي لا يمكنه إلا أن يحاكي بعضا من قدرات الدماغ الهائلة. وقد أحكمت خلقة الإنسان بحيث أن هذا الجهاز الرقيق الجوهري لحياة الإنسان قد حفظه الله تعالى في صندوق محكم من العظام وهو الجمجمة. وكذلك حفظ قرينه الحبل الشوكي في نفق عظمي هو العمود الفقري. وفي خضم فضاء الأسرار والألغاز الكثيف للحياة والأحياء فان هذا العضو يمكنه خزن محتويات مكتبة ضخمة وإنه بالتأكيد الأكثر سحرا ومتعة وحيرة منها. واعتقد العالم الرياضي والفيلسوف رينيه ديكارت عام 1590- 1650 في كتابه DE HOMINE إن دماغ الإنسان يعمل بمبدأ الطاقة المائية hydraulic بمضخات ومكابس وقنوات واعتقد أن الغدة الصنوبرية هي مركز الروح لكنه بحقيقة العلم الحاضر يعمل بدقائق الفيزياء والكيمياء.
في كتاب تاريخ الطب يقول العالم الطبيب سيكرست Sigerist إن الشاعر والفيلسوف والمؤرخ أعضاء أساسيون في المجتمع. وأن الشاعر هو قلب وصوت المجتمع الذي يعبر عن مشاعره ويحرك ويسعد ويلهم ذلك المجتمع. والفيلسوف هو عقل وذكاء المجتمع يفكر بما يجري على أفكار الآخرين بسطحية مبهمة ويضعه في إطار منظم ومنطقي. وأن الفلاسفة هم أهم أقوى صناع التاريخ. ولولاهم مثلا لم يكن اتحاد سوفيتي لو لم يكن هناك كارل ماركس ولا الحضارة الغربية بدون فلاسفة القرن الثامن عشر. أما المؤرخ فانه ذاكرة المجتمع يتحسس بدقة ما يحسه المجتمع وتقوده العوامل المهمة الآنية إلى استذكار الماضي ليخلقه ثانية في كتاباته. ويستمر في قوله ان تاريخ الطب ليس مقتصرا فقط على التاريخ ككل وليس هو محاولة لإكمال صورة تاريخ الحضارة لكنه في الأساس الطب هو بعينه، وطريقة للوصول إلى المعضلات في الطب. وإن مؤرخ الطب بينما هو يخدم الحقيقة كمؤرخ فانه يسعى إلى المساهمة في تقدم الطب. ويقول الفيلسوف غوته ” إنه من المستحيل فهم الحاضر بدون معرفة الماضي” Horsley lecture. فلا بأس من التطرق إلى تاريخ بعض جوانب هذا العلم الذي وصل إلى مستوى التقديس حيث إن العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان.
في الأيام الغابرة كان العضو الأكثر تقديرا هو القلب. ولهذا تأثير كبير في الاستعمالات اللغوية، فيقال عن شخص أنه طيب القلب، وفقد قلبه أو استعاد قوة قلبه، والطعام الذي يقوي القلب الخ.. وأعتقد الأطباء في بلاد الرافدين أن القلب مستودع الإدراك والذكاء، والكبد موضع العواطف ومستودع الحياة نفسها لاحتوائه على كمية كبيرة من الدم. وقال افلاطون: حب الله في القلب، ويسمى الإيمان، وحب الولد في الكبد، ويسمى الشفقة، وحب المرأة في النفس، ويسمى الغريزة. أما الدماغ فكانت قيمته تكاد لا تذكر إذ كان يعتقد أنه خلق لإنتاج المخاط الذي يخرج من الأنف. أو أن السائل المنوي ينبع من الدماغ. المرض قديم على الأرض قدم الحياة نفسها، فآثار النباتات والحيوانات المتحجرة التي حفظت كحفريات في القشرة الأرضية لمدة 500,000,000 سنة قد ظهر فيها كائنات مجهرية كالتي تشاهد في الوقت الحاضر. وبعض عظام الديناصورات والزواحف الضخمة التي عاشت منذ 200,000 سنة يظهر على بعضها آثار مرض التهاب المفاصل. وحينما ظهر الإنسان على الأرض كانت الأمراض متكاملة وذات خبرة ومستعدة لملاقاته. وتخبرنا العظام والمومياء والرسوم التي وجدت على كهوف إنسان ما قبل التاريخ كيف حاقت الأمراض بالإنسان. في أحد الهـياكل العظمية التي عثر عليها العلماء ظهر بوضوح على العظام التي يبلغ عمرها 40,000 سنة مرض التهاب فقرات سلسلة الظهر. يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه” واذا مرضت فهو يشفين”. الشعراء الآية 80 ، فالمرض بدأ عندما حل الإنسان على وجه البسيطة. ولكن من الناحية التحقيقية يقول طبيب الأعصاب الإنكليزي المشهور توماس سيد نهام: مثل ما لا يستطيع أي إنسان أن يقول من الذي اخترع أو ابتكر الملابس والبيوت لمقاومة الطقس، لا يستطيع أي باحث أن يتحقق من منشأ الطب وابتدائه ويبقى ذلك غامضا كمنبع النيل العظيم. ومن المؤكد أنه لم يمر على الإنسان زمن لم يكن فيه الطب. وإن المشكلة الجوهرية للشخص المريض لم تتغير. ومهما حوت الكتب الطبية الحديثة من معلومات جديدة فإنها لا تحوي شيئا لم يحدث في الماضي إلا ما قد استحدث في الحاضر ولكن غالبيته يمكن رؤيته في الكتب الطبية الأصيلة لأبقراط وجالينوس وابن سينا وغيرهم.
كما قلنا أن تاريخ المرض قديم قدم تاريخ البشرية. ولنا أن نتخيل أو نعتقد بان الأمراض الجراحية أو العلاج الجراحي يتماشى مع هذا القدم. وإن أساس المرض الجراحي: الورم والشدة والالتهاب كانت ولا تزال كذلك (. لقد كان الإنسان القديم يلعق مكان الألم أو يمصه أو يدعكه تماما كما يفعل القط أو الكلب. ومن المحتمل أنه صنع من عصا مدببة أول آلة جراحية في التاريخ لفتح الخراج في قدمه. (صراعنا مع المرض ليلون مارتن) والجراحة معناها السكين لان السكين هي الآلة التي تحدث الجرح . بدأ الانسان القديم باستخدام آلة قطع مصنوعة مما يتوافر له. وعلى الاغلب أن الإنسان تعلم حك أو كشط الصخور قبل أن يكتشف كيف يقطعها، حيث يمكن له أن يستخدم للكشط أية صخرة مفتتة تكونت فيها حافة بصورة طبيعية أو بعد كسرها. وبمرور الزمن تعلم الإنسان كيف يصنع حافة للصخور، وتعد هذه إنعطافة مهمة في تاريخ البشرية. وتطورت هذه لديه فصنع أنواعا من الصخور تساعده في صنع صخور وأدوات أخرى. وهنـا أصبح ذا كفاية يدوية وصاحب صنعة. وبعد ذلك في العصر الأكيولي acheulian بدأ بصناعة الآلات ذات الوجهين مثل الفأس والساطور ويعد هذا تقدما واضحا في الصناعة. وقد عثر على آلة قطع ذات وجهين صنعت بدقة عظيمة وتستعمل كسكين تمسك باليد اليمنى. ومن ثم في العهد الباليوليثك الأعلى upper palaeolithic كانت السكين مدببة الرأس فضلا عن حافتها الحادة ذات الوجهين. وأصبحت سكين شاتلبيرون Chatelperon تشابه السكين الحالية بدرجة كبيرة وفيها ثلمة لقبض الأصابع. وبعدها صنعت السكين التي توضح فيها الغمد والمقبض بصورة دقيقة. وبدأ بعد ذلك استعمال السكين المعدني في بابل وبلاد النيل. إلى أن تطورت في عصرنا الحاضر حيث أدخلت كذلك في نهاية هذا القرن سكينة الليزر التي تقطع بدون نزف وأخيرا سكينة كاما التي تنفذ إلى الآفة المرضية داخل جمجمة الإنسان لـتـدمرها وتزيلها بدون أن تجرح الجلد أو تثقب العظم.
إن منشأ المرض حسب اعتقاد أهل بلاد الرافدين ناتج عما اقترفه الشخص من آثام حيث تقتص الآلهة منه مباشرة وذلك بأن ترسل شياطين تدخل جسمه وتسبب ذلك المرض. وعليه فأن المرض في الأساس هو انحراف خلقي ووصمة عار. وأن الإثم ليس بالضرورة أن يكون من الكبائر فقط بل أن الأعمال السيئة البسيطة والهفوات والغفلة عن الواجبات الدينية المتعمدة وغير المتعمدة تدخل في ذلك. والعلاج يكون أما عند الكاهن أو الطبيب. وأن للجراحة موقعا واضحا في الطب عندهم حيث نرى ما سطر في شريعة حمورابي يتعلق غالبيته بالجراحة فمثلا إذا عالج طبيب نبيلا بسكين معدني، وسبب وفاة ذلك الشخص، أو فتح ورما ”في عينه بسكين معدني وسبب فقدان العين، فإن ذراع الطبيب تقطع“. وفي مصر القديمة كانت تمارس الجراحة كما ظهر في لوحات البردي لأدوين سميث. ومن جملة ما تحدثت عنه كان 48 حالة غالبيتها جراحية نظمت بطريقة مميزة. أما الهند القديمة فكانت غنية بتراثها الطبي ولكن لم يتردد ذكرها بإطناب. ذكر سوسروتا أكثر من 100 آلة جراحية تشمل السكاكين، المناشير، قاضم العظم، آلات البزل والإبر وغيرها. وخير ما عرف عن الهنود هو عمليات التجميل وخصوصا تجميل الأنوف والآذان. لقد كان الجراحون من الطبقة غير العليا في المجتمع الطبي. وذلك بسبب ابتعاد الجراحة عن علم الطب. ولكن هذا العلم والفن بدأ يأخذ موقعه المتصدر أثناء الحروب واستخدام المدافع والبارود في القرن الرابع عشر وكذلك ما حصل في تلك الحقبة من تطور في علم التشريح.
حمل المشعل العلماء والأطباء العرب ويقول Campbell كامبل في كتاب العلم والطب والتاريخ لسرجنت: إن الأرقام التي نستعملها ومقاييس الوزن والحجوم. وواقع رفع مستوى مهنة الطب من مهنة ليست ذات قيمة كبيرة وجعلها مهنة ذات كرامة عالية كلها بفضل الكفاءات العقلية العربية التي سبرت أغوار العلم والطب في عهود أوربا المظلمة. وكما ذكر فان ما أعاق تقدم الجراحة العامة وجراحة الدماغ عبر العصور عوامل عديدة أهمها: عدم الإحاطة الدقيقة بتفاصيل تشريح جسم الإنسان ودماغه، الألم، والالتهاب. ومن البديهي أن القدرة على تشخيص المرض الجراحي لها أهمية كبرى في العلاج الصائب والنتيجة الفضلى. .
كانت بداية علم التشريح غامضة ومبهمة ولكن جراحي الإصابات وقصابي الحيوانات كان عندهم انطباع وفكرة عن التكوين التشريحي. وكان تشريح الإغريق وبعدهم مدرسة الإسكندرية في القرن الثالث بعد الميلاد معتمدا على الحيوانات. والمعروف أن الأطباء العرب أمثال الرازي وابن سينا وابن طفيل قد اهتموا بتشريح الحيوانات خاصة القرود لدراسة تركيبها الداخلي بغية فهم تركيب الجسم الإنساني. ربما كان من الغريب أن نعلم أن الجهد الحقيقي الأول لدراسة الجسم الإنساني قام به رسامو عصر النهضة مثل مايكل انجلو ورافائيل وليوناردو دافنسي. ولقد شرَّح ليوناردو ما يزيد على ثلاثين جثة ورسم صورا للدماغ ولمعظم الأعضاء الداخلية حتى الأوردة والشرايين بدقة متناهيه.
لكن مؤسس علم التشريح الحديث هو أندريا فزاليوس المولود في بروكسل، (صراعنا مع المرض). وفي عام 1543 نشر فزاليوس كتابه العظيم الخالد “الفابريكا” De humani corporis Fabrica . يعده السير وليام أوسلر أعظم كتاب طبي على الإطلاق. زامن نشره نشر كتاب عظيم آخر لنيكولاس كوبرنيكوس De revolutionibus orbium coelstium الذي أثبت فيه إن الشمس، وليس الأرض، هي محور المجموعة الشمسية. لذا يمكن القول بأن ذلك العام كان انعطافاً علمياً هائلاً حيث بدأ الإدراك العلمي للكون الدقيق أي جسم الإنسان والكون العظيم الهائل والأجرام السماوية. والشعور بالألم هو من خصائص الدماغ، وبسبب الألم عند إجراء العملية بقيت الجراحة العامة وجراحة الدماغ محدودة جدا في مجالاتها. ولتخفيف الألم استخدم الهنود الحمر نوعا من التنويم المغناطيسي، والرومان استعملوا النبيذ وأحيانا الإسفنج المخدر، فمن المشكوك فيه أن يكون لهاتين الوسيلتين لتخفيف الألم تأثير حقيقي جراحي محسوس به. ولم يكن الأطباء يجرون، قبل مائة وخمسين عاما، سوى العمليات الخارجية، والمريض غارق في آلامه. وكان الجراحون يحاولون الإسراع في إجراء العملية لكيلا يطول الوقت الذي يتألم فيه المريض. وفي عام 1799 اكتشف السير همفري ديفي أن اوكسيد النيتروز، أو الغاز المضحك، يساعد في إزالة الألم عند استنشاقه، واكتشف مايكل فارادي، بعد أربعين عاما أن للإيثر التأثير نفسه. وفي عام 1844 قام وليام مورتون باستخدامه لـقلع ضرس مؤلم فكان أول مريض تجرى له عملية تحت تأثير الإيثر. واكتشف الكلوروفورم في السنة التالية وعرف أن الكلوروفورم يخفف آلام الأمهات عند الولادة. كان كثير من الناس البارزين لايزالون يشمئزون من استعمال المخدرات. ولم يزل ذلك الاشمئزاز والجدل نهائيا إلا حين وافقت الملكة فيكتوريا على استعمال الكلوروفورم، عندما وضعت ابنها السابع. (قصة الطب) بمرور الزمن تطور التخدير وزال الألم تماما عند إجراء العمليات الجراحية وعمليات جراحة الدماغ.
بقي الالتهاب يشكل عائقا مهما في طريق تطور الجراحة. وحدث تقدم عظيم حينما سمع جوزيف ليسترالاسكتلندي، أحد الجراحين المشهورين آنذاك، عن عمل لويس باستير في فرنسا، وعن تجاربه التي تظهرأن الجراثيم موجودة على كل شيء. أيقن ليستر إن الجراثيم لابد أن تكون السبب في نقل العدوى إلى الجروح، وفي إخفاق كثير من العمليات الجراحية. فشرع بتنظيف كل شيء له صلة بالعملية وتعقيمه، واستخدم حامض الكاربوليك لتعقيم الجلد عام 1864، وأشار بوجوب غسل يدي الجراح، والأدوات المستعملة، والخيط الذي يخاط به والمناشف. واخترعت قفازات المطاط عام 1890، وأحدثت هذه الاحتياطات كلها فرقا عظيما، وانخفض معدل الوفيات انخفاضا سريعا.( قصة الطب) ومع كل هذا التقدم بقي الالتهاب يشكل حجر عثرة أمام تقدم جراحة الدماغ والجراحة بصورة عامة. حتى جاء ألكسندر فلمنك باكتشافه عفن البنسلين واستعماله عام 1940. وبعده تواترت الاكتشافات والابتكارات لأنواع عديدة من الأدوية والعقاقير المضادة للالتهابات. فتم تفادي هذا الخطر بصورة مرضية
وعند تحقق هذه العوامل الثلاثة الأساسية: التشريح الألم والالتهاب فـتـحت الأبواب أمام تقدم الجراحة العامة وجراحة الدماغ.
ما المقصود من جراحة الدماغ؟ إن جراحة الدماغ أو الجراحة العصبية هي الاختصاص الجراحي الذي يتعامل جراحياً مع أمراض الجهاز العصبي. وقد تبين إن الإنسان بدأ به منذ زمن سحيق. فلقد كانت القبائل البدائية تستخدم جماجم أعدائها كتمائم، أو أوعية لحفظ السوائل أو أدوات زينة. وكان المقاتل القديم يقطع رأس ضحيته من الأعداء ويستخدم جمجمته كتذكار أو كرمز يربطه حول عنقه يتأرجح على صدره أو وسطه. وبسبب كبر الجمجمة فقد استعمل عوضا عنها أقراص من الجمجمة وكانت هذه الأقراص ترمز إلى عدد الانتصارات التي حققها. وقد استعملت هذه الأقراص كذلك كتعاويذ او تمائم لطرد الأرواح الشريرة. إن تـثـقـيب الجمجمة يرجع إلى العصر الحجري الحديث (Neolithic) 7000-10000 سنة قبل الميلاد. ويمكن الاستنتاج إن الآلة المستعملة لفتح الجمجمة كانت سكينا من صخر الزجاج البركاني obsidian مثلثة ولها مقبض وحافتها الحادة مستقيمة أو منحنية وهي تثقب الجمجمة بقطع جزء منها كما يعمل المنشار. وكانت هناك عملية للجمجمة أجريت فيها عدة ثقوب أوصل ما بينها ورفعت قطعة من عظمها. نشرا كرانا وأستيبان Grana & Esteban حول هذا الموضوع وقد أجريا عملية تثقيب الجمجمة باستخدام الأدوات الجراحية القديمة.
وفي مجموعة أوراق البردي المسماة باسم أدوين سميث هناك معلومات ووصف لمحتويات الجمجمة، كذلك حول إصابات الدماغ وقد ذكرت في تلك البردية عدة حالات تخص جراحة الدماغ.
كان أبقراط أول من كتب عن فتح الجمجمة وكانت الأدوات التي يستعملها لا تختلف كثيرا في جوهرها عما استعمل في الوقت الحاضر فقد استعمل الأزميل (chissel) والقاضم (rongeur) وكانت الأدوات المستعملة مصنوعة من الزجاج البركاني أو الصخور الصلدة أو البرونز.
وجاء العرب وعلى رأ سهم أبو القاسم الزهراوي الذي أجرى عمليات عديدة على الجمجمة في القرن الحادي عشر وأفرد في موسوعته الجراحية فصلا كاملا عن ذلك وذكر عن الأدوات المستعملة مثل الترباس والسكاكين وغيرها. وذكر قبله ابن سينا عن هذه العملية ولكن كتابته على الموضوع توحي بأنه لم يجر العملية بنفسه.
ومن ساليرنو وبفضل ترجمة الكتب العربية وتدريسها في القرن الحادي عشر بدأ تطور جراحة الدماغ. واشتهر شولياك Chauliac (1300 – 1358 ) الطبيب البابوي الذي كان لا يجري عملية الجمجمة عندما يكون القمر بدرا. وكذلك إذا تمكن المصاب من كسر بندقة بين اسنانه فأنه ليس في جمجمته كسر. . وكان يعتقد بأن من المتطلبات الأساسية للجراح الذي سيقوم بإجراء العملية أن يمتنع عن الاتصال الجنسي قبلها. ولكن جراحة الدماغ الحديثة المبنية على أساس علمي دقيق لم تؤيد كل ما قاله شولياك . وقد بدأت في نهاية القرن الماضي وتطورت كثيرا أثناء الحروب المدمرة منذ ذلك الحين. وكان في الريادة مكيوان وكودلي في اسكتلندا، هورسلي في لندن وكوشنك وداندي في أميركا وكروزة في ألمانيا، واستمرت في تطورها حتى يومنا هذا. وقد واكبت تطور المجتمع في كل آفاقه. وخلقت مكاسب عظيمة لضمان حياة فضلى للإنسان ولكن في الوقت نفسه سبب تطور المجتمع خلق مشكلات جديدة لجراحة الدماغ لم تكن موجودة سابقا، منها المرور واصاباته. بينما كان الإنسان يستخدم الحيوان في تنقله كانت مشكلات ليست ذات قيمة ولكن حينما بدأت الثورة في عالم النقل بظهور العجلة في وادي الرافدين تزايدت خطورة الطريق وإصاباته على الراكب والماشي. وعبدت الطرق مما سهل للعربة أن تسرع في سيرها وتزيد من أخطارها. وجاءت العربة ذات الأربع عجلات. بدأت مشكلات المرور بالإصابات للركاب والمشاة. وفي بداية القرن الخامس عشر تفتقت أفكار العالم الفنان ليوناردو دافنسي بحل مشكلات المرور وجعل الطريق ذا مستويين، أحدهما للمشاة والاخر للمركبات. و ظهرت السيارة عام 1885 لكن ظهورها الواضح كان في الحرب العالمية الأولى. تواترت المركبات بالظهور بأنواعها كافة كما نشاهده في عالمنا اليوم. وهكذا بدأ عصر المرض الوبائي الجديد عصر إصابات المرور. إن هذا الوباء يرقى إلى مصاف الأوبئة الـثلاث الأخرى وهي أمراض القلب وأمراض شرايين الدماغ والأورام السرطانية. وتزداد خطورته بازدياد التقدم التقني في ذلك المجتمع فمثلا في الولايات المتحدة تكلف الإصابات مبلغ 50 بليون دولار سنويا. إن حوادث المرور تشمل كل أعضاء الجسم ولكن الجهاز العصبي يصاب بـ 90 % منها. وعليه فإن الجهاز العصبي هو ضحية تقدم المجتمع الذي امتـلـك وسيلة لخلق وباء جديد لم يكن موجودا في المجتمعات البدائية. لكن الحقيقة الأخرى هي أن الجهاز العصبي يمكن أن يكون المسبب لحوادث المرور. فمثلا وجد أن نسبة الحوادث المميتة التي يكون السائق في حالة إعياء ونعاس قد تصل الى 50% تقريبا. إكذلك فإن تـناول الكحول والأدوية المهدئة تقلل تركيز الدماغ على الشارع عند قيادة السيارة ما يزيد كثيرا من نسبة وشدة الاصابات.
إن اصابات الدماغ حالات الاعتداء فإن إصابة الدماغ تكون بالغة. فلقد بدأ الإنسان بمحاربة أخيه الإنسان منذ بدء الخليقة. ولنا في قابيل وهابيل خير مثال. واستمرت هذه النزعة البشرية في الصراع إلى يومنا هذا لأنها من الصفات الإنسانية. يصف أحدهم غريمه الذي يتنازع معه وينعته بغضب أنت حيوان فيجيبه المقابل بقوله كلا يا سيدي أنا أسوأ من ذلك أنا إنسان. وفي الصراعات الشخصية أو في المعارك والحروب فإن لـلجراحة العصبية حصة كبيرة. ومن الممكن أن نتصور أن قابيل هوى بحجر على رأس اخيه هابيل فأصاب دماغه. فكانت هذه أول اصابة للدماغ. وإن الإنسان القديم وعى لهذه الأهمية فابتكر غطاء الرأس المعدني يلبسه الجنود في المعركة حماية للرأس لأنه معرض للإصابة أكثر من غيره من أجزاء الجسم. لقد بدأ استعمالها في وادي الرافدين وكانت من جلد ومن معدن. وطورها الرومان وصنعوها من البرونز بتصميم نراه على رؤوس التماثيل الرومانية.
هنالك إصابات رأس تذكر على مر الدهور. فعندما ضرب ابن ملجم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بالسيف أثبت الضربة في وسط رأسه. جمع له أطباء الكوفة فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هاني السكوني. وكان متطببا صاحب كرسي يعالج الجراحات. ولما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين دعا برئة شاة حارة واستخرج عرقا منها ،وأغلب الظن انه قصيبة هوائية، فأدخله في الجرح ثم استخرجه فإذا عليه بياض الدماغ فقال له يا أمير المؤمنين إعهد عهدك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك. فدعا الإمام عند ذلك بصحيفة ودواة وكتب وصيته المشهورة، قبيل وفاته ليلة الحادي والعشرين من رمضان عام اربعين للهجرة. ونجتاز القرون العديدة سريعا مارين بإصابة رأس آخر بقي ذكرها على مر الدهور مثل ما عمله إيفان الرهيب قيصر روسيا الذي استعمل لقب قيصر في أوربا بعد يوليوس قيصر وذلك عام 1600. ففي يوم هاج فيه إيفان وماج بغضب وفقد سيطرته وهوى على رأس ابنه الشاب بعصا العرش الـثـقيلة فخر هذا صريعا. وندم إيفان وركع بجانب ولده ناحبا ينادي على الطبيب لإنقاذه. كان جرح رأسه عميقا ونافذا، وبقي فاقدا الوعي ليومين وإيفان لم يفارقه لحظة لم يأكل ولم ينم حتى مات ولده. ولم تكن هناك جراحة دماغ لإنقاذ الولد الذي عرف بالطيبة. وفي عام 1865أغتيل أبراهام لنكولن محرر العبيد بطلق ناري في رأسه وهو وزوجته يحضران مسرحية، وفي عام 1940 اغتيل ليف تروتسكي في منفاه في المكسيك بضربة فأس على رأسه، ونستذكر أيضاً ليلة 3- 4 من نيسان عام 1939 حينما ترك المرحوم الملك غازي مقر إذاعته الملاصق لقصر الزهور متوجها إلى دار استراحته الخاص المسمى بقصر الحارثية بعد أن تسلم نداءً تلفونيا في ساعة متأخرة من تلك الليلة. وفي الطريق ارتطمت سيارته بأحد أعمدة الكهرباء فسقط العمود على رأسه مسببا وفاته بعد سبعين دقيقة من إصابته. وهنالك أكثر من رواية لتفاصيل وظروف الإصابة وتشكيك في سبب الوفاة. لكن من ناحية جراحة الدماغ فنحن نؤمن برواية واحدة اتفق عليها الأطباء وهي أن الإصابة سببت جرحا عميقا في مؤخرة رأسه مصحوبا بكسر الجمجمة وتمزق المخ وكان منذ اللحظة التي شوهد فيها فاقدا للوعي. إن هكذا اصابة تكون في الغالب مميتة ولكن لو كانت هناك جراحة دماغ لكان من المحتمل أن تكون النتيجة غير ذلك. يذكر التاريخ إصابات مهمة أخرى لا يتسع الوقت لذكرها. للحروب تأثيرها الكبير على جراحة الدماغ. كان للحروب النابليونية بين 1797 و1815 أكبر الأثر في تقدمها. بالطبع كانت الاستفادة المتبادلة بين المجتمع وجراحة الدماغ تتزايد بمرور الزمن وبتعدد الحروب وإلى وقت الحرب العالمية الأولى والثانية والحروب العديدة الأخرى في شتى أنحاء العالم حيث تراكمت الخبرة من كثرة الإصابات وكذلك تمكنت جراحة الدماغ المتطورة أن تعالج أنواعا كثيرة من الإصابات والتي لم تكن تعالج قبل ذلك الحين وتسبب الوفاة.
قال الرومان في الجراح أنه يجب أن يكون شابا أو قريبا من عمر الشباب ذا يد قوية ثابتة لا ترتجف، مستعدا لاستعمال الكف الأيسر كذلك، عند الحاجة له، ذا نظر سليم وحاد، وذا روح عالية مليئة بالتعاطف مما يسعده أن يشفي مريضه وفي نفس الوقت لا يتأثر بصراخ المريض مما يدعوه إلى الاستعجال في العملية وأن لا يكون جرحه صغيرا.
يقول السير وليام أوسلر بأن الجراح بصورة عامة يحتاج إلى صفتين مهمتين أساسيتين: وهما هدوء الطبع والاتزان. هدوء الطبع مع بقاء الذهن وقادا فاعلا تحت كل الظروف وهدوء عند صخب الأحداث وصفاء الذهن وحسن التصرف حتى في لحظات الخطر الشديدة عند العملية أو العلاج. أما الاتزان فقد استخدم لوصفها كلمة اكوانيميتص Aequanimitus . وهي التي تفوه بها انطونيوس بيوس عند احتضاره عام 161 التي عدّها أوسلر معبرة عن فلسفة الحياة، وهي الاتزان في الفكر والعواطف، فهي أساس النجاح التي يصعب الحصول عليها. يتحدث جراح الدماغ الشهير جوزيف مارون في أحد المؤتمرات العالمية حديثا يذكر فيه كثيراً من العبر. يحدثنا عن إسطورة يونانية تذكر إن الملك مينوص ملك كريت سجن ديدولوص Daedulus وابنه ايكاراص Icarus في سجن على قمة جبل في إحدى الجزر. وكان هذا سجنا دهليزيا لا يمكن الخروج منه أبدا. وكان السجن غير مسقف. فصنعا لهما أجنحة من ريش وثبتاها بالشمع. وطارا في الجو وهربا من السجن. ولكن قبيل طيرانهما أوصى الوالد ديدولوص ولده ايكاراص الشاب المتطلع الذي يشعر بالكمال، يا ولدي لا ترق في طيرانك إلى أعلى لأن الشمس ستذيب الشمع فتسقط في البحر. ولا تهبط إلى تحت كثيرا لأن رذاذ ماء البحر سيبلل ريشك فيصبح ثقيلا ولا يقوى على حملك فتهوي في البحر. واذ جاورتك الطيور في الجو فلا تغتر وتعتقد أنك قادر مثلها على الطيران وتنسى حدودك وضعف طيرانك وتحاول التشبه بها فلا تتمكن فتسقط هاويا في البحر. لكن بعد أن طارا وافترقا لم يلتزم الولد ولم يتبع نصيحة والده وانتشى بقدرته على السباحة في الفضاء مع الطيور وأخذه الغرور واعتقد أنه قادر على ما حذره أبوه منه فطار إلى أعلى معها فذاب شمعه وهوى في البحر. وكذا جراح الدماغ وغيره من الجراحين بل وفي كل مجالات الحياة. يعتقد حديث العهد بالاختصاص في بداية حياته أن نصائح المعلم التي لا يعي بُعدها الفلسفي البعيد في حينها هي قصور من المعلم أو مبالغة في الحذر. فترى بعضهم إذا ارتقى فضاء العمل يسبح عاليا وبدون ترو ويعتقد أنه يتمكن أن يماثل الذين هم أكثر خبرة وتجربة منه بسرعة ولا يعطي للزمن حقه فيهبط لا قدر الله ويسبب الاختلاطات والمشاكل الجراحية للمريض ولنفسه. ونحن نعلم بأن المشكلات عند الجراحة وبعدها يمكن أن تحدث لكل جراح مهما كانت خبرته . ولكنها تتفاوت بتفاوت الخبرة ومعرفة حدودها. ويقول روبرت سلكر Robert Selker إن الاختلاطات الجراحية هي الطريقة الربانية لإبقاء الجراح متواضعا. فنحن نحتاج إلى موازنة عقلانية دائمة بين بعد النظر والخبرة والكفاءة التقنية. يقال أن حسن التصرف يأتي من الخبرة وللأسف فإن كثيرا من الخبرة تأتي من سوء التصرف.
إن الروح المتوازنة في مهنتنا هي الشيء الوحيد الذي يجلب لنا النجاح، حيث أننا إذا نجحنا في حياتنا المهنية وسيطرنا عليها فأن احتمال النجاح في الحياة العامة يبدأ حينئذ. ولكن علينا مواجهة محاور مهمة أخرى في الحياة فضلا عن النجاح المهني. في كتاب “انا أتحداك“I DARE YOU لمؤلفه وليام دانفورث Danforth يرسم المؤلف شكلا رباعيا كل ضلع منه يرمز إلى أحد أركان الحياة لكل إنسان غارق في عمله كجراح الدماغ. وهذه الأضلاع هي: المهنة، الكفاءة البدنية، العائلة والعلاقات الاجتماعية، والقيم المقدسة. ولكل منها ضلع يتناسب طوله مع أهميته في حياة ذلك الشخص. فترى صورا متباينة من هذه الأشكال الرباعية. فإذا غرقنا في المهنة ومتطلباتها فإنها تطـغي على الأركان الثلاثة. وهي بمرور الزمن وتعاقب الليل والنهار ربما تسبب ضمورا وتلاشيا في هذه الأركان. وهذه تتحول إلى مأساة له أو مآس كثيرة في حياته العائلية. ويبالغ جوزيف مارون حيث يقول إن أولها تحويل زوجة جراح الدماغ مثلا إلى أرملة وهو على قيد الحياة. حيث أنها تعلم أن لها زوجا موجودا في مكان ما يقدم خدمة لإنسان ما ولكنها نادرا ما تراه رؤية الزوجة لرب الأسرة. والأطفال وببعد والدهم عنهم سيتعرضون إلى ضغوط نفسية كبيرة ومن المحتمل ان يكونوا معرضين للانحرافات الاجتماعية والتخلف الدراسي وخصوصا في المجتمع الغربي. وهذا لا ينطبق على مجتمعنا لأن الرابطة الروحية للعائلة مازالت متينة ومقدسة. والركن الثالث هو الكفاءة البدنية للجراح وهي ضرورية جدا لإدامة زخم العمل بل للحياة نفسها. إن مقولة العقل السليم في الجسم السليم لها أساس علمي أكيد. لذا يجب أن يكون طول هذا الضلع متكافئا كذلك مع طول ضلع المهنة والعائلة. أما الايمان بالمبادئ السامية والدينية والقيم الروحية فيشكل الركن الرابع للحياة المتوازنة فهو يحقق الراحة الحقيقية بلا شك لأنه يجعل ممارسة المهنة ومراقبة النفس وحب المريض في أعلى الدرجات الانسانية ويجعل الحياة ذات طعم لذيذ للجراح ولكل من حوله. والهدف في حياتنا كما يقول دانفورث أن يكون الشكل الرباعي لها شكلا منتظما لكل ركن فيه قيمته وأن لا يرقى ركن إلى أعلى من الثلاثة الاخرى بدرجة تزعزع الروح والعقل وتبعدها عن الاتزان في الفكر والعواطف. وهذا بالتأكيد ينطبق على كل انسان مهم في المجتمع يقدم الخدمات بصورة متميزة ودائمة وبتضحية للأخرين ولا يقتصر على جراح الدماغ فقط.
هنالك أشياء أو أحداث مهمة في الماضي غيرت الحاضر بدرجات بسيطة أو هائلة. فمثلا كان لمجاعة البطاطا في آيرلندا قبل ثلاثمئة سنة مساهمة كبيرة في خلق العالم الجديد ” أميركا” بهجرة الأيرلنديين الجماعية لها. وكذلك ساهم السكر والقهوة في خلق أفق جديد للعالم وهو الرقيق وتجارتهم وما نتج عنها من المتغيرات السياسية والاجتماعية. وكذلك فهناك أشخاص غيروا معالم كثيرة في تاريخ العالم. وفي كتاب حول أهم مئة شخصية غيرت تاريخ العالم كان نبينا نبي الرحمة (صلعم) على رأس القائمة. في الطب كان هناك عمالقة كثيرون والذين بقدراتهم الإبداعية وعبقرياتهم طوروا الطب. وكان كما ذكرنا سابقا في مقدمتهم أبقراط وجالينوس وابن سينا والرازي والزهراوي وغيرهم. وفي جراحة الدماغ لمع الكثيرون، و قدم جراحو الدماغ خدمات عامة جليلة إلى الطب واختصاص جراحة الدماغ وإلى مجتمعهم على مر العقود التي تلت ولادة هذا الاختصاص. ومن بينهم يقف السير فيكتور هورسلي شامخا بما قدمه للطب وللمجتمع. ولد هورسلي في لندن عام 1857 وتوفي في العمارة في جنوبي العراق سنة 1916 ودفن فيها. وفضلا عن كونه رائد جراحة الدماغ فإنه كان من أوائل من استخدموا المخدر الكلوروفورم بعد أن جربه على نفسه خمسين مرة. وهو الذي اكتشف نقص هورمون الغدة الدرقية، وساهم في إدخال علاج داء الكلب. وكذلك ساهم في ابتكار السوائل الملحية التي تعطى في الوريد، وغيرها من الأعمال الأصيلة في الطب وجراحة الدماغ. أما ما عمله للمجتمع فتأثيره ساد كل بقاع العالم فهو الذي أدخل نظام فحص طلاب المدارس الدوري في مدارسهم لاكتشاف نقص التغذية والأمراض وأمراض الأسنان. وكذلك أسس أول جمعية لمحاربة الكحول والتدخين. وكان من الدعاة المتحمسين جدا لحصول المرأة على حقوقها الانتخابية. من هؤلاء العمالقة هارفي كوشنك المولود عام 1869 والمتوفى في 1939. لقد غير هذا الجراح اختصاص جراحة الدماغ وأعطاه زخما مازلنا لحد الوقت الحاضر نعمل بهديه. فبالإضافة لإنجازاته العديدة الهائلة في ميدان الاختصاص فقد كان أول من استخدم التخدير الموضعي الذي تستعمله كل الاختصاصات الجراحية. وهو مكتشف مرض كوشنك في النخامى. وفي خارج الطب حاز على جائزة بوليتزر في الأدب سنة 1925 وهي أعلى جائزة أدبية تقدم في الولايات المتحدة. ولقد وصل جراحو الدماغ إلى جائزة نوبل حيث حصل عليها جراح الدماغ البرتغالي ايكاس مونيز Egas Moniz لاكتشافه القيمة العلاجية لقطع المادة البيضاء في الدماغ لعلاج بعض حالات الأمراض العقلية سنة 1949. وكذلك فهو الذي ابتكر تلوين الشرايين سنة 1927 الذي يستعمل الآن في الأمراض القلبية وأمراض الأوعية الدموية الأخرى. وللجراحة العصبية فضل آخر كبير على المجتمع حيث أن الخوذة التي يلبسها سائقو الدراجات النارية التي تقيهم من الموت أو الإعاقة قد ابتكرها جراح الدماغ هيو كيرنز في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.
هذا بشأن الإصابات أما ما يتعلق بأمراض الدماغ الاخرى التي تشمل الالتهابات والأورام وغيرها فحالها يشابه حال أمراض أعضاء الجسم الأخرى.
يذكر ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة أنه بينما كان أحد مكتشفي القطب الشمالي في جولة جلس يستريح من عناء التـنقل على الزحافة ووقف على بعد رجل الاسكيمو الذي كان يسحبه. فبادر العالم رجل الأسكيمو قائلا أنك غارق في التفكير، بم تفكر؟ فأجاب الأسكيمو: أنا لا أفكر هذا اليوم. ولم ذاك؟ استفسر العالم. فأجاب الأسكيمو: في بيتي لحم هذا اليوم فأنا لا أفكر. فطموحات الإنسان البدائي طموحات ممكنة التحقيق، وهي تجلب القناعة والسعادة بتحقيقها. وليس لجراحة الدماغ تأثير يذكر في حياته. ولكن بتطور الإنسان ومجتمعه تتشعب حاجياته وطموحاته ورغباته وأهدافه مما يصعب توفيرها وتحقيق الرضا والسعادة لذلك المجتمع. فهو في حركة دائمة دؤوب يحاول تحقيق ما حققه رجل الأسكيمو محدود الرغبة والطموح.
ومما تقدم نرى أن المجتمع لا يمكن أن يتكامل بدون جراحة الدماغ وكذلك لا يمكن لجراحة الدماغ أن تقوم لها قائمة إلا بوجود المجتمع، المجتمع الذي فيه استخدام أمـثل للعقل والتطوير حيث يجب أن يصاحبه شقاء، لأن ذا العقل يشقى كذلك بتعرضه للإصابة أو المرض. ويعمل جراح الدماغ على التخفيف من ذلك الشقاء. ولكن يستحيل عليه وعلى غيره أن يحقق ما تحقق لرجل الأسكيمو. والسلام عليكم.
رجل عظيم في أرض عظيمة: السير فيكتور هورسلي في أرض الرافدين 1996
محاضرة ألقيت في نقابة الأطباء في بغداد.
هنالك شخصيات عبر التاريخ كانت حياتهم مليئة بالإبداع وخدمة البشرية وساهموا مساهمة فاعلة في تقدم الحضارة الإنسانية في أغلب مجالات الحياة. وفي الطب هناك عمالقة منذ التاريخ القديم وعلى مر العصور أرسوا أسس المهنة وأخلاقياتها وتراكمت خبرتهم لنصل إلى ما نحن عليه. من هؤلاء الرواد السير فيكتور هورسلي واضع أسس الجراحة العصبية المولود في لندن عام 1857 والمتوفى في مدينة العمارة في العراق عام 1916. حقق الدكتور هورسلي للجراحة العصبية أن يكون اختصاصا رفيع المستوى وأرسى أسسا قويمة له بنى عليها الرواد من بعده ولوقتنا الحاضر.
فضلا عن مساهمته في الجراحة العصبية والبحوث الأصيلة التي شملت الغدة الدرقية، داء الكلب، وإصابات الجهاز العصبي وغيرها عمل كذلك لخدمة المجتمع الطبي شملت الدفاع عن حق الأطباء ورعاية الصحة العامة للمواطنين، وفي مجال الحقوق المدنية المطالبة بحق الانتخاب للنساء. كانت حياته حافلة بالإنجازات ولكنها انتهت مبكرة في العمارة عندما جاءها منتسبا للجيش في الحرب العالمية الأولى قادما من الهند. وبعد شهرين من وصوله توفي في تموز مصابا بضربة الشمس. دفن في العمارة حيث يشترك في المقبرة العسكرية البريطانية مع العديد من العسكريين البريطانيين. وهذه المقالة تبحث في مسيرة حياته وإنجازاته وعن مدفنه في مدينة العمارة.
من أقوال الفيلسوف والشاعر الالماني كوتيه “إنه من المستحيل فهم الحاضر بدون معرفة الماضي”. منذ القدم وحتى العصر القريب هنالك العديد من الحوادث التي غيرت مجرى التاريخ. في كتاب مايكل هارت (Michael H. Hart) بخصوص أهم مئة شخصية أثرت في التاريخ منذ 3000 عام قبل الميلاد كان هناك النبي الكريم محمد بن عبد الله (ص) على رأس القائمة. وكل من حوته القائمة كان قد وضع بصماته بدرجات متفاوتة على تاريخ البشرية. وفي صناعة الطب كان العديد من العمالقة الذين بإبداعاتهم وابتكاراتهم وضعوا أسس الطب منذ عهد حمورابي واضع القانون إلى أبقراط إلى ابن سينا والرازي والزهراوي وغيرهم.
في العصر القريب ممن أثروا في علم الطب والجراحة؛ كان البلجيكي المولد اندرياس فيزاليوص (Andreas Vesalius) مؤسس علم التشريح الحديث، الفرنسي أمبروز باريه (Ambroise Pare)رائد الجراحة في القرن السادس عشر، عالم الفسلجة كلود برنارد (Claude Bernard) في القرن التاسع عشر واكتشافه للسائل ما حول الخلية الثابت الصفات الفسلجية، واكتشافه وظيفة عصارة البنكرياس وغيرها، واللورد ليستر (Joseph Lister) وحامض الكاربوليك الذي بدأ التعقيم في الجراحة القرن التاسع عشر، وغيرهم العديد من الرواد الذين بفضلهم أخذ الطب وأخذت الجراحة الاتجاه الصحيح ووضعت بجهودهم اللبنات الثابتة لما نحن عليه الآن من التقدم في هذين المجالين وغيرهما.
أسهم في الجراحة العصبية العديد من الفطاحل بوضع أسس الاختصاص والتي تراكمت على مر السنين في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كان من الرواد الخالدين ريكمان كودليRickman) Godlee) من انكلترا، الأسكتلندي وليام ماكيوين (William Macewen) الذي أجرى أول عملية رفع ورم سحائي من الدماغ، وفرانسيسكو ديورانتي (Francisco Durante) في إيطاليا وغيرهم. وكان مكيوين قد قدم للطب ابتكارات خارج الاختصاص فهو الأول الذي فتح القفص الصدري بدون الضغط المخفض الذي كان يستخدمه فرديناند زاوربروك الألماني (Ferdinand Sauerbrouch) ، وكذلك كان ماكيوين أول من بزل الخراج من مفصل الركبة الملتهب بواسطة عظم فخذ الدجاجة بعد وضعه في الماء المغلي.
وبالرغم مما قدمه الأميركي الرائد العملاق هارفي كوشنك (Harvey Cushing) للجراحة العصبية الحاضرة، فإن من أرسى أسس الجراحة العصبية الحديثة كان البريطاني السير فيكتورهورسلي.
ولد فيكتور ألكساندر هادن هورسلي هو الإبن الثاني لعائلة مكونة من سبعة أطفال، في كنسنكتون في لندن في اليوم الرابع عشر من نيسان 1857. كان والداه مؤلفَين وموسيقييَن متميزيَن ويتحليان بقيم أخلاقية عالية. كان لهذه القيم التأثير الواضح على حياته وتصرفاته فيما بعد ومنها تجنبه التدخين والكحول.
منذ نعومة أظفاره لم يكن فيكتور طفلا سهل المراس ولم يكن نمطيا. بدأ تعليمه في مدرسة كرانبروك في لندن ومن ثم دخل كلية طب “الكلية الجامعة” الشهيرة في لندن عام 1874 وتخرج فيها وقد منح الميدالية الذهبية في الجراحة.
عند دراسته في كلية الطب كان متميزا بين أقرانه وكان يكنى بكنايات متعددة؛ مثل “الجرثومة The Germ ” لكثرة مكوثه في المختبر “الصقر The Voucher” لاهتمامه بتشريح من يموت من المرضى، “أرجيبالد المصيبArchibald right ” لموسوعية معلوماته.
تم تعيينه كطبيب مقيم ثم جراحا في المستشفى التابع للكلية الجامعة. كان مولعا بالبحث والتقصي ومن ذلك أنه كان يبحث عن تفاصيل تأثيرات التخدير بالكلوروفورم على المريض. وكان حقل التجارب الذي طبق عليه نموذجه البحثي؛ نفسه. فقد خدر نفسه بما لا يقل عن خمسين مرة في مشروع بحثي بطولي. فقد كان يأتي إلى غرفة استراحة الاطباء في المستشفى حيث يطلب من الأطباء المقيمين أن يسجلوا ملاحظاتهم الطبية عليه من بداية الاستنشاق وحتى فقدان الوعي بعد أن يستنشق الكلوروفورم وهو مسترخ على كرسي بمساند.
عيّن في عام 1884 أستاذا في معهد براون في جامعة لندن. وفي تلك الأيام كان قد أتم أبحاثه التأريخية بخصوص تأثير الغدة الدرقية والعلاج الوقائي لمرض داء الكلب وكذلك تحديد مناطق وظائف الدماغ. ففي الغدة الدرقية كان الأول الذي أثبت وبدون شك وظيفة وتأثير الغدة على وظائف الجسم. وتبعت هذه تجربته الرائدة باستئصال الغدة الدرقية من القرد وأثبت حدوث داء (الميكسيديما) قصور وظيفة الغدة الدرقية. كذلك غرس غدة درقية أخذت من خروف تحت الجلد كعلاج لكذا حالة. من ثم توجه إلى البحث في حقل داء الكلب الذي كان له التأثير الكبير على الحياة العامة في ذلك الوقت. وكان قد سافر إلى باريس ليستقي الخبرة من السيد الذي لا يجارى في الحقل؛ لويس باستير (Louis Pasteur)! حيث تعرف عن قرب على طبيعة المرض وأساليب الوقاية منه. بعد ذلك أصبح رئيساً لجمعية الوقاية من داء الكلب في المملكة المتحدة.
سلك في مجال تثبيت خارطة القشرة الدماغية ووظائفها العصبية طريق أستاذه السير إدوارد شاربي شافر Sir Sharpe Schaffer))، وجارلس بيفر(Charles Beaver)، السير فليكس سايمون (Felix Simon) وفرانسس كوث (Francis Couth) . قام بدراسة مختبرية على الحيوانات ومن ثم تحولت على الإنسان بناءً على مشاهداته عند العمليات الجراحية. وبمشاركة فرانس كوث وضع أول خارطة للتلف المختبري للمسالك في النخاع الشوكي.
وبالتعاون مع وودبردج بدأ باستعمال المحلول الملحي النورمال سيلاين الذي غيرّ علاج المرضى في حالات متعددة وعمل على إنقاذ حياتهم .
أنتخب هورسلي في عام 1886 كزميل للجمعية الملكية وهي أعلى مؤسسة علمية ثقافية في بريطانيا، وأستاذا لعلم الأمراض الباثولوجي. وفي نهاية ذلك العام تم كذلك تعيينه وهو في عمر التاسعة والعشرين كجراح في المستشفى الوطني للشلل والصرع في ساحة الملكة، كوين سكوير، في لندن. وهو أرقى معهد طبي ومستشفى متخصص بالأعصاب في حينه. وكان تعيينه هنا قد جلب له التفوق والشهرة في مجال الجراحة العصبية.
لم يكن هناك من يرشده ويوجهه في مجال الجراحة العصبية لذا فإن دليله الأساس في هذا المجال كانت التجارب التي أجراها على القرود في تحديد المواقع الأساسية للمناطق الوظيفية المهمة في الدماغ. وقبيل نهاية عام 1886 كان قد أجرى عشر عمليات فتح الجمجمة وقد تكللت بالنجاح تسعة منها. في عام 1887 قام باستئصال ورم النخاع الشوكي الذي شخصه اختصاصي الأمراض العصبية الشهير الدكتور وليام كاورز (William Gowers)، التي كانت أول عملية من نوعها في التاريخ.
قام بتثبيت الأسس التقنية لعملية فتح الفقرات، فتح الجمجمة وكذلك قطع العصب الخامس من داخل الأم القاسية. وفي المؤتمر الطبي العالمي في برلين عام 1890 قوبل تقديمه بشأن الجراحة العصبية بالترحيب والاهتمام. وكان التقييم لهذا الجراح المتخصص بالجهاز العصبي في ذلك المؤتمر ما عبّر عنه الأستاذ أوبنهايمر (Openhiemer): “إن هذا الجراح واختصاصي الجهاز العصبي المتميز والمحتفى به سيبقى الرائد في هذين المجالين وله أن يفخر بخبرته ونجاحه العظيمين”.
آمن إيمانا قاطعا بأن البحث المختبري من أساسيات المهنة لا سيما للجراحين. وأضاف لها ما قام به في عام 1893 من سلسلة من التجارب كان أهمها دراسة تأثير اصابات الطلق الناري على الدماغ. وقد أثبت في هذه التجارب إن الوفاة التي تحدث بسبب الشدة على الرأس مرتبطة بعجز وتوقف الجهاز التنفسي وليس توقف القلب. وكذلك تجارب وعمليات تطبيقية في حالات الاضطراب الحركي حيث صمم جهازا ثلاثي الأبعاد (Stereotactic) لإتلاف مناطق في القشرة الدماغية المعتلة.
وتتويجا لما قدمه للإنسانية وللإمبراطورية البريطانية فقد منحه الملك أدوارد السابع عام 1902 لقب فارس”سير”.
فضلا عما قدمه في المجال العملي التطبيقي في الجراحة العصبية فقد نشر العديد من البحوث النظرية والمقالات التي وثق بها خبرته السريرية المتراكمة.
يجد المتتبع في قاموس دورلاند وتحت اسم فكتور هورسلي: عملية هورسلي؛ وهي استئصال بقعة من القشرة الدماغية لعلاج حالات تشنجية في الأطراف العليا؛ تثقيب هورسلي وهو تثقيب الجمجمة و شمع هورسلي الخليط من الشمع والبترولاتم والفينول والذي أنقذ المرضى من فقدان الدم الغزير النابع من العظام والذي تصعب السيطرة عليه وإيقافه بأية طريقة أخرى.
كتب عنه احد طلبته: إذا كنا سنحكم على شموخ إنسان عن طريق ما حققه من سمعة متميزة وما قدم لكليات الطب داخل وخارج بلده فإن هناك قلة قليلة من الذين يمكن أن يصلوا إلى مستوى ما قدمه هورسلي، وليس هناك من تقدم عليه في هذا المجال.
أضف إلى ذلك فقد انغمس هورسلي في مرحلة شبابه في السياسة في مجال مهنة الطب. فقد كان رئيس اتحاد الدفاع عن الأطباء ومن يرتبط بمهنتهم وهو تجمع مهم استمر ليومنا هذا. وكذلك كان من قياديي الجمعية الطبية البريطانية.
دخل كمصلح اجتماعي مداخل عديدة فلقد كافح بشدة لتحقيق حق المرأة في الانتخاب. وفي عام 1907 قدم مشروعاً أقره مجلس العموم البريطاني ” بأن مبدأ رعاية الصحة العامة تعد جزءا من التعليم للمواطن”. وهذا يعني ضمن أمور عديدة بأنه يجب أن يزور مدارس الأطفال طبيب وطبيب أسنان لعدة مرات في السنة لفحص الطلبة. وهذا الإجراء يطبق الآن في اغلب بلدان العالم.
كانت له مساهمات مهمة في مجالات أخرى فلقد أخذ دورا قياديا في الحركة المضادة لشرب الكحول في المملكة المتحدة واشترك في تأليف كتاب “الكحول والجسم البشري” وكذلك قاد حملة وطنية ضد التدخين.
تطوع للعمل في الجيش في الحرب العالمية الأولى ومنح رتبة كولونيل، وأرسل إلى مصر عام 1915 ومن ثم إلى الهند. في التاسع من نيسان 1916 غادر بومباي ليصل إلى البصرة في السادس عشر منه. تم تعيينه في العمارة وعمل مع البروفسور كري ترنر (Grey Turner)والسير زاكاري كوب (Zachary Cope) . تقع مدينة العمارة بالقرب من الأهوار في جنوبي العراق. فيما ينفلق نهر دجلة الى فرعين يحتضنان المدينة حيث تتكون العديد من الجزر. وفي الجنوب يتحدان ببعضهما ليعود دجلة نهرا واحدا. وبعد ذلك يلتقي بنهر الفرات في القرنة ليتكون شط العرب.
حينما كان في العمارة بوصفه طبيبا وجب عليه التنقل بين مراكز تواجد القطعات العسكرية راكبا الفرس او ماشيا تحت الشمس المحرقة مباشرة لمعالجة مرضاه ما سبب له أن يتعرض لحرارتها في عز الصيف في شهر تموز .
كان السير فيكتور يعمل في يوم 14 تموز عام 1916 حينما كانت الحرارة قد وصلت في الظل إلى 43.3 درجة مئوي وكانت آخر عيادة له زيارة ضابط عليل كانت تربطه به صداقة شخصية. في 15 تموز بدأت عليه علامات المرض ونقل إلى المستشفى العام البريطاني. وفي اليوم التالي، 16 تموز، أي بعد شهرين فقط من وصوله العمارة ارتفعت حرارته سريعا إلى درجة غير طبيعية وفقد وعيه ولم ينفع معه العلاج فتوفي في مساء تلك الليلة بالسكتة الحرارية. وكان قد بلغ التاسعة والخمسين من عمره.
تم دفنه في مدينة العمارة في مقبرة الجيش البريطاني ووضعت على قبره بضع من سعفات نخلة!
حينما يدخل الزائر إلى مدينة العمارة من جهة الشمال ويعبر على جسر الكحلاء سيواجه المقبرة التي يرقد فيها السير فيكتور مع المئات من الضباط والجنود البريطانيين. ومن الواضح أن مقتربات الجسر الذي يربط جهتي النهر ينحني نحو اليمين ليتفادى اختراق المقبرة.
خسرت البشرية بوفاته طبيباً علما ً وعالماً ومصلحا ً اجتماعياً، وخسرت الجراحة العصبية مؤسسها الذي لو بقي على قيد الحياة لساهم بمساهمات أخرى تضفي على الاختصاص مجالات جديدة تنهض مبكرا به.
كانت حياته غنية بالمنجزات ومكرسة للعلم والواجب. ففي كل صوب ومجال دخل فيه أصبح قائدا في الفكر والتطبيق. بالرغم من أن وفاته كانت فاجعة وخسارة ولكنها جاءت بعد أن أتم الكثير مما كان يصبو إليه من تحقيق بناء أسس الجراحة العصبية علميا ومهنيا.
قال زميل طبيب عنه: “لا يوجد شخص في المهنة أبداً مثل هورسلي ممن حقق سجلاً مزدوجاً لا يجارى في الفسلجة والجراحة”. وقال أحد طلبته الذي أصبح بعدئذ زميلاً له:” إذا أردنا أن نحكم على شخص عن طريق تميزه والسمعة الفريدة لما حققه في داخل البلد وعلى مستوى العالم في الطب والتعليم الطبي هناك قلائل فقط ممن بلغوا مستوى السير فيكتور ولكن ليس هناك من تجاوزه على مستوى العالم”. قال أحد المعزين: “توفي هورسلي وهو مليء بخطط للمستقبل، ولكن بماض مليء بالإنجازات العظيمة”
وأقول: كما أبدع الرسام الخالد سلفادور دالي (Salvador Dali) في لوحته المشهورة حيث حلم بأن يقام “معبد” للرسام فرانسيسكو زوربوران (Francisco Zurbaran) كي يقدم فيه الزوار احترامهم له، أعتقد أن من الواجب أن يقدم الأطباء والعلماء والمصلحين الاجتماعيين تقديرهم واحترامهم لهورسلي عرفاناً بعظمته وتفانيه.