طالب في كلية الطب جامعة بغداد

تمهيد:

بدأت مسيرة الطبّ التي كنت أحلم بها وأستعد لها منذ أيام الطفولة والتي تحملت الكثير في سبيلها وتجاوزت إحباطات عديدة لتحقيقها.

أصبت في نهاية الصف الأول في الكلية بإحباط (ثالث) بعد الإحباطين السابقين، في الدراسة المتوسطة والقبول في كلية الطب. حدث ذلك الإحباط في نهاية السنة الأولى حينما فشلت في مادة الأحياء العامة في الامتحان النهائي ثم اجتزته بعد ذلك في امتحان الدور الثاني ذلك العام.

بدأت أتقدم بمرور السنين حينما أصبحت الدراسة تدخل في المجال الطبي “الحقيقي” الذي كنت أحلم به. أصبحت من المتفوقين  في كل مراحل الدراسة وفي نهاية المطاف كنت الخريج الأول في الكلّية في العام الدراسي 1965/1966.

قبيل تخرجي في كلّية الطبّ بأربعة أشهر كنت قد اجتزت الامتحان الأمريكي. وبذا فقد أصبحت “طبيباً” في المقياس الأمريكي قبل أن أكون طبيباً متخرجاً في كلية طبّ بغداد. 

وما أفخر به في مسيرتي الطبية تصريح الأستاذ خالد القصاب في برنامج سيرة وذكريات الذي كانت تقدمه في تلفزيون بغداد السيدة ابتسام عبد الله حيث صرح بأني كنت “أفضل طبيب تخرج على يديه”. وفي المملكة المتحدة ذكر أستاذي مايلز كيبسون ومستشار جراحة الدماغ للجيش البريطاني في كتاب أرسله لإدارة المستشفى بأنني كنت “أفضل طبيب عمل معه في المستشفى الجامعي في ليدز في غضون الخمس عشرة سنة الماضية”.

درس للشباب: وهنا أقول إن ما كان لديّ من الإصرار على الوصول إلى الهدف وتجاوز الصعوبات والإحباطات التي جابهتني يمكن أن يكون مثلاُ متواضعاًّ يبعث الثقة في نفوس شبابنا كي لا تمنعهم العراقيل التي تواجههم  من تحقيق أهدافهم.

تاريخ كلّية الطبّ:                                                                                                                        

لا أعتقد أن هناك ما يمكنني أن أضيفه إلى تفاصيل تاريخ الكلّية الطبّية العراقية، كلّية طبّ جامعة بغداد، منذ استحداثها في العام 1927 حيث أن العديد من أساتذتنا وزملائنا والمؤرخين قد طرقوا هذا الباب ونشروا جلّ ما يحتاجه المتتبع من معلومات.

الأستاذ صائب شوكت:

أقامت كلية الطب احتفالا كبيراً بمناسبة عيد اليوبيل الذهبي لتأسيس الكلّية في عام 1977. شرّف الاحتفال أحد المؤسسين لتلك الكلية العريقة وهو الأستاذ الدكتور صائب شوكت الذي تفضل وألقى كلمة بعنوان “هكذا كانت البداية” أقتطف منها:

“أحمد الله وأشكره أن أمد في عمري لأحتفل وإياكم بمرور خمسين عاما على تأسيس هذا الصرح الشامخ الذي أراه أمامي وقد عارك الزمن فعركه ليمتلئ قلبي فخرا واعتزازا ويمتلئ رأسي بذكريات التخطيط والتدبير لإبرازه طفلا يحبو أمام ناظري يكبر ويكبر وأراه اليوم زاهيا متربعا على قمة كليات الطب في المنطقة. فلا يسعني إلا أن أحمده وأشكره وأسأله تعالى أن يسبغ نعمه على هذه الأمة الكريمة…”.

الاستاذ الدكتور صائب شوكت (1898 – 1984)

وانتهى بالقول: “هكذا كانت البداية وإني إذ أتطلع إليها اليوم كبنايات ومختبرات ومستشفى وملاك تدريسي وملاك طلابي أزداد فخرا واعتزازا وكبرياءً بأن تلك النواة الصغيرة التي كان لي شرف الاشتراك في بذرها وسقيها ورعايتها أمست شجرة وافرة ظلالها طيب ثمرها”.

بداية ونهاية كلمة المرحوم الأستاذ صائب شوكت في احتفالية اليوبيل الذهبي لتأسيس الكلّية في عام 1977.

تميُّز الكلية:

تتميز كلّية الطبّ بين الكلّيات الأخرى لكونها أنشئت على أسس قويمة وعلى أكتاف اختصاصيين مرموقين من العراقيين والبريطانيين. وهي الكلّية الثانية العريقة في العراق إذ سبقتها كلّية الحقوق التي كانت قد استحدثت في العام 1908. أصبحت الكلّية الطبّية في العقود االلاحقة لإنشائها من أفضل الكلّيات الطبّية في المنطقة تنافس كلية طب القصر العيني في مصر والتي أسست كمدرسة للطب عام 1827، وكذلك كلية طب الجامعة الأمريكية في بيروت التي أسست عام 1885.

كان الأساتذة العراقيون والعديد من أساتذة الكلية الأجانب وغالبيتهم من البريطانيين من خيرة المتخصّصين في جيلهم. لذا كان خريجو كلّية طبّ بغداد من الأطباء المتميزين في أي مكان قصدوه في العالم.

كان بعض هؤلاء الأساتذة الأجانب معروف على مستوى العالم. أذكر مثلاً الكتاب الشهير بعنوان “المرافق للدراسات الجراحية” (A Companion in Surgical Studies) تأليف الجراح البريطاني المعروف إيان أيرد (Ian Aird) الذي كان جراح القائد مونتكمري في معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية. وهذا الكتاب غريب في تأليفه حيث من المتعارف عليه أن الكتب الجراحية تكون مليئة بالصور التوضيحية لتسهيل الاستيعاب. ولكن هذا الكتاب كان يخلو من الصور تماماً ما عدا صورة توضيحية واحدة هي لعملية شقّ الشفة الولادي من ابتكار الأستاذ واردل (Wardell) والذي كان أستاذ الجراحة في كلّية طبّ بغداد.

كذلك كان من الأساتذة المتميزين الآخرين الأستاذ دونالد دوكلص (Donald Douglas)  أحد أساتذة الجراحة في الكلية في بداية الأربعينيات. غادر العراق في 1945 عائداً إلى جامعة سانت أندروز في أسكتلندا ومن ثمّ أستاذ الجراحة في جامعة دندي (أسكتلندا). تدرج حتّى أصبح رئيسا لكلّية الجراحين الملكية البريطانية في أدنبرة. منحته بعد ذلك ملكة بريطانيا لقب فارس (Sir). التقيته عند تدريبي على الجراحة في فترة الإقامة الطبية في دندي  في بداية السبعينيات وسنحت لي فرص التحدث معه عن العراق وذكرياته عن أيامه الخوالي. شارك في التدريس كذلك أساتذة أجانب آخرون كل واحد منهم كان اسم علم في اختصاصه.

بناية الكلّية:

حينما تتوجه من الباب المعظم باتجاه نهر دجلة تشاهد عن يسارك قاعة الشعب (قاعة الملك فيصل سابقاً) ومن بعدها بهو الأمانة ومن خلفهما وزارة الدفاع التي تمتد في جانبها المقابل إلى ساحة الميدان. وعلى اليمين تقع الجدران الخلفية لسجن بغداد المركزي وسجن النساء (حيث أقيمت بمحلهما بناية وزارة الصحة).  عند بهو الأمانة تتجه نحو اليمين باتجاه بناية كلّية الطبّ تشاهد عن يمينك بناية كلّية الصيدلة وبعدها عيادة الصحة النفسية ومن ثم المعهد الباثولوجي وعلى اليسار معهد الأشعة.

تقابلك عند نهاية ذلك الشارع الفرعي بناية الكلّية الطبية وعن يسارك تشاهد مكتبة الكلّية. إذا اتجهت إلى اليمين يصبح  المعهد الباثولوجي وبعده المعهد البكتريولوجي والمصولات على يمينك. وباستمرارك إلى الخارج تصبح في الشارع الخلفي حيث يقع عن يمينك معهد الطبّ العدلي.

يقع بجانب معهد الطبّ العدلي سجن النساء الملاصق لسجن بغداد المركزي ومقبرة باب المعظم.

 الشئ بالشئ يذكر:ألف الاديب الاستاذ جعفر الخليلي كتابا فريدا كانت مادته مقابلات مع العديد من المساجين في سجن بغداد المركزي حيث سجل بكل دقة وتفصيل حياتهم وماارتكبوه من جرائم. كان ذلك عندما سمح له بدخول السجن واللقاء بهم والتحدث اليهم. أعطى المؤلف عنوانا لذلك الكتاب: “كنت معهم في السجن” فظهر كتابا شيقا وكذلك لم يخل من دروس وعبر.     .

واجهة كتاب كنت معهم في السجن لجعفر الخليلي (1956) 

ينتهي ذلك الشارع الفرعي عند شارع الإمام المعظم مقابل مقر وزارة الخارجية. تجاور الوزارة مستشفى حماية الأطفال.

مدخل سجن بغداد                            وزارة الخارجية في الباب المعظم
مدخل كلية الصيدلة بجوار عيادة الصحة النفسية
مخطط تقريبي لمنطقة الكلّية الطبّية وما يجاورها

عمداء الكلية أثناء سنوات دراستي:

أحمد عزت القيسي: 1960 – 1961

سلمان فائق: 1962- 1963

عبد اللطيف البدري: 1963- 1965

احمد صميم الصفار: 1965- 1966

داود سلمان علي: 1966

بداية (الدوام) في الكلّية:      

باشرنا الدراسة في الشهر التاسع من العام 1960 وكان عددنا يقارب المائتين والخمسين طالباً. جئنا من كلّ أطراف العراق من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ومن ثقافات متعددة من المدينة والقرية والبادية. كان هناك من بيننا من الطلبة من لم يزر بغداد إلا مرات قليلة في حياته!

انتقلت من الحياة البسيطة والمحدودة في الثانوية والمقتصرة على الذكور من الطلبة إلى رحاب الحياة الجامعية المختلطة، خصوصاً مجتمع كلّية الطب. كان ذلك بمثابة قفزة تغيير كبيرة في الحياة. حاولت التواصل في البداية مع العدد القليل من الطلبة الذين زاملتهم في مدرسة ثانوية النجف لعدم معرفتي بعد بأي من الزملاء الآخرين في الصف. ولكن بعد حفلة التعارف التي أقيمت في بدء الدراسة توثقت علاقتي مع الزملاء الآخرين.

صورة مع زملائي في الصف الأول في حديقة الكلّية التي أصبحت لاحقاً النادي الجديد

الجلوس الولد الرائع بائع العلك، إلى يسار الصورة جمعة غنطوس وهو من الرمادي والثلاثة الآخرون زملائي من ثانوية النجف. يجلس عن يساري صباح العزاوي (ترك الطب إلى الهندسة وأصبح كبير مهندسي أمانة العاصمة)، والوقوف إلى اليسار حسون التركي وعن يمين الصورة عبد علي مهدي (اختصاصي العلاج السرطاني لاحقاً)

الجدير بالذكر أن عدد الطالبات في مرحلتنا كان يزيد على ثلث المجموع. من بينهن كانت طالبتان فقط ترتديان العباءة ولكن عند وصولهن إلى مدخل الكلية تخلعانها بحيث لا يلاحظ ذلك أي من الطلبة. كانت إحداهن من الكاظمية (سميرة) والأخرى من الديوانية (ناجحة).

حفلة التعارف:                                                                                                               

اعتادت الكلية أن تقيم حفلة تعارف على شرف طلبة الصف الأول الجدد ويدعى لها الأساتذة وطلبة المراحل الخمسة الأخرى في الكلية. وفي سنتنا ولكثرة عددنا، قسّم المجموع على ثلاث أمسيات تكررت فيها نفس العروض.

نظم الحفل سنة دخولنا 1960 اتحاد الطلبة (اليساري) وكان حفلاً مميزاً يجمع بين الاستعراض الفني والمسرحيات الضاحكة وبعض اللقطات الطريفة التي يحاكي فيها الطلاب حركات وطريقة حديث وتعابير الأساتذة وأمام أولئك الأساتذة. يجلس حول كلّ طاولة خليط من طلبة الصفوف الأخرى وأحياناً بعض الأساتذة. شاركنا على طاولتنا هشام الدوري وعصام مكي خماس (الجراحيَن المعروفين) من الصف الرابع ومحمّد جواد الحلي (اختصاصي العيون والشاعر) من الصف الخامس وزميل آخر لا يحضرني اسمه الكريم ولكن أعرف أنه أصبح اختصاصيا في طب المسنين في بريطانيا، وكان معي زميلي في الصف الأول حيدر عنبر. 

حفل التعارف في الصف الأول 1960 وحول طاولتنا من اليمين هشام الدوري وعن يميني حيدر عنبر ثم زميل كريم لا يحضرني اسمه وعصام مكي خماس وعن يمينه محمّد جواد الحلي
في حفلة التعرف يشاهد الأستاذ فرحان باقر مع بعض الطلبة ومجموعتنا في الخلف
في احتفال السنة التالية يظهر فيه الزميل فيصل ليلو العامري (المغمض العينين) وعلى يمينه سرمد الفهد في الصف الاول
في حفل تعارف السنة التالية ويظهرعلى يساري الزميل صالح التميمي

عرض مسرحي مضحك: من العروض الجميلة كان العرض الذي شاركت فيه زميلتنا في الصف الأول فتوح الجلبي مع زميل في صف متقدم. كانت اللقطة تعبر عن تشابك برنامجين مختلفين في إذاعتين أحدهما الذي كانت تقدّمه فتوح وهي تفاصيل عمل وجبة شهية والآخر ينقل مباراة كرة القدم. أخذ “المذيع” ينقل تفاصيل المباراة وإذا به يتفاعل مع اللاعب القريب من الهدف حيث قال وبصوت عالٍ أن اللاعب ضرب الكرة وهنا اشتركت إذاعة فتوح بقولها: بأن وضعتها في القدر وكانت امتداداً لجملة كانت تذكر فيها أنها تضع الطماطم في القدر. وهكذا تعددت المفارقات بين الطبخ ولعبة كرة القدم والجميع غارق في الضحك من العرض الجميل.

أقيم في السنة التالية حفل مشابه ولكن ذلك لم يتجدد بعد ذلك بسبب الظروف السياسية التي فرقت بين الإخوة وشتت الطاقات وتزايد ذلك الفراق بين العقل والعاطفة وهو الذي أوصلنا إلى حالة عانى منها الجميع ودفع ثمنها الوطن.

المكتبة:

كانت المكتبة محج الجميع وعامرة في كلّ الأوقات خصوصاً عند موسم الامتحانات. صممت  المكتبة  بطراز “فيكتوري” الطابع بسقف عال وباب خشبي كبير وأثاث بريطاني التصميم متواضع.

ضمّت المكتبة قاعة كبيرة نصبت فيها مناضد تسع لعدد كبير من الكراسي. يتسابق في أوقات الازدحام الرواد من الطلبة على الكرسي الذي يغادره صاحبه حتّى لقضاء حاجته على عجالة. فتدفع كتبه جانباً ليحتل مكانه زميل آخر إلا إذا دافع عنه زميل ذو سطوة يجلس بجنبه.

تضم المكتبة كلّ ما كنا نحتاج اليه من المصادر كتباً كانت أو مجلات طبّية متنوعة. خصص للأساتذة غرفة خاصة مؤثثة بتأثيث مريح. كانت مديرة المكتبة الست الفاضلة ميسون النائب وقبلها السيد عبد نيسان. أما موظفو المكتبة فهم: السيد وديع والسيد طه والسيد كاظم حسون والفرّاش السيد عباس.

كنت والعديد من الزملاء من “عُبّاد” المكتبة خصوصاً في أوقات الامتحانات. كنا نجمع بعض النقود فيما بيننا للسيد عباس الفراش ليبقي المكتبة مفتوحة حتّى منتصف الليل. حينما يأخذ الإجهاد في المطالعة مأخذه مني وأنا جالس كنت أضع رأسي بين يديَّ المستندتين على المنضدة والكتاب مفتوح أمامي حيث يبدو إني مستغرق في القراءة ولكني في الواقع كنت أستغرق في النوم وأنا على هذه الجلسة. وأحيانا أستيقظ على هزّة جسمي من الذي في جنبي ليوقظني كي أقطع صوت شخيري الذي تجاوز من هم على مقربة منّي! 

المكتبة الجديدة: لضيق مساحة المكتبة بعد تزايد عدد الطلبة تقرر تشييد مكتبة جديدة بجنب القديمة وصرفت عليها أموال طائلة وكانت مصمّمة بحيث تكمّل المكتبة القديمة ولها سلم كونكريتي حلزوني. ولكن هذه المكتبة كانت تفتقر للنكهة الجميلة التراثية التي كانت تفوح من المكتبة القديمة وكذلك كانت تفتقر لوسائل التدفئة والتبريد المحكمتين لذا قل روادها بمرور الزمن.

قاعات المحاضرات:

حوت الكلية ثلاث قاعات للمحاضرات يتناوب المحاضرون لإلقاء محاضراتهم فيها. الأولى كانت داخل بناية الكلّية القديمة حيث تقع غرفة العميد في نهاية الممر الأيمن. أما القاعة الثانية فهي قاعة الفيزياء وتقع في الطبقة العليا من بناية الفيزياء المجاورة لمختبر الفيزياء. والثالثة في مدخل بناية التشريح التي تجاور قسم ومختبر التشريح والتي تسع لأكثر من 200 طالب بمصاطبها الطويلة على جانبي الممر الوسطي. لم يكن هناك ميكروفون في القاعات والاعتماد كان على صوت الأستاذ الجهوري وهدوء القاعة.    

المحاضرات:

كانت المحاضرات تلقى علينا في الصف الأول في قاعة الفيزياء وتقع في الطبقة العليا من بناية العلوم الأساسية. أما في الصف الثاني فكانت في بناية العمادة وفي الصف الثالث حوّلت محاضراتنا إلى قاعة التشريح في بناية قسمي التشريح والفسلجة. وفي الصفوف المتقدمة توزعت المحاضرات ما بين تلك القاعات. اعتُمدت اللغة الإنكليزية في كل المحاضرات ما عدا مادة الطب العدلي في الصف الرابع فكانت تدرس باللغة العربية.

لاقى العديد من الطلبة في الصف الأول صعوبة في متابعة المحاضر واستيعاب مضمون محاضرته. تفوق علينا في هذه المرحلة طلبة كلّية بغداد الثانوية (مدرسة أمريكية) حيث إن دراستهم كانت باللغة الإنكليزية. وبمرور الوقت تضاءل الفرق بيننا وبينهم في الاستيعاب لأن المحاضرات أصبحت في الصفوف المتقدمة فنية علمية ومتكررة التعابير.

 كان الأساتذة يلقون محاضراتهم تلقائياً إلا في بعض الأحيان حين كان الأستاذ يجلب معه أوراقاً يتطلع إليها عند الإلقاء. اعتمد الأساتذة في الأساس على السبورة السوداء والطباشير الأبيض ما عدا الحالات التي تتطلب توضيحا دقيقا في مادة التشريح مثلاً فيستخدم الطباشير الملون. لم تستخدم أية وسيلة إيضاح سوى العارضة فوق الرأس (Overhead Projector) ثم تطورت إلى عارضة السلايدات. 

لندرة وسائل الإيضاح اعتمد بعض الأساتذة أساليب مختلفة  في إيصال المعلومة وتوضيحها.  فمثلاً كانت الصدرية البيضاء للأستاذ حنا زكريا الوسيلة الأساسية حين يطوي حافتها لشرح بعض التفاصيل في مادة البايولوجي في الصف الأول. أما في الصفين الثاني والثالث فكان المنديل الأبيض لأستاذ التشريح هينس البريطاني وسيلة الإيضاح الوحيدة لتوضيح تطورات نمو الجنين. 

كتابة المحاضرات:

لم يكن شائعاً في ذلك الزمن استخدام القلم ذا الحبر الجاف فكانت المحاضرة تكتب بأقلام الحبر. نملأ القلم بالحبر يومياً كي يكفي لكلّ المحاضرات. نكتب المحاضرات على ورق مثقوب الجانب ليحفظ في فايل. ولم نكن نستعمل الدفتر النظامي لأننا وعند الفرصة بين أو بعد المحاضرات كنا نجتمع بمجاميع صغيرة كي يساعد أحدنا الآخر بإكمال أو تصحيح ما كتبناه من المحاضرة ويكون الجميع قد حصل على المحاضرة كاملة. كنت من الطلبة الذين يكتبون المحاضرة كاملة وأساعد زملائي في إكمال ما نقص من محاضراتهم. تعودت أن أكتب المحاضرة على وجه واحد من الورقة وأترك الوجه الآخر فارغاً لأكتب فيه تلخيص ما أقرأه من الكتب الخارجية المتعلقة بذلك الموضوع كي أضيفه إلى مادة المحاضرة المكتوبة.  

جلسة في النادي لإعادة النظر في مادة المحاضرة
عن يميني علوان زيني وعن يساري نزار عزو وصباح ميخائيل

نادي الكلّية القديم والجديد:

يقع النادي بين الباب المؤدي إلى كلّية طبّ الأسنان وبناية الفيزياء ويواجه بابه الأمامي تلك الحديقة ويرتفع عنها النادي بسلالم قليلة. اشتهر النادي بمطعمه وتقديمه أكلة “المقلوبة” والتي تحوي الباذنجان المقلي واللحم واللوز والرز. تتعطر تلك الأكلة برائحة تفتح الشهية حتّى عن بعد.

صورة يظهر في اسفلها جزء من الحديقة التي صارت لاحقاً النادي الجديد

أصبح النادي القديم لا يستوعب العدد المتزايد للطلبة الجدد، لذا قرر مجلس الكلّية أن تُحول الحديقة الغناء في مدخل الكلية بجانب بناية العمادة إلى نادٍ جديد للطلبة. وهكذا كان حيث بوشر بالحفر  ووضع الأسس وشيدت الجدران وتم البناء وافتتح النادي بعد تأثيثه بما يليق وبدأ المطعم بتقديم صحن المقلوبة ثانية وغيرها من الأكلات.

كان الطالب “المزمن” ضياء الدخيلي! من رواد النادي الدائمين. دخل الكلّية عام 1938 ولكنه، ولسبب لم نعرف حقيقته، فصل من الكلية عندما كان في السنة الثانية. فشلت كل المحاولات لإعادته للدراسة بالرغم من توسط العديد من المسؤولين في خارج الكلّية. بقي يرتاد الكلّية وهو مصاب بتغير في شخصيته فكان يحضر المحاضرات التي يلقيها الأساتذة الزائرون الأجانب لينهض من نهاية القاعة ويناقشهم بطريقة مجّة تثير رفض المحاضر والجلوس. كان يأتي كلّ صباح إلى الكلية ولا يتركها إلا بعد ساعات يقضيها في النادي. بالرغم من حالته النفسية القلقة فقد كانت له ملكة شعرية فريدة في نظم الشعر وكانت  قصائده في غالبها غزلية المقصد أحفظ منها بعض الأبيات!

القسم الداخلي ودار الطلبة:

وفرت الدولة أقساماً داخلية للطلبة في كلّ كلّيات جامعة بغداد. فكان هناك دار الطلبة في الباب المعظم للكلّيات المجاورة مثل كلية الهندسة وغيرها.

دار الطلبة في الباب المعظم

أما كلّية الطبّ فقد وفرت العمادة لطلبتها الوافدين من خارج بغداد بيوتاً في منطقة العيواضية المجاورة للكلّية. كانت غالبية تلك البيوت تراثية تمثل الطراز القديم في التصميم والديكورات الداخلية والخارجية وبسقوف عالية وغرف واسعة. كان في كلّ غرفة ثلاثة طلاب أو أكثر أو أقل بحسب سعة الغرفة. البيت الذي سكنت فيه كانت فيه أربع غرف سكن في كلّ منها ثلاثة طلاب. سكنت في السنة الأولى في غرفة مع الزميلين سلمان الكواك من المسيب ونزار الشابندر من الحي. ولتناول وجبات الطعام المجانية كنا نذهب إلى بناية دار الطلبة عندما يتوفر لنا الوقت وإلا فتناول الوجبات يكون غالبا في مطعم الكلّية.

مجموعة من طلبة الأقسام الداخلية. الوقوف من اليسار: فاضل الشوك، رياض رمو، سلمان الكواك، وعن يميني عبد علي مهدي وطلال يوسف، الجلوس: من اليمين عبد الإله الصراف، غالب عبد الوهاب، زهير مجيد، أمير حسن، سمير متي ونزار الشابندر
مع طلبة القسم الداخلي في بناية دار الطلبة من اليمين: طيف عبد الكريم، ادور ستراك(طبّ الأسنان )، وعلى يميني رياض رمو ونزار الشابندر 1962

مطعم أهلي خاص للطلبة:

من الطريف أن أحد الشباب الذي كان قد عاد من خارج العراق بعد أن بقي عدة سنين هناك ولم يوفق في دراسته فتح مطعما أسماه “مطعم الجامعة” في ساحة الميدان خصصه للطلبة. وأعطى لكلّ طالب دفتر تذاكر تشبه تذاكر مصلحة نقل الركاب وتؤخذ تذكرة من الدفتر مقابل وجبة تأكلها بدون أن تدفع النقود. وفي نهاية الشهر تدفع ما سجل عليك طوال الشهر.  استمر ذلك العمل النبيل لعدة أشهر ولكن المسكين أعلن إفلاسه وأغلق المطعم بعد سنة تقريباً.

نادي الإخاء التركماني ونادي المحامين:

تمتعنا كثيراً بوجود هذين الناديين بالقرب من الكلّية. عند ساعات الدراسة المتأخرة في الليل كان الجوع يضطرنا للبحث عن طعام لالتهامه والعودة إلى المكتبة فكنا نتوجه لأحد هذين الناديين. يشغل النادي التركماني داراً واسعة في حيَ “العيواضية” وفيها حديقة واسعة غنّاء. كانت إدارة النادي برئاسة الدكتور المعروف مردان علي.

أما نادي المحامين فكان ذا أبهة وفيه قاعات واسعة بالإضافة للحديقة الغناء. لم يكن أي من الناديين محلاً للطرب واللهو بل كانا ناديين اجتماعيين للأعضاء لقضاء وقت مع عوائلهم في ليالي بغداد الجميلة.

بالرغم من أن الناديين مخصّصان للأعضاء فقط إلا إن الإدارتين سمحتا لطلبة كلّية الطب وطب الأسنان والصيدلة في الدخول مع رعاية خاصة.

كنا نذهب بمجاميع صغيرة لأحد هذين الناديين ويستقبلنا المسؤولون بكلّ رحابة وننتشي بالجلسة الجميلة الهادئة في الحدائق ذات الكراسي المريحة والمصاطب المتأرجحة والأكل الشهي والخدمة الممتازة.

“الفشافيش” في ساحة النصر:

بعد عناء الدراسة لساعات متأخرة من الليل في مكتبة الكلية كنا نذهب أحياناً إلى ساحة النصر في شارع السعدون حيث كانت الساحة مفتوحة وخالية من أية بناية وتستخدم كساحة وقوف للسيارات. يتوسط الساحة محل لبيع الفشافيش  (والفشافيش هي قطع صغيرة من كبد الخروف وقلبه وكليته تشوى على الفحم). كنًا نستمتع بالدخان المنبثق من الفحم المشتعل والرائحة الزكية التي تملأ الأنف حين تشوى الفشافيش ومن ثمّ تعبأ في داخل الصمّون (الخبز) الحار ونلتهمها لهماً.

الفشافيش والمهفة

في تلك الأجواء الجميلة والهدوء في الليل تنفتح شهيتنا بحيث كان أحدنا يتجاوز أكل العشرين وحتّى يصل أحياناً إلى الثلاثين شيشاً من الفشافيش مع صمونتين أو ثلاث!! بعدها نجلس على التنكات (حيث لا توجد كراسي) المرصوفة على شكلّ دائرة حول بائع الشاي القريب منه لنحتسي الشاي الذي يسهّل الهضم! بعد تلك الوجبة اللذيذة المشبعة.

التنكة وهي مقلوبة

 نعود بعد ذلك إلى المكتبة لمتابعة المطالعة لنبقى فيها إلى منتصف الليل. وما سهّل علينا البقاء إلى تلك الساعة هو كوننا نسكن في الأقسام الداخلية القريبة جداً من الكلّية.

مطعم عمو الياس:

يقع مطعم عمو الياس في منطقة المربعة على شارع الرشيد. تميز المطعم بتقديم وجبات الدجاج المشوي مع أنواع الطبخ البغدادي مقروناً بالخدمة الجيدة. تؤم المطعم طبقة متميزة من المجتمع البغدادي ومن السواح الأجانب. كنا نذهب إلى المطعم في أوقات متفاوتة لنتذوق طبخاته ونقضي وقتاً جميلاً في فنائه المنعش وفي أكثر الأوقات كنت برفقة زميلي وصديقي عبد الحميد الباقر الذي كان يسكن بالقرب منه. 

الطالب اللبناني ورفض قبوله في الكلّية:

جاءنا في الصف الرابع شاب وسيم أريحي المزاج من لبنان اسمه نهاد جوهري كان قد أكمل المرحلة الثالثة في إحدى كلّيات الطب خارج العراق ويروم أن يكمل الدراسة في كلّيتنا. كنت أرعاه وأدله على ما يحتاج كونه غريباً عن مجتمعنا وأساعده في متابعة المحاضرات وغيرها. استمر في الدوام لشهرين تقريباً ولكن عمادة الكلية قررت عدم كفاية ما قدم من وثائق لقبوله فيها واضطر إلى مغادرة العراق ولم يدم اتصالي معه. 

مع الطالب لبناني نهاد الجوهري

قاعة العمليات القديمة ذات الشرفة:

كانت إحدى قاعات العمليات القديمة في المستشفى الجمهوري التعليمي ذات شرفة داخلية تشرف من أعلى على ما يجري في القاعة من عمليات جراحية مخصّصة للطلبة. وكان مدخل السلم المؤدي إلى الشرفة يقع خارج القاعة، والشرفة مفصولة عن القاعة بجدار من زجاج بحيث لا يختلط الهواء في الشرفة مع فضاء القاعة. كان من الممكن التحدث مع الجراح أو الفريق الجراحي وطرح الأسئلة والاستفسارات من خلف الجدار الزجاجي. كان ذلك ما يبهر الطلبة الذين لم يدخلوا قاعات العمليات الكبيرة بعد، وكذلك كان وسيلة تعليمية للممرضات لتعريفهن بمتطلبات قاعة العمليات كجزء من المنهج التدريسي.

قاعة العمليات ذات الشرفة الزجاجية المغلقة ودرس للممرضات
هدمت تلك القاعة وأصبحت تاريخاً منسياً بعد أن كانت واقعاً كحال كل ما نُلاقيه في حياتنا.

العمليات الجديدة:

تقع قاعات العمليات في الطابق الأرضي في الممر الواصل بين الوحدة الجراحية الأولى (ردهة 17/18) والثانية (ردهة 12/13). أما قاعة العمليات الصغرى فتقع في الجهة الثانية للردهتين 12/13.

يشترك في قاعات العمليات الجديدة كافة الجراحين وبأيام متفق عليها. يهيئ رئيس الأطباء المقيمين قائمة العمليات الجراحية الإسبوعية ويبدأ التحضير اللازم من فحوصات أهمها فحص الهيموغلوبين وصنف الدم للمرضى وغير ذلك من الفحوصات الأولية. يقوم الأطباء المقيمون الدوريون بتلك المهمة وعليهم تثبيت صنف دم المريض ومطابقته مع دم المتبرع وتحضير قناني الدم المطلوبة لكل عملية  وحسب الحاجة التقديرية للعملية المعينة.

إنشاء الاتّحاد الوطني لطلبة العراق:

في الثالث والعشرين من تشرين الثاني لعام 1961 وفي احتفال في الساحة التي تقع أمام مبنى عمادة كلّية الطب عقد مؤتمر لتأسيس الاتّحاد الوطني لطلبة العراق وكان يمثل حزب البعث وقد ترأسه الطالب في كلّية الطبّ مقداد العاني. وكان ممن ألقى كلّمة في ذلك الحفل حميد العاني. كان يوماً مليئاً بالحساسية وردود الفعل من الطلبة المنتمين إلى اتحاد الطلبة الذي يمثل التيار اليساري.

الصراع السياسي المستهجن:

ظهرت الصراعات السياسية التي كان وقودها العواطف وليس العقل واحترام الزمالة وحقّ كلّ فرد في أن يتبنى أفكاراً كما يشاء. اشتدت المناوشات العنيفة بين مجاميع الطلبة البعثيين واليساريين. هجم في إحدى المرات الطلبة البعثيون بالحجارة والعصي والضرب على الطلبة اليساريين الذين كانوا يحتمون في نادي الكلّية القديم. مما يؤسف له أن تجري مثل تلك التصرفات المشينة من الطلبة ليس الجدد منهم وإنّما من طلبة المراحل المتقدمة الذين كانوا على وشك أن يتخرجوا ليصبحوا أطباء ويقسموا اليمين المهني على رعاية المرضى حتّى لو كانوا أعداءهم. تكررت مثل تلك الصراعات وشاهدت شخصياً أحد طلبة الصف الخامس البعثيين يضرب زميلاً له في نفس الصف “راشدي” عنيف أي ضربة كف على خده لأنه كان يسارياً وبالمناسبة أصبح المعتدى عليه من خيرة أساتذة كلّية الطبّ في بغداد أما المعتدي فأصبح في خبر كان!

حينما كان اليسار هو المتغلب في عامي 1959 و1960 كان الطلبة البعثيون كما احتمل هم الضحية حيث يعتدى عليهم من الطلبة اليساريين مع إني لم أشاهد عنفاً يشبه الذي ذكرت.

خسر الوطن ودفع الثمن بفقدان الطاقات الهائلة التي كانت تدّعي الإخلاص إلى العراق وأهله وكان من الممكن أن يجمعهم هذا الهدف النبيل كي يخدموا الوطن لأجل الجميع ولكن..!

النشاط الرياضي:

اعتادت الكلّية أن تقيم في كلّ عام مهرجاناً رياضياً في ساحات الكلّية. يبدأ الحفل الرياضي باستعراض يتقدمه الأساتذة بملابسهم الرياضية ومن خلفهم مجاميع الطلبة المشاركين بالسباقات. كان المهرجان الذي تم ونحن في الصف الأول من أحلى المهرجانات وقد عقد في ساحة الكشافة في الأعظمية. شملت الفعاليات عدد من المباريات المعروفة من قفز الزانة (بطلها عبد الباقي الخطيب) والقفز العالي، والركض والكرة الطائرة (وبطلها وبطل الساحة كلّها ريشار نبهان). وكان الأساتذة يشاركون بألعاب غير مرهقة وكان البطل المميز بينهم الدكتور عبد الصاحب الموسوي، وكان أحد نجوم الأساتذة الأجانب الجيكوسلوفاكي زدنيك خرافات أستاذ علم الأنسجة.

في المهرجان الرياضي يظهر الأستاذ أحمد عزت القيسي وعن يمينه الأستاذ ستراك أوانيسوف وبينهما الأستاذ هينس
الأستاذ سلمان فائق والأستاذ أوانيسوف في ساحة الكشافة
في المهرجان الرياضي الأساتذة من اليمين: محمود ثامر، محمّد حسن عبد العزيز، بديع صبحية، جلبرت توما وحسني الالوسي

المركز الثقافي البريطاني:

كان المركز الثقافي البريطاني في الوزيرية يحوي بعض الكتب الطبّية ويتصف المكان بالهدوء غير الاعتيادي ما يشجع على الدراسة خصوصاً بعد شرب القهوة التي يعدها شاب فلسطيني يعمل في مطبخ المعهد. استعرنا من مكتبته كتباً  لم تتوفر في مكتبة الكلّية. كان يسمح لنا بجلب كتبنا الخاصة إلى قاعة المكتبة في المركز. أصبحت من رواد المكتبة حيث كنت أزورها عند سنوح الفرصة لوحدي أو مع زميلي وصديقي صلاح الربيعي وأحمد الحلفي.

مكتبة مركز أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكان:

يقع مركز أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكان بالقرب من المركز الثقافي البريطاني في الوزيرية.  يضم المركز الأمريكي مكتبة علمية كنا نتردد عليها للحصول على بعض الكتب الطبّية. وكانت موقع لامتحان الممارسة الطبّية الأمريكي الذي يؤهل الذين يجتازوه في الحصول على إجازة الممارسة الطبّية للعمل في المستشفيات الأمريكية كأطباء مقيمين.

المركز الثقافي الفرنسي:

دخلت دورة واحدة في المعهد الفرنسي في بغداد حيث أغلق بعد ذلك لسبب ما. تعلمت بعض الشيء من تلك اللغة الجميلة التي فقدتها لعدم الممارسة.

المركز الثقافي الأمريكي:

دخلت المعهد الأمريكي في بغداد لدورة واحدة لتحسين لغتي الإنكليزية. أتذكر حادثتين في المعهد؛ الأولى حينما سألتُ المعلمة الأمريكية (الألمانية الأصل) بشأن أصل كلمة (أو كي OK) المستخدمة عالمياً للدلالة على القبول. اعتذرت بأنها لا تعرف الإجابة بالضبط وإنها ستجلبها في الحصة المقبلة. أجابتني في الحصة التالية بأنه كان في إحدى المدن الأمريكية رجل غني وطيب جداً اسمه أوتو كوهلر وهو من أصل ألماني وكان من شهرته في المدينة لا يوقع باسمه الصريح على الصكوك والوثائق الرسمية وإنما يوقع بالحرفين الأولين لاسمه وهما أو كي.  ولشهرته وطيبته استخدم ذلك كتعبير عن القبول وشاع استعمالها في أمريكا ثم العالم. ويمكن أن تكون هناك تفسيرات أخرى ولكن هذا ما أجابت به تلك الأستاذة.

والحدث الثاني هو مفاجأة طريقة تصحيح الإجابات الامتحانية. كانت ورقة الأسئلة التي تعطى إلى المتقدم للمعهد لتقرير المستوى الذي يبدأ به اللغة مطبوعة على ورقة وأمام كلّ سؤال كانت هناك عدة مربعات صغيرة يجب على الطالب أن يملأ المربع الذي يعتقد أنه الإجابة الصحيحة مستخدماً القلم الذي يجهزه المعهد. ولتصحيح الإجابات كانت لدى المعلم ورقة سميكة بحجم ورقة الأسئلة وقد ثقبت في مربعات تقابل كلّ سؤال من تلك الأسئلة بمربع واحد مقابل المربع ذي الإجابة الصحيحة. يضع الأستاذ هذه الورقة السميكة فوق ورقة الطالب ويعرف الإجابة الصحيحة بلحظة واحدة حينما تكون المربعات التي ملأها الطالب تطابق المربعات المحفورة في تلك الورقة السميكة وبذا توفر الوقت وتحقق الدقة في منح الدرجة.  

زيارة كلية الطب جامعة بريغهام يونغ الأمريكية لكليتنا:

حينما كنا في الصف الخامس زارنا وفد من أساتذة وطلبة وطالبات كلّية الطب في جامعة بريغهام يونغ الأمريكية (Brigham Young University) الشهيرة التي تقع في ولاية يوتا. كانت الزيارة لطيفة جداً تبادلنا فيها الأحاديث وقدم الطلبة عرضاً مسرحياً فنياً رائعاً تفتقر إليه كلّياتنا العلمية. والنشاط الفني هذا يساعد كثيراً في تنشيط القابليات والإنتاج العلمي. اقتصرت نشاطاتنا اللاصفية في كلياتنا على الرياضة والمباريات الرياضية والسفرات. وربما كنا في زمننا من المحظوظين الذين تمتعنا بعدد من تلك النشاطات.

مدخل جامعة بريغهام يونغ الامريكية في ولاية يوتا

منتجع الملك فيصل في اللطيفية مع سلمان الكواك:

دعاني الأخ الزميل سلمان الكواك إلى بيته في المسيب وتعرّفت على إخوته وأهله الطيبين ومن ثم ذهبنا إلى مزرعة في مدينة اللطيفية  كانت في السابق منتجعاً للملك كما ذكر لنا. كان المنتجع تحت رعاية أخيه الذي كان يشغل منصباً رسمياً في البلدية. اقتصر المنتجع على مزرعة صغيرة أقيمت في وسطها جدران من صفائح الحديد المخرم المصبوغ باللون البرتقالي بارتفاع المترين والنصف وبنفس الطول تقريبا وضعت على شكلّ دائري بحيث أصبحت المساحة الداخلية التي تحيط بها الصفائح بقطر خمسة أمتار. وقد حجب ذلك الجدار الشمس عن مكان الجلوس فأصبح الهواء عليلاً والجلسة ممتعة في الصيف الحار.

بدء الدراسة

مرحلة العلوم الطبّية الأساسية (الصف الأول، الثاني والثالث)                                           

ذكرت سابقاً أن تدريس مناهج الكلية كان باللغة الإنكلّيزية فكان ذلك تحديا لغالبية الطلبة ما عدا خريجي ثانوية كلّية بغداد. والتحدي الآخر هو أسلوب التدريس والذي يختلف تماما عما عهدناه في مدارسنا الثانوية وخصوصاً في المحافظات. وكما ذكرت سابقا واجهنا المجتمع الطّلابي الذي لم نعهده في الاختلاط المباشر بالجنس الآخر. كلّ ذلك وغيره شكّل تغييراً كبيراً في إدراك ومتطلبات الحياة الجديدة. وبسبب كون الغالبية العظمى مشمولة بتلك التحديات فقد هانت وذابت ولم تعد تذكر وخصوصاً في النصف الثاني من السنة الأولى وما بعدها. 

تواجه الطالب حواجز مهمة و”تصفيات” في مراحل الحياة الدراسية في الكلّية. أول تلك الحواجز هو الصف الأول، حيث يترك عادةً الكلية بنهاية الصف الأول ربع عدد الطلبة تقريباً. أسباب ذلك عديدة منها النفور من الطب بعد أن عرفه الطالب عن قرب، عدم تحمل التحديات التي ذكرتها، الفشل في الامتحان النهائي بالرغم من وجود امتحان آخر لمن لم ينجح في المحاولة الأولى. كان عدد الطلبة في مرحلتنا المائتين وخمسين وترك الدراسة ما يزيد على الستين طالباً.

الحاجز الثاني لتصفية الطلبة هو الصف الثالث حيث يشمل الامتحان النهائي مناهج الصفين الثاني والثالث لأن المواد الدراسية تكمل بعضها البعض. وهنا يُفصل أو يتخلف عدد آخر من الطلبة. من المعروف في أوساط الكلية بأن من يجتاز الصف الثالث يكون طريق تخرجه مضموناً.  فوجئنا حينما كنّا في الصف الثاني أن العمادة (كان العميد الأستاذ أحمد عزت القيسي) قررت أن يكون هناك امتحان في نهاية الصف الثاني ولأول مرة في تاريخ الكلّية، علماً بأن من يفشل  فيه يعبر إلى الصف الثالث على أن تحتسب درجته في المجموع الكلّي لامتحان الصف الثالث. كان هدف العمادة أن يضطر الطالب لاستيعاب المواد التي درسها في تلك المرحلة كي يسهل عليه اجتياز امتحان الصف الثالث. كان عدد الذين اجتازوا ذلك الامتحان 59 طالباً فقط وكنت منهم.   

مرحلة العلوم الطبّية السريرية (الرابع والخامس والسادس)

أما الحاجز الثالث الذي يقرر مستقبل الطالب فهو الامتحان النهائي في الصف السادس الذي يشمل المواد الدراسية للصفوف الرابع والخامس والسادس. طوال السنين منذ استحداث الكلية لم يكن هناك امتحان في الصف الرابع. ولكن فاجأتنا العمادة ثانية (العميد الأستاذ عبد اللطيف البدري) بأن يكون هناك امتحان في نهاية الصف الرابع. عندها شعرنا بالحيف “والظلم” لتطبّيق ذلك لأول مرة في تاريخ الكلّية.

أما الصف الخامس فتشمل مناهجه التخصصات الفرعية في الطبّ والجراحة من محاضرات نظرية والتطبيق العملي في العيادات الخارجية لكلّ اختصاص. يقسم الطلبة إلى مجاميع صغيرة وبحسب تسلسل الأسماء أبجديا. كانت مجموعتنا مجموعة “عبيد الله!” لكثرة الأسماء التي تبدأ بـ “عبد” مثل عبد الهادي وعبد الرحمن وعبد الإله وغيرهم. وفي نهاية العام يتقدم الطلبة إلى امتحان نهائي لكلّ تخصص وتضاف الدرجات إلى الدرجة النهائية في الصف السادس.

تعتبر الدراسة في الصف السادس قمة الدراسة في الكلّية حيث يتدرب الطالب على العمل كطبيب على مدى سنة تقويمية كاملة وليست كباقي السنين التي كانت سنوات أكاديمية أي بحدود التسعة أشهر.

الأساتذة:

عند سرد تفاصيل الدراسة أتحدث عن أساتذتنا الأكارم في كلّ المراحل فأنقل الصورة التي عشتها وشاهدتها شخصياً حينما كنت طالباً. كانت لي في مرحلة الدراسة علاقة وثيقة مع العديد من أساتذتي ولبعضهم بصمات أسهمت في تكويني المهني والأكاديمي.

الصف الأول:

اقتصر منهاج الدراسة في الصف الأول على مواد البايولوجي والكيمياء والفيزياء. كانت تلقى علينا المحاضرات النظرية في قاعة الفيزياء في الطبقة العليا للبناية حيث يقع قسم الفيزياء مع مختبره. أما قسم الكيمياء العامة وبضمنه المختبر فيقع في الطبقة الأرضية من البناية ولكن مختبر البايولوجي كان في بناية العمادة. 

البايولوجي (علم الأحياء):

الأساتذة

الأستاذ حنا زكريا ويساعده المدرسون إبراهيم الأجاجي، عدنان مصطفى وإدريس حمامة.

من اليسار الأستاذ حنا زكريا والمعيدان ابراهيم الأجاجي وعدنان مصطفى

بدأنا بتشريح الضفدع والذي لم يكن غريباً علينا ونحن في المزارع والحدائق  نجده أمامنا حيثما تجولنا فيها. تعلمنا كيف نحدث شللاً كاملاً في الضفدع بغرز دبوس مدبب في فتحة بين الجمجمة والعمود الفقري لقطع النخاع الشوكي وعندها نقوم بالتشريح بدون أن يتحرك الحيوان.  تطورت الدراسة إلى تشريح حيوان كلب البحر Dogfish الذي يبلغ طوله العشر سنتيمترات تقريباً.

كلّب البحر على طاولة التشريح في مختبر البايولوجي
الصف الأول في مختبر البايولولوجي وعلى يساري  زميل في الصف

الكيمياء:

ترأس قسم الكيمياء الذي يقع في الطبقة الأرضية من البناية الأستاذ روزبيك وكان معه في التدريس من لا أتذكر أسماءهم. كان مكتبه مجاورا للمختبر ويمكنك الدخول إليه في أي وقت تشاء لطرح الأسئلة عليه بدون أن يبدي أي اعتراض.

الأستاذ سيبيو روزبيك: هولندي الجنسية، إنسان وديع وبشوش طويل القامة ولكن من الصعب أن تلتقط ما يقول في المحاضرة أو في لقاء شخصي معه حيث كانت لغته الإنكليزية تمتزج مع لكنته المحلية بالإضافة إلى أنه كان يتكلّم بصوت واطئ وبسرعة تفوق سرعة الاستيعاب. والمنفذ الوحيد لاستيعاب مادة الكيمياء كانت بوساطة الكراريس التي يوزعها علينا بسخاء وبتفاصيل تشمل كلّ الفصول المطلوبة. في تلك المدة عمل مسجلاً عاماً للكلّية لأشهر قليلة.  تمتعنا كثيراً في مختبر الكيمياء لكثرة التجارب ولوجود المساعدين الذين يوضحون لنا تفاصيلها.

الأستاذ روزبيك       والاستاذ فؤاد جورج

الفيزياء:

يقع القسم في الطبقة العلوية في بناية الفيزياء حيث قاعة المحاضرات المشتركة ومختبر الفيزياء وبجنبه مكتب الأستاذ تارنت. شارك الأستاذ تارنت في الهيئة التدريسية الأستاذ يوسف عزيز وكان هناك العديد من المساعدين.

الأستاذ جيرالد توماس ترستو تارنت: والذي كان يوقع اسمه (ج ت ت ت GTTT) إنكليزي الجنسية (ويقال نيوزيلندي!) كبير في العمر أشيب ولكنه خفيف الحركة وما أسهل ما يرتقي منصة قاعة المحاضرات عند السبورة كي يوضح معلومة بصورة تمثيلية ويعمل حركات تسهل استيعابنا للمعلومة. كان حليق اللحية ولكنه بعد إحدى سفراته في عطلة الكلّية عاد من السفر وهو ملتحي بلحية بيضاء وكان عذره أنه ليس له وقت للحلاقة ولم ترغب زوجته أن يحلقها لأنها أعجبت بها! من الأفكار التي كان يطرحها علينا هو حل لمشكلة تأثير الإضاءة الشديدة للسيارات في الليل ما يمكن أن يسبب (عشى ليلي) على السائق المقابل. كان الحل الذي اقترحه هو صنع زجاج أضويه السيارات باستخدام زجاج معين تكون فيه الجزيئات مأفوفة افقياً بنصف عدد الجزيئات المصفوفة عموديا (الاستقطاب Polarization) وفي الليل يلبس السائق نظارات من نفس نوع الزجاج ولكن تركيز الجزيئات بصورة معكوسة أي التركيز العمودي نصف الأفقي. وبذا تتعادل شدة الإضاءة بحيث لا تؤثر على نظر السائقَين عند تقابلهما وتضمن سلامتهما من احتمال تأثير العشى الليلي عليهما!

ما هو منشور حديثاً (2016) في الإنترنت
من المحتمل أن يكون في نفس السياق العلمي الذي فكر به تارنت عام 1960!
الأستاذ يوسف عزيز

الأستاذ يوسف عزيز: ممتلئ الجسم ذو عينين زرقاوين مهاب الحضور.

الصف الثاني:

يشترك الصفان الثاني والثالث بدروس العلوم الطبية الأساسية وهي: الكيمياء الحيوية، التشريح والفسلجة. تقسم المواد إلى قسمين نصفها تدرس في الثاني والنصف الآخر في الصف الثالث.

تلقى محاضرات الصف الثاني في قاعة رقم (4) والتي تقع في بناية عمادة الكلّية. وهي قاعة نصف دائرية ومدرجاتها شديدة الانحدار.

الكيمياء الحيوية:

يقع القسم في بناية الفيزياء في الطبقة الأرضية بجانب قسم الكيمياء العامة.

الأساتذة: ترأست القسم الأستاذة الدكتورة سعاد القصاب ومعها الأستاذ الدكتور عبد الستار فاضل والأستاذ حسن الربيعي والأستاذ كريم عبد الأمير والأستاذ الباكستاني ترلوك سيث.

الأستاذة الدكتورة سعاد القصاب: وهي شقيقة الأستاذ الدكتور خالد القصاب والدكتور عبد المجيد القصاب والمهندس المعروف سعدون القصاب، أنيقة الملبس تصفف شعرها دوماً بظفيرة جميلة خلف رأسها.

من اليسار الأستاذة سعاد القصاب والأستاذ عبد الستار فاضل والأستاذ حسن الربيعي

توثقت العلاقة معها بعدئذ بسبب العلاقة الوثيقة مع الأستاذ خالد القصاب. وفي إحدى سفراتنا النهرية ونحن مجموعة من طلبة الصف السادس مع أساتذتنا خالد القصاب وعبد الكريم الخطيب وزهير البحراني استقبلتنا بكلّ الترحاب وكرم الضيافة في دار أخيها الدكتور عبد المجيد في كرادة مريم المطلّ على نهر دجلة.

الأستاذة سعاد القصاب تتوسط مجموعتنا في الصف السادس أثناء سفرة نهرية وفي أقصى اليسار الدكتور عبد القادر الفلكي المقيم الأقدم وعن يساره عقيلته الدكتورة سروه 1966

الأستاذ الدكتور عبد الستار فاضل: من أطيب الأساتذة الذين تتلمذت على أيديهم. حلو الابتسامة هادئ الطبع ومعلم جيد. توثقت علاقتي معه كطالب واستمرت حتّى ما بعد التخرج حيث شرفني بعد تخرجي مباشرة أن أحل محله في عيادته في الكرخ قرب ساحة الشهداء طيلة فترة سفره إلى خارج العراق بحدود ثلاثة أسابيع. وكان هذا مبعث فخر لي. أحببته كأستاذ وأحببت من بعده ولده المتألق والذي حمل صفات الوالد الكريمة وهو الدكتور رياض عبد الستار اختصاصي الجراحة البولية المعروف. 

الأستاذ الدكتور حسن الربيعي: كان الدكتور حسن قريباً إلى الطلبة حاضراً لكلّ استفسار في المختبر. وأعتقد أنه كان مكلّفا بمهمة إدارية بالإضافة إلى عمله كأستاذ. كان لفترة طويلة رئيس للجنة الامتحانية في الكلية. 

الدكتور كريم عبد الأمير: يتميز الدكتور كريم بلهجته الإنكليزية الأمريكية وحمرة وجهه الظاهرة. كان بعض الطلبة يتندرون على لهجته الأمريكية التي لم نعتد عليها حيث إن تدريس اللغة الإنكليزية في العراق طغت عليه لهجة إنكلترا.

الأستاذ ترلوك سيث وسؤال وجواب: أستاذ الكيمياء الحياتية وهو من الباكستان (ولعله من الهند). معتدل القامة أشيب الشعر يلبس النظارات السميكة. سألته مرة عن موضوع في الكيمياء وإذا به يعتذر لعدم معرفة الإجابة. عندما لاحظ استغرابي من عدم معرفته الجواب وهو بهذه المنزلة العلمية قال لي وهو يربت على كتفي: يا ولدي إن ما نعرفه من العلم كثير جدا ولكن ما لا نعلمه أكثر مما لنا علم به. وتركته وأنا مذهول من صراحته ومن أمانة الواقع العلمي الذي لم أكن أدرك أبعاده بعد.

التشريح:

بدأنا دراسة التشريح بمحاضرات في قاعة التشريح للمحاضرات في بناية “التشريح” التي تضم أقسام التشريح، الفسيولوجي والهستولوجي. يشغل قسم التشريح الطابق الأرضي والذي فيه مكاتب الأساتذة وقاعة التشريح العملي. تحوي القاعة مناضد من السيراميك مصنوعة لهذا الغرض وفيها حنفيات (ماسورات) الماء وأنابيب لتصريف الماء. وهناك حوض كبير في جانب من القاعة بطول حوالي الأربعة أمتار وعرض مترين تقريباً وعمق يزيد على المتر. الحوض مملوء بسائل الفورمالين والذي تملأ رائحته القاعة وخصوصاً عندما يجدد السائل. لم يكن أحد من الأساتذة ولا الطلبة يعلم بأن ذلك الفورمالين يسبب السرطان بشم رائحته وبالأخص سرطان الكبد!

توضع الجثث على الطاولات بينما تغطس أجزاؤها في الحوض بعد فصلها من الجسم حسب مراحل درس التشريح. تربط كلّ قطعة (ذراع أو ساق) بخيط مرتبط بقطعة من الخشب تحمل رقماً يخص رقم مجموعة الطلبة المعينة. كنا نقف على حافة الحوض، نتطلع إلى الرقم الذي يخصنا فنسحب القطعة خارجاً  باستخدام آلة تشبه المذراة التي يستخدمها الفلاحون في نثر الحبوب. نسحب الأعضاء من الحوض لنكمل درس التشريح في تلك الحصة ونعيده بعد نهاية الحصة إلى الحوض للحفاظ على طراوته لإتمام التشريح في الحصة التالية.

اقتصر منهج التشريح في الصف الثاني على الطرفين العلوي والسفلي من جسم الإنسان وفي الصف الثالث يتم تشريح الأقسام الأخرى.

الهيكلّ العظمي البشري: كان من المفضل بل المفروض أن يحصل كلّ طالب على هيكل عظمي يدرس عليه في البيت أو المكتبة. وكان علينا أن نشتري ذلك الهيكل من أحد الفراشين الذين لهم باع طويل في هذه المهنة! ودراسة الهيكل العظمي مهمة جداً في درس وامتحان التشريح فهو أساس بناء الجسم أما في الامتحان فيمكن أن “يرمي” عليك الأستاذ الممتحن قطعة عظم ويطلب منك أن تعرف ما هي وما موقعها وما يتصل بها من عضلات وما يجاورها من أوعية دموية أو أعصاب.

في مختبر التشريح في الصف الثاني وفي الصف الثالث

الأساتذة:

كان رئيس قسم التشريح الأستاذ الانكليزي هينس ومعه الأساتذة محمّد حسن عبد العزيز، فخري الشنوي، موسى صادق النقاش، علي غالب ياسين وقيس الدوري. 

الأستاذ هينس: الأستاذ الإنكليزي ريتشارد وييلر هينس عالم وإنسان ومؤلف وذو شخصية مؤثرة. طويل القامة نسبيا أبيض البشرة بميل للحمرة وعيون زرق وجبهة عريضة تتحد مع صلعة في مقدمة الرأس. كان يبسِّط مادة التشريح وبالأخص مادة علم الأجنة ليقربها من عقولنا. فكان منديله وسيلة الإيضاح الأساسية في توضيح أدوار تطوّر الجنين. وقد أعد للطلبة كتاباً مفصلاً في علم الأجنة طبعته الكلّية ليكون مرجعاً للجميع.

من اليسار الأستاذ هينس ثم الأستاذ محمّد حسن عبد العزيز والأستاذ فخري الشنوي وفي اليمين الأستاذ موسى صادق النقاش

حادثة: في مرة أجرى لنا الأستاذ هينس امتحاناً فجائياً في التشريح بأسئلة شبحية (عدة خيارات).  وعند تصحيح النتائج فوجئنا بأن العديد من الطلبة أخذ درجات بالناقص!  وهذه لم نعتدها إذ إن الذي نعرفه بأن الدرجة الدنيا تنتهي بالصفر. وعند الاعتراض تبين أن طريقته هو أنه يعطي لكلّ إجابة خاطئة درجة سالبة بدل الصفر ويعطي درجة صفر إذا تُرك السؤال بدون جواب. فإذا كان مجموع الدرجات السالبة يزيد على الموجبة تكون النتيجة النهائية سالبة. وغايته من ذلك هي عدم تشجيع الطالب على ذكر إجابة عشوائية إذا كان لا يعرف الجواب. وهذا مما سبب لغطا واعتراضات كثيرة من الطلبة فلم يكرر ذلك الأسلوب.

مع الأحداث السياسية: في خضم الأحداث السياسية التي مر بها عراقنا في بداية الستينيات قام طلبة الكلّية بإضراب عن الدراسة وخرجوا إلى الساحة وصادف الإضراب وقت محاضرة الأستاذ هينس. دخل القاعة وقد فوجئ بعدم وجود أي طالب فيها بسبب الإضراب. خرج من القاعة ونادى على أقرب طالب متسائلا: هل أن الإضراب موجه ضده شخصيا؟ كانت الإجابة بكلّا. وعندئذ سأل هل إن الإَضراب ضد قسم التشريح؟ ولما كانت الإجابة بالنفي كذلك، قال شكرًا وبدت الابتسامة على وجهه وعاد إلى مكتبه.

زرته مرة إلى بيته بصحبة ابن عمي المهندس صادق الخليلي وزوجته الانكليزية (وهما والدَي عالم الفيزياء الشهير الدكتور جميل، جيم، الخليلي). شاهدته عن قرب واستمتعت بحديثه وحركات يديه والتفاتات رأسه الفجائية حين الحديث. لقد كان إنساناً أعطى العلم كلّ ما يملك من طاقة. ترك العراق بعد عام أي في 1962 إلى كينيا ليعمل أستاذا في كلّية الطبّ في نيروبي وسمعنا أنه تعرض لهجمة من أسد حينما قام بزيارة إلى إحدى الغابات وأصيب بإصابات بالغة.

          الأستاذ محمّد حسن عبد العزيز: كانممتلئ الجسم يلبس نظارة سميكة العدسة، هادئ في الحركة ومقل في الكلّام ولكنه عالم باختصاصه ومتميز بقدرته التشريحية التي سمتها الدقة والبطء. في مقابل ذلك تراه ذلك النشيط الذي يشارك في كلّ النشاطات الرياضية للكلّية. 

الأستاذ فخري الشنوي: كان الأستاذ فخري أستاذاً وفناناً حيث كان يبدع في رسم الصور التشريحية أثناء محاضراته بالطباشير الملون وبتفاصيل دقيقة.

الأستاذ موسى صادق النقاش: فريد بين الأساتذة لا تكاد تسمع صوته ولكنه عميق في فكره لم يحاضر علينا ولكنه تواجد في بعض الأحيان في مختبر التشريح. كان من رواد حركة التعريب الطبّي في العراق وعملت معه في هذا المجال. درس موضوع المصطلحات الطبّية للسنين التالية لدورتنا. كنت ألتقي به خارج الكلّية كذلك.

الأستاذ علي غالب ياسين: الجراح المعروف الذي اتخذ التشريح مساراً له. موقعه في ذاكرتي لا يمحى حيث كان لقائي الأول معه عند دخولي إلى الكلّية الطبّية في العام 1960. الأستاذ علي مليء بالحيوية والنشاط والموسوعية الثقافية والاجتماعية. استمرت علاقتي معه إلى يوم وفاته رحمه الله وهناك ذكريات أذكر فيها تفاصيل علاقتي معه في فصل آخر.

من اليسار الأستاذ علي غالب ياسين ثم الأستاذ داود مسيح والأستاذ قيس الدوري

الأستاذ الدكتور داود مسيح: أستاذ التشريح المعروف أنيق في ملبسه ومحبوب من الجميع ملتزم في محاضراته بأوقات الدخول والخروج من القاعة.

الدكتور قيس الدوري: كان الدكتور قيس الأقرب إلى الطلبة يلبّي طلباتهم ولا يمل ولا يكلّ من التعليم والإرشاد في المختبر.

الفسيولوجي:

يقع مقر القسم في الطبقة العليا في بناية التشريح مجاوراً لقسم الهستولوجي (الأنسجة).

الأساتذة: ترأس القسم الأستاذ صادق الهلالي ومعه الأستاذ الدكتور فيصل صبيح نشأت، داوود الصانع، جيروم أوفي، أحمد نصر الله، عبد الصاحب الموسوي وحسين سلمان رستم.

كان القسم يعجّ بالنشاط العلمي والمختبري فهناك العديد من التجارب التي نستمتع بها مقارنة بالتجارب المختبرية العلمية الصرفة التي كانت في الصف الأول من فيزياء وكيمياء. فهنا تجد قلب الضفدع وقد انتزع من جسمه وربط لوحده بأنابيب ومحاليل وهو ينبض نبضاً اعتيادياً وتسجل كلّ تقلصاته وتأثير العقاقير على ذلك. وترى في تجربة أخرى عضلة الضفدع وقد ربطت بأسلاك دقيقة لتسجيل تقلص وانبساط العضلة ويؤشر ذلك على اسطوانة لصق على غلافها الخارجي ورقة سميكة صقيلة وعليها طبقة من الدخان تم إعدادها من قبل التقنيين باستخدام شعلة دخانية قبل بدء المختبر. وعندما يتحرك المؤشر بنهايته المدببة يمسح الكاربون من على الورقة ويظهر الخط البياني المطلوب. كانت تستخدم هذه الطريقة البدائية لعدم وجود بدائل للتسجيل في ذلك الزمن.

لا يمكن أن ننسى “العمو شابا” ذلك الرجل الطيب الذي بدونه لا يمكن للقسم أن يعمل!! فهو الذي كان يجهز تلك الأوراق المكربنة وهو من يجهز الضفادع لتجارب الطلبة وهو الحاضر لتلبية كافة طلبات الطلبة في المختبر.

الإسطوانة الدوارة ومثبت عليها الورق السميك الصقيل المكربن بالدخان وعليه المؤشر المدبب النهاية لتسجيل الموجة التي تظهر في الصورة على اليمين

الأستاذ صادق الهلالي: الأستاذ الدكتور صادق شعلة من ذكاء وقابلية متوقدة. كانت محاضراته من أشمل المحاضرات وهي طويلة عند إلقائها وقصيرة ومركزة في محتواها. قبل أن يعطينا المحاضرة الأولى بلغنا زملاؤنا السابقون أن محاضرته تحتاج إلى جهد كبير ومتابعة لكتابتها كلّها. ملأنا أقلامنا بالحبر وطوينا أكمامنا (الردان) وبدأ الأستاذ صادق بمحاضرته الأولى وهو يسير إلى يمين ويسار القاعة طول الوقت. وعند مراجعة المحاضرة في المكتبة تبين أني كتبت في المحاضرة الاولى ثماني عشرة صفحة. وبعد مراجعتها وجدت أن هناك كثير من الإعادة لفقراتها كررها لتسهيل استيعابها. علمت بأن الذي يجب عمله في المحاضرة التالية هو الاستماع إلى الأستاذ واستيعاب المعلومات وكتابة الفقرات التي لا تتكرر. وبذا أصبحت المحاضرة أربع صفحات أو أقل وفيها معلومات مركزة وقد تمّ فهم المحاضرة بسهولة أثناء إلقائها في الصف.

والشيء بالشيء يذكر أن غالبية الطلبة قاموا بما قمت به وهو الإصغاء والاختصار في الكتابة ما عدا زميل واحد هو (ج. م.) والذي استمر بكتابة كلّ كلّمة تقال وبطبيعة الحال لا يمكنه متابعة وفهم ما يقال وهو يعول على فهم المحاضرة عند المراجعة في المكتبة. وفي مرة حكى لنا الأستاذ صادق نكتة بخصوص أكل الكيك وحركة الفكين والعصب الخامس وإذا بصاحبنا يكتب النكتة كاملة ولم يضحك مع المجموع حيث كان منشغلاً في الكتابة. وفي المكتبة عند المراجعة وقراءة النكتة وإذا به يستغرق لا إراديا بالضحك وسط ازدحام المكتبة بالقراء وهدوء المكتبة. وكان ذلك حديث الجميع ومنه بدأ الزميل يكنى بـ ج….”أبو الكيك”.

أتذكر نصيحة من الأستاذ صادق حينما كنا نتدرب على فحص الضغط الدموي حينما قلت له أستاذ إذا كنًا سنتدرب على أخذ الضغط في ردهات المستشفى في المستقبل فلماذا نضيع وقتنا بذلك الآن؟  فردً علي بحنو الوالد قائلاً بابا تعلّم هذا الآن وغداً تتعلم المزيد في الردهات وخارجها.

الأستاذ صادق والتعريب: كان الأستاذ من رواد التعريب الذي حقق فيه الكثير في العراق وخارجه. كان لي معه في مجال التعريب حديث طويل وعمل مشترك سأفصله في أشخاص وبصمات.

الأستاذ فيصل صبيح نشأت: ممتلئ الوجه كث الشاربين أبيض السحنة سريع السير. كان الأستاذ فيصل علماً من أعلام العراق في البحث العلمي. وكان في تلك الظروف البحثية التي لا تتوفر فيها إلا ما أمكن توفيره قد أجرى بحوثا لم نكن نفهمها في حينه ومنها تسجيل مواصفات وريد حيوان الجمل. وكان زميلنا ضياء عبد الهادي السنوي من يجلب له الاوردة من القصّابين. مما زادنا اعتزازاً وفخراً به هو نشر استنتاجات بحوثه في كتاب الفسيولوجي المنهجي الصادر في بريطانيا والذي كنا ندرسه.

من اليسار الأستاذ صادق الهلالي ثم الأستاذ فيصل صبيح فالدكتور عبد الصاحب الموسوي وعلى اليمين الدكتور حسين رستم

الأستاذ جيروم أوفي: أستاذ محبب للنفس أنيق في كلّ فصل ووقت يفضل أن يقلب يافطته (ياخة) صدريته البيضاء أو حتّى قميصه أحيانا إلى أعلى.  قصير القامة ولكنه طويل الباع محبوب من الطلبة بشوش الوجه متفانٍ في سبيل طلبته. فتح أمامي مجال البحث العلمي والذي سأذكره في فصل مسيرتي مع البحث العلمي.

من اليسار الأستاذ جيروم أوفي وفي الوسط الأستاذ داود الصانع وعلى اليمين الأستاذ أحمد نصر الله

الأستاذ داود الصانع: كان قد وصل حديثاً من بريطانيا بعد حصوله على الدكتوراه في الفسلجة.  كانت محاضراته في القاعة المجاورة للمختبر توضيحية قبل إجراء التجارب المختبرية. 

الدكتور أحمد نصر الله: فارع الطول أزرق العينين جميل الطلعة تعلو الابتسامة وجهه. كان أحد المعيدين الثلاثة وتراه جنبك ليساعدك ويرشدك في المختبر وكان حاضراً عند الطلب. 

الدكتور عبد الصاحب الموسوي: وهو المعيد الآخر في القسم ولكنه فضلاً عن ما اتصف به من خلق عال وكفاءة ومبالغة في التفاني لمساعدة للطلبة، فقد كان نجم الرياضة في الكلّية.

الدكتور حسين سلمان رستم: معيد لا يختلف عن زميليه في الخلق العالي والقيم النبيلة والتفاني في العمل.

الصف الثالث:

الهستولوجي (علم الأنسجة)

الأساتذة:

الأستاذ زدنيك خرافات: الأستاذ الرائع زدنيك خرافات جاء من جيكوسلوفاكيا وكان فارع الطول لطيف المعشر محبوباً من الطلبة ومبرزاً في احتفاليات الرياضة السنوية التي كانت تقيمها الكلّية. كانت مقولته الدائمة لنا في مختبر الهستولوجي: “إنكم إذا قمتم بدراسة شريحة (سلايد) أنسجة تحت المجهر يجب أن تعدّوها كصحيفة أخبار العراق (عراق تايمز)”، التي كان يقرأُها هو يوميا، “حيث تقرأون كلّ خبر فيها. كذلك الشريحة أرجو أن تدرسوا كلّ ما فيها من تفاصيل وليس فقط ما هو مطلوب دراسته في تلك الشريحة”. وكان هذا درساً مهماً في الحياة.

الأستاذ سلبكا:

جاء الأستاذ سلبكا بديلاً عن زدنيك وهو كذلك من جيكوسلوفاكيا ولكن أصغر عمراً وأصغر حجماً وأكثر حيوية مع أنه كان يفوق معدل أحجامنا! توسع الأستاذ سلبكا في إحدى محاضراته ليخبرنا بنشاطاته البحثية في علم الأجنة مما شدني ذلك كثيراً إليه. لم أنتظر لحظة بعد إكمال الحصة لأذهب إلى مكتبه مظهراً إعجابي بما عرضه علينا ورغبتي في الاطلاع على تفاصيل بحوثه. أسعدته مبادرتي هذه ووعدني بجلب كراس نشره في الأدبيات العلمية يبين جانباً من هذه البحوث حيث كان مثلا ينتج طيراً بثلاثة أجنحة أو بدون ساقين أو يكون ساقه في موضع الجناح!

في مختبر الهستولوجي مع الزميل حميد علي العاني

الاعتقال الوقتي في وزارة الدفاع:

في الصف الثالث وبسبب قيام مجموعة من الطلبة بمظاهرة “سياسية” في الكلّية أثارت غضب السلطات هجمت على الكلّية مجموعة من أفراد الانضباط العسكري. كانت مجموعتنا في مختبر التشريح ودخل علينا أفراد الانضباط وأخرجونا من المختبر إلى الساحة أمام البناية وهجموا علينا بضربات العصي التي كانوا  يحملونها وكنا نسمع توصية الضباط لهم أن اضربوهم تحت الحزام! وبعدها قادونا طلاباً وطالبات ونحن مرتدين الصداري البيض سيراً على الأقدام إلى وزارة الدفاع المجاورة لكليتنا. بطبيعة الحال كان غالبية الطلبة الذين ساهموا بالمظاهرة وكانوا السبب في هجوم السلطات علينا قد تمكنوا من الهروب عبر منافذ الكلّية الخلفية! جمعونا في صالة داخل مبنى وزارة الدفاع ونحن في حالة خوف وقلق بأن نعاقب على عمل لم نقم به. جاءنا العميد الركن عبد الكريم الجدة الذي ألقى علينا خطبة طويلة منها أن جمهورية الزعيم عبد الكريم تسير إلى أمام ولا يضيرها من يقف في طريقها. وبعد ذلك استُدعيت زميلتنا الطالبة محاسن محمود عبد الرزاق وكانت من ضمن “المعتقلين” وكان والدها من قادة الجيش ومقره في الوزارة. عند عودتها أطلق سراحنا وتنفسنا الصعداء وعدنا إلى الكلّية بأسرع من البرق ونحن نتلفت وراءنا خوفاً من التعقب.

مرحلة العلوم الطبّية السريرية / الدخول إلى الردهات (الرابع، الخامس والسادس)

الصف الرابع:

جعلتني تلك المرحلة في قمة السعادة حيث يشمل المنهج الدراسي فضلاً عن المحاضرات النظرية في العلوم الأساسية التدريب السريري في ردهات المستشفى. شعرت وأنا أمارس الطبّ السريري بالتعامل المباشر مع المريض بأنني حققت ما كنت أحلم به منذ الصغر حينما قررت أن أكون طبيباً ينتشي بسحر العلاقة بين المريض والطبيب.

يبدأ يومنا عادة في الساعة الثامنة صباحاً بمحاضرة في العلوم الطبّية الأساسية تتبعها محاضرة نظرية في الطبّ أو الجراحة.  وفي الساعة العاشرة يبدأ التدريس السريري في الردهات لمدة ساعتين حسب جدول يوزع الطلبة إلى مجاميع حسب الحروف الأبجدية.

شمل منهاج الدراسة في الصف الرابع مواد دراسية في العلوم الطبّية الأساسية ومختبراتها وهي علم الأمراض (Pathology)، علم البكتريا المجهرية (Microbiology)، علم الطفيليات (Parasitology)، علم التداوي (Pharmacology) والطب العدلي. أما العلوم الطبّية السريرية فقد اقتصرت على المحاضرات النظرية القليلة وركزت على الدروس السريرية التطبيقية في الردهات والاتصال المباشر بالمرضى.

السمينارات (حلقات المناقشة):

استحدث فرع الطبّ الباطني ولأول مرة في مرحلتنا منهجاً إضافياً للتعليم وهو برنامج السمينارات. تم فيه تقسيم طلبة الصف إلى مجاميع لمناقشة مواضيع يثبتها فرع الطب الباطني مرة في كل شهر. يقوم أحد طلبة المجموعة بتحضير موضوع المناقشة وبإشراف أستاذ من الفرع. تجرى حلقات النقاش في إحدى الردهات الباطنية الستة. تبدأ الحلقة مبكراً في بداية الدوام أي الساعة الثامنة وهو ما يتثاقل منه بعض الأساتذة. كان الأستاذ محمود الجليلي رئيس الفرع يتجول بين الردهات ليتأكد من سير الأمور على ما يرام. أكسبتنا تلك السمينارات فائدة كبرى للتعمق في الطب من زاوية غير نمطية حيث إن مواضيع الحلقات هي مناقشة أعراض مرضية وليس دراسة الأمراض بصورة منهجية. يتبادل الطلبة من كلّ المجاميع ما تعلموه في مجاميعهم مع زملائهم فتكتمل المعلومات لدى الجميع.

طرفة: في إحدى السمينارات مع الأستاذ أمين جريديني الذي كان يوحي لنا بأن المشكلة الأساسية في أمراض الجهاز الهضمي هو مرض القولون المتهيج (Irritable Colon). قدمت موضوعي الذي تعرض لأسباب الإسهال. سألني عند المناقشة ما هو أهم سبب للإسهال الحاد؟  فأجبته على الفور بأنه القولون المتهيج. ابتسم وقال: واضح أني مهتم جداً بالقولون المتهيج ولكن أن تذكره كسبب للإسهال الحاد وتضعه في أول القائمة هذي “ثخينة” أي مبالغ بها. ضحكنا جميعاً ويبين هذا الموقف العلاقة الحميمة الملاطفة بين الأستاذ وطلابه.

الكتب المنهجية والكتب الخارجية:

كانت الكتب المنهجية في كلّ الاختصاصات الطبّية تابعة للمدرسة البريطانية مثل (Short Practice in Surgery) في الجراحة وكتاب (Medicine by Davidson) في الباطنية. ولكن حالي كحال قلة من زملائي،  كنت أتوسع في القراءة والاستعانة بالمراجع الأخرى خصوصاً الأمريكية منها. لا أذكر ذلك على سبيل التفاخر ولكن ذلك كان الواقع وقد قرات أو تصفّحت العشرات من الكتب والمصادر في المكتبة وكنت كما يقال “دودة كتاب”. 

المباراة في أسماء المتلازمات:

من المعلوم أنه توجد المئات من المتلازمات المرضية (Syndromes) وهي الحالات المرضية غير المعروفة السبب. وضع  قاموس دورلاند الطبّي تلك المتلازمات حسب الحروف الأبجدية، منها المعروفة لنا والشائعة ومنها النادرة. قمت باستنساخ كلّ أسماء المتلازمات من القاموس في دفتر جيب كي أمزح به مع القلة من الزملاء حيث كنا نحاول أن نخرج خارج النطاق المنهجي ونطور معلوماتنا. كانت المباراة تشبه المطاردة الشعرية التي كنا نتبارى فيها حين كنا صغاراً في مدينتي الكوفة حيث كان علينا أن نأتي ببيت شعر يكون أول حرف فيه نفس حرف القافية لبيت الشعر الذي ألقاه الرفيق في المباراة.

الباثولوجي (علم الأمراض):

كان الكتاب المنهجي المقرر هو كتاب وليام بويد (William Boyd) الذي يدرس في أغلب الجامعات الغربية.

أساتذة القسم: يرأس القسم الأستاذ يوسف عقراوي، الأستاذ أحمد الشماع، الأستاذ عبد الرحمن عبد الغني، الأستاذ خليل الآلوسي، الأستاذ عدنان فوزي والأستاذ الإنكليزي الزائر كامبل.

الأستاذ يوسف عقراوي: مقل في الكلام لا يميل إلى الاختلاط. وهو أخ الأستاذ غانم عقراوي اختصاصي العظام والذي يختلف عنه تماماً في حبه للنكتة والتواصل مع الطلبة.

من اليسار الأستاذ يوسف عقراوي وفي الوسط الأستاذ أحمد الشماع وعلى اليمين الأستاذ خليل الآلوسي

أحمد الشماع: الأستاذ أحمد من الأساتذة الذين لا يغيبون من الذاكرة فقد كان قوي الشخصية يلبس الصدرية البيضاء في المحاضرات وتتخلل محاضراته بعض القصص التشويقية. تم استيزاره لوزارة الصحة في عهد الرئيس عبد السلام عارف.

“المكتوب على الجبين لازم تشوفه (تراه) العين”: في إحدى محاضراته بادرنا الأستاذ أحمد بقوله: الآن آمنت بالمثل القائل ” المكتوب على الجبين لازم تشوفه (تراه) العين” واستطرد قائلاً بأنه اطّلع على حادث لتوأمين في مقتبل العمر أحدهما يسكن في لندن والآخر في نيويورك. شكا الأول من ألم في بطنه وتبين أنه مصاب بالتهاب الزائدة الدودية وأدخل المستشفى لإجراء العملية. وبسبب عدم وجود وسائل الاتصال السريعة علم بعدئذ بأن أخاه التوأم قد شكا في نفس الوقت من ألم في الجهة اليمنى من البطن وتبين أنه مصاب بنفس الالتهاب وأجريت له عملية استئصال الزائدة الدودية.  

الجبين والجين: حورت شخصيا ذلك المثل بما يحفظ مدلوله ويتماشى مع العلم الحديث فاستبدلت كلمةالجبينبكلمةالجين.

خليل الآلوسي: شخصيةمحبوبة ومحاضرمتميزأتذكر أنه قال في أول محاضرة له وكانت عن السرطان أننا الآن نسبح في محيط (وليس بحر) من المسرطنات الكيميائية. 

حكى لنا قصة حدثت له في أمريكا حينما كان في المختبر وعرضت عليهم الأستاذة التي عمل معها شرائح نسيج مرضي وطلبت منهم أن يشخصوا المرض. بعد الفحص المجهري عرف الجميع أنه نسيج سرطان الثدي لسيدة.  يقول الأستاذ خليل سألتني الأستاذة عن المدة التي يمكن أن تعيشها تلك السيدة بعد رفع الورم فأجبتها أنها لا تزيد على الخمس سنوات وهو ما متعارف عليه في مثل تلك الحالات. وعندها وضعت يدها على كتفي قائلة يا ولدي هذا النسيج هو من ثديي أنا وقد أجريت لي عملية رفع الثدي قبل عشرين عاما وها أنا أمامكم بتمام الصحة.  وهذا هو السرطان لا يؤتمن وفي أحيان يحدث ما لم يكن في الحسبان.

من اليسار الأستاذ كامل الجواهري فالأستاذ عبد الرحمن عبد الغني وعلى اليمين الأستاذ عدنان حسين فوزي

عبد الرحمن عبد الغني: إضافة إلى مسؤوليته التدريسية فقد كان رئيس لجنة المكتبة وكان خير راع لها.

كامل الجواهري: جاءنا الأستاذ كامل من أمريكا مباشرة بعد وصوله إلى العراق (1964). كان شابا وسيما مملوءاً بالحيوية والنشاط.  الذي أتذكره عنه هو أنه كان مهتما جدا بتعليمنا تشريح جثث المتوفين في المستشفى لمعرفة سبب الوفاة. وكانت طريقته في فتح الصدر والبطن تختلف عن الطريقة التي عهدناها من أساتذتنا الآخرين حيث كانت طريقة أمريكية!

الأستاذ كامبل: جاءنا الأستاذ كامبل الإنكليزي من جامعة مانشستر في إنكلترا زائراً يحاضر في مادة الباثولوجي. ألقى علينا عشر محاضرات في مواضيع عديدة في الاختصاص. التقيت به في بداية وصولي إلى بريطانيا عام 1971 بطريق الصدفة في جامعة مانشستر. سأفصّل لاحقاً  استقباله الحنون ومساعدته لي.

الفارماكولوجي (علم الأدوية):                                                                             

ترأست القسم الأستاذة سانحة أمين زكي ومعها الأستاذ حميد الكاتب وكان معهما الأستاذ الأمريكي الزائر أمرسون (Emerson)

الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين الذي يشبه إلى  حد كبير الأستاذ أمرسون
على اليسار الأستاذة سانحة أمين زكي واليمين الأستاذ حميد الكاتب

الأستاذة سانحة أمين زكي: أستاذة فاضلة عالمة ومحاضرة جيدة تستقطب انتباه كلّ الطلبة. وكان الدكتور حميد الساعد الأيمن لها. أما الأستاذ أمرسون فكان أشيب الشعر له شارب يذكرني بالكاتب الساخر مارك توين. كانت محاضراته غنية بالعلم ولكن مشكلتنا نحن الطلبة كانت في لهجته الأمريكية التي لم تعتد عليها آذاننا.

الأحياء المجهرية:

يشمل القسم اختصاصين هما علم البكتريا (Bacteriology) وعلم الطفيليات (Parasitology) وأضيف لهما علم الفايروسات (Virology). تخصص في موضوع الطفيليات الأستاذان محمّد الدباغ وأحمد صميم الصفار. أما في البكتريولوجي فكان الأستاذ عبد الجليل الثويني، وأخيراً علم الفايروسات كان من حصة الأستاذ نزار الشاوي.

من اليسار الأستاذ أحمد صميم الصفار ثم الأستاذ محمّد الدباغ والأستاذ عبد الجليل الثويني فالأستاذ نزار الشاوي

الأستاذ أحمد صميم الصفار: أصبح الأستاذ أحمد صميم الصفار عميداً للكلّية الطبّية في العام 1966 أي في سنة تخرجنا.

الأستاذ محمّد الدباغ: كان الأستاذ محمّد الدباغ أستاذاً جليلاً موسوعياً وإذا سمعته يتحدث عن مرض الأكياس المائية (Hydatid) مثلاً تعلم كم هو عميق في علمه ومعرفته.

الأستاذ عبد الجليل الثويني: أما الأستاذ عبد الجليل الثويني فكان حديث الوصول من الولايات المتحدة مملوء بالعلم الحديث والحيوية.

الأستاذ نزار الشاوي: كان الأستاذ نزار معاوناً للعميد وحاولت العمادة بإشرافه أن تطبّق تعليمات الزي الموحد للطلبة ولكنها لم تفلح.

الطبّ العدلي (الشرعي):

ترأس القسم الأستاذ أحمد عزت القيسي ومعه الأستاذ وصفي محمّد علي. ساهم في التدريس كذلك الأساتذة نذير الدبوني، عبد الصاحب علش ولويس سمعان الذين كانوا مسؤولين عن التدريب العملي. يقع معهد الطب العدلي خلف الكلّية بالقرب من سجن بغداد الذي أنشئت عليه بناية وزارة الصحة الجديدة.

الأستاذ أحمد عزت القيسي: أسس الأستاذ الدكتور أحمد عزت القيسي معهد الطب العدلي عام 1939 وكان معه الأستاذ الدكتور وصفي محمّد علي. كانت محاضرات الأستاذ القيسي تطغى عليها هيبة العالم. بالرغم من كونها محاضرات نظرية إلا انها كانت مطعمة بالكثير من الحوادث والأمثلة العملية. وثق محاضراته وأضاف عليها وجعلها في كتاب ألفه ليكون كتاباً منهجياً مقرراً غنياً بالمعلومات النظرية والعملية. عند دخولي الكلّية كان الأستاذ القيسي عميدا للكلّية في السنة الأولى والثانية.

الأستاذ وصفي محمد علي: عمل الأستاذ وصفي مع الأستاذ أحمد لعدة عقود منذ استحداث معهد الطب العدلي حتّى تقاعده. أصبح بعد تقاعد الأستاذ القيسي المرجع الرئيس للاختصاص في الكلية وكذلك مستشاراً للسلطات القضائية والسلطات الأمنية المعنية بالطب العدلي. 

أصيب الأستاذ وصفي في العام 1983 بنزف داخل الجمجمة بعد أن ارتطم رأسه بحافة باب السيارة أثناء نزوله منها سبب له شللاً نصفياً. كان لي الشرف بإجراء العملية الجراحية له فعاد معافىً إلى عمله والقيام بواجباته كما يجب.

التدريب العملي: كانت الزيارات العملية لمعهد الطب العدلي تشمل التعرف على الحالات العدلية الحية مصحوبة بمحاضرات عملية من مختلف الأساتذة.

إلى اليسار الأستاذ أحمد عزت القيسي وإلى اليمين الأستاذ وصفي محمّد علي

نشاط غير نمطي وحادثة محرجة:

بسبب اندفاعي الشديد ورغبتي في التطور العلمي والمهني السريع اتفقت مع بعض الزملاء المماثلين لما أفكر به أن نستفسر من زملائنا في المرحلة الذين يتدربون في الردهات الأخرى عما يشاهدوه من الحالات النادرة والحالات التي تكثر في فصل معين من فصول السنة حيث يذكرون لنا الردهة التي فيها المرضى وأرقام أسرتهم. كانت جيوب صدرياتنا مليئة بأرقام أسرة المرضى الذين نود زيارتهم وفحصهم. نقوم بعد الدوام الرسمي بمجاميع صغيرة بزيارة أولئك المرضى وفحصهم والاستفادة مما كتب من ملاحظات في ملفاتهم الصحية.

وفي إحدى تلك الزيارات كنت مع زميل لي ندخل إحدى الردهات لفحص مريض ذي حالة نادرة وإذا بمرافقي مريض آخر في الردهة يتوجهون إلينا بفزع يستنجدون بنا لاعتقادهم إننا أطباء حيث كنا نرتدي صدرياتنا البيض.  لم يكن في تلك اللحظة في تلك الردهة أي طبيب مسؤول ولا ممرضة مسؤولة.  توجهنا نحو المريض الذي لا نعرف عنه أي شيء وإذا به يحتضر. لم ندر ماذا نعمل سوى وضع السماعة الطبّية على صدره ومن ثم بغفلة منهم خرجنا مسرعين إلى باب الردهة باحثين عن الطبيب المقيم ومتفادين الاعتداء علينا من المرافقين المنفعلين! 

الإضراب عن الامتحان في الصف الرابع:      

جرت العادة منذ تأسيس الكلية أن طلبة الصف الرابع ينتقلون إلى الصف الخامس بدون امتحان، ويكون الامتحان النهائي في تلك المواد التي تدرس في المراحل الثلاثة الرابع والخامس والسادس في نهاية السنة السادسة. قررت العمادة أن تستحدث امتحانا في نهاية السنة الدراسية في الصف الرابع. يهدف ذلك الإجراء إلى إجبار الطالب على استيعاب المواد التي درسها في الصف الرابع كي يكون مستعداً بصورة أفضل لامتحان الصف السادس النهائي.  قرر الطلبة إن تلك الخطوة غير عادلة واتفقوا على الإضراب عن الامتحان في تحد للعمادة. كان قرار العمادة أن تكون درجة من لا يتقدم للامتحان صفراً. لم يتقدم للامتحان أي طالب وانتصر الطلبة على العمادة! لم نأخذ ذلك على محمل الجد ولكن تبين أننا كنا مخطئين، حيث حقق العميد تهديده فكانت الدرجة النهائية في كل المواد الدراسية للمرحلة الرابعة لجميع الطلبة “صفراً”!! وعند تخرجنا من الصف السادس سبب ذلك الصفر تدنياً في درجات جميع طلبة دورتنا بحيث أصبح معدل درجات التخرج أوطأ معدل في تاريخ الكلّية الطبّية فكان معدل درجات الخريج الأول، عبد الهادي الخليلي، 67.5%.

العطلة الصيفية بين الصف الرابع والخامس:

بسبب الرغبة في التسابق مع الزمن فقد فضلت أن أستغني عن الاستجمام بالعطلة الصيفية بين الصف الرابع والخامس وأستثمرها للاستزادة من العلم والخبرة العملية. قررت مع بعض الزملاء أخذ موافقة الأستاذ خالد ناجي للتواجد (الدوام) معه وكذلك حصلت على الموافقة للعمل في قاعة العمليات الصغرى.

الدوام مع الأستاذ خالد ناجي: اتفقنا نحن ستة من طلبة الصف الرابع للتقدم بالتماس للأستاذ خالد أن نحضر معه في زياراته الدورية للمرضى في الردهة 12/13. تفضل علينا بالقبول وبدأنا بالدوام المنتظم  بحيث نكون معه صباحاً عند تفقده المرضى. لم يبخل علينا بالشرح والمناقشة لكلّ الحالات الجراحية التي يتفقدها في الردهة. ممن كان معي في تلك المجموعة هارفي برهارد، قيس أسمر (الخريج الأول المكرر في الصف السادس)، جبار مهدي وآخرون. استمرت الفترة التدريبية لأربعة أسابيع وهي على قصرها كانت مليئة بالعلم والخبرة في الأسس الجراحية القويمة.

الدوام في العمليات الصغرى: تقع قاعة العمليات الصغرى قرب العيادة الخارجية في المستشفى بالقرب من الردهات الجراحية 12/13. تجرى في تلك القاعة كافة العمليات الصغرى للحالات الطارئة مثل الجروح والحروق التي لا تحتاج إلى دخول المستشفى، الختان، استخراج الأجسام الغريبة من تحت الجلد ورفع الخيوط للعمليات الكبرى والصغرى التي أجريت في الأيام السابقة وكذلك بزل الخراج الخارجي وغير ذلك.

حصلت على موافقة رسمية للدوام في العمليات الصغرى من إدارة المستشفى وعملت فيها ما يقرب الأربعة أسابيع. كانت الممرضة فكتوريا الخبيرة ذات الشخصية القوية سيدة الصالة بدون منازع. تعلمت أثناء وجودي هناك خياطة الجروح بأنواع متعددة من العقد الجراحية بمساعدة الأطباء المقيمين الأقدمين المناوبين في العيادة الذين كانوا مشجعين لتحقيق رغبتي في تعلم ما يمكن تعلمه.

الزجاجة تنفجر في وجهي: كان التخدير الموضعي السائد هو الاثيل كلورايد المعبأ بزجاجة تحت الضغط العالي والذي يرش على المنطقة التي يراد تخديرها فتتحول تلك البقعة من الجلد إلى منطقة بيضاء متجمدة عديمة الإحساس. يمكن إجراء التداخل الجراحي بدون ألم في تلك البقعة المجمدة. سقطت مرة من يدي قنينة الأثيل كلورايد في داخل مغسلة الصالة العميقة فانفجرت في وجهي وتناثرت القطع الزجاجية على وجهي ودخل بعض المحلول في عيني! هرع الجميع لإسعافي ونقلت إلى قسم العيون في الطبقة العليا من المبنى وبعد الفحص الدقيق تبين انه لم تدخل أية قطعة زجاجية في العين وأجري اللازم بغسل العينين ووضع القطرة والدهن ودفع الله ما كان أعظم.   

زجاجة الأثيل كلّورايد

الصف الخامس:  

يشمل منهاج الصف الخامس الاختصاصات الفرعية: طب الأطفال، الأذن والأنف والحنجرة، العيون، الأمراض الجلدية، والأمراض النفسية. يبدأ يومنا بمحاضرتين ومن ثم التوجه للتدريب في العيادات الخارجية لمدة ساعتين على الأقل.

طبّ الأطفال:

 يتم التدريب السريري في مستشفى حماية الأطفال في الباب المعظم. وهي بناية قديمة تجاور مبنى وزارة الخارجية الذي تحول إلى مقر لوزارة الصحة لفترة مؤقتة فيما بعد. رعى المستشفى أطباء من الطراز الأول في العلم والخلق. ترأست القسم الأستاذة لمعان أمين زكي ومعها الأساتذة: سلمان تاج الدين، لؤي النوري، عدنان شاكر، أنيسة شكارة وصباح الزبيدي. تواصل تدريبنا في مستشفى الطفل العربي في الصالحية قرب الإذاعة وهناك تدربنا لفترة قصيرة على يد الأستاذ مهدي مكية.

الأستاذة لمعان امين زكي: أستاذة الجميع وهي الأكاديمية الرائدة والطبيبة المتميزة علما وخلقا والمعروفة بالهيبة والوقار.

الأستاذ سلمان تاج الدين: يزدان بالحيوية ولا يمكن لك أن تلحق به سيراً في ممرات المستشفى ولا تلحق بما يتفوه به من سرعة النطق بالجمل المثقلة بالعلم والخبرة. بعد تخرجنا بسنة وحينما كان يقود سيارته في شارع خارج بغداد تعرض لحادث سير مؤسف وتوفي على أثره ففقد المجتمع الطبّي علماً في مقتبل عمره.

الأستاذ لؤي النوري: وصل حديثاً الأستاذ لؤي من المملكة المتحدة. تعلمنا منه الكثير.

من اليسار الأستاذة لمعان أمين زكي ثم الأستاذ لؤي النوري وإلى اليمين الأستاذ سلمان تاج الدين

الأستاذ عدنان شاكر: لم تفارق الابتسامة وجهه.

الدكتور صباح الزبيدي: كان الأقرب للطلبة.

الأستاذ مهدي مكيّة: كان جزءاً من تدريبنا في مستشفى الطفل العربي للتدريب تحت إشراف الأستاذ مهدي مكية الذي كان تدريبه في الولايات المتحدة.

من اليسار الأستاذ مهدي مكية ثم الأستاذ عدنان شاكر فالاستاذة انيسة شكارة وإلى اليمين الدكتور صباح الزبيدي
عند التدريب في مستشفى حماية الأطفال في الباب المعظم ويظهر على اليمين الطبّيب المقيم شوقي العطار ثم مجموعتنا: جبار مهدي، نهاد الاسعد، أمل عنبر، وداد العبيدي ثم الأستاذ صباح الزبيدي على يساري

جراحة الأنف والأذن والحنجرة

ترأس القسم الأستاذ داود سلمان علي ومعه جلبرت توما، حسني الآلوسي، ستراك أوانيسوف وأستاذ زائر ألماني.

الأستاذ داود سلمان علي: وزعت علينا الكلية كتاباً منهجياً في الاختصاص ألفه الأستاذ داوود سلمان علي وأصبح عميد كلّيتنا في العام 1966 أي عند تخرجي. بالإضافة إلى خبرته في اختصاصه كان له ولع  بالطب القديم طب وادي الرافدين.

الأستاذ جلبرت توما: معلم متميز في علميته ومتابع للتطورات في الاختصاص.

الأستاذ حسني الآلوسي: أثناء تدريبنا في القسم كان الأستاذ حسني الآلوسي يحضّر لترك موقعه في الكلية وافتتاح مستشفى خاص له في بغداد.

إلى اليسار الأستاذ داود سلمان علي ثم الأستاذ ستراك أوانيسوف وإلى اليمين الأستاذ جلبرت توما

الأستاذ ستراك أوانيسوف: الأستاذ الهاديء حتى في الأوقات العصيبة. أتذكر بأنه كان يجري أمامنا عملية غسل الجيوب الأنفية الملتهبة لأحد المرضى بزرق سائل المحلول الملحي (سلاين) وإذا بعين المريض تجحظ أثناء الزرق. لم يتأثر الأستاذ أوانيسوف وبكل هدوء وضح لنا بالرغم من قلقنا بأن هذا من الاختلاطات المحتملة وطمأن المريض الذي تحسنت حالته بعد أن استراح لبعض الوقت.

إلى اليسار الأستاذ ضياء الدين النواب ثم الأستاذ حسني الآلوسي وإلى اليمين الأستاذ الألماني

الأستاذ ضياء الدين النواب: كان قد عاد حديثا من المملكة المتحدة وهو أخ السباح العراقي العالمي علاء الدين النواب الذي فاز بسباق عبور بحر المانش.

الأستاذ الألماني: شارك في تدريسنا أستاذ زائر من ألمانيا الديمقراطية وكان يتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة وله من خبرة في الاختصاص مشهود لها.

مع الأساتذة والزملاء في العيادة الخارجية للأذن والأنف والحنجرة، الجلوس من اليسار عبد الرحمن الزبيدي وعن يساري الأستاذ حسني الآلوسي ثم الأستاذ داود سلمان فالأستاذ الألماني ثم الأستاذ أوانيسوف وإلى اليمين أمل إسماعيل حقي

طبّ الأمراض العصبية:

كان الأستاذ الوحيد في الاختصاص هو آرتين قنطارجيان وهو محاضر من الطراز الأول يتكلّم بلهجة إنكليزية محببة للأذن خصوصاً حينما كان ينادي الممرضة المسؤولة في الردهة الثالثة المخصصة لطب الأعصاب، مادلـَين وذلك بفتح اللام وإطالة الياء وتسكين النون!

الأستاذ آرتين قنطارجيان

الجراحة البولية:

الشعبة البولية في الردهة الرابعة ورأسها كان الأستاذ طلال ناجي شوكت ومعه الأستاذين مكي الواعظ وجابر محسن.

إلى اليسار الأستاذ طلال ناجي شوكت ومن ثم الأستاذ مكي الواعظ وإلى اليمين الأستاذ جابر محسن
مع الأستاذ طلال ناجي شوكت والمقيم الأقدم طارق الجميلي
في حفل صغير بعد الانتهاء من التدريب مع الأساتذة طلال ناجي شوكت وجابر محسن   يظهر في أقصى اليسار الدكتور طارق الجميلي يقف إلى يميني

الصحة العامة (صحة المجتمع):

كان الدرس “مثقلاً” بالمحاضرات النظرية الشاملة لكلّ آفاق صحة المجتمع ولكن الدروس العملية حققت السعادة للجميع. كنا نذهب في درس الصحة العامة في زيارات مبرمجة إلى مؤسسات ومعامل وغيرها للاطلاع على تحقيق متطلبات الصحة العامة فيها.

شملت زياراتنا مشروع تصفية المياه الثقيلة وأحد معامل الإسمنت ومعمل البسكولاته ومعمل ألبان أبو غريب ومعمل الدباغة ومصلحة إسالة الماء ومصلحة المجاري في بغداد وغيرها. كانت السفرات إسبوعية نستقل فيها حافلة نقل الركاب المخصصة للكلّية من إدارة مصلحة نقل الركاب.  يطغى على الرحلة في الحافلة الهرج والمرج والأغاني والتصفيق. كان النجم الفني للسفرات الطالب “المزمن” الطيب النبيل العزيز على الجميع حميد بهمن الذي كان يتحفنا بشفافية روحه وأغانيه التي يشاركه فيها الجميع.

مع حميد بهمن في نادي الكلّية 1965

يرأس القسم الأستاذ عبد الستار شاهين ومعه الأساتذة سعدون خليفة وحميد تاج الدين وغانم الطويل. وفي السفرات العملية كان يصاحبنا الدكتور العسكري هشام البرزنجي وأحيانا الأستاذ غانم الطويل.

إلى اليسار الأستاذ عبد الستار شاهين والوسط الأستاذ سعدون خليفة ومن ثم الأستاذ حميد تاج الدين

الأستاذ غانم الطويل: أتذكر منه جملة بدأ فيها محاضرته الأولى حينما قال إني غانم الطويل وإن كنت قصيرا! وكان قصير القامة ومحترما وسهل المعشر محاضراته سلسة وسهلة الاستيعاب.  كان يصاحبنا في أغلب زيارات الصحة العامة. بحسب علمي إنه ترك الكلّية الطبّية بعد مدة واتجه اتجاهاً دينياً يخدم فيه المجتمع في الجانب الروحي حيث أصبح قسيساً.

 إلى  اليسار الأستاذ غانم الطويل وعلى اليمين العميد الطبّيب هشام البرزنجي

الخبير الأجنبي في معمل بسكولاتا: من السفرات التي تعلق في الذاكرة تلك التي قمنا بها إلى معمل بسكولاتا للبسكويت والشيكولاتا الذي كان من المعامل الراقية في الوطن العربي وصاحبه السيد أديب فرجو. ومن طريف ما حدث لقاؤنا داخل المعمل مع خبير الشيكولاتا البريطاني مستر بويد. سألت المستر بويد من باب الفضول الطلابي: مستر بويد هل أنت إنكليزي؟ انتفض منزعجاً ورجع خطوة إلى الوراء وهو ينتفض قائلا: كلّا أنا لست إنكليزيا، أنا اسكتلندياً واعتبر ذلك إهانة له! اعتذرت منه وعلمت في حينها أن هناك عداء مستحكم بين الإنكليز والأسكتلنديين مما أثار استغرابي الشديد.

مع خبير معمل بسكولاتا المستر بويد 1965

تحقق لي ذلك العداء عندما عملت في اسكتلندا في السبعينيات فقد حدث مرة وأنا في مدينة دندي الأسكتلندية أن وصلتني رسالة من بغداد كتب على الظرف العنوان الذي يذكر اسمي وعنواني وكلمة اسكتلندا وبعدها إنكلترا وليس بريطانيا. وإذا بساعي البريد يأتي بنفسه ليقول بعصبية: أبلِغ الذي أرسل لك هذه الرسالة بأن اسكتلندا ليست جزءاً من إنكلترا بل نحن جزء من بريطانيا!  

في زيارة إلى معمل بسكولاته والمجموعة على مدرج مدخل المعمل وفي وسط الصورة الأستاذ غانم الطويل
في إحدى زيارات الصحة العامة وفي وسط المجموع العميد الطبيب هشام البرزنجي

طب وجراحة العيون:

في الشعبة كان الأساتذة جلال الأسترابادي وهو رئيسها، الأستاذ فكرت شوقي والأستاذ غازي حلمي أما الأستاذ جلال العزاوي فكان قد تقاعد لتوه.

إلى اليسار الأستاذ جلال العزاوي ثم جلال الأسترابادي، غازي حلمي ثم فكرت شوقي

أتذكر أن نتيجتي في الامتحان النهائي في العيون كانت أعلى درجة في الصف. عندها أبلغني العديد من الطلبة بأن الأستاذ جلال الأسترابادي يطلب مقابلتي. ذهبت مسرعاً وسلّمت عليه وهنأني بالنتيجة شخصياً. والمفارقة هي أنني بعد أن اخترت طبّ العيون لأتخصص به كان هو الوحيد الذي وقف في وجهي ولامني على ذلك الاختيار قائلا “أردتك لاختصاص صعب وليس للعيون!”. وفعلاً تحقق ما طلبه مني مع اعتقادي أن ليس في الطب اختصاص أصعب أو أسهل ولا أفضل من الآخر فكلّ الاختصاصات بحور علم لا يُبلغ قاعها ولكن لكل اختصاص من الاختصاصات ما يميزه عن غيره.  

رأي للأستاذ جلال العزاوي في مقياس تقدم المجتمع: لم أتشرف بلقاء الأستاذ جلال العزاوي الذي كان قد تقاعد منذ سنين وقد كان رئيس شعبة العيون وقبلها عميداً للكلّية.  لكن الذي دفعني لكتابة هذه الملاحظة هو ما نقله الأستاذ جلال الأسترابادي عن العزاوي الذي كان يعتقد بأن تقدم أي مجتمع يقاس بعدد الذين يلبسون النظارات الطبّية في الشارع والذي يدل على أن المجتمع يقرأ ويتعلم!

 وجهة نظري في ذلك: لكن تولدت لدي وجهة نظر أخرى خصوصاً بعد أن غادرت إلى المملكة المتحدة. فآمنت بأن تقدم المجتمع في نظري يتناسب مع نظافة المرافق الصحية في البيوت وخارجها في ذلك المجتمع!

جراحة العظام والكسور:

ترأس الشعبة بالتناوب الأساتذة غانم عقراوي وهادي السباك.

الأستاذ هادي السباك: أشرف الأستاذ هادي السباك على علاج الزعيم عبد الكريم قاسم حينما أصيب بإطلاق الرصاص في محاولة الاغتيال عام 1959 مما سبب له كسرا في ساعده.

الأستاذ عقراوي: خفيف الدم محب للنكتة واشتهر بالترجمة الحرفية لمقولات باللغة العربية إلى الإنكليزية فتكون جملا أو كلمات تثير الضحك لا تعبر عن المعنى الأصلي يستخدمها أحياناً في محاضراته.

إلى اليسار الأستاذ غانم عقراوي، إلى اليمين الأستاذ هادي السباك

الجراحة التجميلية (التقويمية):

رائد الجراحة التجميلية في العراق الأستاذ عصام العمري وقد نشرت مجلة عالمية طريقته في تغطية تلف الجلد والأنسجة في الرقبة وكان شديد الاعتزاز بذلك ليس فقط لشخصه وإنما للكلّية وسمعتها في الخارج.

الأستاذ عصام العمري

جراحة القلب والصدر:

رأس القسم الأستاذ يوسف النعمان وكان معه الأستاذ مؤيد العمري. شاركهم من الباطنية الأستاذين إحسان البحراني ومحمود ثامر.

الأستاذ يوسف النعمان: استحدث الأستاذ يوسف النعمان اختصاص جراحة القلب والصدر والأوعية الدموية في العراق في العام 1963. بالإضافة إلى كفاءته العالية في الاختصاص، كان معروفاً بقدراته الرياضية فقد كان من أبطال العراق في رفع الأثقال في العراق أيام شبابه.

الاستاذ مؤيد العمري: تخصص في جراحة الصدر .

من اليسار الأستاذ احسان البحراني والأستاذ يوسف النعمان ثم مؤيد العمري فالأستاذ محمود ثامر

الجراحة العصبية:

جاء الدكتور رسول صادق من أمريكا عام 1965 بعد حصوله على البورد الأمريكي في الجراحة العصبية وكانت دورتنا الوحيدة التي درسها حيث إنه غادر العراق بعد أشهر من عودته. عندما كنت ملحقاً ثقافياً في واشنطن تم تكريمه  في العام 2009 مع أربعين من الأكاديميين العراقيين الأمريكان الذين بلغوا أو تجاوزوا الثمانين من عمرهم.

الأستاذ رسول صادق بعد تقاعده كأستاذ ورئيس قسم الجراحة العصبية في جامعة نيويورك

الأمرا ض العقلية والنفسية:

كان هناك العَلمان المتخصصان الأستاذ يوسف القاضي وعلي كمال وهما مفخرة الطبّ النفسي بعد الأستاذ جاك عبودي الذي لم نحظ به في الكلّية حيث تقاعد قبل ذلك.

إلى اليسار الأستاذ يوسف القاضي واليمين الأستاذ علي كمال

تلقينا المحاضرات النظرية في قاعات الكلّية والتدريب العملي في العيادة الخارجية التي تقع مقابل معهد الأشعة على الطريق المؤدي إلى مدخل كلّية الطب حيث العمادة.

الأستاذ علي كمال: فلسطيني الأصل طبيب وأديب وفيلسوف.  أتذكر قصة من الأستاذ علي كمال بخصوص الطبيعة والتطبع حيث كان حديثه بشأن هل يمكن للإنسان أن يتغير جذرياً بعيدا عن طبيعته؟  حدثنا عن بحث أجري على طيور في إحدى الجامعات الأمريكية. كانت تلك الطيور تعيش كلّيا على دودة الأرض. منع الباحثون الجيل الجديد من تلك الطيور من رؤية دودة الأرض وقدموا لهم الحبوب التي أكلوها من شدة جوعهم. أعيدت تلك التجربة على أربعة أجيال من الطيور وكلّها لم تر دودة الأرض ولا تأكل غير الحبوب. المفاجأة كانت عندما فقس الجيل التالي وقدم له في جانب دودة الأرض وفي الجانب الآخر الحبوب تركت جميع تلك الطيور الحبوب وذهبت إلى دودة الأرض تلتهمها!

الأستاذ يوسف القاضي: أستاذ قدير وأعتقد أنه من بدأ في مشروع مكافحة الإدمان في العراق.

المعاهد الصحية التابعة للمستشفى الجمهوري:

معهد الأشعة: يدير المعهد الأستاذ شوكت محمود الذي تقاعد وخلفه الأستاذ صاحب زيني. يعتبر الأستاذ شوكت خريج عام 1933 رائد الأشعة من العراقيين في العراق. استمر بعده الأستاذ صاحب زيني لعقود طويلة في المعهد.

كان معهد الأشعة مركز العراق الرئيس في الخدمات والتعليم في مجال الأشعة التشخيصية. واجهته على الشارع الرئيسي المؤدي إلى كلّية الطب. وهناك مدخل آخر صغير من خلف البناية يدخل منه مرضى وأطباء المستشفى لإجراء الفحوصات.

فحص الباريوم: بقي عالقاً في ذهني من كثرة مراجعتنا للمعهد كطلبة هو فحص المعدة بمادة الباريوم. فقد كانت عملية طويلة تبدأ بلبس الصدرية الواقية من الإشعاع لكلّ من في القاعة. يحضّر محلول سلفات الباريوم في ذات الوقت وهو مسحوق أبيض يخلط مع الماء ويكون محلولاً يستمر خلطه لسرعة ترسبه ويعطى بمقدار قدح للمريض ليشربه بجرعة واحدة. وقبل ذلك يلبس العاملون والحضور في القاعة نظارات معتمة وتطفأ الأنوار وبعد ما يقرب العشرة دقائق يبدأ الفحص الشعاعي من قبل الاختصاصي.

إلى اليسار الأستاذ شوكت محمود فالأستاذ صاحب زيني

  مصرف الدم:

يقع مصرف الدم في الشارع الخلفي للكلّية وهو المصدر الوحيد لتقديم الخدمات والتدريب في مجال الدم واستخداماته.. بالرغم من وجود المصرف فقد كانت خدماته محدودة إذ كان الأطباء المقيمون هم الذين يحضروا بأنفسهم في ردهات المستشفى قناني الدم للمرضى الذين ستجرى لهم العمليات. كان المدير في ذلك الوقت الدكتور سليمان الفخري يحاول بكل إخلاص تطوير المصرف ويوسع خدماته. زرته عدة مرات وأنا طالب في الصف الثاني وما بعده للاستزادة من علمه وتجربته وكان يشجعني على تكرار الزيارة.

معهد التدرن:

هو المعهد الوحيد لمراجعة مرضى العيادة الخارجية المصابين بالتدرن. كانت مستشفى التويثة مخصصة للمرضى المصابين بالتدرن حيث يرقدوا لفترات طويلة فيها. كان أحد أطباء المعهد الشباب ابن عمي الدكتور حسين الخليلي. تعرض لنا أفلام أشعة صدر المرضى مصورة على شريط سينمائي عريض بعرض ثلاثة إنجات تقريبا تظهر على شاشة صغيرة بعدسات مكبرة. كانت اجراءات الوقاية والعدوى غير جيدة بحيث يمكن انتقال المرض إلى الأصحاء من العاملين والمراجعين.

معهد البجل (الأمراض الجلدية): 

المعهد هو المركز الرئيس في العراق لتقديم الخدمات للمصابين بالأمراض الجلدية وللتعليم والتدريب. يعمل فيه ثلاثة أساتذة جورج فرج عبد الرحيم، محمّد حسين جعفر واسماعيل التتار. ترى العدسة المكبرة ومصباح الأشعة فوق البنفسجية على منضدة الفحص لكل اختصاصي وهما تستخدمان لفحص الآفات الجلدية في كلّ الأوقات تقريبا.

إلى اليسار الأستاذ جورج فرج عبد الرحيم ثم الأستاذ اسماعيل التتار

الأستاذ جورج فرج: تميز الأستاذ جورج فرج عبد الرحيم بالأناقة المتميزة في الملبس بضمن ذلك وضع وردة العنق.

الأستاذ محمد حسين جعفر: يعتقد الأستاذ محمد حسين أن نبات الصبير (Aloe) ذو فوائد جمة ويردد باللغة الإنكليزية مقولة “Aloe treats any ill in the form of pill” أي أن الصبير يشفي أي مرض إذا أعطي على شكل حبوب”. من المتفق عليه إن عصير الصبير له فوائد جمة ولكن ربما ليس للدرجة التي ذكرها الأستاذ.

عصارة الصبير

الدكتور اسماعيل التتار:الشاب النشط الكفوء كانت علاقته بالطلبة حميمة إذ لم يكن يكبرنا كثيراً حيث تخرج عام 1958.

معهد النظائر المشعة (الطبّ النووي):

يقع معهد النظائر المشعة في ذات الشارع خلف الكلية. يختص المعهد بالخدمات التي تحتاج إلى استخدام المواد المشعة في فحوصات المرضى وفي العلاج. لم أدخل المعهد ولكننا كنا نرسل إليه حالات تضخم أو تورم الغدة الدرقية الحميد والتشخيص باليود المشع أو إرسال حالات سرطان الغدة الدرقية للعلاج باليود المشع الأكثر قوة من الذي يستخدم في التشخيص.

ترأس المعهد الأستاذ محمّد أبو طبيخ ومعه الأستاذ علي الهنداوي والأستاذ ثابت الهيتي والدكتور خيري حميد.

أساتذة الطب النووي من اليمين خيري حميد، ثابت الهيتي، علي الهنداوي، محمّد ابو طبيخ، موسى الحسوني ثم محمد علي العيد

الصف السادس:                                                                                             

يحقق الطالب أمنيته التي تراوده طوال السنوات الخمس الماضية حيث يكون في الصف السادس قاب قوسين أو أدنى من أن يكون طبيبا!  يسمى طالب الصف السادس بالستاجير (والطالبة ستاجيرة والجمع يكون ستاجيرية!) وهي كلمة فرنسية تعني تحت التدريب. يميز هذا التدريب تقسيم الطلبة إلى مجاميع صغيرة بعدد ستة طلاب أو أكثر حسب عدد الطلبة لذلك العام وقد تركت العمادة للطلبة اختيار زملائهم. يبدأ الاستعداد لتكوين المجاميع قبيل انتهاء امتحانات الصف الخامس حينما يتشاور الطلبة لاختيار زملائهم الذين تربطهم عرى الصداقة والرغبة في العمل المشترك والذين سيكونون معهم في المجموعة التي ستستمر حتّى نهاية السنة. يجب التوافق كذلك بين المجموعة الواحدة مع مجموعة أخرى حيث هناك مراحل تدريبية تشمل مجموعتين مجتمعتين. وهنا يجب أن يحظى ذلك الاختيار بموافقة أفراد المجموعتين.

تبدأ اللقاءات والنقاشات والـ: “زعل!” والتوافقات بشأن الانضمام إلى تلك المجموعة أوغيرها.  وتظهر على السطح العلاقات الحميمة والرافضة والمخفية إلى حين يكتمل النصاب لكلّ مجموعة. عند الاتّفاق النهائي تقدم القوائم إلى العمادة لتعدّ الجدول الكامل للتدريب في الأقسام لكامل السنة.

كانت مجموعتنا الصغيرة تضم: أمل عنبر، نهاد الأسعد، عبد الحسين الهادي، جبار مهدي، وداد العبيدي، عبد الحميد الباقر، وعبد الهادي الخليلي.

مع الأستاذ آرتين قنطارجيان على يمينه وداد العبيدي ونهاد الأسعد وعلى يساره جبار مهدي وأمل عنبر

أما المجموعة المقابلة فكانت تضم: سلافة رومايا، مهند عباس شكري، نزار عزو، صباح ميخائيل، صباح جزراوي، يسرية عبد الكريم، نازنين فائق فرج وروناك الحيدري.

اقتصر البرنامج في السابق على التدريب السريري في ردهات المستشفى. ولكن بتطور الاختصاصات الطبّية اضطرت العمادة إلى تضمين محاضرة إضافية كل يوم في بداية (الدوام).

يبدأ الدوام والتدريب عادةً بعد إسبوعين من انتهاء مرحلة الصف الخامس ويستمر لسنة تقويمية كاملة بحسب جدول تعده العمادة.  يشمل ذلك التدريب في الردهات الجراحية وردهات الباطنية وردهات الأمراض النسائية والتوليد لمدة ثلاثة أشهر لكلّ منها وكذلك شهر واحد لكلّ من الأمراض العصبية، الجراحة البولية وجراحة العظام والكسور والتي تدعى بالاختصاصات الفرعية. تلتقي مجموعتانا في اختصاصات الجراحة العامة والأمراض النسائية والتوليد.

بدأت مجموعتنا في بداية السنة في الردهة السادسة الباطنية وبعدها انتقلنا إلى الوحدة الجراحية الثانية (الردهات 17-18).  بعد ذلك انتقلنا إلى الاختصاصات الثلاث الفرعية وكانت نهاية تدريبنا  في ردهات قسم الأمراض النسائية والتوليد.

الطبّ الباطني:            

كان رئيس الفرع الباطني الأستاذ محمود الجليلي. وكان كذلك المسؤول عن الردهة الباطنية السادسة. بلغ عدد أعضاء الهيئة التدريسية معه ما يزيد على العشرين عضواً. كما ذكرت سابقا لدي ذكريات شخصية مع العديد منهم سترد في فصلي: أشخاص وذكريات وأشخاص وبصمات.

تقرر أن يتم تدريب مجموعتنا في الردهة السادسة التي يرأسها الأستاذ محمود الجليلي ومعه الأستاذ زهير القصير والأستاذ قيس الملي. لم يسع الأستاذ محمود أن يحضر بصورة منتظمة لانشغاله بواجبات أكاديمية ورسمية أخرى. كانت المسؤولية بعاتق الأستاذ زهير ويساعده الدكتور قيس الملي المنتسب إلى وزارة الصحة.

في اليسار الأستاذ محمود الجليلي فزهير قصير ومن ثم قيس الملي
من اليسار الأساتذة عبد الحميد العباسي، فرحان باقر، محمود ثامر ثم أمين جريديني
من اليسار الأساتذة غانم الصفار، سالم الدملوجي، بديع صبحية ثم محمد علي خليل
من اليسار الأساتذة عبد المجيد الشماع  وحسين الاورفلي
في اليسار الأستاذ عادل دوغرمجي ثم الأستاذ مهدي مرتضى فالأستاذ عبد الحميد العباسي

الأستاذ سالم الدملوجي: من المتخصّصين بأمراض الجهاز التنفسي لا سيما التدرن الرئوي.

الأستاذ بديع صبحية: بهي الطلعة أنيق ومن الأساتذة المعروفين بكفاءته في أداء المحاضرة وحبه للتدريس.

الأستاذ زهير قصير: مسؤول الردهة السادسة بعد الأستاذ الجليلي، واهتمامه بالجهاز الهضمي.

الأستاذ محمود ثامر: الأمريكي التدريب والمدرسة، المعروف بالنشاط والهمة والتجديد.

الأستاذ محمّد علي خليل المدامغة: أستاذ الطب والمتخصص بطبّ الغدد الصماء المشهود له بذلك.

الأستاذ أمين جريديني: لبناني الأصل وعراقي الولاء كنا نتتلمذ على يده في الصف الرابع.

الأستاذ عبد المجيد الشماع: طويل القامة سريع الخطى كثير التدخين. أستاذ قدير ولكن لم تسنح لي الفرصة أن أتدرب على يده مباشرة.

الأستاذ حسين الأورفلي: قصير القامة لطيف المعشر معلم جيد وذو خلق رفيع. كان في الردهة الثامنة.

الأستاذ فرحان باقر: علاقتي مع الأستاذ فرحان كانت علاقة خاصة منذ كنت طالباً. لم يقتصر الأستاذ فرحان على تميزه في الطب الباطني التشخيصي بل تعداه إلى التميز في البحوث واستحداث الجديد في الكلية. فقد استحدث عيادة السكر ولعلها من أول العيادات في المنطقة وكذلك استحدث مختبر فحص الجهاز التنفسي وغيرهما.

الأستاذ عادل الدوغرمجي: يمثل الأستاذ عادل أواخر الجيل السابق من الأساتذة الرواد. كان مسؤول الردهة التاسعة وتدربنا عنده في الصف الرابع. كان صارما وجديا في تدريسه وكذلك في الامتحانات حيث يجب على الطالب أن يجيب عن أسئلة الأمراض والأعراض بنفس السياق المذكور في الكتاب.

الأستاذ مهدي مرتضى: شارك الأستاذ فرحان في الردهة الباطنية الأولى. غني عن الوصف في خلقه وكفاءته وحبه للطلبة.

الأستاذ عبد الحميد العباسي: من الأساتذة المرموقين في الطبّ الباطني وكان كذلك في الردهة الأولى وللأسف لم أتشرف بأن أتدرب على يده.

الأستاذ غانم الصفار: كان يشكو من ضعف في بصره حيث كان يستخدم نظارات سميكة العدسات. فقد بصره تدريجياً إلى أن بلغ الفقدان الكلي ولكنه لم يتخل عن المشاركة في امتحانات الصف السادس النهائية.

الجراحة العامة:

الوحدة الجراحية الأولى:

يرأس الوحدة الأستاذ خالد ناجي ومعه الأستاذ عزيز محمود شكري والأستاذ تحرير الكيلاني. تدربنا في هذه الوحدة في الصف الرابع وهناك زرعت فينا الأسس التربوية في علم وفن الجراحة. 

الأستاذ خالد ناجي: غني عن التعريف فهو شيخ الجراحين والعلم الخفاق في الميدان الجراحي والإبداع.

لم يكن يترك الطالب حتى يتأكد من استيعابه لما يقول. كتب على لوحة في غرفته في الردهة “لا تنس أن تسأل لماذا”. كان لي الشرف أن أساهم في خدمته بإجراء عملية جراحية له بعد إصابته بالشلل بسبب نزف في الدماغ.

الأستاذ عزيز محمود شكري: الأستاذ عزيز مشهود له بالكفاءة الجراحية.

الأستاذ تحرير الكيلاني: أكثر الأساتذة شبابا وحيوية هادئ الطبع باسم المحيا ومعلم جيد بالإضافة إلى قدراته الجراحية الفذة.

في اليسار الأستاذ خالد ناجي ومن ثم الأستاذ عزيز محمود شكري وفي اليمين الأستاذ تحرير الكيلاني

الوحدة الجراحية الثانية (ردهة 17/18):

هي الوحدة التي أرست ذكرياتها وبصماتها عليّ طول العمر.

ترأس فرع الجراحة الأستاذ عبد اللطيف البدري الذي كان مكتبه في تلك الوحدة ولكنه نادرا ما كان يحضر العمليات الجراحية أو التدريب السريري لانشغاله بشؤون إضافية خارج الفرع. الأساتذة الآخرون ثلاثة هم الأستاذ خالد القصاب، الأستاذ عبد الكريم الخطيب والأستاذ زهير البحراني.

كان التدريب في تلك الوحدة من أحلى وأفضل الفترات التي قضيناها في الصف السادس مع أساتذة كانوا قدوة لي وللجميع. ولهذا السبب فإن تفاصيل علاقتي بالأساتذة الأربعة سأفصلها في أشخاص وبصمات. 

في اليسار الأستاذ عبد اللطيف البدري فالأستاذ خالد القصاب والأستاذ زهير البحراني
وفي اليمين الأستاذ عبد الكريم الخطيب

فضلاً عن الوحدة الجراحية الثانية التي تدربنا فيها كانت هناك وحدتين أخريتين الأولى وتضم الردهتين 12/13 والوحدة الثالثة تضم الردهتين 19/20.

الوحدة الجراحية الثالثة:

تشغل الوحدة الثالثة الردهة 19/20ويرأسها الأستاذ حسين طالب من فرع الجراحة بالكلّية ومعه الأستاذ هاشم الهاشمي والجراح الأقدم المنتسب إلى وزارة الصحة الأستاذ حسن الحسني.

الأستاذ حسين طالب: من “أشجع” الجراحين حيث يستقطب الحالات الجراحية المستعصية والميؤوس منها.

الأستاذ هاشم الهاشمي: الجراح والمعلم والشاعر وقد تميز بالثلاثة.

الأستاذ حسن الحسني: جراح قدير محترم من الجميع ولكنه قلّ إن يحضر الندوات الجراحية أو المؤتمرات العلمية إذ لم يكن على ملاك التعليم.

في اليسار الأستاذ حسن الحسني ومن ثم الأستاذ حسين طالب فالأستاذ هاشم الهاشمي وفي  اليمين الأستاذ هاشم عبد الرحمن

قسم الأمراض النسائية والتوليد:

كان تدريبنا مشتركا مع المجموعة المقابلة لمجموعتنا أثناء الدوام الرسمي ماعدا إسبوعين كنا فيها خفراء في الليل للتدريب على عمليات الولادة وحالات الطوارئ في الاختصاص.

ترأس الفرع الأستاذ كمال السامرائي ومعه جمع من الأساتذة الأفاضل الأعلام وهم: الأستاذة لميعة البدري، الأستاذ قيس كبة، الأستاذة آنا ستيان، الأستاذ فؤاد حسن غالي، الأستاذة مركريت شكري والأستاذة فايدة كابان.

الأستاذ كمال السامرائي: شيخ الأطباء فضلاً عن كفاءته الجراحية العالية في الاختصاص وأكاديمي من الطراز الأول والأكثر من ذلك فهو مؤرخ قدير لتاريخ الطبّ والتاريخ العراقي.

عند تدريبنا في قسم الأمراض النسائية والتوليد أتذكر كم كان الأستاذ كمال السامرائي صارما. ففي درس سريري اقتضى فحص مريضة في الردهة فحصا داخليا وكرر الفحص بعض طلبة المجموعة مما سبب إزعاجا وعدم رضا من المريضة ورفضت أن يفحصها أي طالب آخر. غضب الدكتور كمال وأمر أن تخرج المريضة من الردهة وترسل إلى بيتها. أظهر بعضنا تعاطفا مع المريضة ولكن جواب الأستاذ كمال كان أن المريضة تعرف مسبقا بأن هذا مستشفى تعليمي وكان بإمكانها أن تذهب إلى مستشفى آخر. وقال إذا ما تكرر ذلك الرفض من المريضات الأخريات فلن يكون لكم حظ في التعلم السريري أبدا. فكان ذلك درساً مهماً للجميع.

الأستاذة لميعة البدري: أستاذة فاضلة أنيقة في مظهرها وملبسها. محاضراتها كانت من أفضل المحاضرات.

الأستاذ قيس كبة: شاب مملوء بالحيوية خفيف الحركة يتمتع بكفاءة عالية في العمليات التي كان يسابق فيها الريح! أعتقد أنه من أوائل من استخدم السونار لفحص الحوامل في العام 1965 في المستشفى وربما في العراق.

في اليسار الأستاذ كمال السامرائي ثم الأستاذة لميعة البدري فالأستاذ قيس كبة وفي اليمين الأستاذة آنا ستيان

الأستاذة آنا ستيان: الأستاذة آنا محبوبة الجميع بتواضعها وحبها للطلبة والرعاية الرائعة للمرضى.

في  اليسار الأستاذ فؤاد حسن غالي ثم الأستاذة مركريت شكري وفي  اليمين الأستاذة فائدة كابان

الأستاذ فؤاد حسن غالي: مَن الذي لا يعرف الأستاذ فؤاد في الاوساط الطبّية والمجتمع العراقي كلّه فهو ذلك العلم الذي خدم الاختصاص والطب والكلّية والجمعيات والمؤسسات الطبّية.

الأستاذة مركريت شكري: الأستاذة مركريت هي زوجة الأستاذ عزيز شكري.كنت في قاعة العمليات حين إجرائها عملية جراحية. طلبت كفوفا بديلة للكفوف التي كانت تلبسها وعندما جلب لها ممرض العمليات كفوفا أخرى سألت الأستاذة مركريت: هل تحلف اليمين بأن هذه الكفوف معقّمة؟ فكان جواب الممرض بالإيجاب. والدرس هنا هو التأكد من حقيقة كانت تبدو ظاهرة ولكن بسؤالها تبين مدى إخلاص الطبيبة لمبدأ الكمال في العمل والتأكد من أن الممرض قدم لها الكفوف المعقمة.

وللعلم كانت الكفوف الجراحية في ذلك الوقت غير نبيذة أي انها تستعمل لمرات عديدة حيث تغطى بمسحوق  التالك (سيليكات المغنيسيوم) لتسهيل دخول الأصابع فيها وتوضع الكفان في جيبين من قطعة قماش وتعقم مع الأدوات الجراحية. وقد أثبتت خطورة هذه المادة  لذا تقرر عالمياً عدم استعمال تلك المادة واستبدالها بالكفوف النبيذة التي تستعمل لمرة واحدة فقط. 

الكفوف (القفاز الجراحي) ويرى المسحوق المتطاير من حولها

مختبر وظائف الرئة:

من إنجازات الأستاذ فرحان باقر استحداث مختبر وظائف الرئة الذي كان له الأثر البالغ في تقييم وظائف الرئة عند المرضى. عملت فيه وأدارته السيدة إيرين أولرج الألمانية القديرة والكفوءة.

التخدير:

الأستاذ عبد الامير الأزري رئيس الشعبة كان متخصّصاً قديراً ويحظى باحترام وتقدير كل الجراحين لكفاءته العالية وخبرته الطويلة. كان معه الأساتذة عبد الله العنيزي وسعد تيسي.

أطباء التخدير من خريجي الاتحاد السوفيتي: تزامن مجيء العشرات من خريجي عدد من الكلّيات الطبّية في الاتحاد السوفيتي. وبسبب وجود شحة شديدة في عدد أطباء التخدير في العراق في تلك المرحلة تقرر أن يتخصص هؤلاء الأطباء في طب التخدير بعد إكمالهم لدورة تدريبية تخصصية. تم ذلك بالاتفاق مع أولئك الخريجين. كان لذلك القرار التأثير الكبير في انتعاش الاختصاص والذي ينعكس على عدم تأخير مواعيد العمليات الجراحية.

الدكتور عبد الأمير الأزري 
الدكتور عبدالله العنيزي
بحث علمي نشره الأستاذ عبد الله العنيزي حول فقدان الحرارة أثناء التخدير العمومي

العلاقات الطلابية الأخوية:

قضينا في تلك السنة الأخيرة من الدراسة أياما سعيدة مليئة بالتعلم والصحبة النبيلة والعلاقات الأخوية التي كان يطغى عليها الاحترام والتقدير وحب الآخرين والنقاء في التعامل والتفاني في العمل. لم يصدر ولا مرة واحدة من أي من الزملاء ما ينغص علينا علاقاتنا ولم يقصر أي منا في واجباته المهنية المطلوبة. كانت علاقتنا مع أساتذتنا علاقة مميزة ترقى أحيانا إلى علاقة صداقة مع الإبقاء على الحاجز الثابت بين الطالب وأستاذه.

النشاط الترفيهي:

 كنا فضلاً عن متابعتنا العلمية والدوام المنتظم والتحضير المستمر نجد الوقت الذي نتمتع فيه بنشاط اجتماعي ترفيهي ليخفف عنا زخم الدراسة. كان أفراد مجموعتنا وبعض الزملاء الآخرين من خارجها يرافقونا عندما نسافر للترفيه داخل وخارج بغداد. مثال ذلك سفرات إلى بحيرة الحبانية وسدة الهندية أو سفرة نهرية في نهر دجلة حيث نقضي يوماً كاملاً ننطلق فيه مستمتعين بالرياضة والأكل والتجوال.

سفرة الهندية
سفرة الحبانية ويظهر الأستاذ حسني الآلوسي في أقصى يسار الصورة

استأجرنا مرة يختاً (يخت دجلة) بصحبة أساتذتنا خالد القصاب، زهير البحراني وعبد الكريم الخطيب.  سار بنا اليخت إلى دار آل القصاب العامر على ضفاف نهر دجلة في منطقة كرادة مريم، وهناك ملأنا اليخت بما لذّ وطاب من المأكولات التي تكرم بها الأستاذ خالد وشقيقته أستاذتنا سعاد القصاب.

مع الأساتذة خالد وزهير وعبد الكريم وتظهر الأستاذة سعاد القصاب جالسة (أمام الأستاذ زهير)

شغل أكثر وقتنا في اليخت الأستاذ خالد بمسابقات فنية كان هو بطلها وكانت إحداها كما هو معروف اختبار “من دون كلام” فكان يمثل بحركات موزونة ما يدل على عنوان فلم من الأفلام السينمائية التي كانت تعرض في بغداد تلك الأيام وكان علينا أن نعرف ذلك العنوان.

في لقطة للأستاذ خالد وهو يمثل مسابقة “من دون كلام”
على درج اليخت

الامتحان النهائي:

يستمر الامتحان النهائي في الصف السادس لمدة إسبوعين تقريباً. يُبتدأ بالامتحان النظري بطريقة الأسئلة التفصيلية حيث لم يُدخل أسلوب الأسئلة الشبحية بعد. يدخل جميع الطلبة قاعات الامتحان وتشمل المواد  الأساسية الجراحة العامة (وبضمنها كافة الاختصاصات الجراحية الدقيقة)، الباطنية (وبضمنها الاختصاصات الدقيقة) والأمراض النسائية والتوليد.

أما الامتحان السريري في المواد الثلاثة فيقسم إلى امتحاني الحالات الطويلة والحالات القصيرة. تتكون لجنة الامتحان من أستاذين اثنين في كل من هذين الامتحانين. يقوم الطالب في الحالة الطويلة بتقديم حالة واحدة لمريض يشكو من مرض معين وعلى الطالب وبعد ما لايزيد على الساعة تقديم الحالة أمام الأستاذين بتفاصيل فحص المريض واقتراح الفحوصات اللازمة، وعليه أن يصل إلى التشخيص الدقيق أو التقريبي. أما الامتحان الآخر فهوامتحان الحالات القصيرة حيث يطلب من الطالب أن يصل إلى التشخيص السريع لخمس حالات مرضية تقدم له من الأستاذين المسؤولين.

يشارك في الامتحان السريري في بعض السنين أساتذة أجانب بدعوة من عمادة الكلية. كان في امتحان الجراحة في دورتنا أحد الأساتذة الجراحين الإنكليز كممتحن خارجي. بعد الامتحان صرح الأستاذ قائلاً: “إن بعض طلبتكم مؤهلون أن يدخلوا امتحان زمالة كلية الجراحين الملكية” لما لمسه من العديد من الطلبة أثناء امتحانه لهم مما  يدل على مستوى التعليم والتدريب العالي الذي كنا نعيشه. 

تجمع كافة نتائج الامتحانات النظرية والسريرية (الحالة الطويلة والقصيرة) وتكون هي النتيجة النهائية في كل من المواد الثلاثة.

من الحوادث التي تذكر في غضون تلك السنة:

الباطنية:

كان تدريبنا في الردهة السادسة حيث كان الأستاذ محمود الجليلي مسؤولاً عن الردهة ولكنه قليل الحضور والمسؤول الفعلي كان الأستاذ زهير قصير ومعه على ملاك وزارة الصحة الدكتور قيس الملي والمقيم الأقدم المسؤول كان الدكتور فؤاد القصب. وربما من المفيد ذكر أن المقيمين الأقدمين ممن أتذكرهم في تلك الفترة كانوا قيس الأوقاتي في الردهة السابعة، إسماعيل ما شاء الله في الردهة التاسعة وخالد عبد الله في الردهة الأولى. 

الدكتور فؤاد القصب

 نوفل القاضي والكحول والـ “مزّة”: من الطرائف التي تذكر أن أحد زملائنا وهو نوفل القاضي المعروف بقفشاته شاركنا في محاضرة سريرية للدكتور قيس الملي في ردهة الباطنية حيث كان النقاش معمقا بخصوص حالة مرضية لمريض كان في الردهة وكنا أربعة عشر طالبا بضمنهم طلبة ضيوف من مجاميع أخرى. فوجئنا بإدخال حالة طارئة لمريض فاقد الوعي مصاب بتسمم الكحول. ونظرا لأهمية العلاج الآني لتلك الحالة فقد ترك الدكتور قيس المريض الذي كان يشرح لنا حالته واتجه إلى المريض فاقد الوعي. بدأ بتوضيح العلاج الطارئ لتلك الحالة. وجه الدكتورسؤالا للطلبة جميعا حول أهم علاج يحتاجه المرض في تلك اللحظة؟ وإذا بنوفل القاضي وهو يقف في الخلف يجيب على الفور: أستاذ، نعطيه “مزّة” بالوريد، والمزّة هي عدة صحون مثل الخيار مع اللبن، الباقلاء المسلوقة، المخلل وغيرها من الأكلات الخفيفة التي عادة ما تقدم مع شرب الكحول! وإذا بالدكتور قيس يغضب بشدة ويطلب من نوفل أن يخرج من الردهة في الحال. وكانت تلك النادرة تتردد على ألسنة الجميع لسنين بعدها!

فؤاد القصب والمقلب: كان الدكتور فؤاد المقيم الأقدم في الردهة السادسة الحارس الأمين على مرضاه والمعلم الجيد للطلبة. ومع ذلك الجدّ في العمل كان الدكتور فؤاد يحب النكتة. وفي مرة جاء أحد الأساتذة من ردهة باطنية أخرى مع طلبته إلى ردهتنا حيث يرقد مريض مصاب بعدم كفاءة الصمام الأبهري الذي يحدث نوعا مميزاً من النبض يحس به الفاحص عندما ترفع ذراع المريض إلى أعلى. كان فؤاد واقفاً في مدخل الردهة حينما سأله الأستاذ الزائر عن رقم المريض المعني فقال له أستاذ إنه رقم 21. وكانت توضع أرقاما على الحائط فوق السرير للدلالة. وبالصدفة كان الرقم 21 منحرفاً نحو السرير 22. ذهب الأستاذ مع الطلبة إلى المريض 22 بدلاً من المريض 21. وبعد فحصه للمريض طلب من الطلبة أن يفحصوا نبض المريض بالتعاقب وهو يشرح لهم ما يكون عليه النبض في شريان الذراع. كان فؤاد في مدخل الردهة ينظر “بطرف عينه بخبث” وبعد فحص ثلاثة طلاب أو أربعة جاء إلى الأستاذ وهو يهمس في أذنه بأن المريض المقصود يرقد في السرير المجاور! فتحول الجميع إلى المريض الآخر وتحول ذلك المقلب إلى حديث بيننا فقط ولم يخرج إلى العلن. 

درس من أحد الأساتذة الزائرين: في الصف السادس زارنا عدة أساتذة من بريطانيا أتذكر منهم الأستاذ ثانت والذي جاء برفقة زوجته وهي سيدة عراقية فاضلة (لعلها من عائلة المدفعي الكريمة) وآخرون. زارنا في الردهة السادسة الأستاذ كاميرون البريطاني. قدّمت له حالة مرضية كان المريض قد ذكر لي بأنه كان يشعر بتضخم أو ورم تحت الصدر في الجانب الأيمن. ولكن عند إجراء الفحص لم أجد ذلك فلم آخذ ما ذكره عن ذلك الإحساس بالورم بعين الاعتبار ولم أذكره للأستاذ حين التقديم. ولكن أثناء النقاش ذكرت له ما شعر به المريض من وجود ورم تحت الضلع والذي اختفى بعد حين،  وقلت للأستاذ كان لي شك بما قال المريض. وهنا وضع الأستاذ يده على كتفي ناصحاً بأن لا أقلل من أهمية أية معلومة يدلي بها المريض لأنها قد تكون مفتاح التشخيص. وكان ذلك درس لم أنسه. 

الجراحة العامة:

كان التدريب في الوحدة الجراحية الثانية من أفضل ما حصلنا عليه حيث كان الأساتذة خالد القصاب، عبد الكريم الخطيب وزهير البحراني من أفضل الجراحين والمربين.

شاركنا أثناء تدريبنا في تلك الوحدة مشاركة فعّالة في رعاية المرضى والقيام بواجب الخفارات والعمليات الكبرى والصغرى واللقاءات العلمية الدورية مثل اجتماع الأورام الإسبوعي الذي كان برعاية الأستاذ خالد القصاب.                                                                                                                                    

تصريح غير متوقع: جرت العادة في الوحدة الجراحية الثانية أن يجتمع الأساتذة خالد القصاب، عبد الكريم الخطيب وزهير البحراني بطلبة الصف السادس (الستاجير) بعد انتهاء التدريب الذي يستغرق اثني عشر أسبوعاً. لم يسمح للأطباء المقيمين بالحضور في ذلك اللقاء وكان ذلك السياق المتبع دوماً. جلس الأساتذة الأكارم أمامنا نحن الطلبة وبدأ الأستاذ خالد يستطلع رأي كلّ منا بشأن رأينا بالوحدة الجراحية وما يمكن تحسينه. تحدث الزملاء بالتعاقب وجاء دوري فقلت: يا أساتذتنا الكرام نحن لم نتعلم في هذه الوحدة علم الجراحة فقط بل تعلمنا الخلق الطبّي والتعامل مع المريض وأهله. وهنا انتشى الأساتذة لهذا الإطراء الذي كان من القلب. وقلت بعدئذ يا للأسف إننا جابهنا عددا من الوفيات التي حدثت في الوحدة وكان من الممكن تفاديها. كان ذلك مفاجئاً للأساتذة حيث طلبوا الدليل. وعندها ذكرت لهم بعض حالات وفاة مرضى كنت أرعاهم وكذا فعل الزملاء الآخرون. كان المقيم الأقدم في الوحدة هو السبب في ذلك حيث لم يعط المريض حقه بالرعاية اللازمة  بالرغم من كفاءته الجراحية المتوسطة. بعد تركنا الوحدة علمنا بأنه ترك تلك الوحدة الجراحية.

الأستاذ خالد ناجي وعملية أخيه الدكتور إسماعيل: في نهاية العام الدراسي أصيب الدكتور إسماعيل ناجي أخ الأستاذ خالد بوعكة صحية شديدة كان سببها حصى المرارة. تقرر أن تجرى له عملية جراحية، لكن لم نكن نتوقع بأن الأستاذ خالد هو الذي سيجري هذه العملية. خيم الصمت على الجميع في قاعة العمليات والكلّ ينظر إلى وجه الأستاذ خالد وتخيل مشاعره وهو يبضع بطن أخيه. تذكرت هناك قصيدة الشاعر جورج صيدح حينما دخلت ابنته إلى قاعة العمليات لإجراء الجراحة لها وهو جالس يترقب في غرفة الانتظار حينها جادت قريحته بقصيدة تعبر عن شعور وألم الأب الحنون فقال فيها:

رفقا بها يا مبضع الجراح ** شرّحت قلب الوالد الملتاح

أن زدت إيلاما فضحت تجلدي ** وجمعت بين صياحها وصياحي

رباه سدد كفه وسلاحه إني ** طرحت على يديه سلاحي

وهنا أرى أستاذنا الجراح المتميز يجري العملية لأخيه حباً به وثقة بأنه أفضل من يمكن أن يرفق به ويمنحه كلّ خبرته الجراحية. ولله الحمد نجحت العملية وكان كلّ شيء على ما يرام.

الدكتور إسماعيل ناجي

شيء حول الدكتور إسماعيل ناجي: أصدر الدكتور إسماعيل ناجي مجلة دورية لعلها كانت شهرية وهي موجهة إلى المواطن والمثقف وكانت غنية بالمعلومات الصحية التطبيقية التي يستفيد منها الجميع وكذلك معلومات صحية تغني القارئ بمعرفة كثير من الحقائق الطبّية. كانت توزع بسعر رمزي ومن تشويق موادها صور كارتونية تسر القارئ وترسخ المعلومة في ذهنه. كانت المجلة حديث المجالس وكان اسم اسماعيل ناجي يذكر بكلّ العرفان من الجميع. الذي سمعته كذلك أن الدكتور إسماعيل كانت له عيادة طبّية في بغداد يخدم فيها الفقراء والمعوزين وساهم معه العديد من الأطباء في العلاج المجاني. 

صفحات من مجلة العيادة الشعبية عام 1953 (تشاهد في هذا العدد مقالة الأستاذ رؤوف البحراني والد الأستاذين إحسان وزهير وهو يطرح مشروع تأميم الطب في العراق)

أصدر الدكتور اسماعيل ناجي كذلك كتابا مهما يهدف الى تثقيف المجتمع صحيا بالحديث عن الاخطاء الطبية الشائعة بطريقة شيقة بسيطة بكتيب بعنوان “أخطاء طبية شائعة”.

من منشورات العيادة اشعبية

حدث في الامتحان النهائي:

الصدمة والقرار بمغادرة قاعة الامتحان والأستاذ خالد القصاب:

كان الأستاذ خالد يترأس الإشراف على القاعة الامتحانيةأثناء الامتحان النهائي في الصف السادس في مادة الطبّ الباطني. شعرت وأنا أتطلع إلى الأسئلة بما ليس في الحسبان، حيث حصلت عندي حالة “توقف دماغي” (Mental Block). عندها قلت للأستاذ خالد أني سأعطي دفتري فارغاً وأغادر القاعة. استغرب من هذا الكلام فهو يعرف مستواي العلمي لأني قضيت تدريبي الجراحي تحت رعايته. سحب كرسياً قريباً وجلس بجنبي وطلب لي “استكان” شاي وتحدث معي يلطف الجو علي، وعندما هدأت بدأت بالإجابة المتواصلة. تحدث هذه الحالة في مثل تلك الظروف وصاحب الحظ من يكون بجنبه ويقوي عزيمته مرشد مثل خالد القصاب. وبعد ذلك وكما ذكرت سابقاً كنت الخريج الأول في دفعتي. فالشكر كلّ الشكر له على هذا وعلى أفضاله الكثيرة السابقة واللاحقة.

امتحان الجراحة والأستاذ زهير البحراني:

كان امتحاني النهائي السريري الجراحي للحالات الطويلة في الردهة 17 وكانت اللجنة الامتحانية برئاسة الأستاذ زهير البحراني. كانت الحالة لمريض مصاب بتشمع الكبد الذي سبب تكرار التقيؤ الدموي. عند أخذ القصة المرضية من المريض ثم فحصه سريرياً تبين في تلك اللحظات وأنا أقوم بفحصه أن بدأ الكبد بالخذلان (العجز) وذلك بظهور رجفان الكفين (Flapping Tremor) التي لم تظهر عند تقييم حالته في صباح ذلك اليوم من الأطباء المقيمين. عند تقديم الحالة للامتحان ذكرت أن المريض في حالة خذلان الكبد ولم يتقبل ذلك الممتحنون لما كان لديهم من معلومات قدمت لهم من المقيمين عن حالته قبيل ظهور ذلك. وعندما جاء الأستاذ زهير وفحص المريض تأكد من صحة وجود الخذلان فأوصى المقيمين لاتخاذ اللازم حالاً وأثنى على ما قدمت وحصلت على درجة عالية جدا في الامتحان السريري.  

نكبة وفاة زميلنا زاريه زاكايريميان: قبيل ظهور النتائج ذهبت مجموعتنا بسفرة نهرية في يخت عبر نهر دجلة باتجاه جنوبي بغداد إلى ما بعد جزيرة أم الخنازير. بسبب ظروف شخصية لم أستطع أن أرافقهم. وهناك راق للبعض السباحة في دجلة ومنهم كان زاريه. وفي غفلة من القدر أخذت التيارات المائية زاريه بحيث لم يستطع السيطرة ولم يتمكن أي من الزملاء معه أن ينقذه فابتلعه النهر إلى أعماقه وانتقل إلى خالقه ولم يبق على تخرجه يوم أو يومان ليفرح به الأهل. كانت نكبة كبرى للكلّية ككل ولنا نحن أحبابه وأصدقاؤه فقد كان من أطيب الطلبة وأحبهم للجميع مسالماً ومملوءا بالحيوية ودائم الابتسامة. كان يوماً عصيباً علينا يوم ودّعناه إلى مثواه الأخير في مقبرة الأرمن والكل يذرف الدموع الساخنة على أخ عزيز وزميل حبيب وشاب في مقتبل عمره، وهكذا غلب القدر المؤمل.

زاريه زاكايريميان

التخرج بتفوق:

العميد استدعاني … ولقاء فضيلة الراوي:

ظهرت شائعات بين الطلبة بأن النتائج النهائية للصف السادس قد تعلن قريباً. كنت في تلك الساعة في ساحة الكلّية مقابل بناية التشريح حينما جاءني فرّاش العميد طالباً مني الحضور أمام العميد، ولم يبلغني سبب ذلك. لم يكن العميد الأستاذ أحمد صميم الصفار في الكلية وكان معاونه الأستاذ عبد الستار شاهين يقوم مقامه وهو الذي طلب حضوري. دخلت مكتبه وسلّمت عليه فطلب مني الجلوس وطلب لي استكان الشاي. فاجأني الأستاذ عبد الستار بتهنئتي بكوني الخريج الأول للكلية فكانت تلك فرحة لا تجارى وشعرت في حينها بتحقيق هدفي الذي وضعته لنفسي وأنا بعمر أحد عشر عاماً. خرجت من غرفة العميد بعد شكره على تهنئته وتبريكاته.

لدى خروجي من بناية العمادة إلى الساحة الأمامية قابلتني الزميلة فضيلة الراوي التي كانت في الصف الخامس. سألتني فضيلة هل صحيح ظهرت نتائج التخرج أجبتها بنعم. ثم سألتني من هو الخريج الأول: فأجبتها بكلّ هدوء وعدم انفعال بأني كنت الأول. وبسبب هدوئي وعدم انفعالي  لم تصدق ذلك واعتقدت بأني أمزح معها. وعندما علمت بأن ذلك حقيقة فرحت وباركت لي، وبعد ذلك بقيت تلك اللحظات لسنين في ذاكرتها تتحدث عنها بتندر. وهذا هو ديدني فيما أجابهه في الحياة من مفاجأت سارة أو مؤلمة بعدم إظهار رد الفعل ولكل حادث حديث.


حفل التخرج والرئيس عبد الرحمن عارف:

أقامت جامعة بغداد حفل التخرج لطلبة جامعة بغداد في ساحة الكشافة في الأعظمية في بغداد. حضرها رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف ورئيس الجامعة الأستاذ الدكتور خالد الهاشمي وعمداء الكلّيات والأساتذة وأهالي الخريجين. بدأ الاحتفال بمسيرة الأساتذة بحسب أقدميتهم العلمية. وخلف موكب أساتذة الكلّيات جاءت مسيرة الطلبة التي بدأت بمسيرة الطلبة الأوائل.

مسيرة الطلبة الأوائل (ممارسة قبيل الحفلة الرسمية) تظهر عن يميني في الصف الأول سوسن الرفيعي (الأولى في طبّ الأسنان) وبعدي مباشرة صادق العويناتي (الأول على الهندسة) وفي أقصى يسار الصورة عباس عصفور (الأول على الطبّ البيطري) وللأسف لا أعرف أسماء الآخرين من الأوائل.
الى اليمين مسيرة أساتذة الكلّية الطبّية ويظهر الأستاذ خالد ناجي على اليمين وبجنبه الأستاذة آنه ستيان وخلفهما الأستاذ حنا زكريا وبجنبه الأستاذ ستراك أوانيسوف ثم الأستاذ داود مسيح وبجنبه الأستاذ محمّد حسن عبد العزيز وفي الصورة على اليسار الأستاذ محمود الجليلي بين أساتذة الاختصاصات الأخرى

الجوائز:

 وزع الرئيس عبد الرحمن عارف الجوائز على الخريجين الأوائل والتي شملت ساعة ذهبية أوميكا حفر على خلفيتها اسم الرئيس والسنة، جائزة جامعة بغداد وجائزة كلّية الطب وكذلك جائزة وزارة الدفاع ولعل هذه الأخيرة تكريماً لأن الرئيس عسكري مرتبط في مسيرته بوزارة الدفاع.

رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف يبارك بالتخرج ويسلمني جائزته من على منصة ساحة الكشافة

دعوة الرئيس عبد الرحمن إلى القصر الجمهوري:

بمناسبة أعياد تموز دعا الرئيس عبد الرحمن عارف المئات من المسؤولين والشخصيات العراقية وكذلك تكرم بدعوة خمسة من الخريجين الأوائل من كليتنا إلى القصر الجمهوري في كرادة مريم. ولحرارة الجو كانت الدعوة في الحديقة الخارجية وعلى “الحشيش”. جلسنا لوحدنا لأننا لم نتعرف بعد على أي شخص في خضم تلك المجاميع. كان هناك عدد كبير من النادلين الذين يوزعون المرطبات بين الحضور. جلب لنا النادل مرطبات في صينية أنيقة مغطاة بقماش ابيض وعليها الأقداح التي تلونت بمختلف الألوان؛ الأحمر والأصفر والبرتقالي وغيرها. فوجئنا بذلك حيث اننا لم نعهد هكذا تشكيلة ألوان من المرطبّات من قبل. دفعني الفضول لأن أختار القدح بالسائل الأحمر وإذا به عصير الطماطم! ولم نتوقع أن هذا يقدم كشراب وإنما الطماطم للطبخ والسلطة وكذا الحال مع زميل آخر فوجئ بغرابة طعم ما اختاره. وعندما ابتعد النادل سكبنا ما حوته أقداحنا تحت الكرسي وعلى الزرع!  

عند التخرج في الكلّية حزيران 1966
مع الزملاء على يميني قيس اسمر (الخريج الأول المكرر)، نزيهة مرجان، نبيل ناصر، هارفي برهارد، عبد المسيح اسكندريان (الخريج الأول للسنة السابقة) وكمال تسليمي (الخريج الثاني لدورتنا)

شهادتان طبيتان:

حصلت على الشهادة الأولى في شباط 1966 قبيل موعد الامتحان النهائي للكلية بأربعة شهور حيث اجتزت امتحان المعادلة الأمريكي (ECFMG) الذي يؤهلني للعمل بالمؤسسات الصحية الأمريكية.  وكان هذا دليلاً على أن مستوى كلّيتنا كان مما نفخر به، حيث نجح عشرة طلاب من أصل اثني عشر متقدماً للامتحان الأمريكي.

والشهادة الأخرى هي التخرج في كلّية طب بغداد في حزيران 1966.

شهادة الممارسة الطبّية الأمريكية في 9 شباط 1966
شهادة التخرج في جامعة بغداد في 22 حزيران 1966

مجلة الطلبة والمقابلة الصحفية بعد التخرج مباشرة:

أجرى معي محرر مجلة الطلبة، التي يصدرها اتحاد الطلبة في الكلية، بعد التخرج مباشرة مقابلة بوصفي الخريج الأول. كانت هناك العديد من الأسئلة منها: كيف استطعت أن تنجح بتفوق؟ كانت إجابتي: الرغبة في المهنة التي أمارسها فلا أتمنى أن أكون إلا طبيباً ثم الحرص على الدراسة وتنظيم الوقت.

الشيء بالشيء يذكر: كنت في بداية كل عام أضع جدولاً لما أرغب أن أنجزه من المشلريع في ذلك العام. لم يكن من الضروري أن أنجز كل ما خططت له ولكن المهم أن يكون لي هدف أسعى اليه في الاثني عشر شهرا.

خطة العمل السنوية التي أضعها في بداية كل عام وهذه في العام 1978
مقابلة مع مجلة الطلبة 1966 بعد التخرج مباشرة

شكر وامتنان: أتقدم بالشكر والامتنان للدكتور سعد الفتال والدكتور كمال الحسيني لِما استعرت بعض ما نشراه من صور على الإنترنت.