الايام الاولى
الولادة:
ولدت بتاريخ (7/5/1362هـ الموافق 11/5/1943م) في مدينة الكوفة لوالدين من آل الخليلي. علت الزغاريد في ساعة الولادة وأرسلت البشرى للوالد الذي حمد الله وأثنى عليه وتوجّه إلى مصلّاه وأخذ قرآنه الشخصي وكتب عليه في إحدى صفحات سورة البقرة عند الآية 256:
ما كتبه الوالد في صفحة من القرآن الكريم
“بمنـِّه تعالى” لقد منَّ الله عليّ من بعد أن وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً بمولود في شهر جمادي الأول في اليوم السابع ليلة الأربعاء بين الطلوعين من سنة 1362وقد سميته عبد الهادي وكنيته أبوالخير ولقبه “الموفق”
أشار الوالد (تولد عام 1900) إلى عظمِهِ الواهن والشيب الذي غمر رأسه وقد كان عمره في ذلك الوقت ثلاث وأربعين سنة فقط!!
تأريخ ولادتي شعراً: جرت العادة في المجتمع النجفي والعائلة في أن يثبّت تاريخ أي حدث ذي أهمية شخصية أو عامة مثل ولادة طفل، عقد قران، حدث اجتماعي أو سياسي أو غير ذلك بمقطوعة شِعر. وهذا فن تميز به بعض الموهوبين من الشعراء الذين لهم القدرة اللغوية مصحوبة بتطويع الحروف اللازمة لصناعة بيت شعر بليغ يؤرخ الحدث رياضياً.
تعطى الحروف قيمة عددية حسب الجدول التالي بتسلسل أبجد هوز ابتداءً من حرف الألف الذي قيمته واحد ثمّ حرف الباء اثنين وهكذا إلى قيمة العشرة ومن ثمّ يكون العدّ بالعشرات إلى مائة وبعدها يكون العدّ بالمئات حيث تكون قيمة الحرف الأخير (غ) الثامن والعشرين في الأبجدية الألف.
يكون حساب الأرقام كما في الجدول الآتي:
جدول القيم العددية للحروف العربية
تحسب سنة تاريخ الحدث بجمع القيمة العددية لكل حروف الكلمات في عجز آخر بيت في المقطوعة الشعرية والتي تأتي بعد كلّمة “أرّخ”، “أرّخوا”، “أرّخته”، “أرّخوه”، “أرّخت”، “أرّخه” أو “مؤرخاً”.
وفي هذا السياق ثبت تاريخ ميلادي شعراً حيث كتب الوالد مقطوعة تاريخ ميلادي من نظم الشاعر محمد كاظم آل الشيخ راضي على إحدى الصفحات البيضاء العديدة في مقدمة القرآن الكريم والتي تركها لكتابة ملاحظات تاريخية عليها.
ما كتبه الوالد في صفحة من القرآن الكريم
“لقد تفضل سماحة الشيخ محمّد كاظم آل الشيخ راضي بهذه الأبيات تاريخاً لولدنا عبد الهادي”
نِعمُ الله لا تزال علينا ** سابغاتٍ تعمّ كلّ العباد
إن من صُنعه الجميلِ إلينا ** أن حبانا بأجمل الأولاد
فجديرٌ أخي أن نشكر الله ** على فضلهِ مدى الآباد
من عيون الحساد صنه وأرّخ: ** بالإمام الهادي عَوَّذتُ هادي
فإذا ما جمعت القيم العددية للحروف في عجز البيت الأخير بعد كلّمة “أرّخ” سينتج الرقم 1362 وهو عام الميلاد. وهذا يقابل 1943 بالتاريخ الميلادي. فيكون يوم الميلاد في السابع من جمادي الأول 1362 الهجري يقابله في التاريخ الميلادي اليوم الحادي عشر من أيار عام 1943.
وهنا أعتقد أنه من المناسب أن أذكر تاريخ ميلاد وكنية ولقب إخوتي الخمسة المثبت بقصائد اخترت البيت الأخير منها الذي يؤرخ الميلاد. وللأسف لم يشمل ذلك التقليد الإناث وإنما اقتصر على الذكور فقط.
ميلاد ضامن: (كنيته علم الهدى ولقبه المنصور) الشاعر السيد محمّد جمال الهاشمي:
يبقى بظلك آمناً فادعُ الله ** وأرّخ: قل يحرس الله ضامن 1365 هـ (1945م)
ميلاد كافل: (كنيته أبو المحاسن ولقبه المؤيد) الشاعر السيد محمّد جمال الهاشمي:
عش سعيدا بهما ما عاش تاريخ: ** ذكر الحج في مقدم كافل 1367 هـ (1948م)
ميلاد صفاء: (كنيته أبو النصر ولقبه الرفيع) الشاعر محمّد الخليلي
ومذ لمولودك تاريخ: زها ** رأيت في العيش هناء وصفا 1368 هـ (1949م)
ميلاد فائق: (كنيته أبو الفوز ولقبه الساطع) ، الشاعر السيد محمّد الحسيني الحلي:
قال سل عنه أباه فهو أدرى بالحقائق ** سله لما أرّخوه: هل غدا في الحسن فائق؟ 1372هـ (1954م)
ميلاد أسعد:(كنيته أبو المفاخر ولقبه السعيد)، الشاعر محمّد الخليلي:
طاب جنباه وليداً من نجيبين تولّد ** جاء بالسعد فأرّخ: وغدا دهرك أسعد، 1375هـ (1955م)
حال العائلة: كان ميلادي حدثاً مرتقباً ومصحوباً بالفرح من الجميع ولكن بوجل وخوف بسبب فقدان الأهل المتكرر لولدين وبنت قبل ولادتي. الفقيد الأول كان اسمه محمّد رضا وقد سمي باسم جدي، وهو أخ غير شقيق من زوجة والدي السابقة التي توفاها الله مبكراً. توفى محمّد رضا وله من العمر أربع سنوات بعد أن سقط من شباك غرفة في الطابق العلوي من بيتنا تدعى بـ “الأرسي” والتي فيها شباك خشبي مزخرف والذي شاع استعماله في الغرف المطلة على الشارع أو على ساحة الدار الداخلية.
الغرفة "الأرسي" المطلة على الشارع
ارتطم رأسه بأرضية الشارع وفقد وعيه وتوفي بعد سويعات كما ذكر لي والدي بعد حين. توفي بعده أخ شقيق لي (مهدي) بعمر يقل عن السنة بسبب مرض أصابه. وكذلك وفاة شقيقة لي (زهراء) بعمر السنة لسبب مرضي كذلك. ومن غير المستغرب وفاة الأطفال في أربعينيات القرن حيث إن الطبّ لم يشهد تطوراً قي التشخيص والعلاج في تلك الفترة بالإضافة إلى عدم اكتشاف الأدوية المضادة للالتهابات مثل البنسلين.
سجل الميلاد: كان نظام الدولة العراقية المتبع في ذلك الزمن أن يثبت لأسباب تنظيمية إدارية واجتماعية تاريخ ميلاد العراقيين في الأول من تموز من كلّ عام لصعوبة التأكد من يوم ميلادهم الحقيقي. لذا أصبح تاريخ ميلادي المثبت في سجلات النفوس هو الأول من تموز عام 1943.
حُوَّر تاريخ ولادتي في استمارات إحصاء العام 1957 حيث كانت التعليمات في حينها أن من يقل عمره عن السبع عشرة سنة عند تخرجه من المرحلة الثانوية (الإعدادية) لا يقبل في الكلّية، وكان التقدير بأني سأحرم من الدخول إلى الكلّية فلهذا السبب أضيف عاماً لعمري في الاستمارة فأصبح ميلادي الرسمي هو الأول من تموز عام 1942 بدلاً من 1943.
بيتنا: يقع بيتنا بالقرب من مدخل الشارع الرئيس في محلة السراي الذي يصل نهاية المحلة بالسوق الكبير الذي يدعى سوق “ألبو شمسة”. تقع ما بين بيتنا ومدخل السوق عدة بيوت من بينها مسجد “بنت الملا” الشهير في المدينة. وفي هذا المسجد كانت تقام الاحتفالات الدينية والاجتماعية المهمة. و بالقرب من بيتنا يوجد عمود كهرباء في أعلاه مصباح كبير كنا نحن الأطفال نجتمع عنده كلّ مساء نتسامر ونلعب.
كان لبيتنا بعد أن تدخل من الباب الرئيس ثلاثة أبواب داخلية: إلى اليمين باب “الدخلاني” الذي يؤدي إلى حيث العائلة والذي على اليسار يؤدي إلى “البراني” حيث “عيادة” الوالد ومقر اجتماع الأصحاب، والباب الثالث يؤدي إلى الطابق العلوي الذي هو مكان استقرار الضيوف الذين يفدون من مدن أخرى، وفي الغالب لم يخل بيتنا منهم.
كان الفناء الداخلي للبيت (الحوش) مكشوفا أي بدون سقف. تطل عليه شبابيك غرف البيت الدخلاني. يحوي البيت سبع غرف موزعة على الأقسام الثلاثة للبيت.
يقع تحت الغرفة الكبرى في الطابق الأرضي السرداب إذ ينزل إليه بسلم بحدود عشر درجات وله نوافذ صغيرة تطل على صحن البيت. يأوي إليه أفراد العائلة في فصل الصيف بعد الغداء للقيلولة.
يوجد في السرداب ما يسمى “البادكير” وهو ممر هوائي يتصل من السرداب وحتى سطح البيت حيث يصعد بوساطته الهواء الحار إلى سطح الدار فالفضاء الخارجي فيلطف جو السرداب. ويزيد تلطيف جو السرداب في الصيف اللاهب استخدام المروحة العمودية. أتذكر كم كانت تلك المروحة تساعد على الاستغراق في نوم القيلولة بنسمة هوائها وبالصوت الهادئ المميز الذي تحدثه وهي تدور من جانب إلى آخر! وعند الاستيقاظ يلتذ الجميع بشرب الشاي. وحسب ما أظن كان شرب الشاي وفي ذات الوقت تقليد شاع بين كافة طبقات المجتمع في غالبية مناطق العراق.
ينام الجميع في فصل الصيف على السطوح بضمنهم الضيوف. للبيت ثلاثة أسطح مبلطة بمادة القير واحد في البيت البراني واثنان عالي وواطئ (ناصي) في الدخلاني.
ما أجمل ذلك النوم حيث تستمع بمنظر النجوم والكواكب ومجاميعها. كنا نرقب الدب الأكبر والأصغر والنجم القطبي وكتلة نجوم الثريا ومجموعة بنات نعش المبعثرة النجوم. يحضرني هنا بيت الشعر الذي ينطبق على ما حصل في حياتنا الحاضرة وهو:
وكنا في اجتماعٍ كالثريا ** وصَيّرنا الزمان بنات نعش
بيتنا الجديد: في سنة 1954 تحولنا من ذلك البيت الذي ولدت فيه والعديد من إخوتي وأخواتي إلى بيتنا الجديد الذي شيد حديثاً ويقع في منطقة تبعد ما يقرب نصف كيلومتر عن البيت القديم. كان أوسع بكثير من الأول وكانت لي فيه لوحدي غرفتي الخاصة. ولذلك البيت مدخلان منفصلان يؤدي الأول إلى البيت الدخلاني والمدخل الآخر يؤدي إلى البيت الملاصق (البرّاني) المعدّ للضيوف. ولم تكن هناك عيادة للوالد إذ انه ترك الطبابة وانصرف إلى تجارة الحبوب والتمر.
ذكريات خاطفة:
سقوط الثلج: أتذكر نزول الثلج في شتاء إحدى سنوات أواخر الأربعينيات. نزل لمرة واحدة فقط ولمدة قصيرة لم تتجاوز الساعة الواحدة. كان الثلج المتساقط على شكل وفر يتطاير، ولعدم رؤية ذلك من قبل كنا نعتقد بان ذلك الثلج كان قطناً متناثراً كما يحصل عندما يندف النداف القطن. وهي مهنة كانت شائعة في زمننا حيث ينفش قطن اللحاف القديم ويعود “اسفنجياً” كأنه صنع تواً. ولكنا اعتدنا على الحالوب (البَرَد) الذي كان يتساقط في الشتاء أحياناً.
الهّزة الأرضية: أذكر كذلك حدوث هزة أرضية خفيفة في الكوفة. كان ذلك في نهاية الأربعينيات أو بداية الخمسينيات ما سبب سقوط إحدى المساند الأربعة لخزان الماء الذي كان في باحة بيتنا الداخلية. وقد تدلى جانب من الخزان بسب ذلك وسال بعض الماء على الأرض.
الدكتور خليل جميل: رشح الدكتور خليل جميل الجواد وهو من أقاربنا للانتخابات العامة في العام 1954. ولتوسيع حملته الانتخابية كان عليه أن يتوجه إلى الناخبين في الكوفة ومدن أخرى تحيط بمركزه الانتخابي في النجف.
الدكتور خليل جميل الجواد (1924-1978)
طلب الدكتور خليل من والدي مساعدته في ذلك واستجاب الوالد بالرغم من عدم تعاطفه مع السياسة والسياسيين. أقيمت في بيتنا جلسة كبيرة إكراماً للدكتور حضرها عدد غفير من أهل الكوفة. وزعنا الشربت وتحدث الدكتور خليل في الجمع وكان مسروراً لما شاهده من تأييد. ولكن بالرغم من ذلك ولأسباب سياسية لم يفز لأنه كان معروفاً بانتمائه للحركة اليسارية وكونه أحد القادة فيها.