تمهيد:
إن اللغة هي الوسيلة الرئيسية لإيصال المعرفة من المعلم الى المتعلم. وكي يتلقى المتعلم العلم والمعرفة يجب أن تكون لغة المعلم والمتعلم لغة مشتركة بينهما. وليس هناك لغة مشتركة بينهما أفضل من اللغة الأم. والواقع الذي نعيشه والذي لا مناص منه هو أن اللغة الإنكليزية هي لغة العلوم والطب في العالم كله.
شاركت عام 1998 في مؤتمر جراحي الدماغ الذي عقد في القاهرة حيث التقيت بجراح من كرواتيا وتحدثنا في مواضيع متباينة وسألته خلالها عن اللغة التي تدرس فيها مناهج كلية الطب في بلده فكانت إجابته انها اللغة الكرواتية!!
تولد لدي فضول بالتعرف على اللغة التي تدرس في كليات الطب في مختلف البلدان فوجدت ان غالبية دول العالم تدرس بلغتها الأم حتى في دولة صغيرة مثل كرواتيا. ففي فرنسا وألمانيا والهند والصين وتركيا وإيران وغيرها من دول العالم يدرس منهاج الطب والعلوم باللغة الأم. إطلعت حديثاً على ما حدث في ماليزيا فقد ألغت تدريس العلوم والرياضيات باللغة الانكليزية وعادت الى لغاتها الوطنية.
من الجدير بالذكر أن كافة الدول التي تدرس بلغتها الوطنية تعمل على تطوير قدرات طلبتها على الاستيعاب باللغة الانكليزية من خلال دورات تدريسية على مستوى عال بحيث يتمكن المتعلم من التواصل بسهولة وانسيابية مع وسائل المعرفة باللغة الانكليزية بدون صعوبات.
شيء من التاريخ:
أنشئت أول مدرسة طبية عربية في مصر عام 1827 في عهد محمد علي باشا، في قصر شهاب الدين أحمد ابن العيني الذي شيده عام 1466. ألحقت المدرسة بالمستشفى العسكري في “أبو زعبل” عام 1837 وأصبحت تدعى كلية طب القصر العيني.
كانت مدرسة الطب في القصر العيني بالقاهرة تدرس الطب باللغة العربية. ومن الجدير بالذكر هنا أن الطبيب كلوت بك (أنطوان برتسيلي كلوت) الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب كبير أطباء وجراحي الجيش المصري هو الذي أسس مستشفى كلية القصـر العيني. بالرغم من كونه فرنسي النسب إلا إنه قرر أن يكون التدريس في كلية الطب باللغة العربية. وبذا كتب إلى محمد علي باشا والي مصر يقول “إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه”.
افتتحت الجامعة الامريكية في بيروت عام 1886 وكان تدريسها باللغة العربية وبضمنها كلية الطب ثم تبدلت إلى اللغة الإنكليزية عام 1887.
بدأ العراق بتدريس الطب باللغة الانكليزية منذ بداية تأسيس كلية طب بغداد عام 1927. سهّل استيعاب الطلبة للمنهج بتلك اللغة هو المستوى المتميز الذي كانوا عليه في اللغة الإنكليزية في مراحل دراستهم الابتدائية والثانوية.
لم يستمر ذلك المستوى الدراسي المتميز في المراحل الابتدائية والإعدادية في العراق وخصوصا في اللغة الإنكليزية للعقود التي تلت بسبب ما عاناه العراق من عدم الاستقرار السياسي. أصبح طالب الطب وطالب العلوم الأخرى التي تدرس بالإنكليزية أسير الواقع فهو لم يصل الى مستوى الاستيعاب الكامل للمادة الدراسية التي تدرس باللغة الإنكليزية في مناهج المراحل الجامعية، ما يصعب عليه استيعاب المادة إلا باستخدام القواميس وبذل الجهد المضني. يستثنى من ذلك خريجو كلية بغداد الثانوية حيث تدرس كافة مناهجها باللغة الإنكليزية.
لماذا التعريب:
كما ذكرت فإن اللغة هي الوسيلة الرئيسة لإيصال المعرفة من المعلم، إن كان شخصاً أو وسيلة تعلم، الى المتعلم. ولكي يتلقى المتعلم العلم والمعرفة يجب أن تكون للمعلم والمتعلم لغة مشتركة. وليس هناك لغة مشتركة بينهما أفضل من اللغة الأم، لغة الوطن.
إن ذلك الالتزام باللغة الوطنية في مختلف دول العالم لم يشمل الدول العربية وفي الواقع إن ذلك ليس نابعاً من تقصير مثقفي الأمة ولكن للأيادي الخارجية الخفية والمعلنة التأثير الكبير في الابتعاد عن اللغة الأم. ففي المغرب العربي تسود اللغة الفرنسية وفي باقي الدول العربية نرى اللغة الإنكليزية هي اللغة الوحيدة في تدريس المناهج الطبية والعلمية. ربما تمثل جامعات سوريا الاستثناء الوحيد بهذا الخصوص حيث تدرس المناهج باللغة العربية.
حينما درسنا مناهج الطب في بغداد باللغة الانكليزية كانت تصادفنا تعابير لا نستوعب معانيها ولا يمكن أن نتخيلها. فمثلاً هناك خراج الكبد الأميبي الذي يوصف لونه بأنه يشبه “Anchovy sauce” وبالرغم من أهمية تلك الحالة لنا حيث تكثر الإصابة بذلك المرض في بلدنا، لم نستوعب ونحن طلابا ما هو ذلك اللون وما هو قوام ذلك الخراج. ولكن حينما قال الاستاذ إن االخُرّاج يشبه “خليط الدبس واللبن الخاثر” انطبعت الصورة في مخيلتنا. وهناك أمثلة عديدة أخرى مشابهة.
بالرغم من أن لغتي الانكليزية لا بأس بها مقارنة بالعديد من زملائي فقد كنت ألاحظ خلال عملي في بريطانيا حينما أكون جالسا في المكتبة مقابل زميل انكليزي نقرأ نفس الكتاب فإنه يقلب صفحات ذلك الكتاب بسرعة تفوق سرعة تقليبي له. وهذا متوقع بطبيعة الحال حيث إن الإنكليزية هي لغته الأم.
ومن ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن أذهاننا بان المجتمع الطبي في وطننا يشمل الممرضات والتقنيين وغيرهم وهؤلاء لا يمكنهم استيعاب المعلومات الطبية باللغة الإنكليزية ما يستوجب الرجوع إلى اللغة العربية في تدريسهم المناهج الطبية. يشمل ذلك التقارير الرسمية في مجال الطب العدلي حيث يجب استخدام اللغة العربية من الناحية القانونية لتتماشى مع المتطلبات القضائية وغيرها. وهنا يجب وجود مراجع طبية باللغة العربية تغني هذه الجوانب.
وهناك نقطة مهمة أخرى وهي أن المنهج التدريسي للتعليم العلمي والطبي في الدول المتقدمة يشمل موادا غير علمية مثل التاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية. وهذه من متطلبات صناعة الفرد الذي يتفاعل مع المجتمع بصورة عامة مهما كان اختصاصه العلمي. وبطبيعة الحال تدرس تلك المواد باللغة الأم. ونحن في بلداننا نفتقر لتلك المنهجية في شمول مناهجنا مواد العلوم الإنسانية فضلا عن صعوبة استيعاب اللغة المهمة وهي اللغة الإنكليزية.
التعريب في كلية الطب: بدء في نهاية السبعينيات بحملة جادة في مجال تعريب المواد المنهجية في العلوم الأساسية والسريرية في جامعة بغداد وكلية الطب فيها. ساهمت مع زملاء عديدين في كلية الطب في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بمشـروع التعريب الوليد. شارك أساتذة فرع الجراحة وعلى رأسهم الأستاذ هاشم عبد الرحمن والأستاذ طلال الجنابي وآخرين بكل جدية في ذلك المشروع.
رواد مشروع التعريب في العراق:
حمل مشعل مشروع التعريب في العراق عدد من الرواد كان مهنم الأساتذة محمود الجليلي، صادق الهلالي، عبد اللطيف البدري، موسى النقاش، هاشم الهاشمي، محمود حياوي وهاشم عبد الرحمن، عز الدين شكارة، فخري الدباغ، غانم الشيخ، بهنام رزوقي الصائغ وأجلاء أخرون.
دعمت منظمة الصحة العالمية في العام 1983 مشروع تأليف كتاب المعجم الطبي الموحد” الذي ساهم بتأليفه عدد من أساطين الطب واللغة من بينهم الأستاذ محمود الجليلي، الأستاذ عبد اللطيف البدري والأستاذ صادق الهلالي. وقد ألف الأستاذ صادق معجمين متخصصين مهمين في طب العيون وآخر في العلوم العصبية.
علاقتي بالتعريب:
عشت منذ نعومة أظفاري في أجواء تتميز بالشعر والأدب في البيت والمدرسة والمجتمع. فكانت المطاردة الشعرية وحفظ القصائد والمباراة في قراءة الكتب الادبية ثقافة سائدة في تلك الايام. وأتذكر أني كتبت مقالة وأنا في الثالث المتوسط عن حرب فيتنام أعجب بها أستاذنا ووزعها على الطلبة. بعد مرور السنين كتبت مقالات علمية وألقيت محاضرات في محافل باللغة العربية.
ماذا قدمت: ذكرت سابقاً بأني ترجمت في نهاية الثمانينيات كتاب “الموجز المصور لفحص الجهاز العصبي” من الإنكليزية وكان من تأليف الدكتور موريس فان ألن في جامعة أيوا Iowa الامريكية. طبع الكتاب على نفقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ونشر في العام 1991. كانت لي مساهمات أخرى كذلك في مجال التعريب فضلا عن كتاب الموجز حيث ألفت قاموسا للمفردات في اختصاص الجهاز العصبي تبنت توزيعه منظمة الصحة العالمية في بغداد. وأخيرا ترجمت كتابا بتكليف من منظمة الصحة العالمية بعنوان “التعامل مع جثث الموتى في حالة الكوارث.
أنشأت منظمة الصحة العالمية لدول شرق البحر الابيض المتوسط هيئة بإسم “شبكة تعريب العلوم الصحية” وكانت تحت إسم “أحسن”. وكنت بضمن المجموعة الكبيرة من المعنيين بالترجمة من مختلف البلدان العربية.
كان لي الشرف أن أكون عضوا في الاجتماع التأسيسي لاتحاد المترجمين العرب في المؤتمر العربي الأول للترجمة الذي عقد في بيروت في الثلاثين من كانون الثاني/يناير 2002.
قرارات سياسية لم تتحقق بخصوص التعريب
تكاثرت الظباء على خُراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
خرج خراش لصيد الظباء (الغزلان) فعثر منها على الكثير، ولكن كلما هم بصيد واحدة منها لمح أخرى أفضل فينشغل بالأخرى حتى يرى ثالثة أفضل من الثانية. وهكذا قضـى يومه كله ولم يفز بواحدة وقد فرت منه الظباء كلها فلا هو استراح من عناء الصيد ولم يتمكن من صيد أي غزال من ذلك القطيع. فقد تعددت المنظمات العربية بمختلف اختصاصاتها المهنية والرسمية بالقرار بتبني التعريب في المناهج العلمية ولكن لم يتم تحقيق أي منها.
• المؤتمرات العلمية العربية لمناقشة مشروع التعريب:
- المؤتمر العلمي العربي الأول، الاسكندرية، 1953
- المؤتمر العلمي العربي الثاني، القاهرة، 1955
- المؤتمر العلمي العربي الثالث، القاهرة، 1961
- المؤتمر العلمي العربي الرابع، بغداد، 1966
- المؤتمر العلمي العربي الخامس، دمشق، 1969
• اجتماعات وزارية:
دخل وزراء التربية والتعليم العرب في ذلك الميدان إذ عقدوا اجتماعات واجتماعات وقرروا قرارات وقرارات ولكن لم يتحقق شيئا!!
- وزراء التربية العرب الأول، كانون أول، 1955
- مؤتمر وزراء التربية والتعليم العرب الثاني، بغداد، 1964
- مؤتمر وزراء التربية في المغرب العربي، تونس، 1964
- مؤتمر وزراء التربية والتعليم العرب الثالث، الكويت، 1968
- مؤتمر وزراء التربية والتعليم العالي العرب، المغرب، 1970
- مؤتمر وزراء التربية والتعليم العرب الرابع، صنعاء، 1972
- النؤتمر الثالث لوزراء الصحة العرب، مصر، 1974
- المؤتر الرابع للوزراء المسؤولين عن الثقافة في الوطن العربي، الجزائر،1983
- الجلس الاعلى لدول مجلس التعاون الخليجي، مسقط، 1985
- قرار وزراء الصحة العرب، السودان، 1987
- مؤتمر وزراء التربية والتعليم بدول الخليج العربية، الكويت، 1993
• ندوات وندوات لتشجيع التعريب:
- ندوة التعريب، الرباط، 1964
- ندوة طرابلس، 1975، إنشاء أكاديمية للتعريب
- ندوة التعريب، 1977، باريس بإشراف الأستاذ جاك بيرك
- ندوة اللغة العربية، 1982، الاردن: العمل من الفور على تعريب العلوم في الجامعات العربية!
- ندوة اللغة العربية في الجامعات العربية، 1984، الجزائر: أن تعمل الجامعات العربية على تجريب المناهج وتعديلها في ضوء التجربة قبل تعميمها.
- ندوة تعريب التعليم الطبي والصحي في الوطن العربي، دمشق، أقامتها جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، 1988.
• مؤتمرات متخصصة بالتعريب:
- مؤتمر التعريب الأول، 1961، الرباط، الجامعة العربية: أوصى المؤتمر ان ينظم تأسيس المكتب الدائم للتعريب
- المؤتمر الثقافي العربي الثامن، 1969 وقرروا بوجوب استعمال اللغة العربية لغة للتدريس والبحث العلمي في جميع مراحل الدراسة بالكليات والمعاهد العلمية والتقنية في البلاد العربية، وعلى كل بلد عربي إن يصدر تشريعا يلزم العمل بذلك.
- مؤتمر التعريب الثاني، 1973، الجزائر، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: كان من مقررات مؤتمر التعريب الثاني في الجزائر في 12-20 كانون أول 1973 والذي نشر في مجلة اللسان العربي المجلد 11 الجزء الأول ص 270: يذكر أن لجنة من خبراء اليونسكو درست موضوع التعريب وأكدت بوجوب استعمال اللغة الأم في التعليم العالي، ولا يمنع ذلك من أن يتعلم الطالب لغة حية أخرى تعينه على الاطلاع والاتصال بالعالم المتقدم.
- مؤتمر التعريب الثالث، 1977، طرابلس: تزويد الجاليات العربية بالكتب والمدرسين
- المؤتمر الرابع للتعريب، 1982، طنجة، مشروعات المعاجم
- المؤتمر الخامس للتعريب، 1985، عمان: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم مشاريع معاجم
• تصريحات وتوصيات مسؤولين:
يقول أحد الوزراء العرب، وهو وزير التعليم العالي في البحرين “وإني لأذكر في هذه المناسبة، بكثير من الألم والحزن، المصير الذي لقيه مشروع المؤسسة العربية للتأليف والترجمة والتعريب الذي درسته المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة دراسة وافية وتبناه مؤتمر الوزراء المسؤولين عن التعليم العالي في الوطن العربي منذ ست سنوات تقريبا. لقد أريد لهذا المشروع بداية هجمة حقيقية علمية قومية للخروج بتعريب التعليم العالي من مرحلة التمنيات إلى مرحلة الإنجازات”.
عرض أحد وزراء الصحة العرب، وهو الدكتور عبد الرحمن العوضي، خطة للتعريب كما يلي:
- وضع خطة شاملة للتأليف باللغة العربية في المجالات الطبية
- وضع خطة شاملة لتعريب المصطلحات الطبية
- ترجمة أمهات الكتب الطبية الاجنبية
- توفير المصادر المالية لتنفيذ هذه الخطط
واقترح ان يتفق المسؤولون عن هذه الخطة من وزراء تعليم وصحة ورؤساء جامعات وعمداء على اعتماد ميثاق يوقعونه وتكلف فرقا خاصة لتنفيذه.
المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية:
في التوصيات العشر للمدير الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية جاء ما يلي:
- اعتبار عام 1989عام بدء التعريب الذي سيتم عام 1998 في كل كليات الطب العربية.
- تأليف (لجنة تعريب) في كل كلية طب.
- البدء على الفور باستعمال اللغة العربية في الشرح والتفسير.
- الشروع على الفور في وضع اسئلة الامتحانات باللغتين العربية والإنكليزية.
- البدء الفوري بتدريس مناهج الصحة والطب الوقائي، الطب الشرعي، والطب النفسي باللغة العربية.
- قبول تقديم الرسائل باللغة العربية.
- إلزام الباحثين تقديم ترجمة كاملة لرسائلهم باللغة العربية.
- يكون من شروط الترقية ترجمة كتاب باللغة العربية.
- اعتماد المعجم الموحد.
- إدخال مقرر اللغة الأجنبية في المناهج.
وفي ختام كلمته قال:” لقد آن الأوان أن ننهي مرحلة ( نعم ولكن) وأن نتخذ موقف الحسم النهائي في شأن التعريب وأن نضع حدا لمثنوية التمييز بين المبدأ والتطبيق.
المحصلة: نرى أن ملخص النشاطات الرسمية واضح للعيان ألا وهو البعد كل البعد عن تحقيق ذلك الطموح المعلن. والأسباب قد تكون لها علاقة بأصحاب القرار والمجتمع ولا يمكن أن نستبعد أسباب أخرى يمكن أن أتحدث عنها بمقالة خاصة.
وجهة نظر:
هنالك فيما أراه في موضوع التعريب عاملان متباينان ومتفاعلان هما؛ الحفاظ على اللغة العربية وضرورة التقدم العلمي.
ترد هنا أسئلة متعددة، منها:
- هل يمكن للغة العربية أن تخلّد في خضم التقدم العلمي والتطور التقني المستمر؟
- هل يمكن للتطور العلمي في مجتمعاتنا أن يتحقق بدون الاعتماد على اللغة العربية؟
- هل يتحقق التكامل في التقدم بتفاعل اللغة العربية مع التطور التقني؟
- ما هي ضرورات تعريب العلوم؟
للإجابة على السؤال الأول؛ هل يمكن للغة العربية أن تخلد في خضم التقدم العلمي والتطور التقني المستمر؟ أقول إن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل الذكر أنزله بلغة الضاد وقال “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” سورة يوسف 12. ومن ثم قال عز من قائل “إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون”. وهل يمكن أن يرقى أي وعد إلى مستوى ما وعد به الرحمن بالحفاظ عليه؟ لذا يجب ألا نخشى على لغتنا من الإندثار أو الإنحدار. وأن نطمئن من يدعي أن خلود اللغة العربية مقرون باستخدامها في التطور التقني بأن ينام رغدا.
وبخصوص السؤال الثاني:
كلنا يعرف أن غالبية علماء ومثقفي الأمة العربية وبضمنها العراق قد حققوا تقدمهم وواكبوا علم العصر باعتمادهم على لغة أجنبية. وهذا يتعدى العلوم الصرفة والتطبيقية ويشمل الكثير من متخصصي العلوم الإنسانية الذين حصلوا على تعليمهم خارج وداخل الوطن. فهل نرى ضيرا أو هل ننتقص من قدراتهم الاستيعابية أو الإبداعية في مجالات اختصاصاتهم العلمية والأدبية لأنهم لم يدرسوا باللغة العربية؟ هل أن حامل شهادة الدكتوراه من فرنسا في العلوم أو الطب أو الآداب قاصر في استيعابه وإبداعه؟ هل أن زميل كلية الجراحين البريطانية أو الأميركية أو حامل دكتوراه في الآداب من هذه الدول أو من الجامعة الأميركية في بيروت مثلا قاصر عن فهم مقاصد علومه أو قدرته على إيصالها لطالبيها أو تطبيقها؟ والجواب بالطبع كلا.
فالحقيقة هي أنه يمكن استيعاب العلم والتطور دون الإعتماد على اللغة العربية. ولكن حينما نريد أن يكون التطور فاعلا في المجتمع وأن يكون مسؤولا عن نهوضه والأخذ به الى أمام يجب أن يلم العالم والمثقف بأصول اللغة العربية كي يمكنه إيصال العلم إلى الشارع العربي الذي يجب أن يواكب التطور. والمهندس في المصنع يجب عليه إيصال ما تعلمه إلى من هم دونه في الكفاءة باللغة العربية، والطبيب الذي يعلم الممرضة والمعاون الطبي والمثقف المعني بالطب يجب أن يتواصل معهم باللغة العربية.
ومن هنا نأتي إلى السؤال الثالث: هل يتحقق التكامل في التقدم بتفاعل اللغة العربية مع التطور التقني؟ الجواب طبعا بنعم، إذ لا يمكن لنا كمجتمع أن نتقدم علميا أو ثقافيا بدون الاعتماد على اللغة العربية في إيصال المعلومة إلى أفراد المجتمع الواسع واستثمارها في مسيرة التطور الحضاري. هنا توسع المعني بالتطور من مستوى فردي إلى المجتمع ككل. ولكن هل هذا الكل يجب أن يشمل التعليم الجامعي وما بعده؟ أعتقد أن هذا هو بيت القصيد حيث أن الحيثيات والمبررات المؤيدة والمضادة واضحة لكل المعنيين من المؤيدين وغير المؤيدين للتعريب. يبرر غير المؤيدين والمضادون للتعريب بأنه سيخلق وسطا ثقافيا وعلميا يصعب عليه التواصل مع العالم المتقدم الذي يستخدم اللغة الإنكليزية. وهذا غير مبرر حيث إن أسلوب تعلم اللغة الانكليزية في كل مراحل الدراسة يمكن أن يتطور على أسس قويمة بحيث يتمكن الطالب من الإنكليزية بما يمكنه التواصل مع العلم في دول العالم بكل سهولة.
ويبقى لدينا السؤال الرابع: ما هي متطلبات تعريب العلوم؟
الأساس في ذلك حسب اعتقادي هو الأيمان بمبدأ التعريب. وهذا الإيمان يكون على مستوى المجتمع العام، المجتمع المتخصص (الطبي مثلا).
ومن ثم تأمين المتطلبات الاساسية وهي:
- التخطيط لاستراتيجيات واضحة
- تهيئة الاستاذ
- تهيئة الطالب
مبادرة فريدة لكلية صدام الطبية: تحققت في العراق تجربة فريدة في هذا المجال حينما كان صديقي الاستاذ الدكتور محمود حياوي عميداً لكلية صدام الطبية (النهرين حاليا) في تسعينيات القرن الماضي. بدأت الكلية بتعليم اللغة الإنكليزية للطلبة بالطرق العلمية الحديثة حيث استحدث قسم مستقل للغة الإنكليزية والذي كان يترأسه أستاذ اختصاص باللغة الإنكليزية هو الأستاذ باسم مفتن وقد زود القسم بمختبر حديث للغة. وكانت مادة اللغة الإنكليزية من المواد المطلوبة في المنهج الدراسي. لا أعلم مدى استمرارية هذه التجربة وإن كانت قد طبقت في معهد علمي آخر في العراق.
وثق لي الأستاذ محمود حياوي ما حصل معه عام 1979 وبعد ذلك حيث يقول:
” أردت ان أسرد لك باختصار رأي البرفسور فيتزجيرالد الذي كان في حينه (عام 1979) رئيسا لقسم التشريح في جامعة Galway الايرلندية وهي جامعة مرموقة. كان الأستاذ فيتزجيرالد قد عمل في الجامعات الامريكية لسنوات وحصل على لقب أفضل أستاذ وعاد الى بلدته في آيرلندة بسب حسه الوطني أو حنينه الى بلده. دعاني (بصفتي رئيس قسم التشريح في كلية الطب، جامعة بغداد آنذاك) لزيارة جامعة كولواي، وكانت كلمته مسموعة في الجامعة، ولبيت دعوته. أثناء الزيارة ذكر لي إن في الجامعة عدد كبير من الطلبة العرب بمختلف الاختصاصات وإذا رغبت أدعوهم الى لقاء معك، فرحبت بالفكرة. حضرت اللقاء وكان هو موجود وإذا هم فعلا من مختلف الأقطار العربية من المغرب العربي إلى مصر إلى السعودية والبحرين والكويت وكان لقاءً ممتعا لأنهم شباب متحمسون ووطنيون ومتفاعلون جدا. بعد أن انتهى اللقاء علق الدكتور فيتزجيرالد: لقد اثرتم اعجابي إنكم تتفاهمون من المغرب إلى العراق بلغة واحدة ويا عجبي كيف أنتم لا زلتم تدرسون باللغة الإنكليزية ؟وكنت قد سمعت كلاما مماثلا من الأستاذ البريطاني ديفيد موفات الذي كان يأتي كثيرا إلى بغداد لتدريس كورس في الإعداد لشهادة FRCS. هذا ماوددت أن أنقله إليك لاهتمامك بتاريخ فكرة التعريب”.
تحياتي، محمود حياوي حماش
الخاتمة:
مع إيماني بمبدأ التعريب وكونه أداة مهمة في رفع شأن العلم والمعرفة في كافة الاختصاصات العلمية في الوطن فإني أؤمن كذلك بحقيقة أن تطبيقه حلم لن يتحقق بسبب معطيات مضادة متعددة ومن جهات عديدة. فالمجتمع والأستاذ والطالب غير مهيئين لهذه القفزة الهائلة في تغيير المناهج ناهيك عن عدم الإيمان بها لدى جمع كبير من المعنيين بالعملية التدريسية.
لا يمكن التفكير بتعريب العلوم الطبية بعيداً عن تعريب بقية العلوم الأخرى. إذ ليس من المنطق شمول الجزء وترك الكل. وفي مجتمعاتنا يصعب جداً إقناع المجموع بالمشروع لأسباب عديدة أهمها عدم الإيمان به وعدم توفر الرغبة وربما القدرة لذلك. وعليه فالتفكير في تعريب العلوم الطبية بالرغم من النشاط والحماس لدى الكثيرين فقد تم وأده في مهده.
ولكن أليس لنا الحق في أن نحلم في تحقيق استخدام لغتنا في الطب والعلوم كما استخدمها الأطباء العرب والمسلمون في القرون الغابرة مثل ابن سينا والزهراوي والرازي وغيرهم وكما استخدمت أمم كثيرة في عصرنا هذا لغتها القومية؟
نظرة “فلسفية” في الحياة مستوحاة من مشروع التعريب:
من خلال متابعتي لهذا المشروع وتفاعلي مع المشروع والاحباطات من كل جانب خرجت بما يمكن أن يسمى بفلسفة في الحياة أوحى لي بها هذا المشروع. أقول في الحياة بصورة عامة لأنه يشمل فضلا على مشروع التعريب هناك مثلاً من يقرر أن يتخلص من سمنته، أو من إدمانه على التدخين أو أن الاخر يقرر إنشاء كلية جديدة أو غيرها من استحداث مشاريع.
أساس النظرة هي أن أي مشروع من تلك وغيرها يمر بخمس مراحل: أولها الإيمان بذلك المشروع، والثانية الرغبة بالقيام به، والثالثة القدرة على القيام به والرابعة توفر الظروف والمستلزمات والخامسة هي إدامة الزخم.
ولتطبيق هذه المراحل يجب أن توضع الخطط الاستراتيجية المتكاملة لها وسبل تحقيقها. ويجب على المعنيين من المؤهلين وضع هذه الاستراتيجيات وهذه هي:
- الإيمان: وهذا هو بداية المشروع فإن كان هناك شك فيه فلا يمكن البدء به. فمثلا أن كان المدخن لا يؤمن بأن التدخين مضر بالصحة وخطر على الحياة فلا يمكن البدء بمشروع ترك التدخين. وكذا في مشروع تخفيف الوزن في حالات السمنة وغير ذلك من المشاريع. وهنا نطبق ذلك على التعريب فإن لم يكن هناك إيمان بوجوب تطبيقه فلا فائدة من التفكير به مطلقاً.
- الرغبة: بعد الإيمان بالمشروع يجب أن توجد هناك رغبة في البدء بالمشروع. فالمدخن الذي يؤمن بأن التدخين مضر بصحته والبدين يؤمن بأن البدانة خطر على حياته طالما تكون الرغبة معدومة لديهما وهما “سعيدين” بما هما فيه فلا فائدة من التفكير في تركهما. وكذا التعريب فإن لم تكن هناك رغبة لدى المعنيين فلا يمكن الشروع به.
- القدرة: بعد الإيمان والرغبة تأتي القدرة. فالمدخن الذي لديه الإيمان بضرره ولديه الرغبة في تركه يرى نفسه قاصر عن تركه إذ ليس له القدرة في تحقيق ذلك وينطبق ذلك على البدين. وكذلك في مشروع التعريب فإذا لم تتوفر القدرة والكفاءة على التعريب فليس من المنطق التفكير به.
- الظروف المحيطة: يشمل ذلك مستلزمات تحقيق المشروع فمثلا في ترك التدخين يتطلب تشجيع الأهل والأصحاب وعدم الإحباط، وكذا في تنزيل الوزن هناك حاجة لدعم الأهل في توفير الأغذية التي تساعد في تحقيق ذلك. ينطبق ذلك على مشروع إنشاء كلية جديدة بضرورة توفر البناية، الملاك التدريسي الميزانية المالية وغير ذلك. وهذ ينطبق تماماً على مشروع التعريب فضلا على دعم أصحاب القرار.
- إدامة الزخم: حيث إنه ليس من المقبول ترك المشروع قبل إتمامه حينما نواجه معوقات أو إحباطات بل يجب إدامة الزخم كي نحقق المطلوب من تنزيل الوزن أن ترك التدخين أو إنشاء الكلية أو التعريب. إذ ليس من المنطق أن نترك مشروعنا في منتصف الطريق عند مواجهة المحبطات والعراقيل أو المحبطين والمعرقلين.
الخلاصة:
مما ذكر أعلاه فإن مشروع التعريب في المجتمع العلمي والمجتمع الطبي العراقي والعربي لا يمكن تطبيقه بدون تطبيق هذه المبادئ. وسيبقى الإيمان به والرغبة في تحقيقه حلماً لا أراه يتحقق في المستقبل المنظور.