طبيب في المناطق النائية
التعيين في مدينة زرباطية:
بموجب النظام المتبع في وزارة الصحة منذ سنين، تلي فترة الإقامة الدورية مرحلة جديدة يخدم فيها الطبيب لمدة سنة في المناطق النائية التي لا تتوفر فيها خدمات صحية على مستوى مقبول وهو ما يعرف أيضاً بالقرى والأرياف. حقق ذلك المشروع تطوراً كبيراً في مستوى الرعاية الصحية لسكان القرى والقصبات البعيدة عن المراكز الصحية المتوفرة في المدن الكبيرة.
تم توزيعنا في اجتماع عقد في بناية وزارة الصحة وكنت متأملاً أن يكون تعييني في مكان قريب. لكن وبالرغم من كوني الخريج الأول وبدون سبب معروف لدي كان تعييني في مدينة زرباطية من محافظة واسط على الحدود الإيرانية العراقية التي لم يعين طبيب فيها من قبل!
لم أبال بذلك الإجحاف لأن هدفي كان البدء بالخدمة الطبّية حيثما كانت. سافرت إلى مدينة الكوت حيث حللت ضيفاً على رئيس الصحة صديقي العزيز الدكتور موسى الحسوني ابن عم صديقي وزميلي الدكتور نايف الحسوني، وهما من عائلة آل حسوني الكريمة في مدينة الصويرة. تفضل عليّ الدكتور موسى ورافقني بسيارته الرسمية إلى زرباطية التي تقع على الحدود. عند وصولنا المدينة بهرتنا طبيعتها الجميلة والأشجار التي تحيط بها. كان في المدينة مستوصف واحد بإدارة مضمد أو موظف صحي، والسكن الوحيد المتوفر فيها للطبيب هو بيت مشترك مع مدير الناحية ومسؤول الشرطة. كان رأيي ورأي الدكتور موسى أن لا ألتحق بهذه المدينة لصعوبة تقديم الخدمات الصحية ضمن السنة الواحدة المقررة لمدة الخدمة في المناطق النائية.
عدت إلى ديوان الوزارة في بغداد وقابلت مدير عام الخدمات الطبّية الدكتور جواد الديواني مبلّغاً إياه بعدم التحاقي بزرباطية وإصراري على تغيير المدينة إلى أخرى أقرب منها بوصفي الخريج الأوّل. وبعد الاتّصالات والتلفونات ودعم أساتذتي وبعد إسبوع أو يزيد تقرر تعييني في ناحية العباسية التابعة لقضاء الكوفة حيث يسكن الأهل.
النقل الى ناحية العباسية:
تم إصدار كتاب تعييني في ناحية العباسية كطبيب المناطق النائية براتب (50 دينار). تقع الناحية على الجانب الأيسر من شطّ العباسية الذي هو فرع من شطّ الكوفة وتبعد بحدود خمسة كيلومترات عن قضاء الكوفة الذي تتبعه إداريا. سميت المدينة بالعباسية نسبة للشيخ عباس الكبير شيخ الفرات الأوسط في القرن التاسع عشر. ولها تسمية محلية أخرى وهي قصبة “أبو شورة”. والشورة تسمية للملوحة الشديدة في الأرض الزراعية التي ربما كانت هكذا في الماضي وليس الآن حيث الأرض خضراء يانعة.
باشرت بعملي في الشهر الخامس من عام 1969 بعد تقديم الأوراق إلى دائرة صحة النجف المسؤولة إدارياً. زرت المستوصف في الناحية وفيها موظف صحي اسمه عبد الحسين دعيبل وهو صديق لي وزميل دراستي في الابتدائية والمتوسطة، وقد حصل على دبلوم في الصحة العامة بعد الدراسة المتوسطة. كان هناك أيضاً مضمد صحي طيب الخلق ولكنه يحتاج إلى بعض “الرقابة”! عشنا كإخوة نتعاون فيما بيننا لتقديم أفضل ما يمكن للمدينة وأهلها الطيبين. أذكر من أهل المدينة السادة “المحانية” آل المحنّة الأكارم. يعمل أهل المدينة بالزراعة وبمرور الزمن تميز العديد من جيلهم الجديد فكانوا محامين وتجار وأطباء. ومن أولئك أصبح بعضهم قادة في اختصاصهم أعتز بصداقتهم وإخوتهم مثل الأستاذ الدكتور عبد الرضا العباسي والأستاذ الدكتور جاسم المحنّة.
طلبت من دائرة الصحة تعيين ممرضة لتحسين الخدمات للمراجعين من السيدات. وبطبيعة الحال كان هناك فرّاش يقوم بكلّ الواجبات بأحسن وجه واسمه “گمر” قمر.
تمكنت في تلك المدة من شراء سيارة أوبل كاديت صغيرة وبلون زرقة السماء طراز 1965. كانت هي الوسيلة التي أصل بها إلى ناحية العباسية يرافقني زميلي في الدراسة الموظف الصحي ذهاباً وإياباً.
ما قدمته في المستوصف:
حينما باشرت في ناحية العباسية قررت أنْ أبذل جهدي في تقديم أفضل الخدمة الممكنة للمدينة. بمرور الأيام بدأت بتحقيق بعض الإنجازات منها:
استحداث خدمة العمليات الصغرى: استحدثت خدمات جراحية أولية للطوارئ. وبحكم علاقتي الجيدة مع الاختصاصيين في مستشفى الفرات الأوسط ومستشفى النجف كنت أحصل في الغالب على ما أروم من تجهيزات للمستوصف. قمت باستحداث وتجهيز قاعة عمليات صغرى في المستوصف وإجراء العمليات البسيطة التي يمكن القيام بها في تلك الظروف مما وفّر على الأهالي الذهاب إلى مستشفى الفرات الأوسط في الكوفة أو إلى أطباء العيادات الخاصة في الكوفة أو النجف.
الأشعة المتنقلة (MMR):
تكثر في تلك المجتمعات حالات كثيرة من التهابات الرئة المزمنة التي تشمل التدرن الرئوي. ولم يكن من السهل على المرضى الذهاب إلى المستشفى أو العيادات المتخصّصة لإجراء الفحص الشعاعي حيثُ إنَّ العديد منهم لا يملك أجور السفر وتحمل مشقته مضافاً إليها أجور الفحوص الطبّية. حاولت وبإصرار مع مديرية صحة النجف بأن توفر سيارة الأشعة المتنقلة المخصّصة للفحص الشعاعي الميداني للكشف عن داء التدرن الرئوي أو أية أمراض رئوية أخرى. وبعد الجهد المتواصل أرسلت السيارة بطاقمها ولعدة أيام حيث تمّ فحص المئات من أبناء المدينة ولله الحمد تمّ اكتشاف بعض الحالات التي كان من الممكن أنْ لا تشخص إلا بعد استفحال المرض. وقد أُرسل المرضى المصابون إلى العيادات المتخصّصة في الكوفة والنجف. كان أملي أنْ تستمر تلك الحملة عدة مرات في السنة بعد انتهاء عملي ولا أدري هل حصل ذلك أم لا.
مختبر الكيمياء للمدرسة المتوسطة:
كان صلاح الربيعي وهو من زملائي الأعزاء في الكلية الطبّية مولع بمادة الكيمياء ويمتلك مختبر للكيمياء في بيته يحوي المواد الأساسية لدراسة الكيمياء وعدداً من الدوارق والأواني الزجاجية والمرشحات وغيرها. عرضت عليه شراء المختبر منه حال تخرجنا في الكلية، فكان ذلك وبسعر رمزي. احتفظت بالمختبر في بيتنا في الكوفة أملا أن أستخدمه في بحوث في المستقبل. حينما بدأت العمل في ناحية العباسية اتّصلت بالمدرسة المتوسطة في المدينة واكتشفت عدم توفر مختبر للطلبة فيها. قررت تقديم ذلك المختبر هدية إلى المدرسة وكان ذاك ما جعل المدير ومدرس الكيمياء والطلبة ممتنين، وتحققت الفائدة المتوخاة منه وفي أحسن وجه.
محاولة إجراء بحث صحي:
لم أكتف بالعمل اليومي المعتاد في المستوصف فكنت أتطلع إلى القيام في أوقات الفراغ ببحث علمي مبسط. فكّرت بمشروع البحث بعد ملاحظتي كثرة حالات فقر الدم وضعف البنية لدى الشباب والأطفال الذين يراجعون العيادة والتي كان سببها سوء التغذية الناتج من قلة المورد المعيشي. قررت أن أقوم ببحث لدراسة الحالة الصحية للأطفال بما فيها التغذية اليومية. وبحكم علاقتي التي توطدت بإدارة المدرسة المتوسطة عند التبرع بالمختبر وكذلك لعلاقتي بمدرسي المدرسة الابتدائية فقد عرضت عليهم جميعاً أن أجري بحثاً على طلبة الصفين الخامس والسادس الابتدائي والصفوف الثلاثة من المدرسة المتوسطة.
شمل البحث 20 سؤالاً منها أسئلة تخص الصحة العامة مثل هل تأكل اللحم؟ وكم مرة في الإسبوع؟ هل تأكل البيض؟ هل تأكل الفاكهة؟ هل تشرب الحليب؟ هل تغسل جسمك وكم مرة في الإسبوع أو الشهر؟ هل تنظف أسنانك؟ وكذلك أسئلة اجتماعية مثل عدد زوجات الوالد، هل تلبس الملابس الداخلية، وهل تأتي إلى المدرسة حافي القدمين؟ هل أنت مختون؟ هل تحب المدرسة؟ الخ.
كنت أدخل الصف وأستأذن المعلم الذي لديه علم مسبق بالمشروع وأطلب من الطلبة كتابة الأسئلة على ورقة ثم أردد الأسئلة على مسامعهم ليجيبوا عنها. بعد جمع أوراق الإجابة أخذتها إلى قريبتي الأستاذة فريدة بنت الأستاذ جعفر الخليلي مقررة قسم علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بغداد. طلبت منها عرضذها على أحد أساتذة الاجتماع لدراستها وإعلامنا بما يراه من صورة مصغرة لحالة المجتمع القروي العراقي. للأسف لم أسمع منها بعد أن انتهى عملي في المدينة وانشغالي بالمرحلة اللاحقة من حياتي الطبية.
تتلخّص مشاهداتي بأنَّ ذلك المجتمع البسيط لا يتوانى برغبته في التعلم بالرغم من كل المعوقات المادية وصعوبة الوصول إلى المدارس. لقد ثابر الأطفال وبدعم من ذويهم بالسير في طريق التعلم والتطور وقد حقق عدد منهم ما حققه سكان المدن الكبيرة بهذا الخصوص.
الوباء السحائي الوهمي!:
في إحدى المرات “اعترف” المضمد الذي يعمل معي في المستوصف بما كان قد فعله قبل سنين حينما كان المسؤول الصحي الوحيد في إحدى المدن الفراتية. حدث أن تسلم كتاباً شديد اللهجة من الوزارة يوبخه على التأخر في تقديم البيانات الشهرية الصحية في موعدها. فقام وهو “مقندل” (قد انتشى بالخمرة) بعد منتصف الليل بكتابة التقرير وملء المعلومات الإحصائية للأمراض وما يتعلق بها في تلك المدينة. بعث التقرير في اليوم التالي إلى الوزارة في بغداد ولم يدرك ماذا كتب فيه. وبعد أيام قلائل فاجأه رئيس الصحة يصاحبه وفد من الوزارة يضم اختصاصيين في الأمراض المعدية وإداريين من الوزارة للتقصي عن الثلاثين حالة التهاب السحايا الحادّ وغير ذلك من الأرقام المرعبة لأمراض أخرى التي اجتاحت المدينة بحسب التقرير الذي بعثة المضمد! وعند معرفة ما حدث من تلفيق للمعلومات تنفس الجميع الصعداء لعدم وجود الوباء وحصل صاحبنا على توبيخ يستحقه.
الفيضان في الناحية:
حدث أثناء عملي في الناحية فيضان في شطّ العباسية الذي يتفرع من الفرات الأصلي قرب مدينة طويريج مع شطّ الكوفة. غطت المياه مساحة واسعة من الناحية بحيث تعذر الوصول إلى هناك. كانت وسيلة التنقل الوحيدة هي الزوارق. سجلت عدسة كامرتي بعض الصور لتلك الكارثة التي أثّرت كثيراً على الحياة في المدينة وما حولها.
العيادة الخاصة في الكوفة:
افتتحت عيادة خاصة لي في بيتنا في الكوفة أعمل فيها بعد انتهاء الدوام الرسمي في المستوصف. اتّخذت الجانب البراني المخصّص للضيوف والمناسبات مقراً لعيادتي. لم تؤثر نشاطاتي في العيادة على الحياة اليومية للعائلة التي اكتفت بالجانب الدخلاني (القسم المخصّص للأهل) من البيت.
ساعدني في خدمة العيادة الفراش “گمر” قمر الذي يعمل في المستوصف صباحاً ليحصل على دخل إضافي يعيل به عائلته.
كان هدفي من فتح العيادة هو خدمة مرضى مدينتي بما أستطيع وبأفضل ما يمكن. لم يخطر على بالي في ذلك الوقت ولا بعده أن أجمع المال. فكانت أجور الفحص بسيطة وغالباً ما تكون مجانية حيث أن غالبية المراجعين هم من الأصدقاء والمعارف الذين “لا يليق” أن يستوفى منهم أي أجر للمراجعة!
وضعت على المنضدة في مكتبي في العيادة صورة لأساتذتي الذين أعتز بهم والذين تدربت على أيديهم في اختصاص الجراحة، وهم الأساتذة خالد القصاب، زهير البحراني وعبد الكريم الخطيب. وكان هذا الرمز دافعاً للتشبه بهم ووازعاً أن أبقى مصراً على تحقيق هدفي في التطور المهني والعلمي.
استخدمت في العيادة نظام البطاقات (الكارتات) والذي لم يكن ذلك السياق متبعاً من غالبية الأطباء في ذلك الزمن على مستوى طبيب العائلة والمحلة. وكانت الكارتات منظمة وبتشخيص واضح يمكن الرجوع إليها بكل سهولة. ولا زلت أحتفظ وباعتزاز بكلّ تلك الكارتات التي يمكن أن تصوّر الحال الطبّي لشريحة اجتماعية في تلك الحقبة من الزمن!
كان الوالد والأهل والأصدقاء مسرورين بوجودي بينهم أقدم لهم الخدمة وأرعاهم بما يوفر لهم الراحة النفسية والرعاية الصحية.
التفكير بإنهاء المدة المقررة:
كان القانون يلزم الطبيب في المناطق النائية أن يخدم فيها لمدّة سنة واحدة يعود بعدها إلى حياة الإقامة (القىمى) في الاختصاص الذي يرغب في المستشفيات وحسب تنسيب وزارة الصحة. ويمكن كذلك لمن يرغب بالبقاء في الخدمة كطبيب عائلة ألّا يدخل في طريق الإقامة. طمع الأهل والأصدقاء في أن يكون اختياري بعد انتهاء السنة هو البقاء في المدينة، ولكني في قرارة نفسي كنت واثقاً بأنَّ بقائي على ذلك الحال مستحيل إذ لا يمكن أن تقف حياتي الطبّية في أنْ أكون (طبيب عائلة) مع خالص تقديري واحترامي لهذا التخصص المهم.
كنت وأنا طالب في الكلية مصمماً على أنْ أتخصص خارج العراق في مجال الجراحة بما أحمله من طاقات وطموحات وتضحيات خصوصاً وأنا أحمل شهادة الممارسة الطبّية الأمريكية التي حصلت عليها قبل تخرجي في كلية الطبّ.
مفاجأة المستقبل:
بعد مرور تسعة أشهر على عملي في العباسية أصدرت وزارة الصحة كتاباً تحث فيه الأطباء في المناطق النائية للالتحاق في التدريب كمقيم أقدم في فرع العيون أو فرع الأنف والأذن والحنجرة لقلة الأطباء الاختصاصيين فيهما. قدمت وزارة الصحة إغراء للذين يتقرر قبولهم أنهم سيعفَون من بقية الفترة المقررة للمناطق النائية. وهنا تدغدغت مشاعري فحدست بأنَّ هذه فرصتي لاختصار الزمن. اخترت اختصاص العيون حيثُ إنَّ له أثر في نفسي لأني كنت قد اجتزت الامتحان النهائي للعيون في الصف الخامس بأعلى درجة. كنت ألتقي بعدد من الزملاء الاختصاصيين عند ذهابي إلى مستشفى النجف لأحصل على التجهيزات اللازمة لمستوصف العباسية. كنت أحب التحدث مع الدكتور عبد المنعم عبد الحميد اختصاصي العيون الذي أكنّ له الاحترام والتقدير لعلميته وكفاءته الجراحية وكان يشجعني كثيراً على أن أتخصص في العيون.
أقنعت نفسي بأنَّ فرع العيون هو جزء من الجراحة فلماذا لا آخذه كاختصاص لمستقبلي؟ اتجهت إلى بغداد لاستشارة أساتذتي خالد القصاب وزهير البحراني وغيرهم. اختلف الرأي في ذلك ولكني قررت المضي قدماً خصوصاً أنه لم يكن في القطر حينها أي اختصاصي يحمل شهادة عالية مثل زمالة كلية الجراحين الملكية (كان الدكتور جواد الشكرجي الوحيد الذي يدرس في بريطانيا ليحصل على تلك الشهادة).
أثار هذا القرار والدي وآلمه كثيراً لأنّه كان سعيداً بكوني حملت الراية الطبّية بعده لخدمة مدينتنا ولأنّه ترك الطبابة منذ سنين طويلة وانصرف للتجارة. ولكن تعزيتي في ذلك أن مغادرتي الحقيقية كانت ستتم في وقتها المقرر أي عند نهاية السنة المقررة على أية حال، وعندها لا بُدَّ سيحدث ذلك الألم لأنه لا يمكن أن أبقى بدون سفر إلى الخارج للتدريب.
راجعت الوزارة وقدمت طلباً لإنهاء خدماتي في المناطق النائية والرغبة بالالتحاق باختصاص طبّ العيون وهكذا بدأ فصل جديد في حياتي.