الدراسة المتوسطة

في المدرسة المتوسطة

بعد الرحلة الممتعة في مدرسة ابن حيان الابتدائية التي ابتدأت بالدموع وانتهت بالضحكات، دخلتُ الصف الأول في مدرسة الكوفة المتوسطة للبنين سنة 1954.

مدرسة متوسطة الكوفة:

تقع مدرسة الكوفة المتوسطة على يمين الطريق الرئيس المؤدي إلى مسجد الكوفة.  بنايتها صغيرة نسبياً والصفوف على خطّ واحد مواجه للشارع. قبل دخولنا فيها كانت مدرسة ثانوية تضم المرحلة الإعدادية بالإضافة للمرحلة المتوسطة. وأتذكّر أنَّ الدكتور جعفر الكويتي الذي كان يتقدمني بسبع سنوات دراسية قد أنهى دراسته الثانوية في نفس المدرسة التي كان اسمها ثانوية الكوفة. يبدو أنّها أغلقت بسبب قلة عدد الطلبة أو الملاك التدريسي.  

أتذكر من الزملاء من خارج المدينة الذين درسوا معنا في المتوسطة ربيع القيسي (الذي أصبح مدير المتحف العراقي) وأخيه شاكر وكان يسبقهما في الدراسة أخوهما رياض القيسي الذي أصبح وكيل وزارة الخارجية العراقية.

كان في تلك المرحلة مدير المدرسة جاسم الحسيني والمدرسين الذين وضعوا بصماتهم على الجميع ويظهر غالبيتهم في الصورة التذكارية التالية.

هيئة التدريس في متوسطة الكوفة، الجلوس: من اليمين، عبد الرحمن حلمي (مصري)، محمّد الشكري، جاسم الحسيني (المدير)، عبد الله عمران ثم حسين السبع.   الوقوف: محمّد الصباغ (كاتب المدرسة) يونس السامرائي، أحمد السهروردي، عزيز حنوش، سعيد الحكيم وحسين حمدي

المدرسون:

عبد الرحمن حلمي: أبدأ بالأستاذ عبد الرحمن حلمي الذي أثر بي كثيراً. لقد جاء الأستاذ عبد الرحمن المصري الجنسية من مصر إلى العراق وتم تعيينه في مدرستنا ليدّرس علم الأحياء. كان ضخم القامة أبيض السحنة مستدير الوجه ذا لحية مقتصرة على الحنك وكان أنيقاً بملبسه بـ: “وردة العنق” التي كانت غريبة على مجتمعنا المحلي. 

للأستاذ عبد الرحمن مختبر في منزله يجري فيه التجارب على الضفادع العراقية التي يربيها حتّى تتزاوج وتبيض ويتابع نموها وأدوار استحالتها بأدق التفاصيل.  مما أثار استغرابنا أن عالماً بهذا المستوى يأتي من مصر إلى العراق ليدرس في مدرسة بمستوى المرحلة المتوسطة وهو الذي يماثل أساتذة الجامعات.

كان يجلب مجهره الخاص إلى الصف وهو مجهر من نوع   متطور يصلح للتدريس لم أر مثله في مختبراتنا حتى في الكلية الطبية أو المستشفى الجمهوري حينما كنت طالباً أو عندما أصبحت طبيباً مقيماً. حينما ننظر في المجهر كان يؤشر بقلمه الرصاص الذهبي الطلاء على صورة توضيحية كان قد خططها على ورقة ووضعها بالقرب من المجهر. تظهر نهاية قلمه المدببة وكأنها داخل المجهر فيؤشر بها ليدلنا على ما يجب أنْ نلاحظه من بيوض ومراحل أدوار الاستحالة التي يمرّ بها نمو الضفدع. كان ذلك يبهرنا مثلما يبهرنا الأستاذ ببراعته وأسلوبه العلمي.

أتذكر أن مجلة العالم الأمريكية واسعة الانتشار نشرت عنه مقالاً بعنوان “عالِم ترك ضفادع مصر واتّجه إلى ضفادع العراق”. وجدت فيه ذلك العالم الباحث الذي يكافح ويتخطى الصعوبات في سبيل تحقيق هدفه العلمي فتعلمت منه درساً في الحياة في حبّ العلم والبحث.

عبد الله عمران:

قصير القامة نحيف البنية بصلعة خفيفة هادئ النبرة. كان يدرس التاريخ في الصف الأول ولكن ليس بالأسلوب النمطي، حيث كان درسه رائعاً جداً لأن فيه تفاعل الطالب مع المادة والاستعداد لمادة الدرس مسبقاً. تميز بسعة معلوماته ورغبته بتوسيع أفق الطلبة وكمثال على ذلك القصة التالية التي أذكرها كمثال على نفس السياق الذي زرعه عبد الله عمران فينا. والقصة كما جاءت على لسانه باللغة الإنكليزية وكان يترجم ما صعب منها علينا، تتلخص بأن نابليون بونابرت حينما خسر معركة حاسمة في إحدى صولاته كان يجلس بين قادته في قعر الوادي على سفح جبال الألب والكُلّ منكسر المعنويات يندب ما آل إليه الجيش وسمعة فرنسا. وإذا بنابليون يطلب اجتماعاً عاجلاً للقادة بعد منتصف الليل. فاجأهم بخطّة جعلتهم واجمين إذ قال لهم: هل يتمكن جيشنا من تسلق جبال الألب للقيام بهجوم غير متوقع وفجائي على العدو المنتصر الذي يعسكر في السفح الآخر للجبال؟ كان من المستحيل أن يتوقع أحد أن يحدث ذلك لارتفاع قمة جبال الألب وشدّة انحدارها والثلوج التي تغطيها ومعاناة جيشه من الانكسار والخذلان. فأجاب القادة عن سؤاله القصير الواضح: “هل يمكننا القيام بهذا الهجوم”؟ فكان الردّ: نعم، ولكن. وهنا انتفض نابليون قائماً وقال ليس في قاموسي كلمة: “ولكن” لنبدأ بالحركة. وبالفعل، جمع نابليون جيشه ودفعه عبر جبال الألب وقام بالهجوم المفاجئ الذي باغت فيه العدو المنتصر والذي لم يأخذ أي حذر من هكذا هجوم، وانتصر نابليون وسجل سابقة عسكرية وفن قيادة رائدة بتحقيق مفاجأة العدو من حيث لا يحتسب.

أحمد السهروردي:

جاءنا الأستاذ أحمد من بغداد يدرس مادة التاريخ للصف الثاني. كان يتوسع في تدريس المادة خارج نطاق المنهج المقرر. كان يدرّسنا بما هو في المنهج المدرسي المقرر والذي يتقاطع أحيانا مع الثقافة الدينية المحلية في بعض تفاصيله ولكن ذلك لم يسبب أي إحراج له ولا لنا.  ولقد أحب المدينة وأهلها وأحبه الطلبة وأهاليهم.

عباس الوهاب:

شعلة الذكاء والمتابعة هو الأستاذ عباس الوهاب الذي ينحدر من عائلة آل طعمة الكربلائية الكريمة. كان يعشق اللغة الإنكليزية وتدريسها. يخرج في أكثر الأحيان من السياق النمطي في التدريس إلى آفاق واسعة من اللغة وآدابها والكُلّ مبهور به وبمادة اللغة بالرغم من أنّها لم تكن المادة المحببة لعدد من الطلبة. لم يقبل الأستاذ عباس بما هو فيه إذ التحق بعد عام تدريسنا بدراسة الدكتوراه خارج الوطن وعاد قائداً تربوياً وأستاذاً في جامعة بغداد.

محمّد سعيد الحكيم:

إبن الكوفة والمحبب لأهلها، والده العطار السيد أحمد الحكيم الساكن في منطقتنا محلة السراي وكان أخوه كامل من زملائي في الدراسة الابتدائية والمتوسطة. كان الأستاذ الحكيم يدرسنا اللغة الإنكليزية بعد ما غادر الأستاذ الوهاب. كان حديث التخرج طموحاً في أنْ يرضي الجميع ويثبت لهم بأنَّه ذلك الأستاذ الجدير بالتقدير وهو يستحقه بكلّ ما في الكلمة من معنى.   

عزيز حنوش:

عزيز حنوش وما أدراك ما عزيز حنوش فهو “أبو الرياضيات” كما كنا ننعته! تقدّم به العمر وانحنى ظهره ومع ذلك كنت تراه داخل الصف بعزّ نشاطه بدون الجاكيت ويداه “ملونّتان” بمسحوق الطباشير وهو يميل يميناً وشمالاً يتفاعل مع المعادلة ويتلفت بين السبورة والطلبة ولا يترك طالباً إلا بعد أنْ يستوعب المادة.

يونس السامرائي:

حلّ علينا الأستاذ يونس من بغداد وسامراء أستاذاً قديراً يدرّس اللغة العربية. حسن الهندام هادئاً يسير ببطء ويعتني بشعره عناية خاصة طويل القامة أبيض السحنة يميل شعره إلى الصفرة. كان متفانياً في تدريس مادته، واسع الأفق ذا ثروة لغوية وأدبية متنوعة. أحببناه جميعاً وكنا متشوقين لسماع الشعر والنثر منه من ضمن وخارج المنهج الدراسي.

محمّد الشكري:

شاب من أهل المدينة يعجّ بالحيوية والنشاط والعلم وحبّ المختبر والتجارب المختبرية وقد جعلنا نشعر بأهمية تلك المادة الدراسية، الكيمياء، لتدريسه الشيّق. شمل مختبره كلّ ما يحتاج تطبيقه في المنهج ولم تبق تجربة سُطرّت في الكتاب المنهجي إلا وقام بها. ولكفاءته العالية وتطلعه للعلم والمعرفة ترك التدريس بعد عدة سنوات وغادر إلى الولايات المتحدة للحصول على شهادة الدكتوراه التي حصل عليها وعاد إلى العراق وأصبح أستاذاً في جامعة بغداد.

حسين السبع:

مربوع القامة أبيض البشرة مستدير الوجهة كله حيوية وبِشر. كان يدّرس الرياضة والموسيقى. وبالرغم من أن جسمه مائل للبدانة إلا أنه يتمتع بقدرات رياضية عالية.

بداية نضوج قرار طريق الطب:

كما ذكرت سابقاً فتحت عيني على الحياة وأنا في محيط طبّي أعيشه بكلّ تفاصيله من الصباح إلى المساء في دار حكمة والدي بممارسته الطب العربي الإسلامي الذي هو تراث آل الخليلي. وبالرغم من حداثة سني وقلة خبرتي قررت في داخلي وفي بداية المرحلة الدراسية المتوسطة أنْ أسلك طريق الطب وأكون طبيباً يحفظ تراث العائلة الطبّي ولكن عن طريق الطبّ الحديث.

شعرت بالحاجة أن أوسع أفقي بالدخول في ميادين خارج المحيط الدراسي المنهجي ما يقربّني إلى ذلك المستقبل!

أول الغيث.. التشريح والكلوروفورم!!:

شمل درس مادة الأحياء في الصف الثاني المتوسط تفاصيل تشريح بعض الحيوانات ومنها الحمامة. فكرت أن أطبق ذلك عملياً. ولما كان من الأفضل تشريح الحمامة وهي على قيد الحياة فيجب تخديرها قبل التشريح. اتّفقت مع صديق لي يعمل مضمداً في المستشفى أن يجلب لي قنينة مادة مخدرة فكانت الكلوروفورم، وكما هو معلوم فإنها المادة التي تُستخدم في التخدير البشري في ذلك الحين. والكلوروفورم سائل ذو رائحة متميزة يقطّر على قطعة من القطن توضع أمام الأنف للاستنشاق مع الهواء ما يؤدي إلى التخدير وفقدان الوعي.

اشتريت حمامة بيضاء وذهبت بها إلى بيت زميل لي كان قد اقتنع بالفكرة وحصلنا على بعض الأدوات الجراحية البسيطة. بدأنا بإشباع قطعة من القطن بسائل الكلوروفورم ووضعناها على منخري الحمامة وإذا بها تدخل بسرعة في سبات عميق. وبدأنا بالتشريح بالآلات البسيطة التي جمعناها. لقد كانت تجربة ذاتية وبدون إشراف وبطبيعة الحال فإن الحمامة لم تقاوم وفقدت الحياة منذ الدقائق الأولى ولم تتعذب من “تجارب” الأطفال عليها. وكانت أوّل مرة أتعامل بها مع الدم الجراحي ومشاهدة الأحشاء عن قرب.

التطوع في الصيدلية في النجف:

قررت العمل في صيدلية أيام العطلة الصيفية بين الثاني والثالث المتوسط كي أكون قريباً من الأدوية وروائحها والتي كانت في ذلك الوقت تحضر جميعها آنياً في الصيدلية.

أنواع القناني من مكونات الأدوية الأساسية في الصيدليات أيام زمان

لم تفتتح في ذلك الوقت صيدلية في الكوفة وهذا يعني اضطراري للذهاب إلى النجف لتحقيق ذلك. طلبت من والدي التحدّث إلى صديقه الحاج عبد الهادي علي صاحب مؤسسة بيع المعدات الطبّية والأدوية في النجف وصاحب منتجات “هاها”، وهي مختصر لاسمه في الإنكليزية (Haj Abdul Hadi Ali, HAHA)  فاقترح أنْ أعمل في صيدلية الأمير في دورة صحن الأمير وكان مالكها حسب ذاكرتي الحاج محسن عجينة، والمهم أنّ مساعد الصيدلي ويدعى عبد الأمير كان من معارف الحاج عبد الهادي. كنت أقطع المسافة من بيتنا في الكوفة وحتّى مرآب السيارات الذاهبة إلى النجف حيث أستقلّ الحافلة حتّى ساحة الميدان في النجف وأتوجّه منها إلى الصيدلية وهذه بالنسبة لطفل مثلي تعتبر “سفرة”.

كنت أرى أنواع القناني الزجاجية العملاقة والصغيرة المملوءة بأنواع المحاليل التي تفوح منها الروائح المتعددة وهي مرتبة على رفوف خلف منضدة (كابينة) عالية في نهاية الصيدلية. كانت تلك الروائح كأطيب العطور التي كنت أشمها بكلّ حواسي!

يصف الطبيب الدواء بتثبيت خلطة من أدوية متعددة على شكل محاليل أو مساحيق. يقوم عندها الصيدلي أو مساعده بتحضيرها بطرق علمية ويصب الخليط النهائي في قنينة زجاجية يكتب عليها طريقة الاستعمال. يكتب عليها كذلك وبحروف كبيرة “خضّ القنينة قبل الاستعمال” وكلمة خضّ باللهجة العراقية تعني رجّ، لأن بعض المواد الداخلة في التركيب تترسب بالركود.

استمرّ دوامي في الصيدلية بدون أجور لما يقرب من ستة أسابيع وبقيت بعض الأسابيع للهو مع الأصدقاء.   كانت تلك التجربة مبعث سرور لي وتحقيق أمل. أعتقد أني من الأوائل من أقراني الذين سلكوا هذا المسلك التطوعي الذي يعدّ في الدول الغربية الآن ضرورة يجب أن يمارسها كلّ طالب في العطل السنوية ويعدّ مقصراً من لم يقم بها.

العطلة الصيفية قبل امتحان الصف الثالث:

سوق الشورجة: اشتغلت في العطلة الصيفية بعد انتهاء الدراسة في الصف الثالث المتوسط في محل ابن عمي وزوج أُختي السيد كاظم الحسيني الذي يبيع مواد القرطاسية بالجملة في سوق الشورجة ببغداد، حيث تقرر في ذلك العام أن يؤخر امتحان البكالوريا إلى قرب نهاية العطلة الصيفية. 

تشمل مبيعات القرطاسية بالجملة الدفاتر والأقلام وكل ما يتعلق بذلك. كان العمل مجهداً حيث نبدأ في الصباح الباكر وننتهي بعد غروب الشمس خصوصاً عند الاستعداد لبدء الدراسة حيث يزدحم المتسوقون من التجار الوافدين من كافة أنحاء العراق.

 كان العمل هناك طوعياً بالنسبة لي وقد كسبت الخبرة في التعامل مع الناس بتعدد ألوانهم من التاجر الشريف الطيب إلى ذلك المشتري المحتال المراوغ وكذا التعامل فيما بين تجار القرطاسية في الشورجة والتنافس الشريف فيما بينهم وغير ذلك.

كان تجار السوق خليطاً من الفئات الاجتماعية المتباينة عرقياً ودينياً وجغرافياً. كان لليهود حضور واضح فكان ساسون وأخيه طيبين حسني التعامل ومحترمين من الجميع. كان محلهما مقابل لمحل ابن عمي وكانا قد وضعاً عنواناً لمحلّهما بعنوان “طباشير العراق، محمّد علي حسافة”. ومحمّد علي حسافة هذا هو المنتج الوحيد للطباشير في ذلك الزمن وله العديد من هذه اللوحات موزعة في أماكن مختلفة ولم تكن له أية علاقة بهما!

لا يفوتني أن أذكر التاجر اليهودي الأكثر شهرة صالح درويش الذي يقع محلّه في خان الدجاج وهو سوق فرعي مهم من سوق الشورجة. جرت العادة أن لا يبيع تجار القرطاسية في الشورجة بالمفرد نهائياً فلا يمكن شراء دفتراً أو قلماً فأقل ما يمكن شراؤه هو درزن أي اثنا عشر من أي نوع من القرطاسية. كان صالح درويش التاجر الوحيد الذي كان يخالف هذا التقليد. فإذا أردت أن تشتري منه دفتراً واحداً تراه يسعفك بذلك بلا تردد والأدهى من هذا كان يفتح “بند ورق العريضة” المتكون من خمسمائة ورقة والذي لا يبيع غالبية التجار في الشورجة أقل من عدة بنود للمشتري الواحد فترى صالح يفتح غلاف البند الواحد ويخرج لك ورقة واحدة منه ويسعف طلبه ويحلّ مشكلته. وهذا شيء غريب جداً ومستهجن من الباقين! ولكن بالواقع كان صالح يكسب رضا الزبون المضطر ويحلّ مشكلته وبذا حقق سمعة تجارية طيبة يتحدث بها الزبون أمام أهله وأبناء محلته ما يشجع الآخرين على الشراء من صالح وهذه سياسة بعيدة النظر لها تطبيق على واقع الحياة حتّى خارج هذا المجال المحدود.

المطبعة وطرفة “عزيزي”:

كنت أقضي وقتاً في مطبعة الزهراء في شارع المتنبي في بغداد التي يملكها خالي مرزا جواد الخليلي وعزيز علي العصامي زوج شقيقتي الثانية. كان يفد للمطبعة خيرة المؤلفين من الأساتذة والأكاديميين مثل الدكتور علي الوردي والدكتور نوري جعفر والدكتور عبد الرزاق محيي الدين وغيرهم. كان لي الشرف بلقاء العديد منهم والاستماع إلى أحاديثهم وملاحظة متابعتهم مراحل طباعة كتبهم وتلافي الأخطاء الطباعية التي يمكن أن تحدث أثناء التنضيد الطباعي.

كان تنضيد الحروف يجرى يدوياً بجمع الحروف والأسطر على لوحة معدنية حيث تُصّف الحروف مقلوبة جنب بعضها لتكون الكلمات والأسطر والصفحات. تجمع الحروف المتشابهة في لوحة خشبية مقسمة.  والخبير في التنضيد كان الأستاذ سلمان السبتي الذي كان سابقاً يشغل موقع مدير المكتبة العامة في الكوفة. ُطوّر ذلك الأسلوب إلى التنضيد بماكينة اللاينوتايب (Linotype) حيث يتم تنضيد السطر وتقوم  الماكنة بصنع قالب من الرصاص لذلك السطر وتجمع الأسطر لتعمل صفحة كاملة. وبذا يتم التنضيد بطريقة أسرع من التنضيد اليدوي الذي لم يلغ أبداً، وخبير العراق بهذه الماكنة كان عبد الرحمن العسافي. تجمع الصفحات بعد التصحيح بمجاميع من ثمان أو ست عشرة صفحة حسب حجم الكتاب لتطبع في ماكينة الهايدلبرك المتطورة على يد الخبير عبد الجبار الشيخ. ومن ثمّ يُبدأ التصحيف والتجليد على يد مجلد الكتب الشهير السيد مير. وعند تذكر تلك الأيام يشعر الإنسان بالأسى من تعامل هؤلاء الأكفاء بمادة الرصاص وغيرها بدون وقاية وما نتج عن ذلك من حالات تسمم لم تشخص وراح ضحيتها العديد من عمال المطابع في ذلك الزمن.  

أنقل هنا جانباً طريفاً من حياة أولئك العمال. كان السائد والمتعارف عليه أنَّ اللغة التي يتعامل بها هؤلاء المتمرسون من عمال المطبعة مليئة بالكلمات غير المقبولة اجتماعياً خارج ذلك المحيط ولكن جميعهم ينتشون بها والتي تجعل كلّ واحد منهم بأخذ حقّه من غريمه مع العلم بأنّهم يتحلون بالخلق العالي والتصرف المتميز مع أي شخص آخر في المجتمع. في كثير من الأحيان يفاجأ أحدهم عندما يقذف غريمه بكلمات وجمل من تلك المتداولة ولا يدري بأنَّ علي الوردي أو غيره من الأفاضل جالس مع المقصود ويسمع ما يقال ما يسبب إحراجاً شديداً للجميع. تكررت تلك الحالة واستاء الكُلّ من ذلك وعندها قررعمال المطبعة تغيير تلك الكلمات النابية. بحثوا عن البديل وقرروا استخدام كلمة “عزيزي” الطيبة في معناها والمبطنة في داخلها والتي تعني خلطة من كلّ الكلمات النابية التي تشتم الأهل والأجداد والأعراض وكل ما هو غير مقبول. والذي حدث مثلاً أن عبد الرحمن يتحدث مع عبد الجبار بوجود الأستاذ المؤلّف وعندما ينزعج من عبد الجبار يقول له أنت “عزيزي”! فإذا بعبد الجبار ينتفض بانزعاج قائلاً أنت وأبوك عزيزي. عندها يظهر على الأستاذ الاستغراب فيقول لعبد الجبار لم الغضب لقد قال لك عزيزي وهي كلمة طيبة. يرد عليه عبد الجبار قائلا يا سيدي الأستاذ أنت لا تعرف المقصود من كلمة عزيزي فهي كلمة غير الذي تعتقده. وعند الإفصاح عن معناها يضحك الجميع على هذه الفبركة اللغوية الاجتماعية. لقد كانت للقيم الأخلاقية مكانتها ولاحترام العلم والثقافة منزلة كبيرة في قلوب وعقول الجميع.

.

فشل في الجولة وربح في المعركة:

كانت نهاية العام الدراسي 1956- 1957 مأساوية ومصيرية في حياتي، حيث كما ذكرت تقرر تأخير امتحان البكالوريا (الامتحان الوطني) للصف الثالث المتوسط إلى قرب نهاية العطلة الصيفية. أصبح الامتحان لدور واحد فقط حيث ألغي امتحان الدور الثاني وأصبحت درجة النجاح %60 درجة وليس 50% خلافاً للمتعارف عليه. وكذلك تقرر تسمية الامتحان بالامتحان “التحضيري” والذي شمل مادة المراحل الثلاث (الصف الأوّل والثاني والثالث). يحقّ للطالب اختيار الدروس العلمية: الرياضيات والطبيعيات بكلّ أقسامها، أو الدروس الأدبية: اللغة العربية والتاريخ والجغرافية. فمن يجتاز التخصص العلمي يؤهل للدخول في الفرع العلمي والآخر يؤهل للفرع الأدبي. أما من يفشل في الامتحان أو من لا يشارك بالامتحان بتاتاً فله أنْ يدخل الفرع التجاري.

بالرغم أني كنت من الطلبة الجيدين لم أجتز الامتحان بسبب انشغالي في العطلة الصيفية بمساعدة ابن عمي في بغداد في محل قرطاسيته في الشورجة حيث لم أقدر جيداً مقدار حاجتي للتحضير قبل الامتحان. كانت نتيجتي: %91 في الرياضيات و%47 في الطبيعيات. كانت تلك نكسة وصدمة كبيرة في حياتي. غطى الضباب أحلام مستقبلي في طريق الطب. وعليه اضطررت للدخول في الفرع التجاري في ثانوية النجف.