تختلف تقاليد امتحانات الدراسات العليا في الجامعات والدول المتعددة. ففي بريطانيا يكون الامتحان مقتصراً على اللجنة الامتحانية والطالب فقط. ولكن في العراق فإن التقليد أن يكون الامتحان مفتوحاً للحضور من طلبة الدراسات العليا وأي شخص يرغب ضمنهم عائلة الطالب نفسه. وأرى أنَّ هذا التقليد أفضل من تقليد الامتحان المغلق حيث إن من الضروري استثمار إجراء الامتحانات ليستفيد الطلاب الحضور في امتحاناتهم المقبلة في طريقة التقديم وأسلوب التعامل مع السؤال والسائل من أعضاء اللجنة الامتحانية والتركيز على النقاط التربوية التي تخص العملية البحثية وما يتعلق بها.
حاولت أن أستحدث لنفسي تقليداً بإلقاء حديث مختصر قبيل بدء المناقشة لاسيماً حينما أكون رئيساً للجنة الامتحانية، أوجهه للطلاب وللحضور من الطلبة وغيرهم. أذكر فيما يأتي بعضاً منها:
- أجزاء من كلّمة في امتحان طالبة الدكتوراه الطبيبة إيمان الخطيب كلّية الطب جامعة بغداد 1995
أن الشهادة المتوخاة هي دكتوراه فلسفة علوم. وأن هذه الشهادة تمنح في كلّ الاختصاصات في فروع الطب المتعددة أساسية أو سريرية، والعلوم الصـرفة كالفيزياء والإحصاء والرياضيات وكذلك العلوم الإنسانية مثل الجغرافية والتاريخ واللغة. فكلّ الذين يحصلون عليها يكونون متماثلين في درجة النضوج العلمي والقدرة على دخول عالم البحث والتقصي والاستنتاج العلمي.وأن منحها لا يعني بأن حاملها قد أكمل المعرفة ولكنه بدأ حينئذ فقط على الطريق المؤدي إلى المعرفة. لأن: “العالم يبقى عالماً مادام يتعلـّم فمتى ما أعتقدَ بأنه علم فقد جهل”.
يقول أمرسن: أنَّ المعرفة هي على وجهين، الوجه الأوّل هو ما نعرفه نحن عن موضوع معين، والآخر هو معرفة مصادر الحصول على معلومات بخصوصه. ونرجو مخلصين أنْ نبقى نتعلم وبعمق وبتراكم. وأن لا نبخل على من يطلب العلم بما نعلم، وأن نعطيه أكثر ما يتأمل. فالحديث النبوي الشريف يقول: من علم علماً وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
بعد هذه المقدمة التي لم أستطع من ان امنع نفسي من الـتـفوه بها لكون هذه هي أطروحة الدكتوراه الأولى التي أترأس لجنتها الامتحانية في كلّية طب بغداد نبدأ على بركة الله.
- من كلّمة في امتحان طالب الدكتوراه الطبيب حيدر رؤوف الحمامي كلّية الطب جامعة بغداد 1996
يسعدني أن أكون مع هذا الجمع الخير من الزملاء في هذه اللجنة.
نحن نعلم أنَّ الدكتوراه هي قمة البحوث الأكاديمية وأن الـ D. Sc. تعطى في أكثر الأحيان كشهادة فخرية. لدى منح درجة الدكتوراه يجب أنْ يراعى وجود جهد عظيم أو ابتكار جديد في البحث الذي أنجزه الطالب. تختلف الدكتوراه عن الماجستير والدبلوم، بعمق سبر أغوار المعرفة فيها. وأن الباحث هنا يعد عالماً باحثاً عن الحقيقة وهو يختلف عن الناظر والمتتبع للحقيقة. ويقال أنَّ المتتبع للحقائق يشاهدها أمامه فقط، ولكن الباحث يثبت المشاهدات بالحقائق. وهذا ينطبق على باحث الدكتوراه.
- كلّمة في امتحان طالب الدكتوراه الطبيب حسن الربيعي كلّية الطب جامعة بغداد 1998
يشرفني أن أشارك في تقييم هذا الجهد العلمي المتميز.
أؤكد دائما إن أحد الأهداف الأساسية من البحث العلمي وكتابة الأطروحة هو النضوج البحثي وتطوير القدرة على الاستنباط في ما بحث فيه ونشـر الآخرون على مرور الأحقاب. كذلك تحقيق الوصول إلى إمكانية استثمار ما استنبط وما ظهر من نتائج البحوث وأن يتمكن من مقارنتها مع نتائج بحثه وبناء الاستنتاجات على أساسها. فالمعرفة بالشـيء وحدها لا تكفي والمطلوب هو الاستثمار وإظهار كلّ الطاقات والكفاءات والنتائج المتوخاة من البحث.
أنقل لكم قصة قصيرة حدثت في مزاد للأنتيكات في لندن وقد أشرت إليها في موقع آخر. عرض المنادي للمزايدة مع أشياء أخرى آلة كمان قديمة عفا عليها الدهر وغطاها الغبار والأوساخ. صاح أحد الموجودين: باون واحد، والتفت إلى الجانب الآخر حيث صرخ آخر: باونين، وقال ثالث ثلاثة باونات. ورفع مطرقته لينهي المزايدة وإذا برجل عجوز يرفع صوته من خلف القاعة ويقوم ليتخطى الجلوس ويتقدم إلى المنادي وسط استهجان الحضور وبدون استئذان يأخذ الكمان من المنادي. أخرج من جيبه منديلاً مسح ما أمكنه من الأوساخ والغبار من على الكمان. ثمّ مسح القوس وبدأ يعزف لحناً هادئاً من أعمال الموسيقار مند لسن والكلّ مأخوذ بما عمله هذا الشيخ ولكنهم استمتعوا بعزفه الجميل وساد القاعة الهدوء التام. أنهى عزفه بعد دقائق وأعاد الكمان إلى المنادي وتوجّه إلى المقاعد الخلفية ليأخذ مكانه. قطع الهدوء والوجوم صوت المنادي مستمراً في المزايدة وإذا بأحدهم يصيح عليّ بمائة باون وآخر مئتين باون والثالث ثلاثمائة باون ورست المزايدة على الأخير. وفي الحقيقة لم تتغير آلة الكمان ولا المنادي ولا الجلوس، ولكن استثمار الآلة في الاتّجاه الذي يجب أن يتضح للجميع هو الذي وضع الأمور في إطارها الصحيح وأعطاها قيمتها الحقيقية.
وهكذا نأمل من علمائنا وأساتذتنا أن تكون لهم الرغبة على كشف القدرات وإظهارها كي يقيمها الجميع بقيمتها الحقيقية وليست الظاهرية.
قالت العرب:
يا باري القوس برياً ليس يحسنه لا تظلم القوس أعط القوس باريها
وأمام ذلك يجب ألا يصاب هذا العالم أو الطبيب بالعُجب بما قال أو كتب أو فعل. يقول عالم الباثولوجي روبرت زايت في بداية القرن العشرين وهو في قمة نتاج حياته الزاخرة في البحوث بخصوص السرطان: “وأنت تصل إلى قمة الجبل يجب أن تعلم أنك سوف لن تكون أقرب من الآخرين إلى السماء ولكن كلّ ما حققته أنك ستشاهد إن الأفق يزداد وضوحاً”. فيجب ألّا نعتقد بأننا وصلنا إلى نهاية الطريق بعد إكمال بحث أو إجراء عملية جراحية معقّدة أو كتابة أطروحة.
- من كلّمة في امتحان طالب الدكتوراه الطبيب نوفل خضر الحديثي كلّية الطب جامعة بغداد 2000
يسعدني أن أشارك مع الزميلات والزملاء الأكارم مناقشة أطروحة طالب الدكتوراه نوفل خضر الحديثي الموسومة: “الترابط الوثيق بين الإجهاد العضلي الشاق والمكونات العضلية”
يؤكّد الجميع أنَّ البحث العلمي، هو علم ومعرفة وفن، وليس علماً فقط فكم من أساتذة بارزين في علمهم وتخصصهم المهني قد لا يحسنون البحث العلمي أو قد لا يبرزون فيه. وكم من باحثين متميزين لا يحسنون التعليم في الجامعة أو غيرها. فالمعرفة وحدها والعلم وحده لا يشفعان للمرء كي يكون باحثاً متميزاً وإن كانا من أهم مقوماته. ولكن الذي يجمع بين الاثنين هو الأوفر حظاً لنفسه ولمجتمعه. وطالبنا هذا اليوم يفترض إنّه يقع في هذه الزمرة.
إنَّ الإنسان المتميز في القرن الحادي والعشرين ليس بالضرورة أن يجمع كلّ أسرار العلم في اختصاصه، بل إنَّه الذي يتمتع بالقدرة على الابتكار والإبداع، ابتكار مستحدث أو تطوير لما هو كائن أو إظهار ما كان مبهماً. وقد حاول الطبيب نوفل أن يلج هذا الميدان.
كنت على ثقة بأنَّ موضوعه قد أثار عدد من التساؤلات ونقاط للأخذ والعطاء والتوضيح لدى لجنة المناقشة، وإن كثرة الملاحظات وحتّى حدتها لا تدلّ إلا على عمق الموضوع وعمق المناقش، وهذا بطبيعة الحال يغني الأُطروحة ويدعم مستواها ومحتواها.