التخصص في الجراحة العصبية (أسكتلندا)

رسالة من الأستاذ كالبرت فيليبس من مانشستر 1972 حول تحويل اختصاصي

مدينة دندي:

بدأت العمل في قسم الجراحة العصبية في ذلك المستشفى الجامعي العريق في مدينة دندي في الشهر الثامن من عام 1972.

تقع مدينة دندي (Dundee) الإسكتلندية الجميلة على ضفاف نهر تَي (Tay) الشهير الذي يزيد عرضه على الميل والنصف. ودندي هي عاصمة مقاطعة “أنكس” (Angus) وهي من المقاطعات المشهورة بجودة لحوم أبقارها التي تصدرها إلى العديد من دول العالم.

في دندي كل شيء “أنگس” (Angus)

اشتهِرت دندي في الماضي بأنها من أهم المدن في تجارة وصناعة الجوت وهذا ما جعلها منتعشة اقتصادياً. ولكن بعد أن قلّ الطلب على هذه المادة تأثرت المدينة اقتصاديا، وأنقذتها بعض الشركات المهمة مثل شركة تايمكس (Timex) للساعات الإلكترونية التي أنشأت معاملها في المدينة في الخمسينيات وكانت شركة بسيطة فيها عشرات العمال فقط ولكنها تطورت إلى 7000 عامل في بداية السبعينيات.

الحافلات في دندي و”البصاق ممنوع”!

في حافلات مدينة دندي علقت لوحة إرشاد للركاب تقول: ” البصاق ممنوع”! وعندها تنفست الصعداء حيث اطمأنت نفسي بأننا في العراق نضع نفس التعليمات لركاب الحافلة وتبين لي أننا لسنا بعيدين عنهم في مجتمعنا على الأقل من ناحية البصاق في الحافلة والتحذير منه. ولكن هذه اللوحات رفعت من حافلات دندي بعد أشهر حينما جددت الحافلات.  

واقعة جسر تي بريج (Tay Bridge):

أنشِئ جسر على نهر تي في العام 1878 للسيارات والقطارات وكان من الإنجازات الهندسية المهمة في ذلك الحين حيث كان طول الجسر ومقترباته تصل إلى أكثر من 3.5 ميل. وبعد عام واحد أي في 1879 عند عبور القطار عليه تحطم الجسر وغرقت عدة عربات في النهر وتوفي العشرات من الركاب. ولكن أعيد بناؤه وافتتح عام 1883 واستمر بكل عنفوان حتّى اليوم. وكانت واقعة الجسر تحزّ في نفوس أهل دندي حتّى بعد قرن تقريبا من حدوثها.

الجسر القديم الذي تحطم عام 1878              الجسر الجديد الذي أنشئ ثانية وافتتح عام 1883

بديل الجوت معمل ساعات تايمكس:

اشتهرت مدينة دندي في الغالم بصناعة الجوت الذين ينتج في بنكلادش. بعد أن يعامل مع زيت الحوت الذي تصنع منه الأكياس التي تحوي السكر والرز وغيرهما وكذلك الحبال التستخدم في محالات صناعية وغيرها.

استوعبت تلك الصناعة عشرات الالاف من العمال.

معمل جوت في دندي 1830

ولكن بعد أن قلّ الطلب على هذه المادة تأثرت المدينة اقتصاديا. أنقذتها عدد من الشركات المهمة مثل شركة تايمكس (Timex) للساعات الإلكترونية التي أنشأت معاملها في المدينة في الخميسنيات وكانت شركة بسيطة فيها عشرات العمال فقط ولكنها تطورت إلى  7000 عامل في بداية السبعينات.

منظر من داخل معامل شركة ساعات تايمكس

حدثنا الأستاذ الدكتور جارلس سكوت (Charles Scott) اختصاصي علم البكتريا في مستشفانا، الذي سأتحدث عنه فيما بعد بأنه قد دعي مرة لزيارة معامل ساعات تايمكس فوجد ظاهرة أثارت فضوله. وجد في المعمل أن القاعة العالية التقنية لصناعة الأجزاء الإلكترونية الدقيقة تحوي مرشحات (فلترات) هوائية تنقي الهواء الداخل إلى القاعة بحيث يقل تركيز الكريات الجرثومية (spores) الموجودة في الهواء الداخلي إلى درجة تقترب من العدم. ومن هنا جاءته فكرة تطبيق ذلك في قاعات العمليات الجراحية وتطبيق طريقة ضخ الهواء بتيارات طبقية (Lamellar) تسري في مرشحات مشابهة لتلك التي في المعمل. ويتحقق بذلك  مكسبين الأول تقليل الكريات الجرثومية في القاعة والثاني التقليل من انتقال الكريات بسبب التيارات الطبقية داخل القاعة.

مخطط للترشيح الهوائي والاندفاع الطبقي في قاعة العمليات التي صممها جارلس سكوت

“أنگس” لحم معروف عالمياً:                                                                            

ما كنا نتنادر حوله هو إننا كنا في أنگس (أسوء، بالعامية العراقية) مقاطعة في بريطانيا وفيها أنگس فندق ونأكل فيها أنگس لحم! وفي واقع الحال فإن المقاطعة تحمل اسم أنگس (Angus) وعاصمتها دندي وهي من أجمل المقاطعات البريطانية ولحم أبقارها من أفضل اللحوم المعروفة على مستوى العالم.

المستشفى الجامعي:

أنشئ المستشفى الجامعي (Dundee Royal Infirmary) عام 1820 وبمرور الزمن أجريت عليه بعض التحسينات والإضافات.

بناية مستشفى دندي الجامعية التي أنشئت عام 1820

علاقتي السابقة باختصاص جراحة الدماغ:

لم أكن أحلم بأن أكون متخصصاً بجراحة الدماغ ولو للحظة أثناء مسيرتي كطالب طبّ أو كطبيب. ولم يكن لي أي تماس مع هذا الاختصاص سوى بعض الأحداث القليلة التي مرت بي. أولها وأنا طالب طب في الصف السادس (النهائي) حيث حضرت أثناء التدريب الجراحي في المستشفى الجمهوري عملية طارئة لرفع كسر خسفي في جمجمة طفل ابن فلاح من شمال العراق كان قد رفسه بغل. أجرى العملية في حينها المقيم الأقدم في هذا الاختصاص الدكتور حكمت صديق (بعدئذ زميلي في الاختصاص). والتجربة الثانية كانت حين الإقامة في مستشفى الرمد في بغداد عام 1969 حينما نقلت لنا سيارة الإسعاف شاباً مصاباً بشدة خارجية في مقلة العين. الثالثة حينما كنت طبيب عيون في مستشفى الرمد في الحلة عام 1971 حيث اكتشفت لدى مريض بعمر الخمسين عاماً حالة وذمة (انتفاخ) العصب البصري والتي تدل على وجود ارتفاع الضغط داخل الجمجمة. أحلت المريض إلى مستشفى جراحة الجملة العصبية فتبين إن لديه ورم في الدماغ.

البداية:

بدأت رحلة جراحة الدماغ  وبذلت قصارى جهدي في الاندماج بالاختصاص. وبعد ثلاثة أشهر تقريبا شعرت بالالتصاق به وقررت أن يكون هذا هو طريقي في الحياة وهكذا كان. 

زاملني في الأسابيع الأولى طبيب مقيم دوري في نهاية تدريبه في القسم وكان الأول على دفعته في كلية طب جامعة دندي اسمه جون ستن (John Sutton). وكان مليئا بالنشاط شديد الذكاء مندفعا في العمل بأفضل ما يمكن. تحتّم عليّ أن أظهر بما يليق وبما أتوقع من نفسي كي أكون أفضل منه بسبب موقعي كمسؤول عنه وبما أحمله من ماض علمي بوصفي الخريج الأول وعمري الطبّي يزيد على عمره الطبّي. المشكلة الأساسية كانت انقطاع تدريبي في الجراحة العامة منذ التحاقي باختصاص العيون. ومعلوم أن الحاجة الطبّية السريرية في ردهات الجراحة العصبية تتعلق بالجراحة العامة وليس لها علاقة بالعيون ومتطلباتها. ولكن التدريب العالي الذي حصلت عليه عند إقامتي الدورية لمدة سبعة أشهر قضيتها في الوحدة الجراحية الثانية (ردهة 17/18) في المستشفى الجمهوري في بغداد على أيدي الأساتذة خالد القصاب، زهير البحراني وعبد الكريم الخطيب منحني القدرة والثقة أن أتعامل مع الحالات السريرية الجراحية الأساسية بكل ثقة ولله الحمد. وبعد مدة قصيرة أثبتّ وجودي بما يتطلبه ذلك الموقع، وكان من المفروض أن أستعد في الوقت نفسه للامتحان الأولي لزمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية. وبالرغم من صعوبة إيجاد الوقت الذي يجب أن أقضيه في الردهة لرعاية المرضى والمشاركة في العمليات الجراحية المطولة ومراجعة المختبرات كنت أتحين الفرص للتحضير للامتحان.

قسم الجراحة العصبية: في العام 1960 افتُتح قسم الجراحة العصبية في بناية حديثة أضيفت إلى البناية القديمة للمستشفى وقام بالافتتاح عميد الجراحة العصبية في بريطانيا الجراح نورمان دوت    (Norman Dott) رئيس قسم الجراحة في جامعة إدنبرة.

الأستاذ نورمان دوت من عمالقة الجراحة العصبية (1897-1973)

تم تعيين جراحين ذوي كفاءة  في القسم هما جو بلوك (Joe Block) وآيڤن جيكوبسن (Jacobson Ivan) وكلاهما من دولة جنوب أفريقيا ومن الطائفة اليهودية.

بدأت العمل كطبيب مقيم أقدم وهي الدرجة الثانية في سلم الإقامة حيث تبدأ من المقيم (دوري) إلى مقيم أقدم ثم مسجل وبعدها مسجل أقدم والذي ينتهي بالحصول على موقع استشاري وهو أعلى سلم العمل الطبّي في مستشفيات وزارة الصحة في بريطانيا. كان رئيس المقيمين الدكتور دونالد شو (Donald Shaw).

أساتذتي:

الدكتور جو بلوك (Joe Block): يرأس الدكتور جو بلوك القسم وهو أول اختصاصي في الجراحة العصبية في دندي. يتمتع الدكتور بلوك باحترام الجميع وهو صاحب كلمة مسموعة على كل المستويات. قصير القامة ذو صلعة خفيفة. له واجبات إدارية عديدة بالإضافة إلى واجباته الجراحية.  وبفضل مركزه كعضو في مجلس إدارة مستشفيات دندي تمكن من استحداث فرصة تدريبية لي في الجراحة العامة كما سأذكر لاحقا. أقول ذلك وأفخر به (أنا مدين لهذا الإنسان كثيراً).  لقد كان صارماً جداً مع الملاك التمريضي والطبي ولكن له قلب رحوم لا يمكن أن تشعر بذلك عندما ترى صرامته وشدته. 

الاستاذ جو بلوك (1921-1995)

الدكتور آيڤن جيكبسون (Ivan Jacobson): كان مليئاً بالحيوية والنشاط وهو أصغر عمراً من جو، ولكن أطول قامة وذو عيون زرق، طيب المعشر عالي الكفاءة الجراحية.

الجراح الشهير آيڤن جاكوبسن (1932-1996)

تجاوزت علاقتي بهما علاقة أساتذة وطالب إلى صداقة ورفع الحواجز الإدارية. وعند عودتي لزيارتهما عام 1978 بعدما عدت إلى الوطن عام 1976 أقاما لي ولقرينتي وطفلتي دعوات في بيتيهما كل على حدة وشاركنا في ذلك اللقاء بعض الزملاء من أيام التدريب.

الممرضة مس ماكدونالد ووفاتها:

كانت الممرضة المسؤولة في القسم المس ماكدونالد الآمر الناهي في القسم وتعامل الجميع بشدة ولكنها  تحمل قلب ممرضة بكل ما في هذه الكلمة من معنى.  اكتشفت بأن قد أجريت لها عملية في القسم لورم في الدماغ قبيل أشهر من التحاقي. لم يؤثر ذلك على عملها ومعنوياتها ولكنها بعد أشهر توفيت. أوصت وهي على فراش الموت أن تحرق جثتها. حضرت تلك المراسيم، وكانت تلك تجربة مريرة بالنسبة لي. كنت وأنا جالس في القاعة الكبيرة بجوار المحرقة أتخيل هذه الإنسانة النبيلة الرقيقة تلتهمها النار ويتفحم جسدها النحيل ثم يصير رماداً.

إلى اليمين أول محرقة للجثث أنشئت في بريطانيا عام 1878 والمحرقة الحديثة إلى اليسار

رد فعل غريب على حادثة أولمبياد ميونيخ:

في صيف العام 1972 وفي أيام الألعاب الأولمبية في دورة ميونيخ حدث ما شغل العالم كله عندما قتل أحد عشر رياضياً إسرائيلياً (وكذلك قتل شرطي ألماني) على يد جماعة من فرقة أيلول الأسود الفلسطينية (قتل منهم خمسة أفراد). كان ذلك الحدث الشاغل لكل المنتسبين في مستشفانا ومنهم الأطباء المقيمين. كانت النظرات الحاقدة توجه لي بوصفي أمثل المنطقة العربية! توجهت يومها بعد مغادرتي نادي الأطباء إلى قاعة العمليات في قسمنا الجراحي وحينما دخلت تلقاني الأستاذ آيڤن جيكبسون اليهودي الذي لم يكن مؤيداً لإسرائيل بالسؤال أمام الجميع: هل علمت بما حدث؟  فأجبته بالإيجاب وبادر قائلاً هل تعلم أن هذه مؤامرة إسرائيلية تعمدت فيها إسرائيل بإبقاء رياضيها بدون حماية كي يعتدي عليهم الفلسطينيون ويُقتل بعضهم لتبقى ذكراهم وتتجدد في كل أولمبياد قادم على مدى الدهر! استغربت من تصريحه ذاك أمام الجميع.  كان رد فعلي السكوت وعدم التعليق.                                                                                                                                                                                                                                                                                

امتحان قيادة السيارة وما حدث للإجازة:

من المعلوم إن امتحان قيادة السيارة في بريطانيا من الامتحانات التي لا يمكن اجتيازها بسهولة حيث يرافقك الممتحن ويسجل كل شاردة وواردة أثناء قيادتك السيارة ولا يخبرك بالنتيجة إلا بعد انتهاء الاختبار. ويمكن أنك قد فشلت في المراحل الأولى للاختبار ولكنه لا يبلغك بالفشل بل ينتظر حتّى النهاية وعندها يوضح الأسباب. عند النجاح تردك التبريكات وكأنك اجتزت امتحان زمالة الكلية الملكية للجراحين! أما إذا فشلت فلا يحق لك إعادة الامتحان إلا بعد ثلاثة أشهر.

دخلت الامتحان لأول مرة ففشلت فيه. حينما عدت إلى القسم والكل ينتظر النتيجة أخبرتهم بالفشل. وإذا بأستاذي الدكتور بلوك يلومني لأني لم ألمح للممتحن بأني طبيب!  في الامتحان التالي بعد ثلاثة أشهر نادى عليّ الممتحن: مستر خليلي فأجبته بصوت واضح نعم أنا دكتور خليلي. سألني أنت دكتور!؟ قلت نعم. وعند مرافقتي في الامتحان أخذ يسألني عن طنين في أذنه لازمه لعدة أشهر. أجبته بأن يتفضل بزيارتنا في القسم لفحصه. أقول وبأمانة ان تلك المعلومة والحديث لم تؤثر على قراره في نتيجة الامتحان ولكنه كان مرتاحاً نسبياً. اجتزت الامتحان ووردت التبريكات ممن حولي.

كانت المفاجأة الكبرى هي عندما وردتني الإجازة في البريد ووجدت انها صالحة من يوم اجتيازي الامتحان في العام 1972 وحتّى العام 2012. أي عندما يبلغ عمري السبعين عاما، فلا أحتاج إلى تجديد أو مراجعة طوال تلك السنين إلا عند إصابتي بمرض أو عارض يمنعني من السياقة وعليّ أن أخبر السلطات بذلك. كانت تلك الثقة البالغة التي توليها السلطات بالمواطن مبعث استغراب شديد لي عند مقارنتها بما نحن عليه في بلداننا.

أذكر هنا ما حدث للإجازة بعد ذلك ففي العام 2004 وعند اختطافي من قبل عصابة مجرمة، كنت وأنا في صندوق السيارة مكبل اليدين معصوب العينين في قلق مما سيعمل المختطفون بي وشكوكهم بحملي اجازة سياقة بريطانية. أخرجت تلك الإجازة العزيزة عليّ من جيبي بصعوبة بالغة وأخفيتها خلف بطانة داخل الصندوق مع حاجيات أخرى. لا أعلم هل ومتى ستكتشف تلك الإجازة في المستقبل وهي مخفية خلف البطانة.

الامتحان الأولي لزمالة كلية الجراحين الملكية:

من المعلوم أن الامتحان الأولي مهم جداً في بريطانيا ليس فقط لأنه من متطلبات الحصول على الزمالة بل لأنه يمنح الطبيب الأجنبي ثقة المجتمع الطبّي حوله بأنه قد وصل إلى مستوى الطبيب البريطاني حسب القياسات العامة.

بالرغم من ضيق وقتي للدراسة ولاسيما عند الدوام في قسم الجراحة العصبية لزخم العمل اليومي والخفارات فقد صممت على أن أدخل الامتحان الذي يشتمل على امتحانين؛ الشفاهي والنظري.  كان توقيته في بداية الشهر السادس (النهائي) من دوامي في القسم. برمجت وقتي للدراسة إلى مستوى الدقيقة الواحدة تقريباً وبدون مبالغة. فنظمت جدولاً يتناسب مع الأوقات الممكنة للدراسة. فهناك الدراسة “الخفيفة” قبل النوم حيث وضعت تحت الوسادة أوراقاً وملاحظات، وهناك القراءة الصباحية قبل الدوام، والقراءة ما بين الواجبات في القسم والدراسة في المكتبة. كذلك لم أتبع الأسلوب النمطي في التحضير بقراءة الكتب المنهجية من “الغلاف وإلى الغلاف” وإنما كنت أقرأ بطريقة عملية تطبيقية. وكنت أتابع التطورات الحديثة التي أعلم أنها مثار اهتمام الممتحنين لتقييم المتقدم للامتحان.

 الامتحان النظري: كان نمط الأسئلة في الامتحان النظري كالذي طبقه علينا أستاذ مادة التشريح البريطاني هينس عندما كنا طلبة في كلية طب بغداد وهو الأسئلة الشبحية (MCQ) وتحتسب بطريقة يعطى فيها الجواب الخاطئ درجة سالبة والصحيح درجة موجبة. وبالنتيجة يمكن أن تكون الدرجة النهائية سالبة أي أسوأ من الصفر. وعليه فمن المنطق ترك الأسئلة المشكوك بها وعدم إجابتها تفادياً للعلامة السالبة.

الامتحان الشفاهي: يتطلب الامتحان الشفاهي إرضاء الممتحنين الستة الموزعين بالتساوي على ثلاث مناضد على كل منها ممتحنين اثنين. كان الطالب يجلس على كرسيه في الجانب الآخر من المنضدة وتوجه له الأسئلة من الممتحنَين الاثنين بالتعاقب ويضع كل منهم الدرجة التي يقررها. ولكي ينجح الطالب يجب أن يُرضي الممتحنِين الستة كلهم. كانت النتيجة ولله الحمد النجاح في ذلك الامتحان الأولي للزمالة.

سباق الرگبي (Rugby) الوطني وعلى وشك الحرمان من الامتحان!:

من المفارقات التي أقلقتني ليلة الامتحان الأولي ما حصل وأنا في غرفتي في الفندق المطل على الشارع الرئيس (Princess Street) في مدينة إدنبرة. كانت هناك مباراة نهائية لفريقي لعبة الركبي التي تعتبر   اللعبة القومية الأسكتلندية “المقدسة”. وبالمناسبة فإن أصل هذه اللعبة بدأ في مدرسة رگبي (Rugby School) في مدينة رگبي التابعة لمقاطعة يوركشاير في إنكلترا في نهاية القرن التاسع عشر.

مدينة رگبي (Rugby) في مقاطعة يوركشاير في انكلترا

 لم أستطع ليلتها النوم بسبب الصخب والغناء في الشوارع الذي استمر حتّى الصباح. وسبب عدم النوم تأخري في الاستيقاظ صباحاً حيث أدركني الوقت وكان الامتحان على وشك البدء، وإذا تأخرت سأحرم من الدخول إلى القاعة.

الإنقاذ!: أسرعت إلى باب الفندق محاولاً استئجار سيارة أجرة للذهاب إلى قاعة الامتحان فلم تتوفر أية سيارة في تلك اللحظات. وقفت وأنا حائر لا أدري ماذا أفعل وإذا بسيارة ليموزين تقف أمام الفندق وينزل منها شخص مهيب دخل الفندق وبقي السائق داخل السيارة. تحدثت مع السائق الذي كان يلبس القبعة والبدلة السوداء التي تدلّ على أن سيده من الأشخاص المهمين، ولم أترك له مجالاً للاعتذار حتّى اضطر إلى أن يوصلني إلى قاعة الامتحان التي لم تبعد كثيراً عن الفندق. عند وصولي القاعة شكرته على فعلته الكريمة وإنقاذي من الورطة. دخلت القاعة وكانت على وشك أن يغلق بابها. تنفست الصعداء وتسلمت الأسئلة وبدأت الإجابة.

اجتزت الامتحان: كان الفضل في اجتيازي الامتحان بسهولة هو للجهد الذي بذلته وتنظيم وقتي وكذلك لوجودي في محيط  أكاديمي طبّي على مستوى عال. ولا أنسى مساعدة المسجل الأقدم الدكتور دونالد شو (Donald Shaw) الذي كان يعطيني دروساً نظرية في الفسلجة بعد أن طلب منه أساتذتي أن يرشدني إلى النقاط العملية المهمة في الامتحان.  كذلك ما استفدته من قضائي وقتا لا بأس به مع الأستاذ گاثري (Guthrie) المتخصص في علم الأمراض وهو حجة في اختصاصه على مستوى بريطانيا. وقد تعلمت منه كثيراً مما أفادني في الامتحان الشفاهي. وكذلك استفدت من الأستاذ جارلس سكوت (Charles Scott) في علم الجراثيم الذي تعلمت منه الكثير في مختبره بخصوص علم الجراثيم والتطبيقات السريرية.

بالإضافة إلى ذلك كنت أحضر كل محاضرة طبّية تلقى في المستشفى من أساتذة زائرين أو من داخل المستشفى وفي أي موضوع كان عند سنوح الفرصة وتوفر الوقت. وتعلمت شيئاً كبيراً من تلك المحاضرات حتّى التي كانت بعيدة عن مبتغاي فكنت أسجل ملاحظات عامة حول طريقة العرض أو حكمة ذكرها المحاضر أو حادثة لطيفة أو نكتة طريفة. فكان يومي مليئاً بما ينفع للامتحان وللحياة.

محاضرات متميزة لأساتذة ضيوف: أثناء وجودي في المستشفى ألقيت العديد من المحاضرات لضيوف من داخل أو خارج بريطانيا. علقت بذاكرتي من بين تلك المحاضرات محاضرتان لأعلام في الطبّ ممن كانت لهم بصمة في تاريخ البشرية في مجال الطبّ.

كانت المحاضرة الأولى للدكتور جون كيركلين (John Kirklin) من جامعة برمنغهام ألاباما في الولايات المتحدة. نحيف الجسم طويل القامة هادئ الطبع يتكلم بصوت منخفض وهذه ميزة العظماء. ألقى محاضرة في مستشفانا حول جهاز القلب والرئة الاصطناعيين الذي ابتكر فيه تحويرا مهماً جداً طور به جراحة القلب المفتوح في العالم. وُجهت إليه أسئلة عديدة من الحضور فقال معلقاً في نهاية المحاضرة بأنكم مؤدبون أكثر من اللازم فلو كانت محاضرتي في مستشفى أمريكي لـ: “مزقوني بأسئلتهم”!

الدكتور جون كيركلين 2004- 1917

 المحاضرة الأخرى كانت للدكتور دنيس بيركِت (Dennis Burkitt) الجراح البريطاني الذي عاش لعقود عديدة في أفريقيا وجاء بابتكارات طبّية تاريخية. أهم ما قدمه هو اكتشافه لمرض حمل اسمه وهو مرض سرطان ورم بيركت اللمفاوي (Burkitt Lymphoma). كذلك اكتشف العلاقة بين عدد من أمراض الجهاز الهضمي والأوردة وطبيعة الطعام في المجتمعات المتعددة. من تلك الأمراض ذكر سرطان القولون، التهاب الزائدة الدودية، الدوالي والبواسير، الفتق وغيرها حيث تكثر الإصابة بها في المجتمع الغربي وتقل في سكان أفريقيا. وهنا عرض سلايد على الشاشة أثار تعليق الجميع الذي كان لغائط شخص غربي وأخر أفريقي حيث يظهر الفرق في الحجم والكمية!

الدكتور دنيس بيركِت (Dennis Burkitt) 1993- 1911

كان استنتاجه هو أن أحد أسباب زيادة الإصابة بالأمراض المذكورة في المجتمع الغربي جاء نتيجة لقلة الألياف في طعامهم مقارنة بطعام المجتمعات البدائية في أفريقيا. وقد طُبقت تعليماته بخصوص طعام الإنسان في أغلب بقاع العالم لتكون غنية بالألياف مثل الخضروات والفواكه.

السلايد الذي أثار اللغط في القاعة مقارناً بين القولون ومنتجاته! لدى الشخص الغربي (على اليسار) الأفريقي (الى اليمين)

في دندي استحدثت لي فرصة نادرة:

عند تدريبي في قسم الجراحة العصبية في دندي قررت نهائياً اتخاذ اختصاص الجراحة العصية طريقاً أسلكه في مستقبلي. وبعد اجتيازي الامتحان الأولي لزمالة كلية الجراحين الملكية كان يجب عليّ إكمال متطلبات الامتحان النهائي للحصول على الزمالة حسب شروط كلية الجراحين الملكية. يتطلب ذلك أن أعمل كمقيم أقدم في الجراحة العامة لمدة ستة أشهر وبعدها ستة أشهر أخرى في جراحة الطوارئ.

بموجب برنامج التدريب الجراحي في دندي يتدرب الخريج الأول على الكلية الطبّية الذي يرغب أن يكون جراحاً في المستقبل  كمقيم دوري لمدة سنة يقضي ستة أشهر منها في المستشفى الجامعي وستة أشهر أخرى في مستشفى ميري فيلد في (Marlfield) الذي يقع في نفس المدينة. في غضون وجود ذلك الطبيب المقيم في مستشفى ميري فيلد يبقى الموقع في المستشفى الجامعي فارغاً حيث لا يوجد خريج أول آخر ليشغل الستة أشهر الأخرى. ومن الصدف أن يكون ذلك الخريج الأول هو نفسه الذي عمل معي في قسم الجراحة العصبية في الستة أشهر الماضية وهو الدكتور جون ستن. ومن حسن الحظ أن التوقيتات كانت متزامنة مع متطلبات تدريبي. وبسبب ما كسبته من ثقة أساتذتي ولاجتيازي الامتحان الأولي لزمالة كلية الجراحين، اتصل أساتذتي في الجراحة العصبية  برئيس قسم الجراحة العامة في المستشفى السيردونالد دوكلاص (Sir Donald Douglas) لكي أحصل على  تلك الفرصة التدريبية. الأستاذ الدكتور دوكلاص هو نفسه الذي كان رئيساّ لقسم الجراحة العامة في كلية طبّ بغداد في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.

عند المقابلة الرسمية للتقديم على التدريب في الجراحة العامة كان الأستاذ دوكلاص يسألني عن العراق وبغداد ويستعيد ذكرياته مع الأطباء العراقيين الذين عمل معهم. وافق السير دونالد أن يوفر لي تلك الفرصة للعمل في قسم الجراحة وقد رأى أنه برعايتي يوفي بعض الدَين للكلية التي خدمها كرئيس لقسم الجراحة.

عند استلامي لشهادة النجاح بالامتحان الأولي قدمتها مباشرة إلى أساتذتي في الجراحة العصبية الذين فرحوا واصطحبوني مباشرة إلى السير دونالد رئيس قسم الجراحة في الجامعة وقدموا له شهادة اجتياز الامتحان قائلين لقد أرسلنا لك يا أستاذ طبيباً مقيماً في الجراحة أكمل امتحانه فهو جدير بما تفضلت عليه به من توفير فرصة التدريب في الجراحة العامة.

أصدر القرار بأن أعمل في الوحدة الجراحية التي يرأسها الدكتور ستانلي سوتار الذي سيرد ذكره لاحقاً كذلك. كان هذا التعيين مستغرَبا من الجميع بوصفه بادرة غير مسبوقة.  

السير دونالد دوكلاص (Donald Douglas Sir 1911-1993)

يمثل السير دونالد الجيل الأرستقراطي البريطاني فضلاً عن الجيل الجراحي من الرعيل المتميز. يهابه الجميع لكل مواصفاته والتي يطغى عليها اللطف والخلق العالي. كنا نراه دائماً في كامل أناقته ولا يستغني عن أزرار أكمام القميص المتميزة. أصبح لما حققه من علو وكفاءة بعد ثلاث سنوات رئيساً لكلية الجراحين الملكية البريطانية في إدنبرة. 

التدريب في الجراحة العامة:

يحوي جناح الجراحة العامة في المستشفى قسمين للتدريب، الأول تحت رعاية السير دوكلاص مباشرة والآخر تحت رعاية الدكتور ستانلي سوتار (Stanley Souttar) ومعه روبرت (بوب) برنكل (Bob Pringle) ويساعدهم الدكتور الشاب جون كيرت (John Curt) ومايك لايل (Mike Lyle).

بدأت في الجراحة العامة وكان موقعي كطبيب مقيم أقدم بدرجة رجسترار (Registrar) بالرغم من عدم حصولي على شهادة الزمالة بعد وكان ذلك من متطلبات هذا الموقع. كان معي رجستراراً يحمل شهادة الزمالة وهو طبيب من الباكستان ويدعى الدكتور محسن علي ومعنا ثلاثة أطباء مقيمون دوريون يقضون مدة ستة أشهر تدريب بصورة دورية.

تقع ردهة الرجال في الطبقة الأرضية من البناية وهي مفتوحة وبأسرة تبلغ ثلاثين سريراً مصفوفة كردهات المستشفى الجمهوري ببغداد. وتقع ردهة النساء في الطبقة العليا. أما أسرة الأطفال فهي في ردهة الأطفال الرئيسة ونشترك في أسرة العناية المركزة مع كل اختصاصات المستشفى في شعبة العناية المركزة الرئيسة.

أعتُمد قسمنا الجراحي في المستشفى الجامعي في دندي مركزاً لامتحان زمالة كلية الجراحيين في إدنبرة لعلو مستواه الجراحي والأكاديمي. كان عملي هناك فرصة ذهبية حيث تعلمت الكثير في آفاق الجراحة والعلم والحياة العامة وأسلوب الامتحان للزمالة. 

الأساتذة:

ستانلي سوتار (Stanley Souttar): رئيس الوحدة الجراحية مربوع الجسم معتدل الطول زرقة عيونه بصفاء زرقة السماء قليل الكلام طيب القلب وابتسامته هي أقصى ما يعبر به عن سروره.  يعشق الموسيقى الكلاسيكية حيث كان يدندن بمقطوعات موسيقية خلال إجرائه العمليات الجراحية وكنا نحن المقيمون نتسابق لمعرف تلك المقطوعة. كان أباً حنوناً للجميع ومهاباً من كل منتسبي المستشفى.

روبرت (بوب) برنكل Robert Pringle: 

أفضل الجراحين المتابعين علمياً في دندي، فضلاً عن مسؤولياته في المستشفى والكلية فقد توسعت نشاطاته لتشمل كلية الجراحين الملكية في إدنبرة وغيرها. تذكرني ملامحه بالأستاذ محمود الجليلي في قسمات وجهه وطريقة مشيته المليئة بالحيوية والنشاط.

تعودنا أن يجلب لنا الأستاذ برنكل كل جديد في عالم الجراحة. كان واسع الاطلاع حيث كان يقرأ أغلب ما ينشر جراحيا، وذكر لي مرة أنه يتابع ما ينشر في دول أخرى حتّى مثلا مجلة أفغانستان الطبّية.

جاءنا مرة بخبر تفاصيل عملية ثال (Thal) الخاصة بعلاج تضيق بوابة المعدة. أجراها في المستشفى وكان أول جراح يطبّقها في تلك المنطقة.

له هوايات متعددة منها الطيران، حيث حصل على إجازة كطيار. في كل يوم سبت كان يذهب إلى مطار سكوون (Scone) المعروف عالمياً لتدريب الطيارين في مدينة برث (Perth). وكان هناك عدد من الطيارين العراقيين الذين دخلوا دورات تدريبية في هذا المطار.

الأستاذ بوب برنكل في غرفة مطلة على مدرج مطار سكوون وبجنبه خارطة ملاحة الطيران

ولرغبته بكسر الطوق الرسمي بينه وبين المقيمين كان يدعو المقيمين لمصاحبته أثناء الطيران. وجاء دوري فصحبته في سيارته إلى المطار وتوجهنا إلى المدرج وصعدنا الطائرة الصغيرة ذات المقعدين وأوثقنا الأحزمة حول الكتفين. ارتقى بالطائرة إلى أعلى ولم أفزع أن يكون قائد الطائرة جراحاً وليس طيارا محترفا لأن ثقتي ببوب وكفاءته أقوى من الخوف الذي يمكن أن يعتريني. وحينما اطمأن إلى “شجاعتي” استأذنني بأن يقوم ببعض الألعاب الجوية ولم أجرؤ أن أعارض. وهنا وجّه الطائرة على مسار رقم ثمانية الإنكليزي، أي استدارتين متقاربتين متعاكستين. دارت الدنيا من حولي حيث لم أشأ أن أعرف الأعلى من الأسفل. بعد ذلك عاد إلى الطريقة المعتادة ونزلنا بسلام.

كان من الراضين جداً عن أدائي الطبّي والتعامل مع المرضى والمنتسبين فكان يقول لي: هادي أنت من الدرجة الأولى Hadi, You are first class)).

عندما زرت دندي عام 1978 مع زوجتي وابنتي دعانا إلى بيته وأكرمنا بضيافته.      

   جون كيرت (John Curt):

الاختصاصي المساعد الشاب الفارع الطول المليء بالنشاط والحيوية وصاحب الخلق العالي. كان عائداً قبيل أشهر من أمريكا حيث حصل على الماجستير في الجراحة بموضوع “خفايا قرحة المعدة”. كان ذلك إضافة لشهاداته البريطانية العليا. كان ضابطاً احتياطاً في البحرية البريطانية. أصبحت علاقتي به علاقة أخوة وصداقة عميقة وكنت ملازماً له في العمليات واللقاءات العلمية.

الدكتور جون كيرت مع زوجتي وابنتي في دعوة في بيته في مانشستر عند زيارتنا في العام 1978

استمتعت كثيرا بالعلاقة الحميمة في القسم إذ غالبا ما تقام دعوات عائلية كبيرة يحضرها الجميع فلا ترى هناك حاجزاً بين رئيس ومرؤوس كالأسلوب الرسمي المتبع عند العمل.

النشاط العلمي والمهني:

بسبب تقييم الأساتذة ولنشاطي الذي اعتدت عليه اختارني رئيس القسم لكي أكون مقررا للجنة العلمية في قسم الجراحة التي كان يرأسها الجراح والإنسان الرائع جون كيرت.

أقنعت الدكتور جون باستحداث برنامج حلقات نقاشية (سمينار) نصف شهري كالذي كنا نعمل به في الصف الرابع في كلية الطبّ ببغداد. بدأنا بوضع جدول للمواضيع التي ستناقش في السمينار حيث يتكفل أحد  الأطباء المقيمين  بحسب جدول متفق عليه بتقديم موضوع علمي معين. عملت على أن نرسل دعوة لأفضل اختصاصي في المنطقة في موضوع السمينار الذي يقدمه الطبيب المقيم ليحضر المناقشة كي يكون التقديم على أعلى مستوى علمي ممكن. ابتدأت بتقديم موضوع التلوث في صالات العمليات وحضر النقاش الدكتور جارلس سكوت اختصاصي البكتريولوجي ومصمم قاعة العمليات التي أشرت لها سابقا.

كان ذلك السمينار بداية موفقة وقد أثنى الدكتور سكوت على ما قدمته من معلومات بخصوص مشكلة التلوث. وبعد أيام أرسل لي الدكتور سكوت رسالة يشكرني فيها ويدعو كل من يرغب من قسمنا الجراحي لزيارة موقع قاعة العمليات التي صممها هو.

رسالة من الأستاذ جارلس سكوت يشكرني فيها على دعوته لحضور السمينار  مع دعوة لزيارة قاعة العمليات التي صممها

الدكتور جورج مردوخ ومركز الأطراف الصناعية:

لازمت الأستاذ مردوخ اختصاصي جراحة العظام والخبير العالمي في تطوير عمليات بتر الأطراف والذي له نظرياته في هذا المجال. كان مركزه في دندي أحد ثلاثة مراكز متطورة متخصصة بالبتر في المملكة المتحدة. بدأ باستخدام الحاسبات الإلكترونية والأرضية المتحسسة إلكترونيا والكاميرات المتعددة لدراسة أفضل طريقة لتعويض الشخص المصاب ببتر الساق بالطرف الصناعي المناسب له. استفدت من هذه الخبرة المتواضعة  في الامتحان النهائي للزمالة حينما جابهت أسئلة من اللجنة الامتحانية تتعلق البتر.

الأستاذ جورج مردوخ الاختصاصي في علاج بتر الاطراف

أطباء متميزون في المستشفى:

تعرفت بالعديد من رموز العلم والبحث والخبرة في المستشفى. شاهدت مثلاً وأنا في الجراحة أحد الجراحين الاختصاصيين الشباب يتجول في المستشفى ويؤدي واجباته الطبّية اللازمة وقد ثبّت أنبوبا في معدته نافذا إليها من إحد منخريه. وبعد الاستفسار منه تبين أنه يجري تجارب على نفسه لدراسة طبيعة السائل المعوي في ظروف متغيرة وحسب برنامج بحثي يقوم به.  كذلك كان الجراح المعروف دي دومبل (DeDomble) وهو من قسم الجراحة قد ترك عمله الجراحي الذي كان قد تميز به وتفرغ إلى العمل مع الحاسبة حيث بنى برنامجاً متطوراً للتشخيص والتوثيق الجراحي الذي لم يكن معروفاً في ذلك الوقت.

مركز الدكتور مردوخ للأطراف الصناعية في أطراف دندي في مدينة بروختي فري (Broughty Ferry)

المريض الذي أنقذت حياته: ازدادت ثقة أساتذتي وأقراني في الجراحة العامة بي عن طريق صدفة حسنة حصلت.  كنت ذات يوم المقيم الخافر في قسم الجراحة. وعند جولتي على المرضى الذين أجريت لهم العمليات في ذلك اليوم شاهدت مريضاً قد أجريت له عملية قرحة في الاثني عشر وكانت حالته مستقرة بعد العملية. أصيب في منتصف الليل بصعوبة بالغة في التنفس وتدهورت حالته دقيقة بعد دقيقة وكان على حافة الموت. أيقنت بعد فحصه أن ذلك كان بسبب امتلاء صدره الأيسر بالهواء حول الرئة. وتم تأكيد التشخيص بعد إجراء الفحص الشعاعي المتنقل للصدر داخل الردهة وهو استرواح (انحباس الهواء) الصدر الضاغط (Tension Pneumothorax).

التجويف الصدري وقد امتلأ بالهواء في الجهة اليمنى

لم أتمكن من الحصول على من يساعدني في القرار لضيق الوقت،  فقررت ان أفرغ الصدر من الهواء بغرز إبرة سميكة في جدار الصدر وعلى مسؤوليتي لإنقاذ المريض من الموت. كانت تبدو مجازفة لمقيم حديث التعيين ولكن كان من الضروري جداً القيام بها. بعد خروج الهواء الضاغط من الجوف الصدري عاد المريض إلى ما كان عليه من استقرار في التنفس ولله الحمد.  وفي صباح اليوم التالي كانت تلك الحالة حديث الجميع وحصلت عندها على تقدير الجميع في قسم الجراحة وخصوصاً الجراح الذي أجرى العملية.

مادة الثوروتراست:(Thorotrast)

عرض الأستاذ كثري في إحدى الجلسات العلمية الدورية في مستشفى دندي حالة مريض توفي بإصابته بسرطان الكبد، وكان يُعتقد أن سببه ترسب مادة الثوروتراست فيه. وقد أثبت ذلك بتقريب جهاز الكايكر أكاونتر (Geiger accouter) (الذي يستخدم في قياس انبعاث موجات المواد النووية المشعة) حيث سجل الجهاز إشعاعاً شديداً صادراً من الكبد.

قنينة وعلبة مادة الثوروتراست

بُدِئ استعمال مادة الثوروتراست في العام 1930 حيث كانت تستخدم في تلوين الشرايين عند تصويرها شعاعياً. تبين بعدئذ أنها مادة مشعة وتترسب في الجسم خصوصاً في الكبد ويبقى الإشعاع الصادر منها فعالاً لعشرات السنين وتسبب مرض السرطان. وعند اكتشاف خطورتها تلك مُنع استخدامها. وأعتقد إن هذا الحالة من الحالات النادرة التي سجلت ونُشرت بكامل أوصافها الطبّية والباثولوجية والنووية.

أطباء عراقيون لامتحان الزمالة:

كما ذكرت سابقاً فلقد كان قسمنا الجراحي مركزاً لأداء الامتحان السريري النهائي لزمالة كلية الجراحين الملكية في إدنبرة.  وكنت أشارك في تحضير الحالات الجراحية لذلك الامتحان. جاء بطريق الصدفة إخوة عراقيون لأداء ذلك الامتحان كان منهم الدكتور حكمت صديق آغا والدكتور فاروق خيري. كانت فرحتي كبيرة بنجاحهما في الامتحان. ولقد أصبح كلاهما زملاء لي في اختصاص الجراحة العصبية في بغداد.

جراحة الطوارئ:

بعد أن أكملت الستة أشهر في الجراحة العامة التحقت بقسم الطوارئ في نفس المستشفى لإتمام متطلبات التقديم للامتحان النهائي لزمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية. كان هناك من الاختصاصيين العاملين في قسم الطوارئ أخ عراقي وجراح قدير هو الدكتور صباح الأطرقجي الذي كان عوناً لي في العمل بتعليمه ومساعدته.

حادثتان: هناك حادثتان طريفتان حصلتا عند عملي في الطوارئ:

المتهم والشرطية:

عند عملي في قسم الطوارئ جلبت شرطية شابة رجلاً متهماً بقيادة السيارة تحت تأثير الكحول. وبعد فحصه طلبت مني أن أسحب عينة من دمه لترسل إلى المختبر للفحص. قامت هي بتحضير علبة متطلبات فحص الدم التي جلبتها معها وسحبتُ الدم من الشخص المعني كما يجب وسلمتها العينة. وبعد أسبوعين وصلني مظروف فيه صك بسبعة باونات أجر أتعاب سحب الدم، وهذا هو المتعارف عليه. وبعد انتقالي إلى مستشفيات ليدز وصلني مظروف آخر من الشرطة بعد أسابيع فيه صك بمبلغ 21 بنساً وهو أقل من كلفة الطابع على المظروف. وكان مرفقاً برسالة تقول بأن أجرة سحب الدم قد رُفعت بـ 21 بنساً وهذه ما تستحقه عن أجرة أتعابك لسحب الدم لذلك المتهم.  أثار ذلك استغرابي لما أتذكره في مجتمعنا من عدم حصول الفرد على حقّه حتى وإن طالب به. ازداد احترامي وتقديري لهذا المجتمع الذي يعطيك حقك حتّى إذا لم تطالب به.

الطفل في دندي وسحّاب السروال:

في دندي وعند العمل في قسم الطوارئ جلب طفل بعمر الست سنوات يصرخ من الألم وقد تعلق جلد قضيبه (غير المختون) بسحاب (zipper) بنطلونه وقد قطعت والدته البنطلون بالمقص وأبقت السحّاب وقليل من قماش البنطلون معلقة حولها. عند الفحص تبين دخول الجلد بين أسنان السحاب ولا يمكن تحرير الجلد مطلقاً. الحل الأفضل بطبيعة الحال هو ختان الطفل ولكن الوالدة رفضت ذلك. وباستمرار صراخ المسكين من الألم جاءتني فكرة تجميد الجلد برش سائل الأثيل كلورايد الذي نستعمله لتخدير الجلد الموضعي وبالفعل تجمد الجلد المعلق بالسحاب وتمكنت من سحب الجلد بدون أن يشعر الطفل بألم وبدون الحاجة للختان فكانت هذه الحادثة حديث منتسبي الطوارئ لأيام بعدها.

نشاطات ترويحية خارج الطب:

نادي مراقبة الطيور النادرة:

عند عملي في مدينة برث في قسم العيون أصبحت عضواً في جمعية مراقبة الطيور فيها وكنا نذهب بين مدة وأخرى إلى شمال المدينة حيث توجد بحيرة گارتن (Loch Gartun) التي لم تمسها يد الإنسان وحافظت الدولة على طبيعتها البدائية. كنا نذهب بحافلة استأجرتها الجمعية لتقف بعيداً عن حافة البحيرة حيث نترك الحافلة ونسير بهدوء شديد بأحذيتنا الرياضية كي لا نحدث بسيرنا صوتاً يزعج الطيور والحيوانات النادرة التي تسكن البحيرة وما جاورها من الغابة.

كان من أجمل ما شاهدته هو نسر الماء الأوسبري (Osprey Eagle) الذي يعيش على السمك. علمنا أن مجموع ما موجود منه في بريطانيا ذلك الحين ستة طيور حسب ما صرح به مسؤول مجموعتنا. ومن حسن الحظ شاهدنا هذا الطير العملاق الذي يمد جناحيه المنبسطتين إلى مسافة ستة أقدام أو أكثر وهو يزهو في الجو. وتراه فجأة ينزل وبسرعة هائلة نحو البحيرة ورأسه تحت مستوى جسمه ولكنه قبيل وصوله الماء كان ينتصب واقفاً مادا رجليه باستقامتهما وأصابعه والمخالب إلى أمام فيغطس نصفه الأسفل في الماء ويصعد بعد لحظة وهو ماسك بسمكة لا يقل طولها عن الثلاثة أقدام وهي تتلوى بين مخالبه وينطلق إلى اليابسة. كل هذا نشاهده بمساعدة ناظور مقّرب لكلّ منا. شاهدت هناك كذلك عدد من الوز البري سابحاً في البحيرة.

نسر الماء حاملا بمخالبه سمكة كبيرة

نكتة سياسية: حكى لنا مسؤول الرحلة نكتة عن الوز البري. قال: خرج خروتشوف رئيس الإتحاد السوفييتي في حينه في نزهة إلى إحدى البحيرات المشابهة لبحيرتنا وهناك رغب أن يصيد وزة برية من بين ثلاث وزات طارت من على سطح الماء. أطلق عليها رصاص الصيد من بندقيته فلم يصب أيا منها وإذا بأحد مساعديه يردد بصوت عال قائلاً: هذه أول مرة في حياتي أرى وزاً طائراً يصاب بالرصاص ويموت ويبقى مستمراً بالطيران. وضحت لنا هذه النكتة النفاق السياسي ليس فقط في الاتحاد السوفييتي بل في كل مكان وزمان!

نادي التزلج على الجليد: سجلت عضوا في نادي التزلج على الجليد في مدينة دندي ولم يمنعني ذلك من عملي بجراحة الدماغ. كنا نذهب إلى شمال دندي في منطقة أفيمور (Aviemore) الجبلية المغطاة بالجليد.

“محاولة” التزحلق على ثلوج جبال أفيمور شمال اسكتلندا عام 1973

 تبدأ الرحلة بالذهاب مبكراً إلى المخزن الخاص للجمعية حيث نستعير عدّة التزلج والتي علينا أن نعيدها عند العودة. نحن بطبيعة الحال مجهزون بالملابس والقفازات المصنوعة لهكذا طقس. نستقل الحافلة التي تنقلنا نحن أعضاء النادي إلى أعلى الجبل حيث البرد القارص. تتوقف الحافلة عند مطعم صغير على السفح نتناول فيه الحساء الساخن اللذيذ فنشعر بالدفء ينبع من داخل الجسم ليعادل برودة الجو. ثم نبدأ بالتزلج البدائي بالنسبة لي إذ لم يسبق لي أن مررت بهذه التجربة سابقاً. وكنت أستمع لتعليمات المدرب وأحاول تطبيقها ولكن وبعد مرات عديدة من السقوط على “الأرض” الجليد تمكنت من التزلج كمبتدئ. كنت أذهب مرة كل أسبوعين عند عطلة نهاية الأسبوع وعند توفر الوقت.

احتفالات إدنبرة السنوية الفستفال:Festival Edinburgh

تعيش مدينة إدنبرة الشهيرة في شهر آب (أغسطس) من كل عام أحلى أيامها حيث تفد العشرات من الفرق الفنية الوطنية والعالمية المشهورة والفرق الناشئة لعرض نتاجها الفني. يتوج تلك الاحتفالات المهرجان الذي يقام في قلعة إدنبرة الشهيرة.

تقام للفرق الناشئة المسارح في الطرقات في الهواء الطلق لتقديم عروضها المسرحية والموسيقية. تدعى تلك النشاطات لهذه الفرق بالمسرح” الملحق” Fringe Theater.  ومن ذلك (الفستفال) انتقلت تلك التسمية إلى مدن عالمية أخرى.

حضرت ذلك الفستفال أثناء وجودي في أسكتلندا كل سنة وحتّى بعد مغادرتي أسكتلندا إلى إنكلترا. من أحلى العروض التي استمتعت بها  كان لفرقة من الجيش الأردني (لعل ذلك كان في العام 1974) قدمت فعاليات أبهرت الجميع وصفقت لهم من القلب.

سباق السيارات القديمة:

كان يجرى في مدينة (كاودن بيث Cowdenbeath) القريبة من دندي سباق للسيارات القديمة التي ربما جلبت من ساحات الخردة، وهي مناسبة ترفيهية مفرحة لسكان المنطقة والسواح. ذهبت لذلك السباق مرة واستمتعت بالمناظر الفريدة حينما ترى ذلك السباق الشيق حيث تتطاير في الهواء قطع من السيارات لقدمها وكذلك ترتطم السيارات ببعضها ولكن بدون إصابات للسائقين ولا للمتفرجين. كانت السرعة التي تسير بها السيارات بطيئة. ولا أعلم إن كان السباق لا يزال يقام في تلك المدينة في الوقت الحاضر.

السيارة القديمة المدرعة
صورة لساحة سباق السيارات القديمة التقطتها بكامرتي في كاودن بيث في 1973

حرب تشرين 1973 والكهرباء ومحلات هارودز Harrods:

وقعت الحرب العربية – الإسرائيلية في تشرين أول عام 1973 في غضون مدة تدريبي في دندي. استخدم العرب الحصار النفطي فتغيرت الحياة في بريطانيا مثلها مثل الكثير من الدول الغربية. أصبحت هناك شحة كبيرة في استخدام الكهرباء في كل مرافق الحياة ما عدا المؤسسات الحيوية مثل المستشفيات ومحطات إطفاء الحريق وغيرها. شمل انقطاع الكهرباء كل المدن. من المفارقة أن نرى محال هارودز بعظمتها وهي تُنار بالشموع.

الشموع بدل الكهرباء في المؤسسات البريطانية عام 1973

احتفالات الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني):

فوجئت في السنة الأولى من وجودي في بريطانيا بأن المدينة بكل أهلها تحتفل في يوم الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) احتفالاً غريباً وذلك بجمع حطب بكميات كبيرة في مناطق مفتوحة في أطراف المدينة وتوقد النار فيه والكل يغني أنشودة تبدأ بـ: “تذكر، تذكر الخامس من نوفمبر…”   وتستمر النار مشتعلة إلى ساعات طويلة عند الليل.

النار مشتعلة (Bonfire) وحولها المحتفلون

عرفت بعض التفاصيل عن المناسبة وهي أن ناشطاً اجتماعياً اسمه: گاي فوكس (Guy Fawkes) حاول مع مجموعة من مريديه أن يفجر البرلمان البريطاني وقد وضع كمية كبيرة من المتفجرات تحت بناية مجلس اللوردات. كان ذلك في الخامس من تشرين الثاني عام 1605. ولحسن الحظ علمت السلطات بذلك وبحثوا في البناية فوجدوا المتفجرات وهو بجنبها فقبضوا عليه وخلصوا الأمة من كارثة كبيرة. ولهذا يحتفل الشعب البريطاني بهذه المناسبة التي حفظت مملكتهم.

العراقيون في دندي في تلك الفترة:

كان هناك عدد قليل من الإخوة العراقيين في دندي من الذين انخرطوا بالدراسات العليا وأصبح لهم شأن في مستقبل العلم والمعرفة والحياة العامة في العراق. سأتحدث عنهم في فصل أشخاص وذكريات. أذكر منهم الدكتور صبري شكر الذي كان يحضّر للماجستير في طبّ الأسنان وقد أصبح علماً في اختصاصه على مستوى العالم. والدكتور هاني العزاوي يحضر للدكتوراه في التشريح البشري فتسلق سلم العلم وأصبح أستاذ التشريح في كلية طبّ بغداد. ومن المهندسين كان يوسف الراوي وقتيبة العاني (وهو أخ الزميل والصديق الدكتور أسامة عابد العاني) اللذان كانا يحضّران لنيل الدكتوراه في الهندسة. وعند عودتهما إلى العراق تبوءا مراكز مهمة في الدولة. كنا نلتقي كلما سنحت لنا الفرصة فنتسامر ونتذاكر ونأكل الوجبات العراقية.

الحصول على شهادة زمالة كلية الجراحين:

قدمت قبل الانتهاء من التدريب في قسم الطوارئ بشهرين على الامتحان النهائي لزمالة كلية الجراحين في إدنبرة. كان استعدادي جيداً من الناحية الدراسية وكنت قد اكتسبت بعض الخبرة بخصوص أسلوب الامتحان والممتحنين حيث إن مستشفانا كان أحد مراكز ذلك الامتحان. دخلت الامتحان واجتزته في أول محاولة في كانون الأول من العام 1973 ولله الحمد. بهذا أكون من القلائل الذين أكملوا الامتحانين في مدة تزيد قليلاً على العشرة أشهر حيث كنت قد اجتزت الامتحان الأولي في شباط من نفس العام. وأذكر حينما اتصلت من إدنبرة هاتفياً بسكرتيرة قسمنا في دندي حيتني بـقولها هلو دكتور خليلي أجبتها على الفور رجاءً قولي مستر خليلي (Mr. Khalili) فعلمت السكرتيرة بأني اجتزت الامتحان. وهذا تقليد بريطاني بتسمية الجراح المؤهل الذي يجتاز امتحان الزمالة بـ “مستر” وتنتزع منه تسمية دكتور! يعود تاريخ هذا التقليد إلى نهايات القرن الخامس عشر ومؤداه أن مهنة الجراحة كانت مقتصرة على الحلاقين ولم يرض الأطباء أن يَمنحوا حلاقاً يمتهن الجراحة لقبهم الرفيع “دكتور”. وبمرور الوقت أصبح لقب مستر تكريماً وليس انتقاصاً منه.

شعار كلية الجراحين في إدنبرة:

اتخذت كلية الجراحين الملكية البريطانية في إدنبره مقدمة كف اليد المنبسطة وفي داخلها عين مفتوحة كشعار. وهي ترمز إلى أن الجراح حينما يُدخل يده في جوف المريض عند إجرائه العملية الجراحية تكون يده العين البصيرة التي تدله على كلّ أجزاء الجوف وكذلك على الجزء المصاب منها.

من الطريف أن ذلك الشعار له دلالات مختلفة في ثقافتنا وثقافات وحضارات أخرى وأهمها أن ذلك الرمز يعمل على تعطيل التأثير السيء للحاسد إذا حسد!

الى اليسار وما في تراثنا للوقاية من “عين الحسود” في الوسط شعار الكلية القديم ثم الشعار الجديد

شهادة التخرج: وصلتني رسالة النجاح من الكلية الملكية بعد أسبوعين من الامتحان ولله الحمد. منحت الشهادة في شهر شباط عام 1974 في احتفال رسمي للخريجين حضره قادة الكلية. اجتاز الامتحان معي في ذلك الوقت صديقي وزميل الدراسة الدكتور مجيد حميد علوان من البصرة.

صورة ببدلة التخرج في الساحة الأمامية لكلية الجراحين الملكية في أدنبرة
الشهادة الاولية التي أرسلت بعد اجتياز الامتحان مباشرة في 4 كانون الأول 1973
شهادة زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية في ادنبرة

المستشفى الجامعي الجديد في دندي:

بدأنا  في الأيام الأخيرة من وجودي في المستشفى الانتقال إلى المستشفى الجديد الفاخر بكل ما في الكلمة من معنى ويدعى المستشفى الجديد بمستشفى ناين ولز (Ninewells).

مستشفى ناين ولز (Ninewells)التي جرى في دندي افتتاحها عام مغادرتي عام 1974

ختاماً:

تقدمت للحصول على عمل كمقيم أقدم (رجسترار) في الجراحة العصبية في عدة أماكن في بريطانيا. وهكذا انتهت رحلة الطبّ في اسكتلندا وبدأت الرحلة الجديدة في مقاطعة يوركشاير.

الجراحة العصبية في إنكلترا (ليدز LEEDS)

البداية:

بدأت نقلة جديدة في حياتي بالمباشرة بالعمل المهني والتخصصي والاستمرار في مسار اختصاص الجراحة العصبية. كان لي الخيار أن أذهب إلى مانشستر في منطقة سيل (Sale)  حيث يعمل صديقي جون كيرت الذي كان معي في دندي وأصبح اختصاصياً في ذلك المستشفى. والخيار الآخر كان المستشفى الجامعي في ليدز. وبعد الاستشارة قررت الذهاب إلى ليدز.

بدأت العمل في العام 1974 كمسجل (مقيم أقدم) في قسم جراحة الدماغ في مستشفى بندرفيلدز في مدينة ويكفيلد وهي من إحدى مجمعات المستشفيات المرتبطة بقسم جراحة الدماغ في جامعة ليدز.

مدينة ويكفيلد (Wakefield) ومستشفى بندرفيلدز (Pinderfields Hospital):

تقع مدينة ويكفيلد جنوب مدينة ليدز بما يقرب من الثمانية أميال. وهي مدينة جميلة تقع على نهر كالدر (Calder River). ومن أهم معالمها مستشفى بندرفيلدز.

مستشفى بندرفيلدز في ويكفيلد

كان في المستشفى بالإضافة لقسم الجراحة العصبية والأقسام الطبّية والجراحية الأخرى، مركز تأهيل إصابات الحبل الشوكي لمنطقة يوركشاير يديره الأستاذ جون كووك (John Cook) اختصاصي الأمراض العصبية والذي تسلم مسؤوليته بعد سنين عديدة الأخ العراقي الدكتور يحيى العزّي.

كانت هناك ردهة خاصة للجراحة العصبية تحت إشراف الأستاذ مايلز كبسون الذي يشرف على القسم في ذلك المستشفى فضلاً عن المستشفيات الأخرى الملتحقة بالمجمع. يزورنا أحيانا الدكتور برايس الاختصاصي الآخر في ليدز. تجرى العمليات في يوم واحد من أيام الأسبوع.

كانت الحياة هادئة وفيها فسحة كبيرة من الوقت للقراءة والاطّلاع على الأدبيات والكتب في مكتبة المستشفى العامرة.

­­­

الملاك التمريضي والتأهيلي في مستشفى بندرفيلدز أثناء مشاركتهم في حفل توديعي في العام 1976

مكتبة المستشفى والكتاب الذي ترجمته:

تولدت بيني وبين مسؤول المكتبة المكتبي السيد ميللر علاقة جيدة. طورتُ بمساعدته أسلوب حفظ الملفات العلمية التي كنت أجمعها. الذي يستحق الذكر هنا هو عثوري على كتاب يوضح حسب تقديري أفضل طريقة لفحص الجهاز العصبي ألفه الأستاذ “ألن فان موريس” من جامعة آيوا الأمريكية.

الكتاب بطبّعتيه الأولى على اليسار والثانية في الوسط والترجمة العربية إلى اليمين

ومن شدّة إعجابي بالكتاب قررت أن أترجمه إلى العربية لتسهيل تعلم أسلوب الفحص العصبي لشبابنا في العراق. زرت في العام 2011 جامعة آيوا وشاهدت قسم طب الأعصاب الذي كان المؤلف فان ألن رئيساً له وسجلت بعض الذكريات هناك.

مشاهدة عابرة في مدينة بندرفيلدز:

علقت في ذهني ذكرى محل غسيل الملابس البخاري في مركز المدينة. ذهبت ببدلة لي لغسلها وكيها وإذا به يقول أنه يمكنني استلامها يوم الأحد إن شئت. أعطاني بطاقة بلاستيكية لاستخدامها عند استلام البدلة. جئت يوم الأحد والمحل مغلق. كان هناك شباك صغير عليه ستارة من الداخل، وضعت الكارت في فتحة عند الشباك وإذا بالستارة ترفع وأشاهد القضبان الحديدية وقد علّقت عليها مئات البدلات أخذت بالحركة دائرياً وبعدها سقطت بدلتي خلف الشباك الذي استدار بحركة سريعة ليقذف بالبدلة إلى الخارج ويغلق الشباك وتنزل الستارة. وكان ذلك شيئاً مبهراً  في تلك الحقبة من الزمن وفي تلك المدينة الصغيرة. ولكن ذلك يعدّ شيئاً بسيطاً مقارنة بما هو حال التكنولوجيا اليوم.

الانتقال إلى مدينة ليدز:

انتقلت بعد إكمال ثلاثة أشهر في مستشفى بندرفيلدز إلى مستشفى ليدز الجامعي بعد مغادرة زميلي الدكتور طارق الكركجي اللواء في الجيش العراقي الذي كان يشغل موقع رجسترار قبلي في ذلك المستشفى وعاد إلى العراق وأصبح رئيساً لقسم الجراحة العصبية في مستشفى الرشيد العسكري في بغداد.

تقع مدينة ليدز في غرب يوركشاير على نهر الآير (Aire)  وتبعد عن لندن بما يقرب من 200 ميل شمالاً. تعتبر المدينة سادس مدينة في المملكة المتحدة من حيث الكثافة السكانية حيث تصل مع ضواحيها إلى المليوني نسمة. من المفارقات أنّ طائر البومة التي  تجلب الطالع السيء في مجتمعاتنا قد صنعت منها مدينة ليدز شعاراً لها حيث يؤمنوا بأنها ترمز للحكمة ورجاحة الرأي.

شعار مدينة ليدز المتمثل بالبومتين

المحرار الزئبقي: ساهمت مدينة ليدز في المجال الطبّي بمساهمات عديدة كان أهمها ابتكار المحرار الطبّي الزئبقي الذي حققه الدكتور السير توماس ألبوت.

بداية العمل في ليدز:

انتقلت للعمل في مدينة ليدز في بداية عام 1974 وبدأت العمل في قسم الجراحة العصبية في المستشفى الجامعي “ليدز جنرال انفيرماري” The General Infirmary At Leeds)). عشت أياما جميلة حافلة بالتدريب الجراحي والتعرف على المجتمع والطبيعة بأفضل صورة.

واجهة المستشفى الجامعي

من الطريف أن إدارة المستشفى كانت تصر جداً على استخدام اسم المستشفى والتركيز على كلمة (At) خلافاً لكل مستشفيات المملكة المتحدة التي تحمل اسما مشابهاً ولكن بدون إضافة حرف العلـّة هذا. 

مستشفى ليدز الجامعي (The General Infirmary At Leeds)

وفي هذا الصدد أذكر أنه نصبت في مدخل المستشفى لوحة جديدة كبيرة مضاءة بالنيون للدلالة على أقسام المستشفى المتعددة وقد كلفت مبلغاً محترماً، ولكن أغفل المعمل وضع حرف الجر (At) وإذا برئيس البورد السيد هيل (Hill) وغيره يرفضون ذلك. أعيدت صناعة اللوحة بالكامل بعد وضع ذلك الحرف العظيم! والغريب أن اسم المستشفى الآن فقد ذلك الحرف.

من عظماء الطبّ البريطاني في المستشفى:

ضم المستشفى عمالقة في الطب والجراحة من المعروفين على مستوى العالم منهم الأستاذ جون كوليكر (John Goligher) الشهير في جراحة القولون والأستاذ ماكنيكول (McNichol) اختصاصي الدم ورئيس محرري المجلة الطبّية البريطانية في حينها. وفي مجال العلوم العصبية الأستاذ بارسوناج (Parsonage) الذي كان رئيس الإتحاد العالمي لطبّ الأعصاب والدكتور تافرنر (Taverner) الشهير في بحوثه عن العصب السابع الدماغي وقبلهم الأستاذ كارلاند (Garland) أستاذ طبّ الأعصاب الذي كان متقاعداً حين بدأت عملي هناك.

حكمة من الأستاذ كارلاند: المعروف أن كارلاند كان على ثقافة عالية وكان يفضل الكتابة باستخدام دواة الحبر والقلم (ريشة) الذي يغمر فيها وليس الذي يُعبأ بالحبر! هدفه في ذلك أن يأخذ وقته في التفكير جيداً بما سيكتبه حينما ينقل القلم من الدواة إلى الورقة. 

تأسيس قسم الجراحة العصبية: تم تأسيس القسم على يد الأستاذ وليام هندرسن (William Henderson) والذي تقاعد بما يقرب من خمس سنوات قبل التحاقي بالقسم. وكان قد تدرب على يد مؤسس الجراحة العصبية في أسكتلندا الأستاذ الشهير نورمان دوت (Norman Dott).

إهداء بخط يد الأستاذ وليام هندرسن عند تقاعده وجدته على أحد كتب مكتبة قسم الجراحة العصبية في ليدز

يقع قسم الجراحة العصبية في الردهة (26) من البناية الأحدث في المستشفى وهو الطبقة الخامسة (E) منها. يتكون القسم من ثلاثين سريراً موزعاً بين عدة غرف، وتقابل مكتب الممرضات المفتوح غرفة الرعاية الخاصة. أما العناية المركزة لما بعد العمليات فنشترك فيها مع كل أقسام المستشفى في ردهة أخرى في جانب آخر من المستشفى.

  كان أساتذة القسم عند التحاقي الأستاذ آرثر وول (Arthur Wall) رئيس القسم، الأستاذ مايلز كيبسون (Myles Gibson) والأستاذ ديفد برايس (David Price) وكذلك الجرّاحة المساعدة الآنسة كاريس بانستر (Caris Bannister). وكان في التخدير المتخصّص بالجراحة العصبية الأستاذ كوردن مكداول (Gordon McDowel) والدكتور ساندي باول (Sandy Powel).

نبذة عن الأساتذة والاختصاصيين:

الأستاذ آرثر وول (Arthur Wall):

الأ ستاذ آرثر وول (Arthur Wall)

يتميز الأستاذ آرثر وول رئيس القسم بالهدوء والطيبة والخبرة الواسعة في جراحة العصب الخامس. التحق بالقسم عام 1953 حينما كان أستاذه وليام هندرسن مسؤولاً عنه. من صفاته المميزة حبه للنكتة ولكن على الطريقة الإنكليزية (الجافة) حيث لا تدرك النكتة بمغزاها إلا بعد حين.

كان معنا في المستشفى طبيب اسمه الدكتور ستون (Stone) التي تعني لغوياً طابوقة فكان آرثر يقول له مرة حينما يلقاه بأنك جزء مني. والمغزى أن اسم وول يعني الجدار وعليه فالطابوقة هي جزء من الجدار!

وفي مرة كان يحاول أن يدخل أنبوباً في الشريان الصدغي أمام الأذن تحت التخدير الموضعي لمريض لعل ذلك يغني عن العملية الكبرى لتلوين الشريان الدماغي تحت التخدير العمومي. مررت بجنبه وهو منزعج من عدم تمكّنه من إدخال الأنبوب لضيق غير اعتيادي في الشريان. قلت له أستاذ إنَّك تواجه صعوبة في إدخال الأنبوب فأجاب على الفور: اللعنة على هذا الشريان وكأنّني أحاول أن أفرغ مثانة ذكر البعوض.

لدى مغادرتي ليدز وعودتي إلى العراق كتب لي رسالة عرفان أفتخر بما ذكر فيها عني.

الأستاذ مايلز كيبسون (Myles Gibson):

الأستاذ مايلز كيبسون (1927-)

الأستاذ روبرت مايلز كيبسون الذي كان يستغني عن ذكر اسمه الأول روبرت فهو مايلز كيبسون. كان أستاذاً فريداً من نوعه. فهو فضلاً عن كونه اختصاصي الجراحة العصبية الأكثر شهرة في المنطقة كلها فهو ممثل الجمعية الطبّية البريطانية في شمال إنكلترا، وعضو في هيئة الدفاع عن الأطباء في شمال بريطانيا وعضو في مجلس أمناء اتّحاد مستشفيات منطقة ليدز وكذلك مستشاراً للجيش البريطاني في الجراحة العصبية وفوق ذلك فهو عضو الهيئة الإدارية لنادي ليدز يونايتد لكرة القدم ((Leeds United وكذلك عضو الهيئة الإدارية لشركة ميدلتن للقطار البخاري الوحيد الذي يعمل في المملكة المتحدة وأخيراً مسؤولية رئاسة فرع منظمة الصليب الأحمر في المنطقة.

شركة القطار البخاري ميدلتن في ليدز

كان تدريبي تحت إشرافه في أغلب الأحيان. وكان من أنشط الاختصاصيين في المستشفى قاطبة فهو الأوّل في الحضور وإكمال كل المتطلبات الطبّية اللازمة ولم يتخلف عن الزيارة مطلقاً حتّى في يوم السبت إلا عند سفره. كان كثير السفر وهو ما ساعدني على تسلم المسؤولية الجراحية مبكراً حيثُ تقع على عاتقي جلّ المسؤولية.

كان يناديني بلقب محبب له والذي غالباً ما يستعمله الإنكليز عندما ترفع الكلفة بينهم وهو””Hadi Boy.

.

“Hadi Boy”!

كانت لكيبسون مقولات لا تنسى نابعة من خبرة عميقة في الحياة. فكان يقول: “إذا أردت لعمل أن يُنجز أطلب من شخص مشغول أن ينجزه لك”، وكذلك قوله: “ليس هناك شخص عديم الفائدة، حتّى الشخص السيء يفيد بأن يكون مثلاً يقارن به الآخرون”.

الدكتور كيبسون والعرب: كان الدكتور كيبسون يحبّ العرب بصورة عامة والعراقيين بصورة خاصة. ولهذا كان هناك المصري الدكتور سمير الملا (طبيب الفنانين في مصر) وقبله الدكتور الخوجه من مصر (الذي صمم جهازا مع كيبسون) والسوري الدكتور فاروق نحاس (الذي أصبح جراح مدينة حلب) ومن العراق اللواء الطبيب طارق عبد القادر الكركجي الذي التحقتُ بعده مباشرة وأخيراً الدكتور أحمد حلقة من مصر.

 ترك لي الأستاذ كيبسون حرية قبول الأطباء المقيمين الدوريين وهذا موقع يتنافس عليه الكثير من الاطباء الشباب. اخترت الدكتور رفعت رفعت والدكتور رياض فيض الله وهما من العراق وكذلك الدكتور عادل العولقي من اليمن.

الزملاء المقيمون عند عملي في القسم

الأستاذ ديفد برايس (David Price):

الأستاذ ديفد برايس 1935- 2014)

في الوقت الذي كنت فيه في القسم كان الأستاذ ديفد برايس الشاب النشط الطموح المليء بالحيوية المحبوب من الجميع قد اقترن بسيدة فاضلة تعمل في إدارة المستشفى. إضافة لعمله الجراحي فقد كان مهتماً كثيراً بمشروع قياس ضغط الدماغ في حالات الشدة على الرأس. لمحبة الجميع له كان يلقب بشبيه جاري جلتر (Gary Glitter) المغني الشهير في تلك الحقبة من الزمن.

مغني البوب جاري جلتر

فلسفته في قتل الرحمة: للأستاذ برايس رأي متطرف في التعامل مع الأطفال حديثي الولادة المصابين بتشوه العمود الفقري الشديد المصحوب بشلل الأطراف السفلى مع سلس البول والخروج.

حالات التشوه الشديد في العمود الفقري المصحوب بالشلل

كان برايس يؤمن بأن مساعدة هكذا وليد على الموت أفضل حلاً للطفل وللأهل لتخليصهم من معاناة سنين مقبلة والتي برغم كل الرعاية له تنتهي حياته بالموت المحقق المبكر بعمر العشر سنوات أو ما يقاربها.  كان يوضح ذلك للأهل بصورة مفصلة ويحصل على موافقتهم الموثقة على إنهاء حياة الطفل. مع إن هذا فيه مخالفة للقيم الطبّية التي تربينا عليها ولكن فلسفته فيها نظرة إنسانية من زاوية خاصة. كان يوصي بزرق أدوية تسبب النوم الطويل للوليد (أومنوبون) ما يحرمه من التغذية بسبب الإغراق في النوم ما يعجل بوهن جسمه ووفاته. لم أقبل ولم تقبل أي من الممرضات أن نزرق تلك المادة للطفل ولا أن نتقرب إليها فكان يقوم بذلك بنفسه من الألف إلى الياء.

علمت فيما بعد بأنه تطور في موقعه المهني حتّى أصبح رئيسا للجمعية البريطانية للعناية المركزة. 

اختصاصية الجراحة العصبية الآنسة كاريس بانستر: ( (Carys Bannister

جرّاحة ماهرة من الطراز الأول، رقيقة وهادئة تعلو الابتسامة وجهها.  وهي أول جرّاحة دماغ في بريطانيا. ولدت في البرازيل من أبوين بريطانيين. كانت تعمل بدرجة مساعد جراح اختصاصي. في الوقت نفسه كانت متفرغة ليوم واحد في الأسبوع تقوم فيه ببحث مع جامعة قريبة في موضوع الناسور بين الشريان السباتي الداخلي والخارجي. كانت تعشق السيارات السريعة فتسبق أية سيارة في طريقها على طرق المرور السريع. وطالما أوقفتها الشرطة لاجتيازها السرعة المقررة. وهي تتندر بذلك وتقول إنها تمتعض حين تجد سيارة “على ذيلها” أي في مدى بصرها عن طريق المرآة الأمامية للسيارة.

الأستاذة كاريس بانيستر ((2010 -1935 Carys Bannister

انتقلت بعد ذلك إلى مانشستر وأثبتت جدارتها القيادية في التخصص والبحث العلمي واستحقت تكريم جلالة الملكة بمنحها وسام (OBE) وكذلك كرّمتها جامعة مانشستر بتسمية بناية بحثية كبيرة للعلوم الأحيائية باسمها. وهناك تدرب تحت إشرافها الزميل العزيز الجراح عماد هاشم الذي التحق بجامعة الموصل عند عودته من بريطانيا.

مدخل البناية التي سميت باسمها في جامعة مانشستر في قسم العلوم الأحيائية

المخدرون في القسم:

الأستاذ كوردن مكداول: (Gordon McDowel) من أساتذة التخدير المعروفين على مستوى العالم في البحوث التي قام بها حول تأثير مادة الهالوثين المستعملة في التخديرعلى الضغط الدماغي. أتذكر أنه كان مشتركاً في مرة من المرات عبر الأقمار الصناعية في مناقشة مع اختصاصيين في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان ذلك حدثاً تكنولوجياً مهماً في السبعينيات.

استاذ التخدير كوردن ماكداول (1932- 1984)

يشعر الجراح بكامل الاطمئنان أثناء إجرائه العملية حينما يكون المخدر هو مكداول. ولكن يجب أن يهيء نفسه ويقلل عدد العمليات لذلك اليوم حيث إن الوقت الذي يستغرقه في التحضير للعملية وإكمال تخدير المريض يقدر بضِعف ما يستغرقه الدكتور باول (Sandy Powel) وهو المخدر الآخر غير الأكاديمي.

ببالغ الأسف سمعت بنبأ وفاته منتحراً في عيد الكريسمس عام 1984. أبّنته العديد من المجتمعات والجمعيات التي تعنى بالتخدير العصبي والجراحة العصبية في العالم.

الدكتور ساندي باول (Sandy Powel): لطيف المعشر خفيف الظل يحب النكتة ومحترم في مجال اختصاص التخدير العصبي. كان سريع التحضير للعملية الجراحية. إذا صادف عمله مع الأستاذ مكداول في نفس اليوم ترى العدد في صالاته ضعف العدد الذي يقوم به مكداول. كانت علاقتي به وبمكداول علاقة يغلب عليها الاحترام والمحبة والتقدير.

الدكتور ساندي باول (Sandy Powel)

الملاك التمريضي:

كان الملاك التمريضي مثالاً في الكفاءة والخلق والتعامل مع المرضى. تترأسه الممرضة القديرة آن كروس ومعها ما يقرب من العشرين ممرضة يقمن بالواجبات التمريضية في الليل والنهار. وهناك مسؤول العلاج الطبيعي ومسؤول الرياضة جون باربر ومتخصّصة أخرى في علاج الكلام المتلكئ.

مع الملاك التمريضي وأحد المرضى والمعالج الطبيعي جون باربر

كانت علاقتي بالملاك التمريضي والاختصاصات الأخرى علاقة تتميّز بالاحترام والتآخي. كنت اجتمع مع كل العاملين في القسم من أطباء وممرضات ومعالجين طبيعيين ومعالجة الكلام ومعالجة المهنة أسبوعياً لمتابعة حالات المرضى بكلّ تفاصيلها وهذا بطبيعة الحال خارج الروتين اليومي الذي كان يشمل زيارة المرضى صباحاً ومساءً.

الدكتور عجيب علي: تخرج الدكتور عجيب علي من جامعة الموصل في أول دفعة عام 1965. كان الأول على دفعته وتميز بالذكاء الحاد والخلق القويم. شغل الدكتور عجيب موقع رجسترار في قسم طبّ الأعصاب في المستشفى. ولربط اختصاص الجراحة العصبية بطبّ الأعصاب قمت بالتعاون معه باجتماع دوري كلّ أسبوعين مع الملاك التمريضي في قسمي طب وجراحة الأعصاب والاختصاصات المتعلّقة بنا لمتابعة الحالات المشتركة ولتطوير معلومات الجميع بالمستجدات في التخصصين.

المستشفيات التابعة لمستشفانا:

كان قسمنا في المستشفى الجامعي مسؤولاً عن ثلاثة مستشفيات أخرى: مستشفى سانت جيمس، مستشفى جابل الرتون (Chapel Allerton)  ومستشفى بندرفيلدز (Pinderfields) وبذا يقدم خدمة تخصصية لمنطقة جغرافية واسعة في يوركشاير.

يوجد في المدينة المستشفى الجامعي الآخر وهو مستشفى سانت جيمس الذي يعتبر من أكبر المستشفيات في أوربا من حيث عدد الأسرة التي بلغت ما يزيد على الألفي سرير غالبيتها لمرضى الحالات النفسية. ومن الجدير بالذكر أن فلسفة علاج الأمراض النفسية للمرضى الراقدين قد تغيرت في تلك الفترة الزمنية حيث ثبت أن علاجهم في بيوتهم وبين أهليهم وامتزاجهم بالمجتمع يؤدي إلى نتائج علاجية أفضل بكثير من وجودهم في المستشفى. وبذا أعيد غالبية أولئك المرضى النفسيين إلى أهليهم.

مستشفى سانت جيمس الجامعية في ليدز

قاعة العمليات وتهديد الممرضة كولكوهون:

قمت بعمل كان يجب ألا أقوم به ولكنها “الفورة” العراقية!!

 عندما بدأت عملي في المستشفى الجامعي في ليدز كطبيب مقيم أقدم (رجسترار) دخلت صالة العمليات للاشتراك بإجراء عملية جراحية يقوم بالجزء المهم فيها أستاذي الدكتور كيبسون. وللتهيئة يجب أن أفتح الجمجمة والسحايا وأصل إلى موقع الورم الذي سيستأصله الأستاذ. عند فتح الجمجمة سقط ملقط نستعمله لمنع النزف من فروة الرأس في الحاوية على الأرض التي توضع تحت رأس المريض لتجميع الدم النازف كي لا يسيح في أرض الصالة، وهذا من متطلبات أية عملية جراحية عصبية. وإذا بمسؤولة العمليات الأسكتلندية الصارمة، التي يخشى لسانها السليط عدد من أعضاء الفريق الجراحي من الأطباء والمنتسبين، تقول لي وبصوت عال: إذا أسقطت ملقطاً آخر سأضعك في الحاوية!

كنت في بدايات التحاقي بالمستشفى وأنا الطبيب الجديد في المستشفى والقسم وقد يحاول بعضهم تقييم شخصيته الجراحية والاجتماعية. هنا فكرت بسرعة وآمنت بأنَّ السكوت عليها سيعني الرضوخ لها ولغيرها طوال مدة وجودي في المستشفى وقررت المجابهة. فأجبتها وسكين العملية بيدي قائلاً: إن كررت ما قلت فسأقطع لسانك وأرميه في الحاوية. وكان ردّ الفعل منها ومن الجميع الوجوم ولم ترد علي أبداً. جاء الأستاذ وتمت العملية وبعدها ذكرت له ما حدث. قال لي أنَّ هذه الممرضة سببت الإحراج للكثير من الأطباء وسأتحدث معها بخصوص ذلك. كانت المس كولكوهون وهذا اسمها وهي في خمسينيات عمرها، طويلة القامة مكتنزة الجسم صارمة ولكنها كانت ذات قدرة تمريضية وإدارية متميزتين هيأت لها فرض شخصيتها في صالة العمليات. وأعتقد جازماً أنه فيما لو كانت إجابتي تلك في العصر الحاضر لذهبت بمتاهات ومشاكل! على أي حال فبعد تلك الحادثة كانت كولكوهون تحسب لوجودي في الصالة الحساب الخاص. وبمرور الأشهر أصبحنا أصدقاء قريبين لبعضنا وأصبحت أكن لها الاحترام والتقدير. وفي حفل توديعي عندما أكملت تدريبي ومغادرتي المملكة المتحدة كانت عواطفها الجياشة ظاهرة للجميع.

روح الدعابة والعلاقات الأخوية، مع رئيسة ممرضات العمليات كولكوهون (بيني وبين الدكتور باول اختصاصي التخدير) وممرضة أخرى في حفل توديعي

عملية فتح الجمجمة في ردهة العناية المركزة: بلغني أن مريضاً  قد أدخل العناية المركزة بعد إصابته بشدة على الرأس وتدهورت حالته بسرعة بعد أن كان عند دخوله بكامل وعيه وكانت قد أجريت له الفحوصات اللازمة. توجهت بأسرع ما يمكن ومعي عربة الطوارئ الجراحية إلى هناك حيث شاهدته في صراع مع التنفس وعنده علامات تجمع دموي متزايد في الجمجمة. أبلغت العمليات للتهيؤ ولكني قدرت أن حياته في خطر لبعد المسافة بين العناية المركزة وقاعة العمليات. قررت أنه يجب أن أفتح الجمجمة في تلك اللحظة وأزيل الضغط المميت على الدماغ الذي يسببه النزف المتزايد. فتحت الجمجمة تحت التخدير الموضعي وهو على سريره في الردهة بكل سرعة وبدأ التخثر والدم النازف يخرج إلى خارج الجمجمة وخف الضغط على الدماغ. نقلناه وبسرعة بالغة إلى قاعة العمليات وأجريت له العملية بكل تفاصيلها وبالطريقة المقررة. تحسنت حالته وبعد أيام عاد المريض إلى حالته الطبيعية ولله الحمد. ومن المعروف أن هذا النوع من النزف يمكن أن يقضي على حياة المصاب في دقائق كما نرى ذلك في ساحات كرة القدم حينما يصاب اللاعب ويؤخذ على النقالة وفي الطريق يفقد حياته. لكن إذا عولج في الوقت المناسب يحتمل شفاؤه تماماً. 

عربة الطوارئ: من المهم أن أذكر هنا أن عربة الطوارئ في القسم ومثلها موجود في كلّ الأقسام مع تحوير يتناسب مع متطلبات الاختصاص تكون تحت إشراف مسؤولين ليس لهم علاقة بالقسم. ففي كلّ صباح يصل المسؤول ويفتش العربة ويكمل النواقص من المفردات التي استعملت في اليوم السابق. وعند الانتهاء من إكمالها تُلف العربة بسلك حديدي وتغلق نهايتاه بالرصاص كالذي كان يستعمل لحفظ “ميزانية” الكهرباء في بيوتنا في السابق. وعند استخدامها في الحالات الطارئة يجب أن نستعمل المفك لقطع السلك.

ميزانية الكهرباء والسلك الحديدي

النشاط العلمي والمهني:

محاضرات طلبة كلية الطبّ في جامعة ليدز:

يتلقى طلبة كلية الطبّ في جامعة ليدز أربع محاضرات في منهاج دراستهم بمادة الجراحة العصبية. والمقرر أنْ يلقي تلك المحاضرات الأستاذ كيبسون. كلفني بإعطاء اثنتين منها وهذا شرف كبير. فضلاً عن المحاضرات النظرية في الجراحة العصبية كلفني رئيس قسم الجراحة العامة بتعليم الطلبة مبادئ الفحص الجراحي والتي كانت قد رسخت في ذهني منذ أيام التدريب في المستشفى الجمهوري بإشراف أساتذتي الأجلاء.

جدول محاضرات الكلية الطبّية التي ساهمت فيها

محاضرات الدراسات العليا: يقيم المستشفى سنوياً دورة للمتقدمين لامتحان زمالة كلية الجراحين الملكية لمدّة أسبوعين. وكانت ضمن منهاجهم محاضرتين في الجراحة العصبية. كلفني الأستاذ كيبسون بإلقائهما لثقته بي وكذلك لانشغاله في قضايا أخرى داخل وخارج المستشفى.

.

جدول محاضرات دورة المتقدمين لامتحان زمالة الكلية الملكية للجراحين وقد تضمن الجدول اسمي الأستاذ مكداول في التخدير وكوليكر في جراحة القولون وتشرفت بكون اسمي في تلك القائمة.

تدريب ملاكات صحية أخرى: وفي المجال التدريبي ساهمت في تدريب العاملين في الصليب الأحمر وكذلك تدريب العاملين في مجال التأهيل في المدينة.

                      كتاب الشكر من منظمة الصليب الأحمر وجمعية التأهيل

رحلة اطلاع في مركز تأهيل الجيش البريطاني:

لعلمي بأن الأستاذ كيبسون يعمل مستشاراً للجيش البريطاني في الاختصاص فقد طلبت منه أن يساعدنا بتدبير زيارة إلى مركز التأهيل الطبّي للقوات البريطانية المشتركة في جسنكتون في مقاطعة سري ((Chessington, Surrey لتطوير خبرات ملاكاتنا العلاجية في مجال التأهيل والعلاج الطبيعي.

      اقتطع من الكتاب الرسمي في المراسلات بيننا

توجهنا في الشهر التاسع من عام 1975 إلى مدينة جسينكتون التي تبعد عن مدينة ليدز ما يقرب من الثلاثمائة ميلاً. صحبت معي من مستشفى ليدز رئيسة الممرضات آن كروص (Ann Cross) والمعالج الطبيعي جون باربر (John Barber) ومن المستشفى السابقة بندرفيلدز السيد فرانك كوليسون (Frank Collison) مسؤول الرياضة العلاجية.

الى اليسار فرانك كوليسون ورئيسة الممرضات آن كروص وخلفها جون باربر

قضينا ليلتنا في معسكر المركز، وبدأنا برنامج الزيارة قبيل الساعة الخامسة صباحاً حسب توقيت عملهم. قمنا بزيارة المرضى الموزعين على مجاميع متعددة حسب نوع التأهيل، فهناك مجموعة تأهيل مفصل الركبة، ومجموعة تأهيل الكسور وغيرها.

رسالة شكر أرسلتها إلى الكابتن الطبيب كروماتري مدير مركز التأهيل للجيش البريطاني

كان اهتمامنا ينصب في تأهيل حالات إصابات الرأس من الناحية البدنية والعقلية. كانت الممارسات والخبرات وأسلوب التأهيل على درجة كبيرة من المهنية والتقدم. ترأست قسم التأهيل للشدة على الرأس رئيسة الممرضات دنيس دلبريج (Denise Delbridge).  وبعد يوم حافل بالاطلاع والنقاش وتبادل الخبرة عدنا محملين بالاستمارات والبحوث التي تم إصدارها  من المركز. وعند وصولنا إلى ليدز أرسلت رسالة للكابتن الطبيب كروماتري رئيس المركز عبرت فيها عن شكري وشكر أعضاء الفريق.    

عيادة النخاع المشقوق ((Spina Bifida Clinic:

بقيت لمدّة سنتين تقريباً أشارك في العيادة التخصصية للنخاع المشقوق في مستشفانا. وكان معي الأستاذ مادوز (Meadows)  أستاذ طبّ الأطفال في الكلية وكذلك اختصاصية في العمل الاجتماعي وممرضة واختصاصي في العلاج الطبيعي. يصحب هذا التشوه الخلقي في النخاع الشوكي في الغالب شلل الطرفين السفليين وشلل (سلس) المثانة والخروج وأحياناً يصاحب ذلك استسقاء الدماغ.

تعقد العيادة مرة كلّ أسبوعين ولمدّة ثلاث ساعات وفيها يتم فحص المصابين واللقاء بأهاليهم للاستماع لمشاكلهم ومحاولة مساعدتهم بما يجب. تشمل المراجعات فحص الاطفال قبل وبعد العملية الجراحية وكذلك المصابين  الذين لا يحتاجون إلى التداخل الجراحي وكذلك الميؤوس من حالتهم جراحياً. من الجدير بالذكر أنَّ أهم المشاهدات في تلك العيادة من الناحية الاجتماعية هي ارتفاع نسبة الطلاق بين أبوي الطفل المصاب بهذا العوق. والسبب الرئيس في ذلك هو أن أحد الأبوين يلتصق عاطفياً بالطفل المعاق وغالباً ما تكون الأم فتتخلى عن الواجبات الزوجية وواجبات البيت وبقية أفراد الأسرة لكثرة متطلبات الطفل المعاق من رعاية لتغذيته وتنظيفه المستمر وكثرة المراجعات الطبّية لاختصاصات متعددة. وبسبب ذلك كلّه يبدأ تذمر الأب وعدم تحمله لتلك الحياة ويستمر الحال إلى درجة ينتج عن ذلك الطلاق البغيض وتتحطم عوائل بسبب ذلك.

التخثر الدموي والأستاذان مكنيكول وبيتر كيرنوف:

تمّ ذكر تفاصيل هذا البحث المهم في فصل “مسيرتي مع البحث العلمي” في الجزء الثاني من “رحلتي في الطب والحياة”. ملخصه هو إني كنت أشاهد عدداً لافتاً للانتباه من حالات التخثر الدموي في الساقين للمرضى بعد العمليات الجراحية التي نجريها في مستشفانا في ليدز حيث يتطلب بقاء المريض في العناية المركزة لأيام.    قفز إلى ذهني بحث سابق كان قد نشره الأستاذ مهدي مرتضى بخصوص ندرة التخثر في ساقي المرضى في ردهة العناية القلبية المركزة التي يبقى فيها المريض لأيام تماثل أيام مرضانا بعد العملية. وعليه لدراسة أسباب الزيادة في التخثر الوريدي في العراق مقارنة بما شاهدته قررت إجراء بحث موسع وعلى مستوى عال من الدقة بهذا الخصوص للمقارنة بين ما حصل في العراق وما يحصل هنا. أطرى على البحث الأستاذ مكنيكول أستاذ أمراض الدم وأحد محرري المجلة الطبية البريطانية واشترك في البحث الأستاذ بيتر كيرنوف غي قسم أمراض الدم في المستشقى والذي أصبح بعدئذٍ أستاذاً لأمراض الدم في مستشفى الرويال فري (Royal Free Hospital).

مستشفى وذينشو (Wythenshawe) ثاني مستشفى في بريطانيا يستخدم الحاسبات:

دعي جمع غفير من الأطباء والمسؤولين في شمال بريطانيا في العام 1975 لحضور حفل افتتاح مشروع تطبيق استخدام تكنولوجيا الحاسبات في مستشفى وذينشو في مانشستر. كان من بين المدعوين أستاذي مايلز كيبسون الذي يرأس فرع الجمعية الطبّية البريطانية لشمال بريطانيا. وبسبب انشغاله الشديد طلب مني تمثيله في الاحتفال وسعدت كثيراً بذلك التكليف.

مستشفى وذينشو في مانجستر ثاني مستشفى يبدأ فيها استخدام الكومبيوتر بصورة كثيفة عام 1975

كانت هذه القفزة النوعية في استخدام الحاسبة في الخدمات الصحية سابقة في بريطانيا كان أولها مستشفى تشيرنك كروس Charing Cross) في لندن وبعدها وذينشو. بُهرنا جميعاً بما شاهدناه حيث يبدأ استخدام الحاسبة منذ الوهلة الأولى لدخول المريض. يتم إدخال كافة تفاصيل الحالة الصحية ونتائج الفحص السريري على الحاسبة وكذلك تدخل الممرضة الفحص الدوري لضغط الدم والحرارة والتنفس ومراقبة حالة المريض وهي عند سرير المريض عن طريق جهاز صغير تحمله بيدها ومرتبط مباشرة مع النظام الحاسبي. ويمكن للأستاذ والمقيم الاطّلاع على كافة المعلومات كأرقام أو خطوط بيانية عند الدورة الصباحية أو في أي وقت يشاؤون. وعندما يقرر إجراء عملية لمريض ما يأتي المخدر لتفقد المريض ويوجه باستخدام العقاقير اللازمة وهو في مكتبه. تشاهد الممرضة وهي في الردهة ما وجه به المخدر لتطبيق تعليماته. وفي الدورة الصباحية أو أي وقت آخر حينما يطلب إجراء فحص الدم أو الإدرار أو غيرهما يتم طلب ذلك بواسطة الحاسبة ليستلمها مسؤول المختبر ويرسل من يأخذ العينة وتسلم النتائج إلى الحاسبة كذلك. كان ذلك كلّه دليل على أنَّ الخدمات الطبّية تتسارع باستخدام التكنولوجيا الحديثة لتحسين مستوى الأداء لتحقيق الخدمة الأفضل للمريض. وكم كنت أتمنّى أنْ يتحقق ذلك التفكير والاتّجاه في الوطن!

ردهة المرضى النفسيين من كبار السن:                                                                 

وردنا طلب استشارة مستعجل من ردهة الأمراض النفسية لكبار السن في مستشفى سانت جيمس. كانت الاستشارة بخصوص سيدة في الثمانينيّات من عمرها أصيبت بشدة على رأسها وسبب ذلك زيادة في تشوش وعيها. ذهبت مسرعاً إلى هناك بسيارتي ودخلت الردهة وفي مخيلتي أني سألقى أمامي ما كنت أعرفه في ذلك الوقت من عدم الاهتمام لهؤلاء المرضى المساكين في مستشفى الشماعية (الرشاد) في بغداد بالرغم مما كان يبذله الأطباء المتخصّصين القلائل. فوجئت وأنا أسير بصحبة الممرضة المسؤولة بأن الممرات والغرف كانت من أفضل ما يمكن أن يشاهد في فندق من الدرجة الأولى فالأرض مفروشة بالسجاد الجميل والإضاءة الكافية في الممرات. وصلنا إلى المريضة المقصودة التي تجاوزت الثمانين من عمرها وهي من متوسطي العمر بين النزلاء! لم يهتم أي من المرضى بوجودي حيث إنّهم فضلاً عن كونهم من كبار السن فقد كانوا من المصابين بأمراض الشيخوخة وغيرها.

مما أثار استغرابي الشديد أن تلك المريضة كانت جالسة على كرسي هزاز وثير المقعد ورأسها تدلى إلى الجانب وسال اللعاب من فمها وبجنبها جلست ممرضة في مقتبل عمرها تحاول أن تساعدها بشرب جرعة من الحليب وكانت تخاطبها بأرق الكلمات وتلتمسها أن تشرب ولكن المريضة فاقدة للتركيز ولا تعلم من وما حولها ولم يمنع ذلك تلك الممرضة من أن تعاملها وكأنها تعي كل شيء.  بعد إجراء الفحص تبين أنها لا تحتاج إلى تداخل جراحي أو أي علاج خاص.

تذكرت هناك قصة الرجل العجوز الذي حمل معه باقة من الزهور ليقدمها لزوجته الراقدة في المصح والمصابة بمرض الزهايمر. سأله صاحب محل الزهور هل إن زوجتك تعرفك عندما تزورها؟ أجاب الشيخ بالنفي. وقال له الرجل وعلى وجهه ابتسامة الاستغراب: لم إذن تأخذ الزهور وهي لا تعرفك ولا تدري ماذا جلبت؟ أجاب العجوز صحيح أنها لا تعرفني ولكني أنا أعرفها جيداً. خجل الرجل من نفسه والتزم الصمت.  

المريض الذي مات دماغه (بدايات تطبيق تعريف موت الدماغ):

لم يكن موت الدماغ يعدّ موتاً حقيقياً بعد على المستوى العالمي وحتّى في المملكة المتحدة. في منتصف السبعينيّات كان الأستاذ جراح الدماغ في كلاسكو اسكتلندا براين جنت وأستاذ طبّ الأعصاب في لندن كرستال من الرواد في هذا المجال. والأهمية الكبرى لاستخدام هذا التعريف هو للنجاح المتحقق في زرع الأعضاء المأخوذة من جسم المتوفى والقلب لا يزال يضخ الدم للأعضاء مقارنة بالتبرع بالأعضاء بعد توقف القلب وسريان الدم في تلك الأعضاء.

في مدينة ليدز كان الرائد في زراعة الكلية الأستاذ جفري جايلز رئيس قسم الجراحة في مستشفى سانت جيمس. وكانت عيون مساعديه متجهة نحو قسم العناية المركزة في مستشفانا حيثُ إنَّها المصدر الأوفر للحصول على الكلية من المرضى الذين أصبح موتهم محقق. بطبيعة الحال كنت أحاول مساعدتهم بما يمكن وحسب الأصول القانونية والأخلاقية في الحصول على ما يرومون. وبما أن موت الدماغ كتعريف مقبول للموت لم يطبّق لدينا في حينه وبما أني كنت المخول للتعامل مع هذا المشروع أي مشروع التبرع بكلى من يتوفى في مستشفانا فكنت أبلغ الأستاذ جايلز الذي يعدّ فريقه للحدث عند توفر حالة مناسبة. ولا يمكن أن نوافق على أخذ كلية فاقد الوعي الذي تأكد موته بموت دماغه إلا بعد أنْ يقوم فريق من الأطباء المتخصصين من خارج قسمنا بتأكيد موت الدماغ.

أدخل في إحدى المرات إلى المستشفى رجل فاقد الوعي في بداية خمسينيّات عمره. قمنا بكلّ المطلوب من فحوصات كاملة وعلاج لحالته وتبين أن لا فائدة من التداخل الجراحي لعدم وجود تجمع نزفي وإنّما حالته هي الشدة البالغة على الدماغ. بقي فاقداً للوعي وتدهورت حالته العامة. كانت ترافقه زوجته وولداه اللذان كانا  بعمر المراهقة. نقلت لي زوجته بأنَّه كان بتمام صحته دوماً خصوصاً ليلة إصابته وكان قد شارك العائلة كالمعتاد بتناول وجبة العشاء. ولكنه عند توجهه إلى الحمام بعد منتصف الليل ويبدو أنه كان نصف نائم، لم ينتبه للسلم بين غرفة النوم والحمام وتدحرج إلى أسفله وفقد الوعي في لحظة سقوطه. بعد أيام تبين بفحص تخطيط الدماغ والفحوصات السريرية أن دماغه قد مات. تأكد ذلك بفحص اللجنة المتخصّصة.

طلب التبرع بالكلية: علم بحالة ذلك المريض فريق زراعة الكلية فتراهم في باب العناية المركزة حيث كان المريض راقداً. وللتوضيح أن اهتمام فريق الأستاذ جايلز ليس لأية مصلحة ذاتية وإنّما يرومون إنقاذ مريض مُصاب بعجز الكليتين وحياته مهددة بالخطر. طلبت لقاء السيدة زوجته وأخبرتها عن سوء حالته الميؤوس منها بموت دماغه وهي نهاية المطاف. وكان علي أن أطلب منها الموافقة على التبرع بكليتيه. تحدثت معها بذلك بأسلوب يتناسب مع الموقف فكانت تلك اللحظات من أصعب اللحظات عليّ وعليها  حيثُ إنَّ زوجها كان على أتم صحة قبل أيام وهي تبلغ الآن بأنَّ لا أمل في شفائه مطلقاً وفي نفس الوقت يطلب منها التبرع بكليتيه. استأذنتني قليلاً حتّى يحضر ولداها لعقد اجتماع عائلي وإبلاغي بالقرار. قالت لي بعد الاجتماع بولديها أن زوجها كان يحبّ خدمة الآخرين وكان سيتقبل هذا التبرع بكلّ رحابة صدر لذا فقد وافق أفراد العائلة على التبرع. أخبرت فريق زرع الكلية بذلك وفي صالة العمليات كنت لا أسمح بالبدء بعملية رفع كلية المتوفى حتّى أعطيهم الإشارة بالبدء عند تأكدي من لحظة توقف القلب. وهنا قارنت بين مفهومنا للحياة والموت والعواطف المبالغ فيها حيالهما بما في الثقافة الغربية من واقعية وعقلانية حيث لم يكن هناك عويل ولا صراخ. وفوق ذلك القبول بطلب التبرع وبكلّ إيمان بالطبّ والأطباء والقدر.

رسالة الأستاذ جفري جايلز يقدم الشكر فيها لي لمساعدته في الحصول على الكليتين 1974

المريضة الأجنبية في الجناح الخاص:

كان أستاذي الدكتور كيبسون كثير السفر لتعدد مسؤولياته خارج المدينة. وكنت أقوم في غيابه بكلّ ما يوصيني به من تعليمات تخص العمل منها القيام بالعمليات الجراحية المسجلة باسمه ما عدا مرضى الجناح الخاص.

أحيلت إلى مستشفانا مرة مريضة من الشرق الأوسط مصابة بورم ضاغط على الحبل الشوكي. سبق وأن أجريت لها العملية المطلوبة في بلدها لكن لم تكن ناجحة في استئصال الورم. تبين بالفحوصات المرفقة معها والفحوصات التي أجريت لها لدينا بوجود ورم سحائي في منتصف العمود الفقري الصدري والذي كان أعلى بقليل من موضع العملية التي أجريت لها في بلدها مما تعذر على الجراح إزالة الورم. بما أنَّ المريضة كانت راقدة في الجناح الخاص من المستشفى فالواجب أن يقوم بإجراء العملية الأستاذ كيبسون نفسه وليس أي جراح آخر.

 طلب مني كيبسون هاتفياً أن أبداً بالعملية وأن أصل إلى مستوى كشف العمود الفقري وحينئذ سيقوم هو باستئصال الورم. كان هذا الاتّفاق معروفاً لدى فريقي العمليات والتخدير. بدأت بالعملية وأنا انتظر وصول الأستاذ وأبلغت السكرتيرة بوقت بدء العملية كي تبلغ الأستاذ بذلك. تبين إنّه في طريقه من زيارة إلى لندن وحالياً هو في القطار! اضطررت للتباطؤ في خطوات العملية كي أعطي فرصة لوصوله إلى الصالة ولكنه لم يحضر، وقد وصلت العمود الفقري وعليّ أن أزيل سقفي الفقرتين المقصودتين. سألت عنه فلم أحصل على جواب. بدأ المخدر وفريقه يتململون إذ إنَّ إطالة مدة التخدير بدون مسوغ فيها ضرر على المريض. اضطررت لرفع سقف الفقرات وكشفت السحايا وأنا أتلفت والأستاذ لم يصل. لم يكن لي الخيار إلا فتح السحايا. وبعد تثبيت حافتي الفتحة شاهدت الورم ظاهراً أمامي بكلّ أبعاده. ناديت السكرتيرة وطلبت أن تأتي إلى الصالة كي ألقي الحجة عليها وأمام فريقي الجراحة والتخدير كي أبين عدم مسؤوليتي عند حدوث مضاعفات لاضطراري بالاستمرار بالعملية في ذلك الظرف. لم نسمع بحضور الأستاذ واستمرّ المخدر بالإلحاح على الاستمرار بالعملية للخطورة على المريض ولاطمئنانه من قدرتي على التعامل مع الورم. توكلت على الله وأزلت الورم بكامله وبدون أية اختلاطات أو أذى للنخاع الشوكي. وبدأت بإغلاق طبقات الجرح من عضلات عميقة وسطحية وبعدها وعند خياطة الجرح الخارجي في الجلد وإذا بكيبسون يدخل قاعة العمليات منادياً هادي كيف تسير الأمور! وعندما علم بما حدث اعتذر عن التأخير وفرح بما جرى من استئصال الورم وبما أخبره الجميع من جودة الأداء. تماثلت المريضة للشفاء وخرجت من المستشفى شاكرة لكيبسون حسن جراحته وهي لا تعلم من الذي أجرى لها العملية. وأنا متأكد بأنَّ أي جراح أعصاب في وطنها كان يمكنه أن يقوم بالعملية بنجاح كامل كما قمت به أنا لو تحقق من مستوى الورم ولكن نحن نشعر ونؤمن بأنَّ الأجنبي الغربي ذا العيون الزرق أفضل من ابن البلد!

المريض الذي حاول الانتحار:

اتّصل بقسم الجراحة العصبية في مستشفانا في ليدز في مساء يوم من شتاء بارد طبيب عائلة من مدينة يورك التي تبعد ما يقرب من ثلاثين ميل نحو الغرب. أحيل الاتّصال لي وتبين أنَّ الطبيب بجنب مريض حاول الانتحار بقطع شرايين ساعده ولم يفلح، ثمّ حاول قطع الوريد السطحي في الرقبة ولم يفلح كذلك. ولكنه أفلح بثقب جمجمته بالطرق بمطرقة على مثقب البايب (الذي يستعمل للتدخين) وتمكّن من إدخاله إلى داخل الجمجمة عن طريق منطقة الصدغ الأيمن.

البايب وآلة تنظيفه وفي وسطها المسمار الذي دخل في جمجمة المصاب

وصل المصاب منقولاً بسيارة إسعاف وهو في كامل الوعي ولم يصب بأي عطل عصبي ظاهر بعد إكمال الفحص العصبي. أجري له الفحص الشعاعي وتبين أنَّ المثقب قد نفذ إلى داخل الجمجمة ووصل إلى منتصفها. عندما أخبرته بضرورة إجراء عملية جراحية له رفض رفضا باتا قائلاً أنا أريد أن أنهي حياتي ولاحق لك التدخل في ذلك. وعندها ولعدم قدرتي على معالجة هذا الموقف اتّصلت بأستاذي الدكتور وول والذي حضر وواجه نفس الردّ من المريض،  فأصبح في حيرة بين إجراء العملية بدون رضا المريض حرصاً على حياته وبين اتباع رغبة المريض الواعي وعياً كاملاً الذي له الحقّ بالقرار بما يرغب. قرر الأستاذ وول أنْ يطلب قدوم رئيس هيئة إدارة مجموعة مستشفيات ليدز السيد هيل وكذلك اختصاصي الأمراض النفسية اللذين واجها الردّ نفسه من المريض. قرر الجميع أنْ يحصلوا على موافقة أقرب شخص للمريض وهي والدته وإجراء العملية رغماً عنه حال موافقتها. حصلنا على موافقتها بوجود طبيب العائلة معها في بيتها في مدينة يورك. كانت الموافقة عبر الهاتف لبعد المدينة ولضرورة القرار الآني.

تمّ إعطاء المريض حقنة منومة ذات تأثير عاجل بعد إيهامه أنّها ضدّ الكزاز وتم تخديره تخديراً عاماً. أخذ المريض إلى صالة العمليات وتم اتّخاذ كلّ الاحتياطات الجراحية الممكن مواجهتها في هكذا حالة كحدوث نزف شديد مثلاً. ولكن المفاجأة كانت عندما سحبت الجسم الغريب بكلّ سهولة لم يحدث أي اختلاط وقد تأكد ذلك عن طريق الدلائل الحيوية عند التخدير. ولم نُجر له أكثر من خياطة الجرح فقط. وعندما آفاق المريض كان كلّ شيء على ما يرام، وكان تحت رعاية اختصاصي الأمراض النفسية.

الإصرار على الموت: خلالأيام رقوده في الردهة كان المريض غير سعيد بما حصل من “إنقاذ حياته”. كما ذكرت سابقاً كانت ردهتنا في الطبقة الخامسة من البناية ذات الاثتني عشرة طبقة. تتوسط الردهة غرفة الممرضة المسؤولة المقابلة لغرفة العناية حيث لا يفصل بينهما جدار.  تطلّ غرفة العناية على الخارج بشباك واسع من الزجاج. تحوي غرفة العناية أربعة أسرة كان مريضنا يشغل أحدها. بعد أربعة أيام من إجراء العملية و دخوله إلى العناية طلب من الممرضة الخافرة أنْ يأخذ “نفساً” من سيجارتها وبعدها ودع الممرضة وتوجّه وبكلّ سرعة نحو الجدار الخارجي لغرفة العناية المركزة وقفز عبر الزجاج إلى أسفل وسقط على سطح الطبقة الأولى حيث توجد أبراج أجهزة التبريد، وللأسف فارق الحياة في الحال. وهكذا فالقدر غلب الحذر.

محاولة انتحار أخرى ولكن!: من المفارقات الغريبة التي حدثت في تلك الليلة محاولة انتحار طالب صيني سقط من طبقة عليا في نفس البناية ولكنه أصيب بكسور وجروح متعددة فقط وتمت معالجته.

المريض الذي أطلق سراحه من السجن بعملية جراحية:

فاجأني أستاذي مايلز كيبسون بأنَّه استدعي لسجن الأحكام الثقيلة في المنطقة لتقديم الاستشارة بخصوص أحد النزلاء المحكوم عليهم بحكم ثقيل بسبب حادثة قتل اشترك فيها. والسبب في الاستشارة أن نزيل السجن هذا كان قد فقد الوعي في أحد الأيام ولم يهتم بذلك الملاك الطبّي في السجن لتشكيكهم في السبب الحقيقي. ولكن حالته قد تطورت إلى الإصابة بنوبات تشنجات متكررة تشبه حالة الصرع مما ألزم الملاك الطبّي إرساله للفحوصات التي شملت فحص تخطيط الدماغ الكهربائي. أثبتت كافة الفحوصات إصابته بداء الصرع الصدغي. ومن صفات هذا النوع من الصرع أن يسبب تغييراً في تصرفات المصاب مما يمكن له أن يقوم عند حصول النوبة بأعمال خارج إرادته وبدون وعي منه. ولهذا تأثير مباشر على الحكم الذي حكم به لاحتمال أن يكون شروعه بالقتل المحكوم بسببه كان تحت تأثير إصابته بنوبة صرع صدغي وليس بكامل إرادته. قرر الأستاذ كيبسون أن ينقله إلى مستشفانا حيث أدخل تحت حراسة شديدة وربطت يده بالسرير بالجامعة الحديد. وبعد إكمال الفحوصات والاستشارات من اختصاصي طبّ الأعصاب والفسلجة العصبية والأمراض النفسية تم تأكيد التشخيص وتقرر إجراء عملية استئصال بؤرة الصرع من الفصّ الصدغي الأيسر.

حضر قاعة العمليات في يوم العملية فريق قسم طبّ الأعصاب فضلاً عن عدد من أعضاء الفريق الجراحي العصبي في قسمنا. تم إجراء تخطيط الدماغ المباشر من على سطح القشرة الدماغية مباشرة لتحديد مساحة البؤرة الصرعية. وعندما تمّ ذلك وتأكد عدم تأثر المراكز الحساسة المحيطة بالبؤرة قام الأستاذ كيبسون باستئصال ذلك الجزء المصاب من الفصّ الصدغي. تمت العملية بنجاح، وأفاق المريض بعدها من التخدير وأدخل العناية المركزة وأظهر تحسنا واضحاً في شخصيته وتصرفاته كما لاحظ ذلك حراسه الذين واكبوه في السجن وفي الردهة. وعند التئام جرحه وعدم حصول أية مضاعفات جراحية أخرج من المستشفى وأعيد إلى السجن.

بعد أسابيع علمنا بأنه أعفي من عقوبة السجن وأصبح حراً طليقاً. استلمنا منه رسائل شخصية بالاسم لكلّ أعضاء الفريق المعالج يعجز فيها عن التعبير بالشكر والامتنان حيث كان قد أعفي مما تبقّى له من مدة الحكم. تبين أن محاكمته قد أعيدت وعدّوا الحادث قتلاً غير متعمد وبرئ من التهمة. كان ذلك حديث المستشفى والمجتمع لمدة طويلة.

السفاح بيتر ساتكليف الذي قتل ثلاث عشرة امرأة في ليدز:

استدعائي للمحكمة:

في عام 1980 كنت ساكناً في مستشفى سانت جيمس الجامعية كأستاذ زائر أعمل على إكمال متطلبات رسالة الماجستير في فلسفة العلوم من جامعة برادفورد القريبة. أعطيت في حينها سكناً في شقق المستشفى لعلاقتي الطويلة الأمد بالمدينة وبخدماتها الطبّية حيث كنت أعمل في السبعينيّات في المستشفى “الغريمة!” مستشفى جامعة ليدز الرئيسة.

في صباح أحد الأيام استلمت تبليغاً من الشرطة للحضور إلى مستشفى ليدز الذي كنت أعمل فيه سابقا. كان التبليغ من محكمة مدينة ديوزبري (Dewsbury) وهي مدينة صغيرة في أطراف ليدز. وثبت التبليغ بأن أحضر صباحاً إلى غرفة الإدارة في مستشفى ليدز التي تقع بالقرب من الباب الخلفي القريب من بناية البلدية والمشرف على ساحة كبيرة تجرى فيها احتفالات المدينة في المناسبات العامة.

التبليغ من المحكمة للإدلاء بالمعلومات بشأن ساتكليف

أرسل التبليغ إلى جامعة برادفورد حيث كنت أكتب أُطروحتي واستلمته في محل سكني في المستشفى. سألت نفسي ماذا تريد مني الشرطة؟ فنحن العراقيين عشنا دوماً متهمين نحاول أن ندافع عن أنفسنا، فإذا أطلق منبه (هورن) سيارة خلفنا التفتنا باتّجاه الصوت لأننا نعتقد بأننا نحن المقصودون بذلك. فما هو ذلك الجرم الذي اقترفته والذي تابعته الشرطة البريطانية طوال السنوات الأربع أي منذ انتهاء عملي في بريطانيا في عام 1976؟

بناية بلدية مدينة ليدز وإلى اليسار موقع مدخل المستشفى الخلفي

الوصول إلى المستشفى والمفاجأة: على أي حال أين المفر؟ ولا يمكن التأخر عن الموعد والمكان المعينين من الشرطة. ذهبت في اليوم التالي إلى المستشفى وعند بلوغي الساحة الكبيرة أمام الباب الخلفي للمستشفى المطل على مبنى البلدية فاجأتني العوارض الحديدية النقالة التي وضعتها الشرطة حول الساحة بأكملها. كانت الشرطة متواجدة بكثافة داخل الساحة وبالخصوص أمام الباب الخلفي للمستشفى. والأدهى من ذلك وجود حافلة بطبقتين مكتوب عليه بخط كبير “شرطة باتلي” القريبة من ديوزبري وهي التي تريد شرطتها مقابلتي. صعقت من كلّ هذا وقلت في داخلي: يا ربّ ما هو الجرم الذي فعلته كي تستعد الشرطة لي بهذا الشكل البوليسي المرعب؟ وأنا أعلم علم اليقين بأنَّ أية محاولة للتراجع أو الهرب لن تجدي نفعاً مع الشرطة هنا.

توكلت على الله ودخلت من بين العوارض وسمحوا لي بالدخول عبر منفذ بينها وتوجهت إلى الباب المقصود. كانت المفاجأة الغريبة هو أن شركة سينمائية كانت تصوّر فلما في ذلك الوقت وذات المكان وهذا هو سبب العوارض وتجمع الشرطة. سحبت أنفاسي وتنفست الصعداء ولعنتهم لعدم وضوح الغرض من البداية. ولكن الطامة الكبرى لا تزال قائمة حيث يجب عليّ مقابلة الشرطة كما يجب.

الضحية التي أنقذتها من الموت:

دخلت المستشفى وإذا بشرطيين في انتظاري. كانت ملامحهما توحي بالطمأنينة ولكني لم اطمئن بعد والوجل واضح عليّ. ولم استقر إلا بعد أن صرحا بسبب استدعائي. كان بيد أحدهما سجل مريضة باسم آن روكالسكي (Ann Rogulskyj) كنت قد أجريت لها عملية فتح الدماغ في تموز عام 1975 في ذلك المستشفى. وإذا بالمريضة تسجّل تاريخاً، فقد كانت إحدى ضحايا سفاح ليدز الشهير وهي الوحيدة التي نجت من الموت  بينما قتلت 13 امرأة في السنين اللاحقة لحين القبض عليه عام 1981. ما ساعد على إنقاذ حياة المريضة المعنية هو سرعة إيصالها إلى المستشفى وإجراء العملية الجراحية لها.

آن روكالسكي ؛ وتحت صورتها مقتطع من تقرير الشرطة

بدأت أسئلة الشرطة تلقى عليّ بخصوص تفاصيل الحادث والعملية التي لم أتذكر تفاصيلها كما يجب. ولكن بعد الاطّلاع على سجل المريضة عند وجودها في المستشفى فوجئت حينئذ من دقة وتفاصيل ما كنت قد وثقته في سجلها الطبّي حينما كنت رئيساً للمقيمين في المستشفى. فقد وثقت في سجلها الطبي تفاصيل بشأن طبيعة الجروح والسحجات الجلدية حول منطقة الإصابة. كانت تلك التفاصيل وكأني أوثق حالة طبّية عدلية وليس حالة جراحية فقط.

أبدى الشرطيان امتنانهما لوجود تلك التفاصيل في الطبلة وأرادا أن يستثمرانها لتثبيت نوع الآلة التي استخدمها المجرم. كانت كلّ الدلائل تثبت بأنَّ الآلة هي مطرقة حديدية. ولكن ومن التعليم الراسخ الذي زرعه فينا أساتذة الطب العدلي في بغداد كانت إجابتي عن سؤالهم الملّح كون الآلة هي مطرقة حديدية؟ هو إصراري بأنَّ هذا محتمل وليس قطعياً.

شعرت بارتياح مضاعف بانتهاء الاستجواب حيث علمت بأن عادت إلى ذاكرتي قصة إنسانة أنقذتها من براثن موت شبه محقق وساهمت في إغناء الشرطة بمعلومات بشأن تفاصيل الحادث الإجرامي قد تفيد في الكشف عن شخصية الوحش الذي كان لا يزال طليقاً.

أجور “أتعابي”: وبعد أسبوع استلمت صكاً حررته شرطة ديوزبري مقابل “أتعابي” في الاستجواب ذكر فيه اسم المجرم واسم الضحية الناجية، ولم أصرف ذلك الصك لحد الآن فقد احتفظت به وبكتاب تبليغ الشرطة وكتاب المحكمة للذكرى.

الصك الذي حررته الشرطة لي بخصوص اللقاء والمعلومات التي أدليت بها

البداية:

بدأ بيتر ساتكليف المجرم والذي كان يدعى بـ “باقر البطون” إجرامه في العام 1975 حيث كان يلاحق العاهرات في المناطق المظلمة نسبياً وفي ساعات متأخرة من الليل بعد أن تغلق الحانات أبوابها ليضربهن بمطرقة تهشم مؤخرة الجمجمة. تفقد المصابة وعيها بسبب تضرر الدماغ وأوعيته الدموية. وللتأخر النسبي في وصول الضحية إلى المستشفى فإنها تفارق الحياة بسرعة. استمر المجرم بإجرامه إلى حين تم القبض عليه في الثاني من كانون الأول عام 1981.

المجتمع الخائف:

زرع  المجرم الرعب والخوف في نفوس النساء في كلّ المنطقة والمناطق المجاورة. ومن الابتكارات التي صممت حينئذ هو أن تحمل كلّ سيدة في حقيبتها صافرة من نوع خاص وبصوت متميز يدلّ على أن المجرم يحوم في المنطقة أو اعتدى عليها. تعرف كلّ السكان عن طريق الإعلام على ذلك الصوت الخاص بحيث يبادروا عند سماعه لمساعدة الضحية.

الإعلانات العامة التي ملأت الشوارع في منطقة ليدز وخارجها لتحذير النساء وفيها رقم هاتف الطوارئ الخاص بفريق متابعة القاتل

كان التعرف على ذلك المجرم عصياً على القوى الأمنية بالرغم من استنفار الجميع. وكانت كافة وسائل الإعلام تنشر عنه يومياً، ورسمت له صورة خططها فنان الشرطة من المعلومات التي جمعت ممن لمحوه ومن اللواتي حاول الاعتداء عليهن.

لماذا كان يسمى “باقر البطون” (Ripper): جاءت تسمية باقر البطون تشبيهاً بمجرم سابق عاش في لندن في القرن التاسع عشر وقتل عدداً كبيراً من النساء وكان يمزق أحشاءهن وكان يدعى بـ جاك باقر البطون. ومع أن ساتكليف كان يقتل ضحاياه بضربة مطرقة على مؤخرة الرأس ونادراً ما كان يمزق أحشاءهن ولكن الرعب الذي انتشر بين الناس وقتله النساء فقط جعل الناس تربط بين المجرمين الاثنين واستعملوا مجازاً هذا اللقب له.

جريدة لندنية صادرة في 9 تشرين الثاني 1888 تنشر مقتل المرأة الخامسة

من هو بيتر ساتكليف: ولد بيتر وليام ساتكليف من عائلة دينية قرب مدينة ليدز عام 1946. تزوج عام 1975 وجمع ما حصل عليه من هدايا نقدية لشراء سيارة والحصول على إجازة قيادة  للعمل في إحدى شركات النقل في المنطقة. 

بيتر ساتكليف في حفل زواجه 1975 وهو يبدو كإنسان اعتيادي

عمل في شركة من شركات النقل المعروفة كسائق شاحنة كبيرة. ولوسامته و”حسن” خلقه استخدمت الشركة صورته وهو يقود إحدى الشاحنات في بوستر للدعاية والترويج للشركة.

بوستر للشركة يظهر ساتكليف وهو يقعد خلف مقود سيارة الحمل ويبدو كسائق اعتيادي

 كيفية القبض عليه: وفي بداية العام 1981 توجّه إلى مدينة شفيلد وهناك حاول أن يلتقط إحدى العاهرات من الشارع. راقبه شرطيان في دورية في تلك المنطقة تقربا من السيارة ولاحظ أحدهما أن لوحه تسجيل السيارة كانت منحرفة بعض الشيء. تبين أنَّ الرقم لا يعود لسيارته فقد كان مسروقاً. وعند التحقيق معه على ذلك الجرم حصل شك لدى الشرطة أن ملامحه تشابه الملامح التي خططها الفنان من المعلومات المتوفرة. بعد التحقيق اعترف بأنه المجرم القاتل لثلاث عشرة ضحية.

http://www.fortunecity.com/roswell/hammer/73/sutcliffe.html

الشرطيين اللذين أمسكا بساتكليف في شفيلد.

أبو طبر في بغداد: وهذه العملية الإجرامية البشعة تشبه ما عانيناه في العراق أيام “أبو طبر” المجرم الوحش الذي جعل الناس في بغداد في خوف وقلق دائمين وقد قتل عدداً من الأبرياء ومثل بهم إلى أن قبض عليه!

المجرم حاتم كاظم هظم “أبو طبر”

أحداث تذكر:

سرقة دفتر الصكوك (الشيكات):

بعد يوم طويل من أيام العمليات الجراحية في ليدز، خرجت في وقت متأخر بعد أن أكملت المتطلبات وذهبت  إلى الردهة لألتقط معطفي الذي تركته كالعادة هناك. لبست معطفي وتوجهت إلى الباب الرئيس للمستشفى للذهاب إلى سكني، فإذا بمسؤول الاستعلامات السيد جاك يدعوني إلى مكتبه، ويسلمني بعض وثائقي الرسمية التي ذكر أن شخصاً سلمها له قائلاً إنها كانت في المرافق الصحية! شكرته ووضعت الوثائق في جيبي ولم يدر في خلدي أن أسأله لمَ كانت الوثائق معه، وذلك بسبب الإرهاق الذي كنت فيه. وعندما ذهبت إلى سكني تطلعت إلى الوثائق التي أعطاها لي وإذا بها هويتي الرسمية وأوراق أخرى. وهنا أدركت أن دفتر الصكوك وكارت البنك الذي عليه توقيعي الرسمي مفقودان. أدركت بأنَّ هناك سارق دخل الردهة وسرق محتويات معطفي فاحتفظ بدفتر الصكوك وكارت البنك وترك الوثائق الأخرى في الحمامات، ولذا كانت مبتلة بعض الشيء حينما استلمتها من جاك. اتّصلت مباشرة بالمسؤول الأمني في المستشفى وأبلغته بسرقة دفتر الصكوك والكارت. وفي اليوم التالي ذهبت إلى البنك لإبلاغهم بالسرقة. ملأت بعض الاستمارات لأعود بعد أيام إليهم عندما يبلغوني بالموعد. كان دفتر الصكوك يحوي ثمانية وعشرين صكّاً من أصل ثلاثين حيث استخدمت صكين من الدفتر فقط. ذهبت إلى البنك بعد ثلاثة أيام لأقابل مدير البنك الذي قال بأنَّ كلّ الصكوك قد صرفت في الثلاثة أيام الماضية من السارق وفي مدن قريبة متعددة مقلداً توقيعي الموجود على كارت البنك. كان التوقيع تقليداً سيئاً لتوقيعي الحقيقي ولكنه انطلى على موظفي البنوك. قال لي المدير بأن البنك سيتحمل  كلّ المبالغ التي سحبت من حسابي لأن البنك مؤمن على هكذا سرقات. ومنذ ذلك اليوم لم أجمع أبداً بين دفتر الصكوك وكارت البنك في جيب واحد! كان ذلك درساً وخبرة في الحياة بأنَّ السيئين موجودون حولنا في كلّ زمان ومكان.

اختصاصي الجراحة العصبية الشهير في العالم يدفع سيارتي:

زارنا في ليدز بدعوة من أستاذي كيبسون الأستاذ الدكتور براين جنت (Bryan Jennett) لإلقاء محاضرة في المستشفى على الأساتذة والمقيمين.  والأستاذ جنت هو رئيس قسم الجراحة العصبية في جامعة كلاسكو وهو من ابتكر مقياس الوعي الذي يعرف بمقياس كلاسكو (Glasgow Coma Scale) الذي يطبّق في كلّ أنحاء العالم. بعد الانتهاء من النشاط العلمي في المستشفى كان عليّ أن أصحبه إلى دار كيبسون لحضور دعوة عشاء احتفاءً به. ركب معي في سيارتي الخاصة وكان الجو شتاءً والبرد شديد. تركنا المستشفى في وقت انتهاء الدوام حيث ازدحام الشوارع على أشدّه. كان عليّ أن أخترق مركز المدينة كي أصل إلى الشارع الفرعي المؤدي إلى طرف المدينة حيث دار كيبسون. ولسبب لا أعرفه توقفت السيارة عن الحركة في وسط الازدحام وفي مركز المدينة. بالرغم من المحاولات الأولية لم تتحرك السيارة. وإذا بالأستاذ جنت ينزل من السيارة ويدفعها لعلها تبدأ بالحركة. شعرت بالخجل والإحراج أمام هذه القامة العظيمة أن يقوم بدفع سيارتي. ولما يئسنا اتّصلت بالمستشفى فأرسلوا لنا سيارة ركبناها وتوجهنا إلى الدار ثم قاموا  بالمساعدة في حلّ مشكلة السيارة. وهذا كان درساً لا ينسى في تواضع هذا الجهبذ وعدم اهتمامه بموقعه فقام بالتفاتة لا يقوم بها من كان مثله لطبيب مقيم ولكن العظماء عظماء في رفعتهم وفي تواضعهم.

الأستاذ براين جنت Bryam Jennett (1926 – 2008)

الأستاذ الدكتور زهير البحراني وحميد صباغ السيارات:

أرسل لي أستاذي الدكتور زهير البحراني رسالة من بغداد يطلب مني فيها مساعدة طفلة مصابة بورم المخيخ وجذع الدماغ وهي ابنة السيد حميد الصباغ المعروف في شارع الشيخ عمر كأحسن صباغ سيارات.

وبالنسبة لي فإن أي طلب من الأستاذ زهير هو بمثابة أمر يجب تنفيذه. أرسلت له جواباً ألتمس فيه بأنَّ يتصل بي السيد حميد مباشرة لترتيب مشروع السفر من بغداد إلى ليدز. أرسل لي كلّ التفاصيل فضلاً عن الصور الشعاعية وحجزت لها سريراً في الجناح الخاص في مستشفانا. استقبلتهم في المطار بسيارة إسعاف مجهزة بكلّ الاحتياجات اللازمة حيثُ من الممكن أن يؤثر هكذا ورم على التنفس والبلع مما يسبب الاختناق. كانت كلّ الأمور على ما يرام وأدخلت الطفلة البالغة من العمر عشرة أعوام وبُدئت الفحوصات المطلوبة وكانت تحت رعاية الأستاذ كيبسون. كان والدها السيد حميد قمة في الخلق والطيبة والأب الحنون الذي تقبل حكم الله بإصابتها بالمرض الخبيث ولكنه سعى ليستفيد من كل ما في مقدور الطب لأجل إنقاذ حياتها. سعدت برفقته وقدمت للمريضة وله كلّ ما يلزم من رعاية طبّية واجتماعية. وبعد ما يقرب من الأسبوعين وصلنا إلى قرار أنه لا يمكن تقديم أي علاج إضافي ومن الضروري أن تعود المريضة إلى العراق بأقرب وقت. واجهتني مشكلة كبيرة وهي أنَّ الطفلة بما عندها من صعوبة البلع والتنفس لا يمكن لها أن تسافر بالطائرة كلّ هذه المسافة بدون رعاية تمريضية أثناء السفر. كان من الصعوبة تأمين ذلك بدون ممرضة قديرة متخصّصة.

أقنعت إحدى ممرضاتنا أنْ تقوم بمرافقتها إلى العراق على أن يغطي حميد تكاليف سفرها ورعايتها في العراق لبعض الأيام لحين عودتها. أعددت لها حقيبة واسعة مملوءة بكلّ ما تحتاج من معدات التمريض وبضمنها جهاز لسحب السوائل من الفم والبلعوم يعمل بحركة القدم. وهمست في أذنها بأنَّ هذا الجهاز “سيتعطل” عن العمل في العراق إشارة مني لها بأن تتركه لأهل المريضة هناك كي يستخدموه في تمريضها لصعوبة الحصول على هكذا جهاز في العراق. ابتسمت الممرضة موافقة لما طلبت. تمت تهيئة المريضة ووالدها والممرضة وتوجهوا بسيارة إسعاف سارت بهم من باب المستشفى في ليدز إلى باب الطائرة في مطار هيثرو في لندن، لعدم وجود رحلة مباشرة من مطار ليدز إلى بغداد. وكانت هكذا مهمة لسيارة إسعاف لمريض أجنبي يعالج على الحساب الخاص لا تتم إلا بأجور عالية، ولكن بفضل علاقاتي وقدرتي في الإقناع فقد تم إنجاز المهمة  بما قدمت من (سندويجات) وعلب ببسي للسائق والممرض المرافق له ليس إلا! ودعت السيد حميد بالدعاء بسلامة الوصول. وعند وصولهم الى بغداد اتّصل بي وكان كلّ شيء على ما يرام وتحدثت مع الممرضة الطيبة التي فوجئت بالكرم العراقي والضيافة التي لم تعتد عليها. وكان السيد حميد قد أكرمها بمبلغ من المال ومصوغات ذهبية قبيل عودتها بعد أنْ قضت يومين في العراق.

منظفو ممرات المستشفى والخلق المهني العالي:

يبدو من الغريب أن أتحدث عن منظفَي ممرات المستشفى وهما عاملان في الخمسينيات من العمر مسؤولان عن تنظيف ممرات بنايات المستشفى كل مساء. يبدأ عملهما في الساعة الثامنة مساءً وتراهما يبتعدان عن بعضهما بمسافة مترين عند تأدية الواجب. فالذي في الأمام يمسح الأرض بالماء والثاني ينشفها بنسيج مثبت على عصا طويلة ويكملان واجبهما فيما يقرب من الساعة السادسة صباحاً. الطريف هو أنَّ الاثنين يقضون طول الوقت ولا يكلّم أحدهما الآخر كلمة واحدة إلا في وقت الاستراحة. وتصرفهما هذا كان مبعث الحديث والتندر لكلّ العاملين في المستشفى. والدرس الذي تعلمته من هذين العاملين هو إخلاصهما للعمل وعدم رغبتهما في ضياع أي وقت. فيقضيان كلّ دقيقة في العمل لإنجازه على أتم وجه وفي وقته المقرر. نقارن هذا السلوك مع سلوك عمالنا الذين يضيعون وقتهم بالحديث فيما بينهم واختلاق كل أنواع الأعذار بعيداً عن تحقيق واجبهم الملقى على عاتقهم.

جمي سافيل (Jimmy Saville): عند التحاقي في العمل في مدينة ليدز شاهدت شخصاً معروفاً في عالم الموسيقى وأغاني البوب (Pop songs) وهو يتطوع لمساعدة العمال الساندين في الطوارئ بكلّ ما يلزم في نقل المريض من وإلى سيارة الإسعاف أو ردهات المستشفى. كان يتميز بشعره الطويل الأبيض الذي سبق وقته في بياضه وكان شخصاً محبوباً من الجميع. هذا الشخص هو جيمي سافيل الذي ارتفع شأنه فيما بعد وأصبح من المشهورين في مجال الإعلام، ومنح لقب فارس (Sir).

التقيت به عدة مرات عند زيارته المستشفى وكان لنا أصدقاء مشتركون من المسؤولين في المستشفى. وفي إحدى سفراتي إلى بريطانيا بعد عودتي إلى العراق حاول أن يقنعني أن أعمل كاختصاصي في مجال إصابات الحبل الشوكي هناك وكان قد هيأ لي مكاناً في المنطقة. كنت في ذلك الوقت منشغلاً عن ذلك العرض لطموحي في العودة إلى الوطن.

جمي سافل (Jimmy Saville)

علمت بعد سنين أنه  تبين بعد وفاة جيمي  إنّه ارتكب في حياته حماقات أخلاقية أخلّت بسمعته وجرد من ألقابه وعُدّ كما يدلّ اسمه ولكن باللغة العربية!

نشاطاتي خارج العمل المرهق:

من الضروري ترويح النفس في خضم العمل المجهد في الاختصاص. فلقد سجلت لساعتين في الأسبوع في مدرسة مسائية للرسم وكذلك في صف تعليم اللغة الفرنسية حيث كانت لدي مبادئ منها عند دراستي في المعهد الفرنسي في بغداد. كانت هاتان المدرستان متعة حقيقية بعد عناء العمل في جراحة الدماغ..

كان حضوري الثقافي والاجتماعي يتسع لاغتنام أية فرصة لمشاهدة مسرحيات وأوبرا وحفلات فنية واجتماعية لإيماني بأن الطبيب بلا ثقافة عامة يصعب عليه الامتزاج بالمجتمع.

حضور لعبة كرة القدم في ليدز:

لأن أستاذي كبسون عضو في مجلس إدارة فريق ليدز يونايتد فقد دعاني لحضور لعبة مهمة يخوضها الفريق الذي كان في الصدارة تلك الأيام. كان الجو بارداً جداً وساحة اللعب بطبيعة الحال مكشوفة ككل الساحات المعروفة، ولكن الغريب أنَّ الجلوس في الهواء الطلق كان مريحاً جداً لأن الكراسي التي جلسنا عليها كانت مدفأة بأنابيب ماء حار يسري في ظهرها وقاعدتها. كان هذا المكان مخصّصاً للضيوف المهمين وأعضاء مجلس الإدارة وكنت ضيف أحدهم! وفي تلك المباراة أنقذ اللاعب المتألق كراي (Eddie Gray)  فريقه من هبوط متوقع في جدول النقاط في المسابقات الوطنية.

الممثل بيتر أوتول وهاملت وجهاز الطلب:

كان حدثاً ثقافياً كبيراً عام 1974 حضور بيتر أوتول إلى مدينة ليدز مسقط رأسه ليقدم مسرحية شكسبير (هاملت). كان الجميع تواقين لحضور ذلك العرض التاريخي الرائع. دعوت أحد الأصدقاء لحضور العرض وكان الحصول على البطاقة ليس بالأمر الهين.

بيتر أوتول Peter O’Tool (1932-2013)

لم أكن الطبيب الخافر ذلك المساء ولكن من سوء الصدف أن حصل لزميلي الطبيب الخافر في القسم ما أعاقه عن الحضور إلى المستشفى ذلك اليوم وكان عليّ أن أقوم بواجباته. ولما كان من الصعوبة أن أتخلى عن الحضور مع من دعوته، فقد اضطررت إلى حمل جهاز الطلب الذي يحمله كلّ طبيب خافر في جيبه لإسعاف المريض الذي بحاجة إلى عناية آنية. طلبت من زملائي الخافرين في الطوارئ ألّا يطلبوني إلا في الحالات الضرورية جداً. دخلنا المسرح الغاص بالحضور ولما بدأ العرض خيم الهدوء على الجميع خصوصاً عندما ظهر بيتر على المسرح مزهوا بسحره على الجميع. وفي تلك الأجواء وإذا بجهاز الطلب يرن وسط ذلك الهدوء. شعرت بالإحراج الشديد ونظر إلي الجميع ومنهم من على المسرح نظرة عدم الرضا بل الاستنكار. ولما لم أستطع رفض إجابة الطلب اضطررت إلى مغادرة القاعة بهدوء تاركاً العرض الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر. وهذه هي حياة الطبيب الذي نذر نفسه لخدمة الآخرين والاستمتاع بتقديم تلك الخدمة.

المغني الشهير روجر ويتيكر في ليدز:  

أقام المغني الشهير روجر ويتيكر Roger Whitaker)) البريطاني الكيني الجنسية حفلاً غنائياً كبيراً في ليدز أحدث ضجة لحب الكثيرين من الناس أغانيه الجميلة والمليئة بالعواطف الإنسانية. حضرت الحفل مرتين لشدة تعلقي بأدائه وصوته وسمو معاني أغنياته. ومن أجمل ما غنى أغنية “الوداع الأخير” والتي كلّما سمعتها ولحد الآن تسيل معها دمعة لما فيها من العواطف الإنسانية وحسن الأداء!

المغني الشهير روجر ويتيكر

مدرسة الرسم:

انطلاقاً من الرغبة في تجاوز الحياة الروتينية دخلت مدرسة للرسم في ليدز وكانت الدروس تعطى مساءً ولمرة في الأسبوع. استمتعت كثيراً بها وكنا نحاول الرسم التخطيطي لحاجيات توضع أمامنا. هناك تعرفت على الصديق المهندس مهدي الحسني وزوجته الطيبة شيلا من سكنة مدينة ليدز لسنين طويلة. ولمحبة أهل مدينة ليدز لمهدي فقد تمّ منحه وفي احتفال كبير لقب المواطن الأوّل في منطقة غرب رايدنك (West Riding) والتي تشمل ليدز وما حولها.

في بلجيكا / معهد السرطان الأوربي (معهد بورديهBordet ):

بدأ الباحثون في معهد بورديه في نهاية العام 1974 بمشروع بحثي مهم وذلك باستخدام أدوية جديدة في علاج أسوأ أنواع السرطان وهو سرطان الدماغ الدبغي المتقدم (Glioblastoma). لقد حاول الباحثون والعلماء في العديد من المراكز البحثية في العالم إيجاد عقاقير أو طرق أخرى لإطالة عمر المصاب ولكنها لم تنفع.

اقترح معهد السرطان الأوربي في العام 1974 أن تستخدم لعلاج تلك الأورام أدوية كيميائية حديثة الاستعمال: سي سي أن يو (CCNU) بي سي أن يو (BCNU) ودواء بروكربازين (Procarbazine). 

معهد بورديت الأوربي للسرطان في بروكسل

شارك في المشروع البحثي عدد كبير من المراكز السرطانية في أوروبا. شارك مستشفانا في ليدز بالمشروع وربما كان المستشفى الوحيد في بريطانيا الذي شارك به. تسلم مسؤولية المشروع أستاذي مايلز كيبسون وكنت أقوم بتطبيق كل تعليمات المعهد الأوروبي في نوعية الفحوصات اللازمة للمرضى وأسلوب تناولهم الأدوية التي كانت تجهز من المعهد وتصلنا بإرساليات خاصة. نرسل كافة تفاصيل المرضى إلى المعهد لتحليلها مجتمعة مع نتائج المراكز المشتركة بالمشروع.

الأستاذ جان هيلدبراند:

ترأس الدكتور جان هيلدبراند اختصاصي الأعصاب فريق مشروع معهد السرطان الأوروبي لاستخدام تلك الأدوية الحديثة في علاج أورام الدماغ. كانت الاجتماعات تعقد في المعهد وقد حضرت ممثلاً عن مستشفانا، المستشفى الجامعي في ليدز، لمرتين؛ مرة لوحدي وأخرى مع أستاذي مايلز كيبسون. كانت اللقاءات العلمية في المعهد تناقش ما يتجدد من الخبرة في استخدام هذه الأدوية وكان عدد المشاركين يمثلون خمسة وعشرين مركزاً من مختلف الدول الأوربية، على ما أظن.

في العام 1975 سافرت مع أستاذي مايلز كيبسون إلى معهد بورديه في بروكسل للمشاركة بتقييم تجاربنا العلاجية المشتركة مع عدد من المراكز في أوروبا الأعضاء في المشروع.

عرض كلّ مركز نتائج بحثه في لقاء وديّ علمي استمرّ ثلاثة أيام. وبسبب واجبات غير متوقعة اضطر أستاذي لأن يغادر عائداً إلى ليدز وبقيت لوحدي أمثل المستشفى. تفضل رئيس المشروع الأستاذ جان هيلدبراند اختصاصي أمراض الأعصاب في جامعة بروكسل بالذهاب معنا إلى المطار لتوديعه.

رسالة الأستاذ أدورد كووبر (Edward Cooper) مسؤول البحوث السرطانية في شمال إنكلترا بخصوص المشروع الأوروبي لعلاج أورام الدماغ

كان العلاج بهذه الأدوية الحديثة لأورام الدماغ الدبقية المتقدمة من التحديات العلاجية المهمة في محاولة إطالة عمر المريض المصاب بهذه الأورام حتّى لأسابيع حيثُ إنَّ كلّ المصابين تقريباً لا يبقون على قيد الحياة لأكثر من أسابيع قليلة بعد اكتشاف المرض (سواء بالعملية الجراحية أوالتحليل النسيجي) حتّى إذا عولج بالإشعاع. أثبتت النتائج الأولية لبحوث المجموعة وجود فعالية مشجعة باستخدام هذه الأدوية. واستمرّ عملنا مع المعهد في عام 1976 ولكن بعد عودتي إلى العراق في الشهر الخامس من ذلك العام لم يدم اشتراك المستشفى بالمشروع ولكن الشيء الذي كان يبعث بالأمل أن الأدوية أخذت موقعها في علاج أورام الدماغ.

التكنولوجيا أم الطبيعة؟: من الذكريات التي لا تنسى، عندما كنت في السيارة مع الدكتور هيلدبراند عائدين من مطار بروكسل بعد أنْ ودعنا أستاذي كيبسون عائداً إلى بريطانيا. مررنا أثناء العودة بشارع افتتح حديثاً عبر غابة كثيفة الأشجار في أطراف بروكسل، وكانت بعض الأشجار المقلوعة ملقاة على جانبي الشارع. وإذا بصاحبي يتأفف ويلعن الحضارة التي أجبرت الإنسان على أن يحارب الطبيعة الجميلة ويقطع الأشجار ويشق طرقاً تزيد من التلوث والمشاكل الاجتماعية والصحية. التفت إليه وقلت عزيزي جان إن كنت تروم الحصول على جهاز السكانر لفحص الدماغ يجب عليك قطع الشجرة، فلا يمكن أن تجمع بين حماية الطبيعة والتقدّم الحضاري. فإن رغبت بالعيش على الطبيعة ومع الطبيعة النقية أقترح أن تذهب إلى غابات أفريقيا ولا تصحب معك أية آلة كهربائية أو أية وسيلة من وسائل الحضارة الأخرى. باعتقادي أن اعتمادنا على التطوّر الحضاري وامتزاجنا به يفقدنا الهدوء والنقاوة والحياة الريفية الهادئة. فكلما تقدّم المجتمع ابتعد عن الطبيعة بل حاربها في سبيل تحقيق تقدّمه. فقطع الأشجار وتلوث البيئة وتفرق الأسرة وندرة  العلاقات الاجتماعية الصادقة باتت من سمات المدنية الحديثة وشراً لا بد منه.  وهنا أقرّ جان بذلك ورضا بالتضحية في سبيل الأفضل الذي لا بُدَّ منه.

الأستاذ جان برييه (Jean Brihaye): في العام 1975 وأنا متجه إلى ليدز بعد انتهائي من الدورة الخاصة بجراحة أوعية الدماغ المجهرية في زيوريخ مع الأستاذ يازاركيل (سأتحدث عنها لاحقاُ) مررت ببروكسل للقاء الأستاذ جان هيلدبراند. التقيت بصديقه الأستاذ جان برييه رئيس قسم جراحة الدماغ في جامعة بروكسل الذي دعانا إلى بيته. كان هناك الأستاذ جان هيلدبراند وآخرون من اختصاصات الأعصاب في بروكسل. أخذنا برييه في جولة حول بيته وشاهدنا مجموعته من “الأنتيكات” القديمة التي جمعها من أغلب مدن العالم ومن ضمنها المكواة الحديد التي يوضع فيها الفحم والتي كانت المكواة المتداولة والمستعملة في العراق. كان قد أعدّ وجبة بروكسلية خاصة وقد استمتعت بلقاء هذه النخبة من اختصاصيي الأعصاب وكونت علاقة صداقة معهم.

التجول في بروكسل: رافقني في إحدى سفراتي إلى بروكسل ابن عمي الدكتور المهندس عاصم الخليلي الذي كان في جامعة كلاسكو الأسكتلندية. بعد إكمال الاجتماعات العلمية التي كنت أحضرها في معهد السرطان الأوروبي كنا نتجول في مدينة بروكسل نستمتع بأزقتها الضيقة القديمة الملتوية المليئة بالثقافة والموسيقى ودكاكين التسوق التي كانت تشبه في فكرة بنائها ما يسمّى “بالقيصرية” في العراق خصوصاً في مدينة النجف حيث تتجمع محال عديدة بمدخل عام وطرقات ما بين المحلات. ولكن الذي في بروكسل لا يمكن قياسه بما موجود في العراق من ناحية الأبهة والطراز الفني. كانت الموسيقى الهادئة تصدح في السوق وأبوابه الخارجية مفتوحة فيمكنك أن تدخل فيه في المساء رغم أن كل المحال مغلقة ولكنك تتفرج على محتوياتها عبر نوافذها الزجاجية الكبيرة ويدعى هذا بالتسوق التطلعي (Window Shopping)!

مقاهي بروكسل: تقع في وسط بروكسل شوارع فرعية صغيرة فيها العشرات من المقاهي مكتظة بالسياح من أغلب الدول.  جلسنا في مقهى مزدحم بالسياح حيث استمعنا بالموسيقى الغجرية وكانت قمة الاستمتاع عندما عزف الفنان الغجري مقطوعة من تأليف ملك موسيقى الغجر فرانز ليتز (Franz Liszt) وكانت ليلة لا تنسى.

الأتوميوم: هو هيكل حديدي هائل خلفه المعرض العالمي عام 1958. يمثل الهيكل ذرة الحديد ويتكون من 9 كرات حديدية ضخمة ترمز للإلكترونات ترتبط  بأنابيب حديدية ويرتكز الهيكل على ثلاثة أعمدة. ارتفاعه 102 متراً وقطر كلّ كرة 18 متراً. ومن الكرة الوسطى نصب سلم حديدي للطوارئ. وفيه مصعد كهربائي ربما كان أسرع مصعد حيث تشعر حين صعوده كأنما نزل دم جسمك كلّه في ساقيك!

نصب الاتوميوم وسلم الطوارئ الذي نزلنا فيه 1975

صعدت مع ابن عمي الدكتور عاصم إلى أعلى النصب وتمتعنا بما فيه وما حوله. وبدون قصد خرجنا من أحد الأبواب المطلة على الفضاء الخارجي وكان هو الباب المؤدي إلى سلم الطوارئ. نزلنا بهدوء ونحن نتحدث عن جمال المكان وضخامته حتّى وصلنا قرب نهاية السلم السفلى وإذا بمنتسبي الأمن والشرطة بدأوا بالصراخ علينا وطلبوا أن نعود صاعدين إلى أعلى وننزل بالمصعد. تملكنا الخوف واستغربنا من تصرفهم حيث لم تكن هناك علامة في الباب المؤدي إلى السلم أو إشارة تحذير أو منع من استخدام السلم. وعند نزولنا من المصعد كان عدد من أفراد الأمن بانتظارنا وتحققوا من هوياتنا وأماكن عملنا وسبب تواجدنا وتيقنوا بأننا استخدمنا السلم سهواً واعتذروا واعتذرنا. علمنا بعد ذلك أنَّ ذلك الحذر الأمني كان بسبب حدوث بعض التفجيرات في مناطق من أوروبا قام بها إخواننا العرب.

في ألمانيا:

يسكن مدينة دوسلدورف (Dusseldorf) ابن عمي الدكتور باسم الخليلي اختصاصي الأمراض النسائية وهو أخ الدكتور عاصم رفيق سفرتي. ذهبنا لزيارته، وهناك تجولنا في عدد من مرافق المدينة ودخلنا متحف الفن الحديث لقضاء الوقت.  كان المتحف غاصاً بالزوار محبي الفنّ الحديث. دخلنا قاعة كبيرة فيها لوحة بطول ثلاثة أمتار تقريباً وعرض المتر والنصف وقد خصصت القاعة لها وحدها وكانت اللوحة ليس فيها إلاّ اللون الأزرق فقط بدون أية إضافات وقد كتب تحتها “لون أزرق”!

لوحة بعنوان “لون أزرق”

ولكن الحدث المهم الذي أحرجنا نحن الاثنين هو لوحة تجسد احتفال وفيها العشرات من المحتفلين وعندما تقربنا منها شاهدت في اللوحة شخصاً يشبه عاصم. وضعت اصبعي على ذلك الشخص في اللوحة وإذا بصفارات الإنذار تدوي في أجواء المتحف. هرع الحراس نحونا من كلّ صوب وعندما تبين السبب سامحونا وتركنا المتحف نتلفت وراءنا ونحن غارقون بالضحك.

لوحة كارنيفال

الشيء بالشيء يذكر .. درس في الحياة: من اللوحات التي لا تغيب عن ذاكرتي هي لوحة الفنان الألماني والتر هيكرمان (Walter Heckmann)  التي عنوانها “الحرية الثلاثية” وفيها يسأم الإنسان مما هو فيه فيتوق للحرية فيخترق جدار محيطه ويسير إلى  عالم جديد يسأم منه ثانية لأن طموحاته لم تتحقق فيخترق جدارعالمه مرة ثالثة  ليفاجأ بمثل ما كان في الأولى والثانية ولكنه يبقى سائراً لعله يجد الحرية التي يحلم بها. وتفسيري لما عبر عنه هيكرمان هو أن سعادة الإنسان لا تأتي بالضرورة من محيطه وبما يملك ولكنها تنبع من داخله حيثما كان.

لوحة الفنان والتر هيكرمان في فلسفة الحياة

التقديم  لدورة تدريب عالية في جامعة زيورخ، سويسرا:

لرغبتي في توسيع تدريبي المهني الجراحي قررت في عام 1975 الالتحاق بدورة تخصصية في جراحة الأوعية الدموية الدماغية المجهرية التي يقيمها الأستاذ محمود غازي يازاركيل التركي الأصل السويسري الجنسية في قسم الجراحة العصبية في جامعة زيورخ في سويسرا.  تتطلب هذه الدورة دفع مبلغ يقارب 400 باون استرليني كأجور الاشتراك.

رفض المستشفى ورسالة كيبسون العنيفة: جرت العادة أن تتحمل إدارة المستشفى في ليدز مصاريف الدورة وملحقاتها، ولكن إدارة المستشفى رفضت دفع المبلغ وأرسلت لي رسالة بهذا الرفض. حينما اطّلع الأستاذ مايلز كبسون على الرسالة انتفض وأجابهم برسالة “عنيفة”، أحتفظ بها لحد الآن، قال فيها مما قال إن الخليلي أفضل طبيب مقيم أقدم عمل في مستشفانا للخمس عشرة سنة الماضية فكيف تمنعوه من هذا الحق؟ وبسبب تلك الرسالة وافقت إدارة المستشفى على تحمل نفقات الدورة.

بعد موافقة المستشفى على طلبي تهيأت للسفر وأكملت متطلباته. وبمحض الصدفة زار مستشفانا أستاذ من جامعة زيورخ هو الدكتور هنريش كاتيكر(Heinrich Gattiker)  اختصاصي الأمراض السرطانية للتباحث بخصوص المشروع الأوروبي لعلاج أورام الدماغ، وهو شاب في أربعينياته لطيف المعشر ضحوك. بعد التداول معه عرض عليّ أن أسكن معه في داره ضيفاً أيام انعقاد الدورة. شكرته على عرضه وبالفعل حللت ضيفاً عليه أيام الدورة في زيوريخ.

رسالة الأستاذ كيبسون إلى إدارة المستشفى يذكر فيها:

“إن الدكتور (مستر) الخليلي من أفضل إن لم يكن أفضل رجسترار (طبيب مقيم أقدم) عمل في هذا القسم للخمس عشرة سنة الماضية والذي يعمل بكل جهد وبدون مساعد”

الشرطة احتجزتني في المطار:

وفي طريقي إلى زيورخ في سويسرا للاشتراك في الدورة التدريبية أوقفني الشرطي المسؤول في المطار عند المغادرة ليسألني كم تحمل من النقد بالباون الاسترليني. فأجبته بأني أحمل معي 800 باون. فتح فاه وقال تفضل معي وأخذني إلى غرفة التوقيف في المطار وأنا مستغرب من ذلك ودعا زميلاً له وفتحا محضر تحقيق باستخدام الورق والكاربون!

تبين أن الحكومة البريطانية كانت قد أصدرت في ذلك الوقت أمراً بعدم السماح بإخراج أكثر من 25 باون استرليني كعملة نقدية ولهذا وضعت كثير من الإعلانات في المطار تحذر المغادرين من الإخلال بذلك. واستغرب الشرطيان من عدم معرفتي بذلك. فبينت لهما بأني كنت متأخراً على موعد السفر بسبب تأخري في قاعة العمليات ولضيق الوقت لم ألحظ الملصقات في المطار.

عندما اقتنعا بعذري وشاهدا الأوراق الثبوتية للدورة اعتذر الشرطيان واتصلا بالطائرة لتأخير إقلاعها ورافقني الشرطي الأول ونحن نهرول إلى البنك في المطار لتحويل النقد إلى صكوك المسافرين وأبقى عندي 25 باونا فقط. حيث كان مسموحاً أن تخرج ملايين الباونات بأية طريقة قانونية أخرى غير العملة النقدية. والعِبَر من ذلك كثيرة ومتعددة!

السكن في دار الدكتور كاتيكر: في زيورخ سكنت في دار الدكتور هنريش كاتيكر وكان يصحبني معه إلى المستشفى الجامعي الذي فيه قسمي جراحة الدماغ والسرطان الذي يعمل فيه. كانت عائلته متكونة من زوجته كاثي وولديه البالغين أربع وثلاث سنوات. كانت مدة البقاء معهم من الأيام الجميلة. كانوا يأخذونني في سفرات سياحية إلى ضواحي المدينة. وأتذكّر مرة ركبنا الحافلة الخاصة التي ترتقي بنا جبال الألب وكانت عربة ذات عجلات مسننة تسير على سكة تثبت فيها أسنان العجلات حفاظاً عليها من الانزلاق إلى أسفل. وفي النهاية العليا للرحلة استمتعنا بالمناظر الخلابة من أعلى جبال الألب وتناولنا وجبة من الإرث المحلي لازال طعم ما تناولته في ذاكرتي وذائقتي.

الدكتور هنريش (هنري) كاتيكر

في مرة ونحن مجتمعون عند وجبة الإفطار، طلب هنري من الولد الكبير أن يقول “شكراً” ولكن الولد لم يستجب، فكرر الطلب ولكن الولد بقي عنيداً. فما كان من الوالد إلا وضرب الطفل ولم يتركه إلى أن قال كلمة شكراً. والمفارقة أنَّ ذلك إن حدث الآن سيفصل الوالد عن ولده ومن المحتمل أن يرسل إلى السجن.

كان هنري يحبّ التفاح ويتناوله في أي وقت. وكان يرمي ببقايا التفاح من شباك السيارة إلى الشارع. وأجاب على استغرابي من ذلك بقوله أنَّ التفاح هو الشيء الوحيد المسموح برميه إلى الشارع في سويسرا. ومن أدب اللياقة والامتنان كنت قد اشتريت لزوجته كاثي وولديهما هدايا لائقة من السوق الحرة.

الدورة مع “ملك” جراحة الأوعية الدموية الدماغية: أقام الأستاذ محمود غازي يازاركيل في العام 1975 دورة في الجراحة المجهرية لأوعية الدماغ في قسم جراحة الدماغ الذي يرأسه في جامعة زيورخ. كانت الدورة من أفضل ما شاهدت عبر سنوات عملي في الجراحة العصبية. كان الأستاذ محمود غازي يازاركيل التركي الأصل يعدّ ملك الجراحة العصبية في أوربا. 

مع الأستاذ يازاركيل في مكتبه في جامعة زيوريخ

كانت الدورة مكثفة وذات مستوى عال جداً. كانت التطبيقات على الضفادع حيث كنا بعد شلها نحاول خياطة الشريان الأبهر بعد أن نقطعه. وكذلك كنا نحضر المحاضرات النظرية ونشاهد العمليات المعقدة على الأوعية

الدموية الدماغية التي كان يقوم بها. ما أبهرني والذي لم أشاهده في بريطانيا هو الاهتمام البالغ بالتجارب والتطبيقات على الحيوانات.  كانت دورة العشرة أيام مكثفة غنية بالعلم والتجربة والنشاطات الاجتماعية. 

صورة الأستاذ يازاركيل مع الإهداء عام 1975

الرغبة الاكاديمية:

لم تكفني الخبرة المهنية التي حصلت عليها بعد أن منحت شهادة زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية في إدنبرة لأني كنت تواقاً أن أسلك السبيل الأكاديمي كذلك.  وعليه قررت في العام 1975 أن أتقدم  للدراسات العليا، الماجستير أو الدكتوراه. كان أملي أن تقبلني إحدى الجامعات التي توافق على الدوام الجزئي في الدراسة كي استمر في عملي المهني الجراحي. حصلت على قبول لدراسة الماجستير في جامعة مدينة برادفورد (Bradford University) المجاورة لمدينة ليدز. وتقرر أن يكون الأستاذ روبرت تيرنر(Robert Turner) عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة المشرف من داخل الجامعة وأستاذي كيبسون مشرفاً خارجياً. تمّ الاتّفاق على أن يكون مشروع البحث حول دراسة متلازمة ما بعد الشدة على الرأس عند الأطفال.

عند تقديم الرسالة في العام 1980 والاستعداد للدفاع عنها فاجأني الأستاذ المشرف بأن الأطروحة ترقى إلى مستوى درجة الدكتوراه. وبذا رفع توصية إلى مجلس الجامعة بتغييرها إلى درجة الدكتوراه وبدون أي تغيير في مادة الرسالة. تمت موافقة الجامعة على توصيته.

الكتاب الذي أصدرته الجامعة الموجه لي بتحويل رسالة الماجستير إلى أطروحة دكتوراه
“أكتب إليك لإبلاغك إن تحويل رسالة الماجستير إلى أطروحة دكتوراه فلسفة قد تمت الموافقة عليه”

دافعت عن أطروحتي بدرجة الدكتوراه، وبعد الامتحان طلب الممتحن الخارجي بعض التغييرات على أن يعاد الامتحان بعد ثلاثة أشهر. عدت بعده إلى العراق لانتهاء إجازتي من كلية الطب في بغداد. بسبب اشتعال الحرب العراقية الإيرانية في حينها لم أحصل على موافقة السفر في العودة إلى إنكلترا. وبعد أخذ وعطاء واستحالة السفر اتفقت مع أستاذي المشرف العودة إلى الدرجة الأولية وهي ماجستير الفلسفة وهكذا كان.   توجد تفاصيل عن ذلك المشروع في الجزء الثاني، فصل مسيرتي مع البحث العلمي لمن يرغب في ذلك.

قرار العودة إلى الوطن… حفلة الوداع في ليدز:

نهاية المطاف في ليدز:

التقيت بصديق قادم من العراق في بداية العام 1976 وهو الأخ الدكتور عبد السلام محمّد الاختصاصي الشهير في التحليل النسيجي في العراق عند زيارته إلى  ليدز ليحلّ ضيفاً على الأخ الفاضل الدكتور رافد صبحي أديب اختصاصي الجراحة البولية الذي كان يعمل في نفس مستشفى ليدز الجامعي. تناقشنا بموضوع عودتي إلى العراق وحول الاختصاص في العراق فقال لي أنَّ الوضع في العراق هو كما تركته من الناحية الاجتماعية والعلاقات المهنية والذي يتمناه  ألا أفاجأ بما سألقاه من مطبات في مجالات متعددة. في ذلك الوقت كان رئيس الشعبة الأستاذ آرثر وول يتهيأ للتقاعد وكان هناك احتمال بأن أحصل على ذلك الموقع الشاغر حينما يكون أستاذي المباشر مايلز كيبسون على رئاسة القسم. 

العودة أم البقاء:

 شغلتني فكرة العودة وتزاحمت في ذهني الأفكار بين مكاسب البقاء والتقدّم المهني في بلد مثل بريطانيا وفي مستشفى جامعي كالذي أعمل فيه وهذا كسب شخصي لا يجارى، وبين العودة إلى الوطن والأهل والمساهمة مع الزملاء الجراحين في العراق الذين يقدمون الكثير والذين أتيحت لهم الحياة فرص مشابهة حينما كانوا في الخارج وعادوا إلى الوطن. وكما ذكرت سابقاً كنت في قرارة نفسي أعمل على أن أعود إلى الوطن بعد خمس سنوات من بقائي في الخارج.

حينما استشرت أستاذي المقرب كيبسون عن رأيه تردد في الإجابة، وأنا أعلم بأنَّ كلّ الذين عملوا معه قبلي من المقيمين الأجانب والعرب مثل الدكتور طارق الكركجي من العراق، سمير الملا من مصر، الدكتور جودة من مصر، الدكتور معيني من إيران، والدكتور فاروق نحاس من سوريا، قد عادوا جميعهم إلى أوطانهم.

القرار:

 كان قراري الأخير هو العودة إلى العراق، والذي سيفرح الأهل والأقارب ويحقق لي ما أبتغيه من خدمة مجتمعي. خططت على أن أحجز بطاقة سفر إلى نيويورك للبقاء فيها أسبوعاً أو أكثر لإشباع رغبة دائمة لدي في زيارة أمريكا ومن ثمّ العودة إلى ليدز ومنها إلى بغداد.

ألغيت سفرتي إلى أمريكا وأجلتها إلى أجل غير مسمّى بسبب ما بلغني من أن هيئة رعاية الكفاءات العراقية تشجع عودة الكفاءات العراقية إلى الوطن. اكتشفت أن اسمي كان من ضمن أسماء المرشحين من أصحاب الكفاءات للعودة إلى العراق. بدأت بالتحضير للعودة حيث أبلغت أساتذتي والمستشفى بقراري في العودة إلى الوطن. حاول بعضهم أن يثنيني عن ذلك ولكني لم أستمع لهم. كتبت رسالة الاستقالة لإدارة المستشفى.

لا يبدو هناك تعارض مقنع بين سفرة نيويورك وعودة الكفاءات

حفل الوداع في ليدز:

 أقيمت لي حفلة وداع حافلة حضرها أساتذتي وزملائي المقيمون في الجراحة العصبية وأساتذة التخدير وفيهم الأستاذ ماكداول والدكتور ساندي باول، ومن قسم الأشعة مايكل وين وجون لامب (والذي دعوته إلى بغداد عام 1979) ومن اختصاصات أخرى والملاك التمريضي في الردهة والعمليات وكذا الملاك الإداري. حضر كذلك الملاك التمريضي في مستشفى بندرفيلدز الذي عملت فيه قبل انتقالي إلى ليدز. استمتع الجميع بالطعام والموسيقى وألقيت بعض الكلمات من الأساتذة والزملاء وفي النهاية شكرت الجميع على لطفهم وعلى صداقتهم، والتقطنا  صوراً تذكارية عديدة. كانت عواطف الوداع جياشة حيثُ إنَّ العلاقة مع كلّ منهم كانت علاقة تفوق وتتعدى كثيراً العلاقة المهنية لتصل إلى مستوى الصداقة الحقّة وعلى كلّ المستويات بغض النظر عن موقع الشخص المهني والإداري.

جانب من حفل الوداع يظهر في اليسار الدكتور باول والممرضة كولكوهون في أعلى الوسط مع اختصاصي الباثولوجي توني فرانكس وتحته مع أساتذة الأشعة لامب وكوين وكذلك برايس وعقيلته ميفس وفي اليمين مع أستاذ التخدير ماكداول

هدية الملاك التمريضي:

تفضل عليّ الملاك التمريضي والعلاج الطبيعي وعلاج النطق وما يتعلق بتلك الخدمات في القسم في (الردهة 26) بهدية. كانت الهدية لوحة رسمت بالألوان المائية لقرية على ضفاف نهر صغير في أطراف مدينة ليدز مؤطره بإطار معدني فضيّ.

اللوحة الفنية هدية الملاك التمريضي لي وقد رسمها الفنان بنيت (Bennett) بالألوان المائية وما كتبه ملاك القسم خلفها

الختام: وهكذا ختمت صفحة من صفحات الحياة العملية والتي كانت حافلة بكل ما هو مفيد على المستوى العلمي، المهني، الشخصي، العائلي والوطني.