الدكتور الحارث عبد الحميد

مركز البحوث النفسية، جامعة بغداد (نشر في موقع المركز على الإنترنت) 2002

“الكتابة فن إبداع وموهبة . وهي تعبر عن ما في ذات الكاتب وضميره وعما  في ذات الآخر أيضا أيا كان هذا الآخر شيئا أو صورة أو كونا أو إنسانا . وجميل أن يطلب من الكاتب أن يطرح موضوعا أو يتناول حدثا أو يكتب سيرة لواحد من الأفذاذ ، لكن الأجمل أن يتناول الكاتب نفس الموضوع أو الحدث أو السيرة،، وهو محب وعاشق لما يكتب ، يستخدم الألفاظ ، ويطوع الكلمات ويوظف المعاني ، ويطلق العنان لقلمه أن يكتب ما يريد ضميره ووجدانه وعقله بانسيابية وتلقائية وفطرية وشفافية.

أيقنت بإيمان كامل، وأقسمت مع نفسي منذ زمن، أن لا أكتب إلا عندما تكتمل الصورة التي أريد الكتابةعنها، في مخيلتي وعقلي ووجداني وأن أكتب بعقلية ناقدة، تسأل وتجيب وتحاور في آن واحد، وأن أنقل إلى قارئي رسالة محددة ، قد لا تكون واضحة أو مباشرة، لكنها موجودة حتما بين السطور وفي جوهر الموضوع.

 انطلاقا من هذه الاسس، سأترك قلمي يتحدث بحرية وصراحة ومصداقية عن سيرة إنسان طالما تمنيت أن أكتب عنه،  ليس لأطريه أو أمدحه أو أوثق مناقبه وأعماله الجليلة،  بل لأنقل صورة حية لأجيال من القراء عن طبعه وخلقه وأدبه، لتكون درسا لهذه الأجيال في تأسيس نظام أخلاقي معرفي، نحن اليوم بأمس الحاجة لتأسيسه،، أكثر من أي وقت مضى، نظام ينبع من الأسس الأخلاقية في الإسلام، ويتطور وينمو بفعل مفهوم الأخلاق في تراثنا العربي الأصيل وبرؤية حضارية جديدة ومتجددة، تتفق ومنطلقات القرن الحادي والعشرين .إنه الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي، الطبيب الاختصاصي في جراحة الدماغ والأعصاب.

تعرفت على الدكتور الخليلي ، عندما كنت طالبا في السنة الأخيرة من كلية الطب جامعة بغداد وفي العام 1973م تحديدا ، فعرفته طبيبا حاذقا وجريئا ، حتى أصبح اسمه يتردد كثيرا على لسان طلبة المرحلة النهائية في الكلية ، مصحوبا بالثناء عليه والإعجاب به .

مرت السنوات حتى عام 1987م ، إذ كنت آنذاك أعمل في مجلس البحث العلمي ، فالتقيت به مرة أخرى حيث كان متواصلا مع المجلس حتى إلغائه نهاية عام 1989م مشاركا في مؤتمراته ، وندواته ، وحلقاته العلمية النقاشية .

زاد إعجابي بالخليلي في هذه المدة ، إذ أنه إضافة لعلمه ومتابعاته البحثية الجادة والجديدة ، كان مثيراً للآخرين،  بل لكل من تعرف عليه ، لدماثته ورقته.

كنت أشبه سموه الأخلاقي الرفيع بالنسمة الباردة الهادئة التي تمر عليك في ظهر يوم صيفي حار من أيام تموز ، فتجعلك تتنفس الصعداء وتسترخي جسدا وروحا ، لعذوبة هذا الرجل وشفافيته.

وفي عقد التسعينيات، وعند عملي في مركز البحوث النفسية التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، تضاعفت ساعات اللقاء مع الدكتور الخليلي ، وذلك من خلال المؤتمرات العلمية والندوات والمحاضرات التي كنا نحرص على حضورها معا ويوميا ، وكلما ازدادت عرى التواصل والتعارف مع الخليلي ، ازداد حبي وإعجابي به ، إنسانا أولا وباحثا وطبيبا ثانيا .

جمعتنا المهنة واحتراف البحث العلمي والمشاركة في إلقاء المحاضرات ، لأكثر من مناسبة ، فكان الدكتور عبد الهادي ، في جميعها مثالا للإنسان المبدع ، وعنوانا للباحث والعالم الدقيق والشجاع والمدافع عن جهده بلباقة وحصافة وذكاء وسرعة بديهية نادرة .

وفضلا عن هذه المزايا الرفيعة في شخصيته فهو كائن لا تمل من مجالسته مهما طالت ساعات اللقاء ، إذ يجمع بطريقة تلقائية ودون تكلف بين الجدية والصرامة من جهة وروح النكتة والطرافة من جهة أخرى وهذه الصفة نادرة بين الرجال ، أن تجمع بتوازنِ راق ومحبب بين هدفين مهمين في آن واحد دون أن يكون أي من الهدفين على حساب الآخر .

إن الدكتور الخليلي ، من أولئك الرجال الذين يفرضون عليك مهابتهم وحضورهم دون تكلف ، فهو جليل بطلعته، ونوراني الملامح سماته المورفولوجية تشير إلى السماحة والطيبة والمحبة من جهة والحزم والدقة والصرامة من جهة أخرى .

من يقترب من الخليلي جوهرا وسريرة يفاجأ أنه في خضم بحر هادىء يصعب سبر أغواره رغم وضوحه وجلائه وزرقته السماوية. فهو بسيط ومتواضع ومرن ومن السهولة بمكان التعامل معه، لكنه في نفس الوقت قوي وحازم ومنظم وملتزم. وبهذا تتمثل فيه صورة التوازن الانفعالي في أبهى وأرقى أشكالها ، لذلك فهو يتعامل مع الحدث أيا كان هذا الحدث أو الموقف، بعقلانية وروية وصبر وتأن وطولة بال وبعيدا عن الانفعال والتسرع ، دون أن يهمل الجانب العاطفي والوجداني المسؤول .

يبدو هذا الحضور واضحا وجليا ، عندما تتعامل مع الخليلي ، فعلى الرغم من هدوئه ، ودماثته وعقلانيته في اتخاذ القرار ، إلا أنه يبدو متحمسا ومشبعا بالعواطف والوجدانيات التي تنساب سخية من محياه ، فتقبل قراراته حتى وإن أتت تخالف في طروحاتها قراراتك أو آراءك ، لأنه يجبرك على الأخذ بها ليس عنفا أو قوة أو تسلطا ، وإنما طواعية وحبا .

وهنا تبرز لدى الدكتور عبد الهادي قدرته على الامتناع بشكل متميز ومتالق في آن.

انطلاقا من هذه الأسس السلوكية الحميدة والفاضلة التي نلمسها في شخصية الخليلي ، نتطرق إلى الرسالة التي نبغي بثها إلى الاجيال الصاعدة من خلاله ، وذلك هو موضوع الأخلاق .

فمنذ بدايات التكوين في شخصيتي ، وموضوع الاخلاق يشدني ويأسرني ، فقرأت عنه الكثير وشغفت بتاريخ الأخلاق عبر الشعوب والأمم والأديان .

دون مغالاة أو مبالغة أو تبجح أوإطراء، وجدت أن الدكتور عبد الهادي الخليلي يصلح اأن يكون أنموذجا بشريا ، يحتذى به ، في مجال علم الأخلاق .

فلواستعرضنا قيم الأخلاق الفاضلة والحميدة في تاريخ العراق القديم ، ومنهج النظم الأخلاقية الذي بشرت به الأديان السماوية ، ومنظومات الأخلاق التي تدعو إليها المذاهب الآيديولوجية الإصلاحية المتمدنة ، نجد أن الخليلي يجسد وبجدارة وعفوية وتلقائية أجمل منهج أخلاقي متكامل ومتوازن إلى الدرجة التي تستحق الدراسة والتحليل من لدن الباحثين والدارسين في ميدان العلوم المجتمعية والإنسانية .

إن المنظومة الأخلاقية للخليلي تنطوي على مجموعة من القيم والمفاهيم والاتجاهات والاستعدادات ، يصعب حصرها إلا من خلال مشروع بحثي علمي مسيطر عليه .

يمكن تقسيم هذه المجموعة عجالة إلى :قيم في الاتصال ، قيم في التواصل ، قيم في الأصالة ، وقيم في العمل.

فعلى مستوى الاتصال مع الآخر، هو : طيب ، كريم ، محب، متواضع، مسامح وغيور. أما في الأصالة، فهو: ودود يحمل تراث أجداده بشمم وغبطة وبمسحة مدنية وحضرية، كما يحمل هموم تاريخ شعبه وأمته وأرضه وترابه ، بإصرار وإباء وشجاعة وصبر.

وللعمل عند الخليلي قيم متوازنة ومتطورة وملتزمة دائما ، فهو: حريص، دقيق، تواق إلى الجديد والمبتكر والمبدع، ولا يرضى بأنصاف الحلول إنما يبحث دائما عن كل الحقيقة. متأن وصبور في العمل، لا يستعجل النتائج بل يبحث عنها في خضم المشكلات. يبذل جهدا كبيرا في أن يكون السيد محب في عمله ولمن يعمل معه.

فهو رحوم، كريم، معطاء لمن هم في معيته، لا يبخل عليهم بشيء من فيض ما أعطاه الله جل وعلا من علم ومعرفة ودراية ” يقول أ.د. حسين علي محفوظ عن الأسرة الخليلية:

“والأسرة الخليلية التي نحيي اليوم واحدا من أبنائها البررة وعلما من أعلامها الأفذاذ أنموذجا رائعا لأولئك العظماء الذين تعطر بهم سمع التاريخ واستضاء بتذكرهم أسفاره، فمنذ أن بزغ نجم شيخها الخليل قبل أكثر من قرنين في هذا البلد الأمين والأسرة تشق طريقها إلى مختلف مجالات الحياة العلمية والعملية بخطى واثقة، وتترك بصماتها واضحة، بما وهبت عقول أبنائها من علم وأدب وبما احتضنت نفوسهم من سمو ورفعة وبما جبلت عليه طباعهم من إخلاص ووطنية”

مما تذكره المصادر أن الخليلي كان من طلاب الفقه ، وصادف أن ابتلي بمرض عضال وبعد أن شفي منه قال: إن العلم الذي يخلص الإنسان من براثن مثل هذا المرض ، لجدير بالتحصيل والمعرفة بحكم العقل والحس، ومن هنا كانت بداية رحلته في دراسة الطب، والإبحار في مسالكه، حتى أصبح من كبار أساتذته وممن يشار إليه .

وكتب أبو الأسرة الخليل الطبيب أرجوزة رائعة ، ضمنها الكثير من الفوائد والمعلومات ، وهي تكشف عن مدى تمكنه من اللغة وامتلاكه لناصية الأدب ، وقد أثبتها الشيخ محمد الخليلي في ( معجم أدباء الأطباء ) يقول فيها مشيرا إلى أدب الطب والطبيب :

يختار الطب سليم العقل
كامل خلقة عريق مغرس
يسر من رآه هشا بشا
نسبته للناس بالسواء
لا يطلق المقال كيفما يشا
عفيف عين وعفيف مسمع
وليأخذ الصدق له شعارا

 عف اللسان ذا تقى ونبل
جميل هندام نظيف ملبس
لم يخلُ قلبه هوى وغشا
مشخصا للداء والدواء
ولا تميل نفسه للارتشاء
لأنه يدخل كل مخدع
إلا إذا جاوزه اضطرارا

وحين نذكر أسلاف الدكتور عبد الهادي الخليلي ونحي مآثرهم إنما نشير إلى عاملي الوراثة والبيئة اللذين خلقا منه عالما دؤوبا وأستاذا قديرا وإنسانا رائعا .

أهم نشاطاته العلمية:

  • تدريس طلبة الطب في كلية طب بغداد والمستنصرية والتمريض والدراسات العليا .
  • نشر ما يزيد على( 30 ) بحثا في مجالات علمية محلية عربية وعالمية .
  • المشاركة الفعالة بإلقاء بحوث في (60 ) مؤتمرا علميا محليا وعربيا وعالميا .
  • الإشراف على إطروحات ماجستير لأطباء ومهندسين واختصاصيين .
  • إمتحان العديد من طلبة الماجستير بوصفه رئيس لجان أو عضو فيها .
  • إلقاء محاضرات في محافل علمية مهنية محلية وعالمية أهمها : محاضرة في مستشفى مورفيلد في لندن وهو أهم معهد عيون في بريطانيا ، كلية طب هامر سميث في لندن ومستشفى ابن البيطار في بغداد ومحاضرة موسم البحث وغيرها .
  • إستنباط آلة جراحية باسم ( الآلة البغدادية ) لاستخراج الأكياس المائية.
  • إدارة و إقامة ندوات علمية مهنية : الخلية السرطانية ، دورة أربعة أيام في جراحة الطوارئ اشترك فيها سبعة اختصاصين أجانب ، مؤتمر السرطان والبيئة وهو مؤتمر عربي ، والمؤتمر العالمي عن الأكياس المائية .
  • ترجمة كتاب منهجي عن فحص الجهاز العصبي .

من الأعمال التي يفخر بها هو استحداث عيادة محجر العين وليس لمثل هذه العيادة وجود إلا في البلدان الغربية.

وللدكتور مشاركات علمية عديدة في مركز البحوث النفسية منها بحثه الموسوم ” قدرات العقل البشري المستقبلية ” الذي اشترك به في المؤتمر العلمي السنوي الخامس في الباراسايكولوجي في 24/ كانون الثاني/ 2001 م .

ومن مفارقات الزمن ، فقد تعرض الدكتور الخليلي إلى عمليتي خطف وايذاء  عام 2004 م من قبل عناصر مجهولة ، يبدو أنها لا تعرف أصل الخليلي وجذره وعطاءه وحبه لوطنه والتصاقه بتراب أرضه ، ما عجل به إلى مغادرة العراق مع أسرته الكريمة الطيبة .. وهو يعيش الآن معززا مكرما في كندا ، دون أن ينسى العراق وأهله.

الدكتور الحارث عبد الحميد مدير مركز البحوث النفسية (1950 – 2006)

الأستاذ حميد المطبعي

عبد الهادي الخليلي: عبقرية السلاله، عبقرية العقل

جاء إلى الدنيا وهو يعمل في الإيحاء، وتفتحت ذاكرته في الإيحاء، ولما انشدّ إلى عالم الطب تذكر أن إيحاء سلالته الطبية كان يرسم له تذكرة على شكل حلم متصل، وصار الحلم في لحظة الممارسة الطبية وعياً وتقدماً في الوعي، وتساؤل: فهل ينبغي عليَّ أن أشرب من نهر السلالة دائماً وأجتاز حداً من حدود هذا النهر العطاء وأين ستكمن مقدرتي.. صحيح حلمه، وصحيح كل تخيلاته، فقد رُزق العراق منذ عشرات السنين بسلالة عربية الجذر هي سلالته كانت اتخذت الطب وسيلة فكر وعقل لانتشال الإنسان من وجعه وألمه ومرضه، وولد في أعماقها أطباء تجاوزوا الخمسين أو اكثر جمعوا جميعهم بين العلم والفقه والتداوي والشفاء ولهم في خزاناتهم كتب ورسائل ومخطوطات تتحدث عن الطب وأعشاب تصنع للشفاء، ولما ولد عقل الطبيب الحاذق عبد الهادي اكتشف أنه ابن السلالة الخليلية الطبية، وتأمل في هذا الكم الهائل من التاريخ الطبي يرفرف على أكتافه وقال: كيف سأنقل أمانة سلالتي إلى الجيل المتعاقب وأطببه بالروح نفسها التي كانت عند أجدادي، ثم مشى وإذا كل دروب الطب تنعقد عليه، وإذا هي ساعة الولادة تجرى وعبد الهادي يتسم ذرى المدارج الطبية ويدخل اسمه في موسوعات مشاهير الأطباء في وطن عربي وفي دول هي من خارج حدودنا، وبعد لحظة استراحة في هذا البحر إن تنهد وتمتم قائلاً: اليوم خطّت يدي أمانه أجدادي في نشر الطب أو في تساميه إلى الهرم المطلوب.. هي إذن قصة هذا الطبيب الخليلي عبد الهادي الذي جاء إلى الدنيا وفمه مملوء بآيات الطب وإبداعه وأعماقه تنضح بكل شيء يدعو إلى التقدم في الطب وفي حقوله. أحدثكم عنه يوم اكتشف الحلم وجعله نبوءة حقيقية، أحدثكم عن عقله الذي يتحرك كالبوصلة حتى في السبات، أحدثكم عن إنسان نبيل في شمائلهِ يقبع في نياطه ويقتات على الزهد وحده، وأي إنسان هو، هو الذي رأى العمق فحفر فيه مجراه العذب، هو الذي ما أن تلاحظ عينيه، تلاحظ عالماً يتموج في ابتكاراته وحممه التي لا تهدأ لحظة، ومع كل هذا الفيض الذي يتجلى فيه والعبقرية التي تجري على جناحية نراه وقد جلس على عرش التواضع أميراً تصلى خلفه نبوءات وقدرات لا ساحل لها، وقد جلس يتذكر أن علمه كلما فاض، فاض هو بتواضعه، فاض وجداناً فيه متعة الروح وفاض وقاراً هو حتماً وقار أبقراط القديم الذي فيه العبقرية بقدر التواضع وفيه سمو العقل على مستوى إرادته الحية، وها نحن نرى أبقراطنا الخليلي يعيد لنا اليوم ذاك النسيج التاريخي ذاته، فيعلو كلما علا فيه جناح من تدفق النبوغ، ويسكن في بيت الفضيلة كلما رأى الفضيلة تزدحم على رؤاه. فلا عجب إذن أن يأتي محبوه إلى هذه القاعة ليأنسوا به وبمجد شهرته، ولا عجب بعد كل هذا أن يجلس هو مزهواً في كرسيّ إبداعاته وشهرته ويرمقنا بعيون تفيض خيراً وبركة وقلباً ورائحة أجداد، ونحن إذ نرتمي على خياله وزهوه، في هذه اللحظة المباركة من فوزه، لا يسعنا إلاّ أن نعرب عن اعتزازنا بالجامعة العراقية التي خرّجته ظافراً إلى الأبد، وببلده العراق الذي ما فتئ يخرّج جيلاً بعد جيل من أجيال العقل والحلم والتبصرة…

فخذ أيها الخليلي هذه الثمرة المشتهاة وأنت مفعم بسلام القلوب..

وخذ من أولئك وهؤلاء دعاءهم بأن تكون دائماً في أول الركب تحدو بنا إلى حيث يحدو العراق في معارج التقدم والانتصار..

حميد المطبعي (1942 – 2018)  1997م

الدكتور حميد مجيد هدّو

(( الحكيم الخليلي… ألقٌ بين الإنسانية والعلم))

حين نتحدث عن الرجال فحديثنا صدىً لقيم الرجولة التي يحملها أولئك الرجال حتى يكونوا أعلاماً شاخصة على قمم المجد السوامق يشار إليها بالقلوب بدل البنان. وهل رجل الساحة العلمية اليوم غير العلاّمة المتوهج علماً وإبداعاً.. المتألق في دنيا المعرفة الموسوعية… المتحدّر من أصلاب أولئك الأفذاذ من آل الخليلي الذين أصمّموا أذن الدنيا بالضجيج على مدى قرون خلت… أولئك الذين آسوا الجراح، وتمثّلوا هموم الناس فأحبهم من عرفهم ومن لم يعرفهم حتى لقد صار التسمّي بهم، أو مصاهرتهم والانتساب اليهم مَعلماً من معالم المجد الاجتماعي يتمنّاه كل إنسان.

جميل جداً أن تتوارث العائلات والأسر عِلماً من العلوم، وكانّه ميزة ميّزها الله بذلك العلم دون غيرهم من الأسر، فكم قرأنا عن عائلات طغت الفقاهة أو الشعر أو الأدب أو المنطق والكلام او الفن ـ أي فن ـ أو التجارة أو الحكمة على جل أفرادها، فامتازت في المجتمع من بين الأسر بتلك الميزة أو الموهبة التي أنعم الله به عليها، وإن كنّا لا نذهب المذهب القائل بأن الحكمة (الطب) في هذه الأسرة جملة من الأسرار المتداولة والمحفوظة والمحتكرة كما كان عليه الطب قبل (أبقراط) في تلك الحقبه الزمنية التي كانت فيه هذه المهنة من الأسرار الخفيّة بين الآباء والأبناء يتعلمها الصغار من الكبار بالرموز والألغاز والتدريب غير المدوّن كي لا يفهمه الآخرون. ولا يستطيع علم دراسة الأجناس البشرية (الانثروبولوجيا) أن يضع أقيسة دقيقة ومتوازنة لهذا الميل الأسري إلى جانب محدود من العلم دون غيره حتى لكأنّ قوانين مندل في الوراثة ترتسم واضحة في ذلك الاتجاه فيكون مَيل تلك الأسرة إلى ذلك الجانب من العلم صفة متغلبة نقيّة تنتقل بالجينة والكروموسوم (والأمر ليس كذلك) لتنطبق عليها قوانين الوراثة. هكذا يخيّل لمن يدرس تلك الأسر المتميزة المختارة.

الأسرة الخليلية الثقفيّة التي خدمت أبناء العراق كله وفي أحلك الظروف في أكثر من قرنين من الزمان، نبغ فيها أكثر من سبعين حكيما عربيا قديما وأكثر من ثلاثين طبيباً أكاديمياً من خريجي معاهد الطب الحديثة، فضلاً عن جمهرة من المجتهدين في الدراسات الفقهية والإصولية والعلوم الطبيعية الحديثة. ويعتبر الحجّة الشيخ حسين الخليلي المتوفى 1326هـ /1909م في مقدمة أولئك الرجال الأفذاذ الخالدين وهو العلم البارز من بين الذين ناصروا ودعوا إلى الديمقراطية من خلال جماعة (المشروطة) وحارب الاستبداد فكانت لآرائه أصداء طيبة في المجتمع، كما أشارت الوثائق السياسية التي أرخت لتلك الحقبة العصيبة. وكانت لهذا الإمام الراحل مبرات كثيرة منها تأسيسة لمدرسة دينية كبرى ظلت مركز إشعاع فكري قرابة ستة عقود من الزمن، ومن أعماله الخيرية التي تذكرها مصادر تاريخ النجف في مفتتح القرن العشرين هو سعيه لإيصال مياه الشرب من الفرات إلى مدينة النجف بعد أن كانت الآبار هي المصادر المعتمدة في ذلك.

وصف الشيخ جعفر محبوبة الأسرة الخليلية في كتابة: ماضي النجف وحاضرها (جـ 3/ صـ 220/ طـ 2/ ) بقوله: “عليهم تدور رحى المعالجة والتداوي، وهم خبراء نطاسيون ماهرون وكانوا محل وثوق واطمئنان عند أهالي النجف وهم أرأف بها من الأم الحنون، يرحمون الكبير، ويعطفون على الصغير، ويصلون الفقير بأموالهم…”.

من بين هؤلاء الفضلاء الأعلام الذين أنجبتهم الأسرة الخليلية اليوم هو الحكيم الموهوب الأستاذ الدكتور (عبد الهادي الخليلي) نجل الحكيم العربي والعشّاب المشهور في مدينة الكوفة وأطرافها الحاج محمد صالح المتوفى 1978م والذي اقترن اسمه بالجهد المتميز الذي نهض به في معالجة المصابين بالهيضة عام 1931م فيذكره أهالي الكوفة والنجف كلما ذكرت سنة الوباء تلك.

إن الطب عند الخليلي علم وفن وأخلاق يرتبط بالإنسان وإنسانيته مباشرة … بحياته ووجوده… بأفكاره وسلوكه. والطب فن لأنه يعتمد على إسلوب خاص في التعامل الإنساني بين الطبيب والمريض وذوي المريض. هكذا يجمع الطبيب القدوة بين العلم والخلق والتقوى، ولأن العلم علمان كما يقول القائلون: علم الأبدان وعلم الأديان وكل واحد منهما يشكل ركيزة للآخر، فإذا كان عالم الأبدان متجرداً من الإيمان وبعيداً عن المنهج الروحاني كان علمه ناقصاً لأن جراحات الأبدان لا تختلف عن جراحات الأديان. وتأسيساً على ذلك فالعلم والخلق والتقوى هما الأشافي التي يرتكز عليها الطبيب الإنساني الحق في عمله وهي لازمة من لوازم نجاحه وسموه وإخلاصه وهكذا كانت هذه المرتكزات هي السمات التي بنى عليها الدكتور الخليلي نظام حياته وطبيعة مسيرته المهنية والاجتماعية والسلوكية العامة وهو ما سنجمله في الحديث الذي دار بيني وبين تلامذته طلاب الدراسات العليا في المستشفى التي يشرف فيها على طلابه من الأطباء الجدد.

إن الطبيب النطاسي القادر على إنجاح مهمته العلمية هو الذي لا يقف عند حدّ معيّن في الدرس والبحث والمواصلة مع المستجدات الحديثة في مجال الدراسات الطبية ولم يعتمد على العلم المجرد أيضاً بل يخرج بين ما هو حاصل وموجود، وبين ما هو آتٍ ومستحدث ويخرج هذا العلم التجريبي والتطبيقي والنظري مع تجارب الحياة المستمدة من واقع المجتمع والبيئة والظروف العامة، وهذا ما هو حاصل عند الحكيم الخليلي.

أما إسهاماته في التأليف والبحث فقد أنجز كتابين نافعين في مجال تخصصه هما: المعجم المختص في المصطلحات الطبية العصبية (إنكليزي ـ عربي) مطبوع في بغداد 1992م، والكتاب الآخر هو: الموجز المصور لفحص الجهاز العصبي، مطبوع في بغداد أيضاً 1992م.

ويضع اليوم اللمسات الأخيرة على تأليف كتابه: الجراحة العصبية باللغة الإنكليزية. وتعهدت منظمة الصحة العالمية في طبع كتاب له: دليل علاج إصابات الرأس وسيصدر قريباً. ومن كتبه التي اعتمدت في الدراسات العليا هو كتابه الموسوم بـ الدليل لكتابة الإطروحة العلمية (بالإنكليزية).

         أما المواهب الاخرى التي تميّز بها الدكتور عبد الهادي فتتمثل في قدراته على استثمار الحاسوب في المجال الطبي وما توصلت إليه الجهود الطبية  في أرقى المؤسسات الطبية في العالم لتكون برنامجاً جاهزاً قد  يستحضره متى شاء ويتعامل معها بدقة علمية. ومن مشاريعه البحثية الرائدة في مجال التقنيات الهندسية الطبية والتي تعتبر من الموضوعات المبتكرة في العراق فقد أشرف مع أخيه الأستاذ ضامن الخليلي من قسم الكهرباء في الجامعة التكنولوجية (1979م) على إطروحة ماجستير مقدمة من طالب دارس في موضوع: التغذية العكسية للدماغ كأساس لعلاج نوبات الصرع الشديد، وتعتبر هذه الدراسة من الدراسات الرائدة الحديثة. كما أشرف على رسالة علمية في استخدام الحاسوب في تشخيص الظهار (آلام الظهر) عام (1985م) بالاشتراك مع الدكتور سلام ناصيف رئيس قسم علوم الحاسبات في كلية العلوم بجامعة بغداد. ومن أعماله العلمية ومنجزاته البحثية المعرفية أنه أجرى تجارب طبية مع فريق استشاري هندسي يقوده أستاذ عراقي هو الدكتور غسان تحسين لابتكار طريقة لعلاج الصرع كهربائياً، وبسبب ظروف الحصار تأخر إنجاز المشروع. ونظراً لإنجازاته وتقديراً لجهوده شمُل بقانون رعاية العلماء بدرجة (أ) لعام 1999م، وانتخب عضواً في لجنة البحوث الطبية في منظمة الصحة العالمية والتي مقرها في الإسكندرية بجمهورية مصر العربية.

لا بأس أن أورد ملخصاً لما حدثني به مساعدوه وعدد من طلابه في الدراسات العليا في كلية الطب بجامعة بغداد موضحين تصوراتهم وانطباعاتهم وشارحين مبرّرات أساتذتهم وما تعلموه منه في اكتساب العلم والبحث والسلوك المهني:

أنه يأتي مبكراً إلى المستشفى قبل غيره ويتفقد المرضى ويسأل عن أحوالهم ويناقش طلابه ويتحاور معهم ويوفر لهم المجلات المتخصصة والكتب الحديثة وذلك عن طريق التصوير حيث سعى وبجهوده الشخصية إلى توفير جهاز استنساخ من أحد أصدقائه الميسورين ووضعه بمتناول طلبته يستنسخون الأبحاث بالمجان وهذا جزء من احتضانه لطلابه ومتابعته لدراساتهم. كذلك استطاع أن يدعم المكتبة الصورية ويزودها بالأفلام الطبية الحديثة والتي تصله بصورة شخصية أو يحصل عليها أثناء انعقاد المؤتمرات الطبية في الخارج وبذلك استطاع المحافظة على المستوى العلمي والتنظيمي في ظل الظروف الصعبة. إهتم وبحرص شديد على طبلات المرضى لمساعدة طلابه الأحد عشر في إجراء أبحاثهم ودراساتهم لنيل شهادة البورد واتباع أحدث الوسائل الجارية في المؤسسات الطبية الحديثة في العالم. وأخيراً يواصل بذل مساعيه من أجل استضافة الأطباء العلماء الأجانب ودعوة المغتربين العراقيين لإلقاء محاضرات على طلابه من أجل تطوير معلوماتهم وتمكينهم من النجاح في دراساتهم وقد أثنى على جهوده كل الأساتذة الزائرين لما وجدوه من حرص الأستاذ وإخلاص الطالب الذي استمده من أستاذه الذي لم ينفك في تغذية تلامذته بالجديد والقيم من البحث الطبي ولم يبخل عليهم بما شاهدوه وبما قاله الآخرون في مؤتمرات العالم ليغذي بها طلابه أسوة بما كان يفعله العلماء العرب في بيمارستاناتهم (مستشفياتهم) ومع طلابهم حينما آثروهم على أنفسهم وأنزلوا طلابهم منزلة حسنة ومقابل ذلك فعل التلميذ مع أستاذه الحكيم، ولنا في الزهراوي وابن النفيس وأضرابهم أمثلة حية.

وأما المواهب الأخرى التي حازها والتي تعتبر خارج دائرة اختصاصه فهي متعددة، فللأدب سهم وافر فيها، وللثقافة العامة ومتابعة تراث العرب في الطب والحكمة والتاريخ فله سهم وافر، وحتى القضايا المتعلقة ببعض الأحكام الشرعية في مسائل ناتجة عن عمله الطبي التخصصي فمثلاً موضوع موت الدماغ وهو موضوع طبي لكن تبنى على ذلك مسألة تتعلق بحكم شرعي مهم هل أن موت الدماغ يعني موت الإنسان؟ أم لا؟ فلكل جواب حكم، وقد استطاع وبقدرة فائقة أن يبني في دراساته العلمية الطبية بخصوص هذه المسألة احكاماً شرعية استطاع فيها أن يستخلص آراء الفقهاء في هذه القضية وهذا ليس بالأمر الهيّن بأن يجتهد في مسألة تخص غيره ولكن اطلاعه ومتابعاته الكثيرة وتنقيره في بطون الكتب الفقهية تمكن من أن يورد آراء الفقهاء في مثل هذه المسألة الطبية والشرعية في آن واحد. وعلى العموم فكتاباته بالعربية تعدّ النموذج الحي للأسلوب الأدبي الرصين، ودقة التعبير، وحسن اختيار المفردة، وسلامة العبارة، و وضوح الفكرة، ويمكن استشراف ذلك من خلال حديثه العابر الشفوي الذي ينساب كالسلسل العذب فيفرض فيه على محدثيه احترامه ويشدّه إليهم حديثه السلس شداً يشتاق السامع لإتمامه ولا يملّ من صعوبة مصطلحاته وثقل مفرداته… إنه جملة مواهب… باقة أخلاق… حزمة كمالات إنسانية… سلسلة أمجاد ذهبية… منجم عادات وتقاليد وتراث سامق ليس بالمستطاع بلوغ قممه… ذلك هو الإنسان المواسي لكل المرضى، والمخفف عنهم آلام معاناتهم، والمطبب جراحاتهم بمبضعه، وروحه، وسلوكه، وإنسانيته… إنه العقل الراجح والبصيرة النفاذة.

الدكتور حميد مجيد هدّو (1945 – ….) /1999

الدكتور أديب الفكيكي

مستل من كتاب أعلام الطب العراقي الحديث، الجزء الثاني.

ـ الخليلي الدكتور عبد الهادي محمد صالح ـ

أخلاق سامية، وطبع هادئ، وتواضع يغلب عليه الخجل والحياء وعلم ثر. جمعت خصال العلماء الأجلاء في هذا الإنسان الذي كُني منذ ولادته “بأبي الخير” ولقب “بالموفق” وسمي عبد الهادي الخليلي. فشاء الله سبحانه أن يكون خليلاً موفقاً للعلم وللناس وللطبّ العراقي الحديث. ونشأ ابو الخير طبيباً على غرار ما نشأ عليه  الأطباء المسلمون الأوائل. فعاصر أبيه الحكيم محمد صالح الخليلي الذي زاول الطب العربي الشعبي في الكوفة وتعلم عليه أهم قاعدة في الطب تلكم هي العلاقة الإنسانية الخليلية بين الطبيب والمريض. أي طبيب، إن لم يؤمن عقلاً وعواطفاً إن الذي بين يديه إنسان مثله، لا آلة بحاجة إلى تصليح، يفقد أهم ركن من أركان الطب البشري، مهما يكن غزير العلم وبارع الصنعة. ولذلك لم يخلد التاريخ ممن يمتازون بهذه العقول والعواطف إلا أنفاراً معدودة من بين آلاف الذين مارسوا الطبّ.

وآل الخليلي عائلة عراقية استوطن أكثر أفرادها مدينتي الكوفة والنجف. اشتهر رجال هذه العائلة منذ القدم، بشغفهم بالعلم والمتابعة، وبفنون الأدب، وبنظم الشعر، وبالطب. وقد برز من بين أطباء مهرة، فسلفهم الأول الطبيب المشهور الحارث بن كلدة الثقفي، ورأس أسرتهم الخليل بن علي بن إبراهيم الرازي النجفي الثقفي، وكان طبيباً حكيماً وشاعراً مبدعاً نظم في زمانه إرجوزة تناهز الألف بيت يلخص فيها الطب وفنونه، ومن أبياتها قوله:

فنسبة الطب إلى العلوم            كنسبة البدر إلى النجـوم

فلا تقس العلوم البائية             وما الذي تقيسه بالعافية

مارس الطبّ من بعده أولاده وأحفاده. وكانوا إلى جانب حذقهم في صنعة الطبّ، سباقين لفعل الخير، ولهم مشاركات بينة في إنشاء المعاهد الخيرية والمشاريع الإروائية، ويذكر أبناء النجف دور المرحوم حسين الخليلي في إصلاح فناة النجف عام 1901 ميلادية. وفي عصر النهضة الحديثة شاركت هذه الأسرة في ثورة العشرين الخالدة بشخص المرحوم عباس الخليلي الذي حكمت عليه  بالإعدام السلطات العسكرية البريطانية. ومن أبناء جيلنا برز المهندس السيد رجاء الخليلي مناضل صلب ومن قادة الحركة الطلابيه الوطنية القومية البعثية التي تصدت لزمر الشعوبية في عهد عبد الكريم قاسم وناضلتها. وبعد تأسيس الحكم الوطني في العراق، سارع رجال هذه العائلة إلى ميادين الثقافة والتعليم والشعر والأدب، فيسروا السبل أمام الأدباء والمتأدبين والباحثين والمتتبعين وساهموا في تصميم المعرفة ونشر الثقافة بين الناس، فبرز اسم الأديب اللامع والباحث المتمكن الأستاذ جعفر الخليلي، حيث أصدر في العصور الأربعة من هذا القرن عدداً من الصحف الأدبية العلمية، منها جريدة الفجر الصادق ثم جريدة الراعي، ثم جريدة الهاتف في النجف التي كانت منبراً لكبار الأدباء والكتاب والشعراء العراقيين والعرب كالخطيب اليعقوبي والفكيكي وحسين مروة والشاعر الحبوبي والبلاغي وغيرهم وأمثالهم رحمهم الله جميعاً. وللأستاذ جعفر الخليلي إلى جانب ذلك الموسوعة الأدبية (هكذا عرفتهم) التي تعتبر من روائع السير الأدبية التي أصدرت في عصرنا الحالي وهي زاخرة بسير أدباء العراق وأخبارهم وإنتاجاتهم ومواقفهم.

برز في زماننا من بين أبناء هذه العائلة إلى جانب الدكتور عبد الهادي طبيبان آخران هما الدكتور حسين الخليلي والدكتور أحمد الخليلي وسنأتي على استعراض سيرتهما إن شاء الله.

إنك لتجد في سيرة الدكتور عبد الهادي درساً مفيداً للشباب في الإصرار والتصميم على تحقيق الطموح العلمي المشروع وتحمس بروح المثابرة المتسمة بالجهد والصبر لنيل ما يصبو إليه الإنسان من مكانة علمية مرموقة بين الناس. ويكفي أن نقول أنه انتمى إلى الأسرة التدريسية بعنوان مدرس عام 1976م ونال كرسي الأستاذية عام 1988م وخلال هذه المدة الوجيزة لابد وأن يكون أبو الخير موفقاً في تقديم جديد إلى العلم وابتكارٍ حديث في الطب أهلّاه لأن يفوز بالأستاذية ولما ينه عقده الخامس بعد من عمره المديد. فوجدنا أن جامعة عين شمس المصرية تعترف له بستة بحوث أصيله بقول رئيس قسم جراحة الأعصاب والدماغ في جامعة عين شمس معقباً على البحث الأول (بأنه يخدم بطريقة عملية وفعالة مجالا لم يطرقه أحد محلياً وقليل عالمياً) ويقول عن البحث الثاني (بأنها تجربة جديدة لم يسبق استخدام هذه الوسيلة في التجارب المماثلة من قبل وإن الموضوع جديد جداً ويبشر بنتائج مأمولة). ويعقب على الثالث بقوله: (إضافة كبيرة واستنباطات واحتمالات لمستخدم تقني كوسيلة جديدة هي الفحص الطبقي المحوري في أكياس محجر العين المسبب للجحوظ). وعن الرابعة يقول: (دراسة استرجاعية مستفيضة لهذه الحالات غيرت آراء سابقة عن أسباب تكوين التشوهات الشريانية وعلاقتها بضغط الدم المرتفع ونسبة الوفيات في مثل هذه الحالات). وعن الخامسة وهي التي تتعلق بالفحص الشعاعي المقطعي في التشخيص بانها دراسة أصيلة. وعن السادسة يقول: (هذه المجموعة المشتركة في البحث ومنهم الدكتور الخليلي من الرواد في قياس الضغط داخل الدماغ واستخدام الكمبيوتر. فيه الأصالة والابتكار). وعن المقالة السابعة يقول: (التجربة جديدة وجميع وسائل البحث أصيلة وأغلبها محلي الصنع والبحث أصيل ومبتكر). وعن البحث الثاني وموضوعه (موت الدماغ) يقول: (مثال ممتاز تفصيلي ودقيق وتعليمي وطبي وقانوني من الدرجة الأولى. الأصالة هنا هي محلية التعريف والتطبيق وما يناسب مجتمعنا وديننا وفيه تقديم بل تشجيع لنقل الأعضاء).

ووجدنا لرئيس قسم جراحة المخ والأعصاب في جامعة عين شمس المصرية رسالة موجهة إلى الدكتور حمدي عبد العزيز المساعد العلمي لرئيس جامعة بغداد يقول فيها (يسعدني أن أشهد بالقيمة الكبيرة للجهود المبذولة من الدكتور خليلي في مجال جراحة المخ والأعصاب بالعراق الشقيق سواء بالتعليم ومشاركة تخصصات أخرى ومجالات أخرى. أما بخصوص أعماله وأبحاثه فهي في مجموعها تؤهله للدرجة المتقدم لها بل نفخر به في مقدمة صفوف جراحي الأعصاب بالشرق الأوسط. وأرجو أن تقبلوا خالص تحياتي واحترامي وأود أن أبلغكم باستعداد قسم جراحة الأعصاب بكلية طبّ عين شمس بالتعاون مع جامعتكم دوماً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

ثم وجدنا الدكتور الخليلي ناشراً لإثنين وأربعين بحثاً ومثالاً خلال الفترة بين الأعوام 1977 ـ 1990م وكلها كانت قد ألقيت في مؤتمرات علمية قطرية وإقليمية وعالمية وله أحد عشر مقال طبياً منشوراً في المجلات العلمية المحلية والعربية. ومن الأعمال الأصيلة التي من ابتكاره تصميم الآلة البغدادية لاستخراج الأكياس المائية واستنباط تحوير عملية جراحية لاستئصال أورام محجر العين وإلقاء محاضرتين في مركزين علميين متميزين في المملكة المتحدة وهي أول بادرة تحصل لطبيب عراقي، واستحداث عيادة تخصصية باسم عيادة (محجر العين) في مدينة الطب ومستشفى ابن الهيثم وإقامة ندوة حول الخلية السرطانية عام 1985م، وسعيه لعقد مؤتمر السرطان والبيئة لأقطار الخليج العربي عام 1981م وسعيه لعقد مؤتمر جراحة الإصابات عام 1987م، وسعيه لعقد الندوة العلمية العالمية لمرض الأكياس المائية عام 1989م ومشاركته في تنظيم مؤتمر الرنين المغناطيسي وتطبيقاته الطبية عام 1986م. وأحصينا عدد التشكرات والتقييم بحق الدكتور عبد الهادي الخليلي فوجدناها خمسة وثلاثين شكراً وتقديراً وكرمته سبع جهات تصدرها تكريم السيد الرئيس القائد صدام حسين (حفظه الله).

الدكتور أديب الفكيكي من كتاب أعلام الطب العراقي الحديث، الجزء الثاني.

الدكتور حسين سرمك حسن

الحكيم عبد الهادي الخليلي

في مسيرة حياة

قراءة: حسين سرمك حسن

“لم يشهد هذا المستشفى  منذ خمسة عشر عاما ، شخصا بكفاءة الدكتور العراقي عبد الهادي الخليلي”.

البروفيسور مايلز كيبسون مدير مستشفي “ليدز” الجامعي.

لست ممن يتوهمون بأن الكتابة عن عالم بحجم المفكر والطبيب (عبد الهادي الخليلي) تدخل في إطار العواطف المجردة، ذلك لأنني ، ومنذ زمن طويل نسبيا ، أتملي ؟؟ شخصيات فذّة مثل الخليلي، تحيط بزمننا الحاضر وتلونه بألوان زاهية فأبحث بجدية و(حماسة) عن ذلك الكم الهائل الذي أنتج هذه الشخصيات وجعلها تتبوّأ مواقع هامة في حركة التأثير، وتفعل فعلها الأسطوري لإنتاج قناعات جديدة تؤثر في مسيرة حياتنا المعاصرة).
هذا ما قدم به الباحث مؤيد عبد القادر، المؤسسة الثقافية المتنقلة كما وصفته في التسعينيات ، لكتابه الجديد الذي صدر عن دار “تالة” للنشر والتوزيع في دمشق ، وعنوانه “من وطن القباب الزرق : الحكيم عبد الهادي .. مسيرة حياة” .. لاحظ أولا المسحة الشعرية التي تسم العنوان .. وفي موسوعته الفريدة والضخمة ذات الأجزاء السبعة “هؤلاء في مرايا هؤلاء” قدم طريقة غير مسبوقة في العراق على الأقل وذلك من خلال تكليف شخصية وطنية أو كاتب أو مبدع عراقي بالكتابة عن شخصية وطنية أو كاتب أو مبدع عراقي آخر . فوثق لسيرة المئات من مثقفي العراق وشخصياته البارزة. وفي هذا الكتاب يواصل مؤيد عبد القادر جهده الموسوعي بتقديم كتاب عن الحكيم العراقي الفذ عبد الهادي الخليلي. القيمة الإيجابية الأولى لهذا الكتاب تتمثل في الاحتفاء بمبدعينا وعلمائنا وهم أحياء في ثقافة لم تتعود إلا على التغني بمحاسن موتاها !!. أما القيمة الثانية فتتجسد في تسليط الضوء الكاشف والتفصيلي على جهود كبيرة لعلامة مغيّب في الواقع خصوصا وأن هناك سعيا حثيثا لاستئصال الجيل المبدع من علماء ومفكري العراق وتغييبهم. وتتجلى القيمة الثالثة في الشهادات المنصفة التي ضمها هذا المؤلف والتي جاء أولها في المقدمة القيمة التي كتبها العلامة الراحل حسين علي محفوظ لهذا الكتاب عندما كان مشروعا . يقول محفوظ :.. والحديث عن عبد الهادي الخليلي وفاء للعبقرية والأريحية، وفاء للفضل والنبل، وفاء للعراق، وفاء للرائد، وفاء للأستاذ، وفاء للطبيب. يجمع الخليلي مزيتين: هو طبيب فاضل وأستاذ فاضل، طبيب فاضل رقيق وأستاذ فاضل رفيق .. يرافق المريض ويرفق به، ويرافق التلميذ ويرفق به.. وتتعانق في سيرة الخليلي، الرقة والدقة، واللين والشدة، والرحمة والقسوة، والرفق والحدة، والحنان والغلظة، وكذاك الطبيب الجرّاح، هذه صفات الطبيب، وتلك ضرورات الجرّاح. وهو اليوم من الأفراد في الاختصاص، والمرجو أن يتشبه تلامذته به ، وينهجوا منهجه، ويقتفوا أثره.

بعد المقدمة يحدد مؤيد مدخلا للدخول إلى عالم الخليلي من خلال استعراض أصالة عائلته وتخصصه الدقيق والصعب (جراحة الجملة العصبية) .. ومسيرته المهنية .. ومؤلفاته وبحوثه ومساهماته في المؤتمرات والمناصب التي تبوأها. يلي ذلك حوار شامل أجراه الكاتب مع الدكتور الخليلي. ويختم المؤلف كتابه بفصل موسع عن (الخليلي في مرآة الآخرين) قدم فيه آراء للشهيد الدكتور محمد الرواي الذي اغتالته الأيدي الآثمة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق .. والأساتذة كمال مظهر أحمد.. وعبد الإله الخشاب..ومحمود حياوي وخالد القصاب وحسيب يحيي وميسون العبيدي ومحمد الخاقاني وغيرهم بما يتكفل بتقديم صورة متكاملة عن الجوانب العلمية والشخصية والإنسانية لهذا الرمز العلمي العراقي.

الدكتور حسين سرمك حسن  2010

العلامة الدكتور حسين علي محفوظ

مستل في كتاب “من وطن القباب الزرق… الحكيم عبد الهادي، سيرة حياة” لمؤلفه مؤيد عبد القادر)

أخبرني الأستاذ مؤيد عبدالقادر أنه نوى أن يجمع كتابا عن الحكيم عبدالهادي الخليلي، ورجا أن أقدم الكتاب.

أطريت الفكرة، وأثنيت عليها وباركتها، والحديث عن عبدالهادي الخليلي وفاء للعبقرية والأريحية، وفاء للفضل والنبل، وفاء للعراق، وفاء للرائد، وفاء للأستاذ، وفاء للطبيب. والطبيب أحد أربعة أوليهم من الاهتمام و الاحترام ما لا يسعه التعبير، هم الأم والطفل والأستاذ والطبيب.

يجمع الخليلي مزيتين، هو طبيب فاضل، واستاذ فاضل، طبيب فاضل رقيق، وأستاذ فاضل رفيق، رفيق مرتين بالمعنيين. يرافق المريض ويرفق به، ويرافق التلميذ ويرفق به.

والمعلم الفاضل يصحبه تلامذته وطلبته ومريدوه يتلقون منه، وينتفعون به، ويستفيدون منه، يتعلمون دروسه، ويحافظون على مدرسته، ويحملون تعاليمه، ويلزمون سيرته. وهي كيان، أركانه العلم والخلق والتواضع و الإخلاص، وهي أقانيم المعلم الفاضل، والدرب طويل، والمسير مزدحم. ولا يورق إلا ما ينفع، وكل شيء، ماخلاه باطل، وكل شيء سواه زائل.

استطاع عبد الهادي الخليلي ـ وقد لازم الجراحة، وصاحب التشريح مدة أن يرى كثيرا من الحقائق والدقائق، في هذا الجرم الصغير، الذي انطوى فيه العالم الأكبر، ينحني في زواياه، ويغوص في أعماقه، ويطوف في حناياه.

بهرت عجائب الخلق ولطائفه الخليلي، فازداد يقينا، قال ابن رشد: من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله سافر فكره في أقطار البدن، وأقاليم الجسد، وأنحاء الجسم، فاعتصم بالإيمان، وعاذ باليقين، واستمسك بعروة تتدلى من سبحات المحل، الأرفع، وهي ـ اليوم ـ مدرسة يتكاثر رجالها في الشرق والغرب، كان الخليلي على شفا جرفها، ولده العراق، ونشأ في الكوفة والنجف وبغداد، ورباه محيطه يعد من أمثلة عوالم الروح، ولكنه كان يحتاج إلى من يأتيه بقبس.

وفي وصية فخر الدين الرازي التي أملاها في شدة مرضه، على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر في يوم الأحد، الحادي والعشرين من شهر المحرم، سنة ست وستمائة: (إن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية).

وتتعانق في سيرة الخليلي الرقة والدقة، واللين والشدة، والرحمة والقسوة، والرفق والحدة، والحنان والغلظة، وكذاك الطبيب الجراح، هذه صفات الطبيب، وتلك ضرورات الجراح.

هذا، وفيه من البشاشة ما تعبر عنه طلاقة وجهه، ومن الهشاشة مايفصح عنه مرحه، مع دعابة وخفة روح ونكتة وهزل وتهلل وارتياح.

تقتسم عبد الهادي الخليلي ثلاث مدن كبار النجف موطن آبائه، ومساكن أهله، والكوفة مولده ومربعه، وبغداد، التي تلقى فيها الطب.

النجف مدينة العلم العظمى، ومدرسة الفقه الكبرى، وجامعة الإسلام العليا مركز دائرة الاجتهاد، وقطب رحى التقليد، وراية العرب، وعلم الأمة.

تعود مدرسة النجف الأولى إلى بداياتها في تاريخ الإسلام، وترجع مدرستها الأخيرة إلى زمن (الشيخ) في أواسط القرن الخامس، سنة 448هـ.

خرجت النجف الأشرف عشرات الأسر، تزيد عدة من عرفناهم على مائة بيت، أنجبت بما يزيد على ألف عالم، اهتم نصفهم بالتأليف، ودونوا المعارف والعلوم، ومدارسها وحلقاتها ومجالسها شواهد تنطق بمنزلتها ومكانتها، تؤكد ميزتها وأهميتها.

تمتاز مدرسة النجف أن كل من فيها، يتعلم ممن هو فوقه، ويعلم ممن هو دونه، وإن البحث والمذاكرة وتقرير البحث من خصائص الدراسة، وضرورات المدرسة ومن مدارس النجف المعروفة، مدرسة الخليلي الكبيرة، في عقد السلام، في محلة العمارة، وهي محلة المراجع الأعلين، والمجتهدين الكبار، والعلماء الفضلاء .

أسسها الشيخ حسين الخليلي، في سنة 1316هـ. وكانت عش العلماء والفضلاء، ومزاد الطلبة، ومنتجع المتعلمين.

جمعت مدرسة النجف الدنيا، والتقت فيها الأقاليم، وتعانقت البلدان والمدن، وتلاقت الأقطار والأمصار .

وهي ظهر الكوفة، ومجتمع المؤمنين، وإحدى البقاع الأربع، التي ضجت إلى الله يوم الطوفان، وهي بقعة أول من عبُد الله عليها، وهي بقعة من جنة عدن، وروضة من رياض الجنة، ومنزل إبراهيم، ودار هجرته كما تنطق به أحاديث الأحفاد.

والكوفة حرم الله، وحرم رسوله، وحرم علي بن أبي طالب، وهي جمجمة العرب، ورمح الله تبارك وتعالى، وكنز الإيمان، صرة بابل، ومجمع الأنبياء، بيت آدم، وبيت نوح، وبيت إدريس، ومصلى إبراهيم الخليل، ومصلى علي، وهي الربوة، ذات قرار ومعين، وطور سنين في التفسير.

إحتج الله بالكوفة على سائر البلاد، واحتج بالمؤمنين من أهلها على غيرهم من أهل البلاد وهم الأجلة والأوقاد.

هي مدينة أهل البيت ومحلهم، وهي تربة يحبونها وتحبهم، فيها عظام آدم، وقبر نوح، وهود وصالح وإبراهيم، وقبور جمهرة من الصحابة، عدتهم (323) كما شهد التاريخ، وفيها مقابر ثلاثمائة وسبعين نبيا، وستمائة وصي، ثم أنها مزار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومشهده ومثواه.

وبغداد أم الدنيا وسيدة البلاد، وعين العراق، وجنة الأرض، وشرف الأقاليم، وهي أعرف من أن توصف، وأشهر من أن تذكر، وهي مدينة السلام، ودار السلام، وقبة الإسلام.

ذاك منبت الخليلي، ومعدنه وموطنه ومسكنه. وأما ثقيف، التي ينتهي إليها نسبه، فهم بنو منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، من قصر، وهم عشيرة الحارث بن كلدة، طبيب العرب المعروف، ورهط المختار.

إلتقت في الخليلي صفات وحالات، قل أن تجمع في واحد، بيت عريق، ومثبت معرق، وعلم جم، وتواضع رفيع، وأدب فائق، وخلق عظيم، إلى ذكاء متوقد، وفطنة براقة.

بيت خَدَم الطب في العراق، قرنين وبضع سنين، منذ سنة 1215هـ. وأنجب العديد من الأطباء الكبار.

عرف تاريخ الطـب أسرا وبيوتات اهتمت بالطـب تبـتدئ بآل أسقلبيوس، وأسقلبيوس هو أول من ذكر من الأطباء، وأول من تكلم في شيء من الطب.

وعرف الأطباء الثمانية، كما عرف أبقراط والبقارطة، وعرف أيضا جالينوس، خاتم الأطباء الكبار المعلمين، وهو الثامن منهم، وعرف الأطباء الإسكندرانيين.

وعرف كذلك، الحارث بن كلدة الثقفي، طبيب العرب، خريج اليمن وبيت لاباط في جند نيسابور.

عرف النجاشعة، آل بختيشوع، وآل طيفور، وآل ماسويه، وحنين بن إسحاق وابنه، وآل قرة، وأبو إسحاق الحراني وابنه، ومبدوس وابن ابنه، وديلم وداود بن ديلم، وأبا سعيد اليمامي وابنه، وابن بكس وابنه، وابن التلميذ وابنه وآل اثردي، والحراني وابنيه، وإسحاق الطيبي وابنه وابن ملكا وابن أخيه، وآل حسراي، وبن زهر، وابن رشد وابنه، وابن حسان وابنه، وابن الكتاني، وابن أخيه، نسكاس وحفيده، وابن البطريق وابنه، وسهلان وابنه، وسلامة بن رحمون وابنه، وآل ابن سليمان وأبا حليقة وابنه، وابن اللبودي وابنه، والرئيس موسى وابنه، وابن أبي الخواطر وابنه، موفق الدين وابنه، وآل الرحبي، والسامريين، والمنفاخين، وأبا الفرج النصراني وأولاده، وآل ربيع، وآل ربيع الآخرين، وآل الخليلي، وآل الحكيم، وآل الشيخ راضي العطار والصيدلانيين، وقد انجب آل الخليلي جمهرة لم تنجب بمثلهم أسرة في تاريخ الطب، وهو أمر ينفرد به هذا البيت المجيد.

ولد الشيخ خليل بن علي بن ابراهيم بن محمد علي الطبيب، جد آل الخليلي، ورأس البيت، في سنة 1180هـ، وكان يقاس بأفلاطون وجالينوس.

سكن الشيخ الطبيب كربلاء، وتوطن النجف، وتروى عنه كرامات تدل على منزلته ومكانته. وتوفي ـ رحمه الله ـ في سنة 1280، وأعقب خمسة، عالمين جليلين، وثلاثة أطباء مشاهير، أنجبوا جمهرة من المعارف، وهكذا ورث آل الخليلي العلم والطب والحكمة.

قصد (خليل) جد آل الخليلي الكاظمية، في سنة 1215هـ، وتعرف الناس إليه طبيبا في ذلك العام، وينسب التعريف به، والتعرف إليه، إلى رؤيا في منام، وهي من طرائف الأحلام، وهكذا ابتدا الطب في هذا البيت.

كان الشيخ خليل طبيبا بارعا، اشتهرت معالجاته، وهي مواريث تلقتها ذرياته، كان (القانون) في الطب، للشيخ الرئيس ابن سينا عمدة المتطببين في حفظ الصحة ودفع المرضى، وكذلك كتاب ابن النفيس، وكان كتاب (التذكرة) للشيخ داود الأنطاكي الضرير معتمدهم في الأدوية، وهي كتب معتبرة، تعد من مصادر المعرفة، ابن سينا حجة الطب، وكتاب القانون هو الأول والآخر في الطب، والأنطاكي ـ عندي ـ هو الطبيب الأخير، وكتابه التذكرة هو الموسوعة الأخيرة في علوم الطب والدواء، ولا أرتاب أن لآل الخليلي من التجارب ما لو دون كان كتابا آخر، والناس تحدث عن معالجاتهم، وتتداول الثناء عليهم، وهم ثاني آل ربع في النجف والحلة، في الشهرة.

قلت: لا يعرف تاريخ الطب من الأسر والبيوت من أنجب بمقدار ما أنجب هذا البيت، وهم طبقات، تنطوي فيها معدة كثيرة وجمهرة كبيرة من الأطباء، القدماء والجدد.

تابع الجدد القدماء في الطب الحديث، وبرز العديد منهم في أقسام الطب.

وفيهم من تباهي بهم المعرفة الطبية، كما اعتزت مدرسة (القانون) بآبائهم من قبل في القرنين المتأخر والأخير، منذ سنة 1800م.

يعتز هذا البيت بالمحدث والفقيه، والمصنف والمؤلف، والطبيب والأديب، والكاتب والشاعر، والقصاص والصحفي، والناشر والمطبعي، ودورهم واضح في العراق، في العلم والأدب، والطب والعلاج، والترجمة والتأليف، والثقافة والصحافة، والطباعة والنشر، تشهد آثارهم وما خلفوا من نتاج.

يختال عبدالهادي فخورا ببني عمه وعمومته والأقربين من أفراد هذا البيت، كما يختال فخورا بين النجف والكوفة وبغداد، زاهيا بما تلقاه في أوربا، وما تعلمه في الغرب، وهو جديد مفيد يعتز به. وقدر فرق من الفطنة والذكاء ما حقق به النفع، وخدم به العلم والطب.

وهو ـ اليوم ـ من الأفراد في الاختصاص، والمرجو أن يتشبه تلامذته به، وينهجوا منهجه، ويقتفوا أثره، ويجروا على منهاجه، ويسلكوا طريقه، إن شاء الله.

قال ابن أبي أصيبعة، في ترجمة مهذب الدين أبي سعيد محمد بن أبي حليقة الطبيب، في عيون الأنباء: (منحه الله من العقل أكمله، ومن الأدب أفضله، ومن الذكاء أغزره، ومن العلم أكثره.

قد أتقن الصناعة الطبية. فلا أحد يدانيه فيما يعانيه، ولا يصل إلى الخلائق الجميلة التي اجتمعت فيه، لطيف الكلام، جزيل الانعام، إحسانه إلى الصديق والنسيب، والبعيد والقريب.

وهو يعرب عن فضل باهر، وعلم واخر، وفطنه أصمعية، وشنشنة أخزمية، وتودد عظيم، وإحسان جسيم.. ولم يزل.. ملازما للاشتغال، محمود السيرة، في الأقوال والأفعال.. وكأن هذا القول في عبدالهادي الخليلي .

هذا وهو يتمتع من حدة الفؤاد، وصدق الظن، وجودة الحدس، وتوقد الذكاء، وإصابة الرأي، وطيبة النفس، وحسن البشر، بنصيب جم أنه ضحوك فكه، سهل لين، ثقف لقف، عبق لبق، ظريف لطيف، مع الرجاحة والعلم والفضل والحذق.

ومن لعبد الهادي الخليلي تلامذته وأصدقاؤه بما دبجوا من كلمات، وما سطروا من كلام.

عرفه الأصدقاء أخا كريما، وليا حميما. وعرفه التلاميذ أبا برا ومعلما مرشدا. هو أب لهؤلاء، أخ لأولئك.

أحيي (الخليلي) وأباركه وأهنئه، باركه الله وبارك له وفيه وعليه، شاكرا للولد الكريم، الأستاذ مؤيد عبدالقادر، مطريا جهده، مثنيا عليه، داعيا له، معتزا بمقالات الأفاضل الكرام، الذين خصوا الخليلي بكلماتهم المعطار.

الأستاذ الدكتور كمال مظهر

مستل في كتاب “من وطن القباب الزرق… الحكيم عبد الهادي، سيرة حياة” لمؤلفه مؤيد عبد القادر)

بدأت أسمع باسمه منذ أواسط السبعينيات، وكان جل من يتحدثون عنه بإجلال ينم عن حب أصيل وتقدير كبير من مرضاه الكرد أو من ذويهم الذين كانوا يحملون عنه أطيب المشاعر، ومنهم من يؤكد بصورة خاصة على كلماته وعباراته الطيبة باللغة الكردية التي تعلمها من مرضاه، فكان ذلك التفاتة إنسانية جميلة منه نحوهم تليق بمن هو من طينته وبمن يبحث، فضلا عن التخفيف عن آلام الاخرين، بعمل رصين ولسان حسن.

 سرعان ما انتقل الوصف الجميل للطبيب الإنسان إلى داخل الأسرة نفسها، فإن الدكتورة ميسون طاهر الحيدري التي عرفته عن كثب بحكم المهنة ومكان العمل، بدأت تروي عنه بين الحين والآخر ما يشرف كائناً من كان ـ علم غزير، عشق للاختصاص، تواضع جم، لسان عفيف، حب للخير لايعرف الحدود .. وهكذا كبرت الصورة في العقل الباطن.

كبرت الصورة أكثر حين تحدث عنه شيخ وقور، وعالم جليل معروف هو عبد الكريم المدرس الذي زاره الطبيب الإنسان في صومعته في الحضرة الكيلانية، بعد أن زار العديد من أمثاله في الصوب الآخر والمدرسة الاخرى متسائلاً: هل يجوز للطبيب أن يرفع جهاز ديمومة الحياة عن معذبين لا أمل لهم في العيش رفقاً بهم وبأهلهم؟

اذن فإن مخافة الخالق قانون كامن بين جوانح الرجل، ليس هذا فقط، يقول العلامة مظهر ـ بل إن الأقدار شاءت أن تكون لنا حاجة به، فإن عقيلة الأستاذ الجليل وصديق العمر الدكتور أمين سعيد غدت في حاجة ليد الخليلي لتنقذها من شلل أقعدها على مدى أشهر طوال لم يسعفها خلالها دواء ولا علاج. قالوا أنه يجل الدكتور حسين علي محفوظ، فليكن وسيطكم إليه، مع أنه لايحتاج إلى وسيط، أضفى حديث محفوظ الشيق عنه مسحة رومانسية على الصورة التي كانت تكبر وتكبر قبل أن تراها العين.

يبدو لي من خلال تجاربي في الحياة أن الصورة التي يرسمها الخيال بريشة أحاديث الآخرين ورواياتهم تكون أكبر عادة من الواقع إلا ما ندر، وصورة الدكتور عبد الهادي الخليلي واحدة من تلك النوادر .

يتحدث الدكتور كمال مظهر أحمد عن لقائه بالدكتور الخليلي فيقول: كان اللقاء الأول في عيادته المكتظة، واللقاء الثاني في مستشفى النجاة، تخللته عملية معقدة استغرقت أكثر من ست ساعات، راقبته عن كثب وبفضول، لأجده جديراً بكل ما يروى عنه، بل وأكثر، فهو ملاك في ثوب إنسان.

ثم كان لقاء آخر جمع الدكتور مظهر بالخليلي، وعن هذا اللقاء يتحدث الدكتور كمال:

 إلتقينا في مجلس جميل ضم نخبة من كرد بغداد جمعهم زميله الدكتور عمر دزه ئي احتفاء به لمناسبة اختياره طبيباً أول في حقل اختصاصه من بين جميع الأطباء العرب، أحسست بحب الجميع وتقديرهم الكبير له، والتفافهم حوله، ومع أن هموم الأطباء ولغتهم طغت على حلقات المجلس الكبير، إلا أن ركن الفكر فيه جذب المحتفى به ليجلس بين، الأستاذ مسعود محمد وبيني، فوجدته، مغرماً بالأدب، قريباً من موضوعاته، مرهف الحس، حلو الحديث كما توقعت ذلك مسبقاً، أوَ ليس الرجل فرعاً من شجرة آل الخليلي الوارفة تشبعت روحه بالفضائل التي توارثها عنهم، وعن الأجواء التي نشأ فيها وترعرع، أجواء النجف (فلورنسا العرب) في عصر النهضة بجدارة؟

وبعد أيام قلائل استمعت لأول مرة إلى محاضرة ألقاها في قاعة نقابة الأطباء بحضور جمع غفير من زملائه في المهنة ومن الأدباء والمسؤولين والمحبين وغيرهم ممن اكتظت بهم القاعة، فتلمست فيه وقار العالم متجسداً، ولم أستغرب حين وجدته بعد شهر، ويبقى من بين القلائل الذين شملهم قانون رعاية العلماء.

 وتساءلت ذات مرة: أوَ هل يعاني حتى هذا الانسان الفذ من صغار العقول في وطني؟

قالوا: بلى..لكني لم أفاجأ!

الأستاذ الدكتور مازن عبد الحميد

(نشر في كتاب “من وطن القباب الزرق… الحكيم عبد الهادي، سيرة حياة” لمؤلفه مؤيد عبد القادر)

عرفناه إنساناً بكل معنى الكلمة، يتميز بالانضباط والأخلاق العالية والتواضع وصدق التعامل. وعرفناه رجلاً مبتسماً دائماً دافعا بالاطمئنان إلى قلوب الآخرين، وهذه صفة مهمة كونه طبيباً عالماً. نرجو له التوفيق والنجاح الدائم، ليزهو به العراق والأمة العربية.

الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي سهل وصعب في آن واحد. تكمن السهولة في أنه أشهر من نار على علم، وأن تفاصيل سيرته مدونة ومعروفة بشكل يغبطه عليه الآخرون، لذلك لو تحددت كلماتي بشرح جديد لاهتماماته ونشاطاته وعلمه وأدبه ودراسته ونسبه وعائلته لسهل الأمر وهان، إلا أن الصعوبة تكمن في رغبتي بالكتابة عن ما يتكلم عنه الآخرون قليلاً، أي عن جانب من شخصيته العلمية المتميزة وما يستنبط من فكر نير وفلسفة علمية نادرة وأفق رحيب يتجاوز الطب الذي هو مهنته الرسمية!

قبل أن نلج في ذلك يمكنني القول، أنني عرفت أخاه الذي كان زميلاً لي في الجامعة التكنولوجية وزميلاً في الاختصاص (الهندسة الإلكترونية)، وكنا نلتقي الدكتور عبد الهادي الخليلي في بعض المناسبات العائلية، وكذلك ضمن نشاطنا العلمي المتعلق بالأجهزة والمنظومات الإلكترونية التي يمكن أن تُسَخّر للعمل الطبي. ومن المعروف أن الخليلي كان له ولع بالإلكترونيات أيضا، لم تكن العلاقة بيننا آنذاك تنافس علاقتي بزميلي الدكتور ضامن محمد صالح الخليلي، الأخ الأصغر للدكتور عبد الهادي. وكان ضامن متمكناً من اختصاصه، دؤوباً في عمله، حاضر البديهة والنكتة، لين العريكة، محبوباً من الجميع. وحينما شاء القدر أن تنتقل العلاقة الأقوى إلى الدكتور عبد الهادي – لما يجمعنا من اهتمامات علمية وثقافية وأدبية ووطنية – وجدته عالماً لا يجارى، وطبيباً حكيماً لا يبارى، وعربياً أصيلاً، ومسلماً حريصا، ومربياً فاضلا، هذا إضافة إلى خصاله الشخصية التي فيها ما فيها من حسن الخلق والبديهة الصائبة والنكتة الحاضرة التي “شابه” بها أخاه وربما هي تجري في عروق هذه العائلة الكريمة.

أذن لن نتكلم عن الأصل والنسب، وقد تكلم عن ذلك المؤرخون.

ولا عن طبه وتميزه واختراعاته، وقد أشاد بها في الغرب والشرق متخصصون.

ولا عن تفانيه في حب الوطن، وهو دأب عائلة الخليلي مدى العصور.

أما عن إنسانيته وخلقه وأدبه ورعايته لطلبته فهو شائع ومعروف.

إلى غير ذلك من كفايته وحكمته وكتبه ومؤلفاته، ذلك لأنني لن أزيد على ما قام به الزملاء الآخرون خير قيام، ولن أحمل الأمر تحليلاً وتوثيقاً مضافاً.

اخترت جانباً علمياً من عمله، وجدت فيه مجالاً للكتابة والتحقيق، وهو جانب يربطني بالخليلي بشكل دقيق مما يتميز به فكر الخليلي، الشمولية ووحدة السنن. فهو، وإن كان حكيماً (طبيباً)، إلا أنه يتعامل مع اختصاصه كجانب من جوانب العلم الشامل الذي يعكس وحدة الخلق والخليقة.

ولأغراض المتابعة والإفادة فهو يقسم العلوم إلى قسمين:

إنساني (ويشمل الروحاني)، وعلمي صرف وتطبيقي، ولكنه ينظر إليهما نظرة شاملة تتداخل فيها التفرعات العلمية لتؤدي إلى محصلة حيوية واضحة، وهو دوماً لا يسعى إلى متابعة العلم وركوب موجته حسب، بل إلى التميز فيه، ويرى أن نسلك طريقاً خاصاً بنا، إذا أردنا التقدم الصحيح والسريع للعودة إلى مكانتنا التاريخية السابقة.

الأستاذ المؤرخ والباحث محمد الشيخ عيسى الخاقاني

(مستل من كتاب “من القباب الزرق الحكيم عبد الهادي..مسيرة حياة” تأليف الأستاذ مؤيد عبد القادر عام 2002)

تمتاز مدينة بغداد عن غيرها من مدن العالم بخطوط سيرها السريعة التي تربط شمالها بالجنوب وشرقها بالغرب، فتشكل طريقا دائريا طويلا يمر تارة في جنة من بساتين وأخرى على نهر رقراق، وهكذا تتغير الصور والأمكنة من جميل إلى أجمل.

وقد اعتدت أن أسابق الريح بسيارتي، فيأخذني الفكر من عالم الواقع المقيد إلى عالم الخيال الحر، ومن هنا تخيلت أن حياتي انتهت بحادث سير مؤسف وتركت الحياة وانتقلت إلى الحياة الأخرى، فامتلكني حزن عميق، لأنني انسحبت دون أن أودع أحبتي وأقضي صلاتي وأنجز كتاباتي المؤجلة، فهونت على نفسي وجال بخاطري حب الدنيا.. لم يكن المال يستهويني ولا الجاه يغريني، فقد كان لي قلم أعشقه ويعطيني، وبعض أحبّة هم رونق الأرض وبهاؤها وعطر الوجود وسر ديمومته عندي…. عبد الهادي الخليلي……

وصرخ صوت مزج الحقيقة بالخيال (الدكتور عبدالهادي محمد صالح الخليلي).

يجب أن تعود إلى الدنيا، فلا يمكن أن تترك الأرض بمحض إرادتك أو أن تفارق طوعا مكانا فيه عبدالهادي الخليلي، الصورة المثلى للإنسانية الواعية في عطائها العلمي المتصل بقيم السماء.

فعدت أدراجي إلى الملجأ الدائم بين ورقة بيضاء أتكىء عليها وقلم ازرق أتوكأ عليه، ليترجما معا نبض قلبي إلى حروف تتراصف طوليا بما يشبه الشريان الأبهر، لأكتب عمن يؤنس طريق الحق، وهم القلة الذين ساروا على النهج القويم واختاروا الإطروحة السوية، فتشربوا من التراث بكل خيره ونبله وعمقه وأخذوا من العلم المعاصر كنهه وذوقه وفنه وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور عبدالهادي الخليلي.

ولكي لا تأخذني العاطفة إلى حيث أبتعد عن منهج البحث العلمي، سأضع لمقالتي هذه إطارا يلم بها ولا أقول يلم به، فدراسة شخصية كالأستاذ الدكتور عبدالهادي الخليلي تتسع كلما اتسع البحث ولا تقف جذوة تألقها اللافت عند الضوء الظاهر منها بل تنير في كثير من الأحايين أحلك الزوايا ظلمة وعتمة وتبتعد في مشاريعها الفكرية إلى ضروب غير متوقعة تدخل منطوق الإسطورة والوهم.

ولكنه حين يؤمن ويصمم ويقرر ويبدأ العمل يصل إلى النتيجة المطلوبة على أرض الواقع بعيدا عن الأساطير والأوهام، فقد تشعر من خلال متابعة عمله الإبداعي في الجراحة الدماغية أو في محجر العين أو مركز السرطان، بأن هناك بؤرة ضوء في فكره الوقاد (قد يكون اكتشفها في بحثه الدائم عن مكونات الدماغ البشري فاستثمرها) لا ترضى بالمقسوم الذي يتوقف عند الليل الذهني في التوهم كما يعتقد البعض بتحقيق الذات.. فهو لا يتمرحل أو يتدرج تصاعديا في الأهداف، فمنذ أن يدرك بفطرته الخطوة القادمة في كل عمل يعمله أو هدف يبحث عنه، فإنه يتحرك في سبيل تحقيق ذلك الهدف أو العمل، فقد تجده وهو طالب الدراسة المتوسطة وهي مرحلة ما بعد الابتدائية، وقد اختار أن يكون طبيبا، فعمل مساعدا لأحد أقاربه في صيدليته، ثم حَوّله القبول المركزي بعد نجاحه إلى دراسة التجارة، ولكنه أعاد الامتحان وأضاع سنة كاملة لأجل الهدف المنشود، ليلتحق بكلية الطب كما أراد. هذا الحدث تكرر مع الخليلي مرة أخرى حينما طبق مع زميل له في إحدى مستشفيات بغداد على أرانب جلبت لغرض الاختبار عليها وبعد أن عمل عليها لما يقرب السنة الكاملة واقتربت ساعة نتيجة العمل المضني والطويل، أخطأ حارس الأرانب ونقل بعضها وخلط بعضها الآخر، بحيث ضاعت الأرانب التي أجرى عليها اختباره، فما كان من الباحث الذي كد وتعب وأرهق في بحثه إلا أن يطلب من حارس الأرانب أن يأتي بأرانب جديدة ويفصلها ولا يخلطها مرة أخرى.. وليبدأ العمل من جديد.. وكأن السنة التي ذهبت أدراج الرياح ما كانت، لذلك لا يمكن أن يقف ذتلك الاحباط حجر عثرة في طريق البحث العلمي.

فتفكيره المنطقي العلمي الفطري والذي لازمه منذ الطفولة، يدعوه إلى ما يريد أن يصل إليه من نتيجة العمل، ولا يتوقف طويلا كما رأينا في القصتين، عند السلبيات التي أعاقت مشروعا من مشاريعه، فتحديد الهدف منذ البداية يجعل صورة نهاية المشروع واضحة المعالم لديه وأعتقد من خلال علاقتي الحميمة معه أن الدكتور عبدالهادي الخليلي، لا يعترف بنظرية التجربة والخطأ ضمن أهدافه، فهو ليس تجريبيا، إن جاز التعبير، وإنما عنده الهدف دائما نبيل ومفيد وواضح ودقيق. لذلك تكون وسائط الوصول إليه نبيلة ومفيدة وواضحة ودقيقة وبهذا تختفي العوامل السلبية في الصورة الظاهرية لديه من التأثير على هدفه، فلا تأخير الإنجاز ولا عدم وجود المعين ولا الروتين وما شابه ذلك يدخل أهداف البروفيسور الخليلي إلى التراخي والتردد، بل هو متأكد أن الاسوأ سيحصل دائما لذلك يبحث عن الكمال مهما كلفه ذلك من وقت أو حرق أعصاب أو جهد مضاعف.

وأعود من حيث ابتدأت في منهجة البحث عند الكتابة عن هذه الشخصية التي ما قابلت أحدا إلا وتركت بصمتها في ذاته وضميره، يضاف على ذلك حالة الانبهار بالإنجاز الإنساني المتمثل في سعة الأفق والإدراك والمتابعة والتحديث الفكري، كل هذه العوامل تجعل الكتابة عنها (أي الشخصية) عسيرة من ناحية ويسيره من ناحية أخرى، وباب عسرتها هو العلم الموسوعي والفكر المتجدد والطاقة الهائلة التي تتميز بها، بحيث تجعل الباحث يحتاج إلى جهد كبير لمحاصرة النبوغ الفكري ثم جمعه وتأطيره، وبعد ذلك صبه في مقال، وأما اليسير فهو وجود موضوع متكامل ودسم في تكوين الشخصية العلمية والثقافية. ولا يحتاج الباحث هنا إلا اختيار المفردات المتوفرة لديه، ليغترف من بحر علمي متنقل ما يشاء ويبقى هو وما عنده من أدوات البحث التابعة. وحتى نتجاوز معا الجانب العسير في شخصية الدكتور عبدالهادي الخليلي ونحاصر نبوغه الفكري، نضع إطارا لتكوين هذه الشخصية من حيث العوامل التي أنتجتها وهي أربعة عوامل:

أولا: العوامل الوراثية والأسرية

ثانيا: العوامل البيئية والاجتماعية

ثالثا: العوامل الذاتية

رابعا: العوامل العلمية

أولا: العوامل الوراثية: فقد ولد عبدالهادي محمد صالح الخليلي عام 1943 ميلادية من أبوين من آل الخليلي. كان والده طبيبا قد مزج بين الطب الحديث والطب القديم وقد اشتهر (رحمة الله عليه) في مدينة النجف الأشرف فضلا عن مدينة الكوفة التي كان يسكنها، وتميز بالفهم الدقيق والفحص المركز الواعي للحالات المرضية التي عرضت عليه، وذلك دون الامكانيات الحديثة التي توفرت لأطباء ذلك الزمان، فإن كنا لا ننكر التأثير الوراثي للوالد على الولد، فأننا نذكر من باب الاستطراد، بأن أسرة الخليلي (التي يرْجع بعض العلماء سلالتها إلى أولاد النبي إبراهيم الخليل (عليه السلام). هذه الأسرة امتهنت الطب قبل أكثر من مئتي عام وما زالت إلى الآن، أي انها قد تكون العائلة الوحيدة في العالم التي التزمت النهج الطبي عملا وعلما من خلال ستة أجيال متعاقبة، فقد بدأ عميد هذه الأسرة المرحوم الشيخ خليل الخليلي هذه المهنة وبقيت في صلبه إلى هذا اليوم وذلك مما ذكره مؤرخو النجف الأشرف، وقد يكون قبل الشيخ هناك من آبائه أو أجداده من مارس الطبابة ولم تصل إليه تدوينات المؤرخين، خاصة في الفترة المظلمة من تاريخ العراق الحديث.

أعتقد أن هذا التراث الوراثي المتطور، كان يجب أن يصل بالإرادة الإلهية إلى الدكتور عبدالهادي الخليلي وأن يكون من مكونات شخصيته الفذة، فلا يمكن للجينات الوراثية المكثفة إلاّ التأثير، وخاصة إذا اجتمعت لها كل عوامل النمو والاستقرار الذي ميز جهابذة هذه الأسرة.

ثانيا: العوامل البيئية والاجتماعية: كانت مدينة النجف الأشرف حيث مسقط رأس الدكتور عبدالهادي الخليلي، تموج بالتيارات الفكرية والثقافية والسياسية والعلمية، فحين ولادته كانت المدينة ماتزال تشعر بنشوة النصر في الثورة العراقية الكبرى على العدو الدائم للعراق، بريطانيا، فمنها خرجت فتوى الجهاد، وعلى بواباتها نصبت المشانق، وكانت (خاناتها) مقرا لأسرى الكومنولث. وما خرج منها مختص عظيم إلا وكان حديث الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه شاعرها شاعر العرب الأكبر وشيخها وعالمها يؤم المسلمين في المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف سنة 1936 وكتابها وعلماؤها بين مؤلف ومحقق ومدقق، وهيئتها العلمية تتبعها المشارق والمغارب حتى أطلق عليها اسم مدرسة الفقه الكبرى.. من هذه البيئة ظهر العالم عبد الهادي الخليلي، أرضاً لا تعرف الخمول وكان هو كذلك، ولا ترضى إلا بالكمال نتاجا وكان هو كذلك. أما في المجتمع النجفي، فقد حظيت أسرة الخليلي، باحترام خاص، ففيهم العلماء المجتهدون وعلى رأسهم آية الله الشيخ محمد الخليلي وفي أسرتهم رجال رفدوا المكتبة العربية الإسلامية بشتى صنوف العلم والأدب، فجعفر الخليلي أستاذ الرواية العربية وشيخ الباحثين ودارس الشخصيات المتألق في سبعة مجلدات (هكذا عرفتهم) وصاحب الموسوعات الطوال في المدن المقدسة، وكذلك الباحث الأستاذ عباس الخليلي، ولايمكن إغفال الباحث الأستاذ الدكتور عبدالهادي الخليلي ضمن أدباء ومفكري آل الخليلي الكرام فهو قارىء نهم لتراث الشعر والأدب العربي وقد سألني يوما عن بيت شعر للعباس بن الأحنف ليستشهد به في قضية علمية وهي بيع وإعارة الأعضاء البشرية والذي يقول فيه:

من ذا يعيرك عينه تبكي بها            أرأيت عينا للبكاء تعار

وقد سمعت أن الشيخ محمد الخليلي آخر أطباء الجيل القديم في النجف كان يعالج الناس بالإسلوبين القديم والجديد، ومن لم يجد له علاج عند العطار أو في صيدلية المدينة يبعثه إلى بغداد مع توصية، ولم يخبرنا الرواة أنه لم يصب يوما، بل كان بعض الناس يتشافون عنده بالبركة التي يحملها حتى عاد مضربا للأمثال في بلدته.

ثالثا: العوامل الذاتية: وقبل أن أطلق لقلمي العنان للكتابة عن العوامل الذاتية ضمن مكونات شخصية الدكتور عبدالهادي الخليلي أأخذ مساحة خارج النص أتحرى فيها شرحا للحديث النبوي الشريف المعروف (من جد وجد)، والذي يختلف معه علماء النفس والاجتماع والذين يثبتون بالبراهين، بأن هناك كثيراً من الناس جدوا ولم يجدوا، وقد ذهبت بهذا الرأي إلى أحد (العرفاء) المختصين في الفلسفة الإسلامية، فقال: نعم!! ليس كل من جد وجد ولكن هناك شروطا وعوامل يجب أن تحيط بالجاد حتى يجد، فلو أتعب الأعمى نفسه فلن يبصر، وكذلك لو جد من لا يملك المؤهلات، فأنه لا ينطبق عليه الحديث، فان كلام  النبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد على وضع الامور في نصابها، من جد مع امتلاكه مقومات ذلك وجد. وأعود من ساحتي إلى ساحة الدكتور عبدالهادي الخليلي، لأؤكد أن جميع مقومات الشخصية الناجحة من حيث الحضور والتي تسمى هذه الأيام (الكريزما) والعلم المقرون بالاحترام والتواضع الجم مع الهشاشة والبشاشة والجدية مع الصرامة في العمل، كونت جميعا ذاتية هذا الرجل الفذ، وكما يبدو لي أن الخليلي قد درب نفسه منذ الطفولة على استيعاب الصدمات بنفس القوة التي يستقبل فيها المفرحات، فهو قد عقد أوتار أعصابه على مستوى وسط فلا تصدر صوتا نشازا عاليا ولا تخرج دون صدى أو ترديد، وأضرب على ذلك مثلا: حينما رزقه الله تعالى (ياسر) الولد الأول  الذي جاء بعد (صبا) و(رند) وكانت حرمه السيدة حنان قد دخلت إلى المستشفى في حالة إعياء شديد.. وجاءت الممرضة لتخبره بالنبأ السعيد (انه ولد.. ألف مبروك) ودون أي اكتراث سألها عن حال الوالدة ومولودها وحين علم أنهما بخير، شكر الله وأتم الموضوع الذي كان يتحدث فيه، فالبهجة بقدوم المولود الولد بعد ابنتين، والقلق على السيدة الوالدة بنت العم زالا بمجرد الحصول على الناتج المطلوب وهو أنهما بصحة جيدة.

ومن هنا أقول أن الأستاذ الدكتور عبدالهادي الخليلي قد منهج نفسه في إطار علمي ودربها على التفاعل مع هذا النمط، حتى وإن كان المجتمع في الغالب يتجه عكس سيره، وذلك ديدن العظماء في كل العصور. وما على القارىء الكريم إلا استذكار من حفروا أسماءهم على ذاكرة التاريخ الإنساني ليجد وجه الشبه بين ما حاولت تقريبه من شخصية الخليلي وشخصية أولئك الفطاحل، وطالما أني أتحدث عن العوامل الذاتية المكونة لشخصية الدكتور عبدالهادي الخليلي، فلا يمكن أن أغفل عامل الزمن وطريقة تعامل الخليلي معه، فهو كما ألمحت لا يكترث للوقت طالما أن العمل ينجز في أثناء سيره، وأراه لا يسمح لستارة مسرح يومه أن تنزل دون أن يستفيد علميا من كل الثواني المتاحة، فإن لم يستطع أن يكسب معلومة جديدة أو يتم قديمة أو ينقح فكرة أو ينتج عملا، فإنه يطلق ما عنده من أفكار سهلة مرنة ترتبط بتحريك الذهن لإثارة من حولة، فهو يتكلم مع الحداد عن اللحيم ومع الكهربائي عن الأسلاك ومع كل من يتعامل معهم عن مهنهم أو اهتماماتهم، فإن جاء منهم ما يفيد (قيده) في فكره، وإلا فهو يقص عليهم قصصا تدعوهم إلى التفكير ويرى مستوى استيعاب إرساله إلى أذهانهم وبذلك يكون قد أنتج شيئا مفيدا لغيره فالوقت لم يذهب سدى أو عبثا، وكأني به يتمثل قول المتنبي شاعر العربية العظيم:

اذا كنت ما تنويه فعلا مضارعا   مضى قبل ان تلقى عليه الجوازم

وقد سئل ذات يوم عن الحكمة التي يؤمن بها فقال:

اذا مر بي يوم ولم استزد به              علما فلا عد من عمري

ولذلك أرى أن عبدالهادي الخليلي مستثمر ناجح ولكن استثماراته اختارت طريق العلم لا طريق المال، فهو كما يمتدح الأفكار المتطورة والجديدة يضع ملاحظاته على النقاط الممنهجة ليحددها في بودقة العلم. وكلما ازداد الخليلي قربا منك زاد من ملاحظاته على أي كتابة علمية تصدر عنك، فقد رأيته يبارك لعالم جليل فكرته الجديدة في الكتابة ويشيد بها ولكنه يضع نقاط خلاف مع تصميم غلاف الكتاب ونوعية الورق واختلاف الخطوط ومكان اسم المؤلف وكأنه يخبرنا إن (الكمال) أو ما يقرب من الكمال هو الصورة المثلى، فكما المضمون الممدوح من وجهة نظره مطلوب، كذلك الصورة الخارجية يجب أن تكون متكاملة. وهو يطبق هذا المبدأ على نفسه أيضا، فما شوهد الدكتور عبدالهادي الخليلي إلا وهو على أتم صورة، فالأناقة من حيث الملبس والتنظيم والترتيب من حيث الشكل، يشكلان صورة ثابتة عنده فلا يمكن أن تجده قد خرج عن الوقار في تصرفاته وتوجهاته داخل المنزل وخارجه، وقد تكون المداعبة البليغة ذات المضمون المحمول والمشحون هي ذاتها ما يضعه أمام أولاده حين يريد توجيه عمل من أعمالهم، وإذا داعبك يوما بإسلوب يكتنز في داخله النصيحة مؤطرة باللوم فاعلم بأنك قد اقتربت إلى قلبه وأن لك مكانا ومكانة أثيرة عنده، وأرجو من الذين يقرأون هذه الكلمة أن يأخذوا بالشروط التي بحت بها، للاقتراب من قلب الدكتور عبدالهادي الخليلي، فعنده النكتة ذات مغزى ولا تطلق جزافا، وعلى المتلقي أن يضع حواسه وأفكاره في حالة من التهيؤ الكامل وأن يدرك المراد من ثنايا الكلمات أو يفهم المقصود. في أروقة  المفردات، فالرجل يقصد ما يريد، ويختار الوقت المناسب والمفردة الصحيحة والكلمة الدقيقة المعبرة، لإيصال فكرته وآرائه، فهو إسلوبي بحت، يعتمد المدرسة البنيوية نهجا لإيصال فكرته، فإن أفكاره ذات بناء متحد ومتراص يرتبط أولها بآخرها بطريقة جميلة يعتمد فيها ممارسة إسلوبه الحياتي باتساق، بعيدا عن ردود الأفعال الوقتية أو الانفعال العصبي المفضي في الغالب إلى نتائج غير مأمونة.

هذه العوامل الذاتية التي تعرفت عليها من خلال قربي من الأستاذ الدكتور عبدالهادي الخليلي، وأنا على علم يقين بأن ما خفي منه كان أعظم، لكن ما لا يدرك كله لايترك جله، فهي محاولة لتقريب صورة عن مكونات شخصية هذا العالم العراقي الفذ.

رابعا: العوامل العلمية: إن اختلاف العوامل العلمية عن العوامل الأخرى التي سبق ذكرها هي أنها لا تتأطر بإطار، كما عاملي الوراثة والبيئة ولا ترصد بعين الناقد المراقب كما العامل الذاتي، فهي متحركة سائلة لا تقف عند حدود ولا يمكن تسليط الضوء عليها، لحركتها الدوؤب، فإن أردت أن تتأكد من شخصية الدكتور عبدالهادي الخليلي العلمية وتأثير هذا العامل عليه، إبحث وفي تسلسل تاريخي، عن المنهجية العلمية التي اعتمدها في طريقه وطريقته، فهو يتحول من طبيب عيون يشار له بالبنان إلى (طبيب دماغ) لا لأن طب العيون فيه نقص، بل لأن العين والأنف والأذن والحنجرة وكل التفاصيل الدقيقة التي تربط الجسم البشري، تتغذى مباشرة من الدماغ، فهو أتقن المراحل الأولية المؤدية إلى المرحلة الأشمل، وأكمل فيها الطريق، ولأن الدماغ يصاب بكل الأمراض التي تصيب الجسم البشري ويشترك بمفرده مع كثير من الحالات المستعصية التي تفتك بالإنسان فهو يخرج عن التخصص الدقيق إلى التخصص الأدق في كل الأمراض من ناحية وفي كل المواضع من ناحية أخرى، ومثال على ذلك: إن الدماغ يصاب بالجلطة كما القلب، ويصاب بالسرطان مثل ما تصاب الأجزاء الأخرى من الجسم، وقد يموت المرء والدماغ حي والعكس كذلك صحيح فقد يموت الدماغ ولكن جسم الإنسان مازال يتغذى ويعيش، فهو إذن المحرك الأساس لكل الجوانح والجوارح وبه وبسببه يتحول المرء من المسؤولية إلى عدمها، ولذلك اختاره الخليلي العالم موضوع علمه وعمله. وقد رافقته يوما لزيارة عالم جليل من علماء الدين ليستفتيه عن موت الدماغ الذي إن حدث لمريض فإنه لن يعود إلى الحياة، ولكنه سيتعذب حتى يموت، وسأل عن الموت الرحيم الذي يريح المريض المتعذب، وكتب عن ذلك بحثا قيما، وإن شاهدت بعد ذلك بحوثا كثيرة في هذا المجال، لم تذكر للخليلي سبقته في تعميم هذا الموضوع على جميع الأطر المختصة والمشاركة فيه.

إذن فالخليلي نتاج بين سكون الوراثة والبيئة وحركة الذات والعلم، فهو قد حرك سكون الوراثة وجعله مصدرا متحركا وخلق من بيئته مركزا ذاتيا يتحرك معه، وبذلك يكون قد حرك الثوابت في ذهنه. كما أنه قد أوقف المتحركات وهي العوامل الذاتية والعلمية، ليضعها جميعا ممنهجة في صيرورة شخصيته العلمية، وبذلك يكون قد  حرك الثابت وثبت المتحرك وهذا سر عبقرية الرجل، ليكون بذلك تشكيلا متكاملا للإنسانية المتطورة  المتمثلة في شخص واحد أعرفه هو عبدالهادي محمد صالح الخليلي.

في الختام أحب أن أوضح بأني لم أكتب هذه الكلمات لتبقى تتداولها الأجيال لمجاملة رجل عايشته وأحببته وإنما كتبتها شهادة صادقة للتاريخ وأعتقد في نهايتها بأنني قربت صورة الرجل وذكرت جوانب منها ووضحت أماكن فيها، دون أن أضع رتوشا أو أزوّق لوحة، وإن صدق ظني فإن عبدالهادي الخليلي يشبه جبل الجليد في وسط البحر ظهر منه التسع وتختفي ثمانية أتساعه في الماء. قد أكون تجاوزت في البحث عن الأجزاء الكامنة والباطنة، التي بدوت غير موفق فيها، لكنها تبقى محاولة في فهم مكونات شخصية فذة من الشخصيات العراقية والعربية في عصرنا الحاضر.

وبهذا نتأكد من مقولة البروفيسر مايلز جيبسون مدير مستشفى ليدز الجامعي حين قال بأن هذا المستشفى لم يشهد من خمسة عشر عاما شخصا بكفاءة الدكتور الخليلي.

ودون إعداد مسبق جال خاطري برحلة سريعة في سيرة ومسيرة هذا الرافديني  بدون أن أمكث قليلا في محطاتها، وهو الذي حببني في الدنيا لأنه أحد الذين يعاش معهم ومن أجلهم، ليس لأن طبلات المرضى في المستشفيات تشهد أنه كتب على كثير منها عبارة (متنازل عن الإجور) ويصرف من جيبه على علاج المحتاجين إنما لأن ما يفعله في السر من أعمال الخير هو أكثر مما يعمله في العلن.. الآن أعتقد كما أنتم القراء الأعزاء، بأن هذه الدنيا لا تترك بمحض الإرادة، إن كان فيها العالم العبقري الكبير الدكتور عبدالهادي الخليلي.

الأستاذ الدكتور عبد الأمير الأعسم

(مستل من كتاب “من القباب الزرق الحكيم عبد الهادي..مسيرة حياة” تأليف الأستاذ مؤيد عبد القادر 2002)

يقترب الدكتور عبد الهادي الخليلي من وصف (الحكمة) مرتين؛ الأولى لأنه الطبيب الأستاذ في الجملة العصبية المرتبطة بالدماغ، وهو الموضوع المادي للعقل؛ والثانية لأنه انتهج لنفسه برنامجاً فكرياً في تفسير ظواهر الأعصاب وارتباطها بمكونات الحواس التي منها تصدر المعرفة المباشرة.

لقد عرفتُ الأستاذ الخليلي حكيماً من خلال ثلاثة مواقف: الأول، عندما وجدته يعرض لمشروعاته الطبية التي أنجزها فأهلته ليكون الطبيب الأول (المثالي) بين الأطباء العرب. الثاني، عندما شاركته بمداخلة فلسفية على محاضرة له في الجملة العصبية وأهميتها في تكوين التصورات، وهل آلية الحواس كما هي آلية (الكمبيوتر) ؟ والثالث، عندما استمعتُ إليه في محاضرة في (بيت الحكمة) عن الجهاز العصبي وعلاقته بالتفكير.

إن هذه الملاحظات تأتي في سياق فلسفي لمعرفة مكان الأستاذ الخليلي في تطويع العملية الفكرية بالوسائل الطبيعية المباشرة؛ وهو بهذا يشرّح التفكير بيولوجيا وفسيولوجيا معاً، وكلا الأمرين جعلاه يتفلسف فلسفة طبيعية تتصل بالدماغ.

لذلك، أستطيع أن أقول في حق الأستاذ الخليلي أنه يملك ثلاث خصائص؛ الأولى، قوة البصيرة في ما يفكر وينسج من تفسير لظواهر الخلل في الجملة العصبية. والثانية، مهارة الأنامل التي يمتلكها في التعرف على مواطن آلية الأعصاب وكيفية إصلاحها لتؤدي عملها المرتبط بالدماغ. والثالثة، قدرته الفائقة في تحديد الصلة بين معطيات الحواس وسيطرة الدماغ من جهة إصلاح العطل أو النقص أو التقصير ليكون فاعلاً أو كاملاً أو حَسن الأداء.

إنّ الأستاذ الدكتور الخليلي، الذي يشتهر عند الناس طبياً نطاسياً متميزاً، حكيم التصرف، ومتقن للعلم، وكبير القدر ومليء بإنسانية عامرة في نفسه، يقلّ وجود نظائر له في الأطباء الحكماء من المتفلسفين في هذا العصر.

الدكتور مازن جعفر خصباك اختصاصي التخدير في مستشفى الشهيد عدنان

مستل في كتاب “من وطن القباب الزرق… الحكيم عبد الهادي، سيرة حياة” لمؤلفه مؤيد عبد القادر)

بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من تخرجي (وعملي) كطبيب ترجح لي ما مفاده أن كل طبيب يمكن تقييمه من أربعة جوانب رئيسة تمثل صميم عمله، أما ماعدا ذلك فهو شأنه الخاص به.

هذه الجوانب الأربعة – كما سيأتي ذكرها – مرتبة حسب تسلسل  قياس المقدرة في التوسع بعد استيفاء الواجب الرئيسي كطبيب أولا وآخرا:

  • الموقع كطبيب
  • الموقع كمعلم
  • الموقع كباحث
  • النظرة الفلسفية
  1. أ. د. عبد الهادي الخليلي كطبيب:- هذا هو حجر الزاوية والركن الأساس في سجل أي طبيب أصلا، ورحلة الطبيب عبد الهادي الخليلي تتكلم عن نفسها منذ تخرجه من خلال سجل أعماله، فهو الطبيب العام الناجح (علما وأخلاقا) وهو الاختصاصي البارع في فرع الجراحة العصبية، كما أنه الطبيب المتمكن بإتقانه للاختصاص الدقيق في فرع جراحة محجر العين الذي يعد قمة إنجازاته الطبية في العراق، إن لم يكن في منطقة الشرق الأدنى. إن افتتاح مركز خاص بجراحة محجر العين إنجاز طبي أصيل غير مسبوق في العراق ، على الأقل حسب معرفتي المتواضعة.
    وما تكريم عبد الهادي الخليلي كالطبيب الأول في الوطن العربي إلا تأكيد لجدية هذه السطور.
  2. أ. د. عبد الهادي الخليلي كمعلم:- نذر نفسه للتعليم، وهو المطبق المنهجي للإسلوب التعليمي التربوي لأحدث الأساليب المتوفرة. عنده نجد الجواب العلمي المقنع الذي يأخذ موقعه الصحيح في ذهن المقابل دون أن يتسبب في أي إرباك أو تشتت.
    يمتاز المعلم الكبير عبد الهادي الخليلي بمقدرته على مخاطبة وتعليم من حوله كلا حسب مستواه، وهذا يمكن أن يشمل طلابا في كلية الطب أو الممرضة أو المضمد …..الخ وحتى المعين البسيط، فالكل ينهل حسب اجتهاده.
    لا يفوت على البال الإصرار على التعليم المستمر لما هو مستحدث في الطب، ولا ننسى إلقاءه المحاضرات خارج المجموعة الطبية وضمنها فهو المتميز في هذا المجال بلا منازع.
    ولا يغرب عن بال أحد أنه أحد التدريسيين المعروفين في كلية جامعة بغداد، وقد ترقى علميا في هذه الكلية العريقة ليصل إلى درجة أستاذ منذ فترة طويلة.
  3. أ. د. عبد الهادي الخليلي كباحث:- يمكن اختصار هذه المسألة بالنقاط الآتية:
    أ. قناعته الثابتة بضرورة التزاوج بين العلوم المختلفة. أليس بحثه في إصابة الأمام علي (كرم الله وجهه) وتحليل الأسباب الممكنه لوفاته دليلا على المزاوجة بين علمي التاريخ والجراحة العصبية ؟
    ب. هدفه الدائم إلى البحوث التطبيقية المتميزة.
    ج. تركيزه على ضرورة الأصالة في بحوثه
    د. عدم الكلل من وضع مشاريع بحوث مستقبلية باستمرار
    وكدليل على النقطة(2) وتفاصيل النقطة(3) نجد في تكريمه كأستاذ جامعة بغداد الأول دليلا على صحة ما ذهبنا إليه.
  4. أ.د. عبد الهادي الخليلي كفيلسوف: إن هذا العامل يعكس حس الطبيب وموقعه في الهرم العلمي بين العلوم النقلية من جهة والعلوم العقلية والتجريدية من جهة أخرى.
    ففي فلسفة الطب فإن لعبد الهادي الخليلي ما يلي:-
    أ. نظرة خاصة في موقع وتميز الطب بين المنقول والمعقول والتجربة بكونه الوجه الآخر للعملة التي تجمع بين علم الأديان والأبدان في قطعة نقدية واحدة.
    ب. لديه نظرة متميزة في مسألة الحياة والموت، مع اهتمام خاص في مسألة موت الدماغ. إن عبد الهادي الخليلي ينظر إلى الموت لا بفزع بل ينظر إليه كمخلوق لطيف يعيش بيننا وينكشف علينا ساعة الوفاة ! فلا داعي للجزع.
    وما زلت أنتظر منه المزيد.
    وبعد ربما لو قدر لليوم أن يكون أكثر من ثلاثين ساعة مثلا مما نعمل به، لما استوفى نشاط ومشاريع وطموح عبد الهادي الخليلي.
    إني أرجو- من الله وحده – أن تكون أعماله كلها خالصة لوجهه هو ليكتب له موقعه الذي يستحقه فبخ بخ له.

الدكتور ياسر عبدالمجيد خريج عام 2002

مستل في كتاب “من وطن القباب الزرق… الحكيم عبد الهادي، سيرة حياة” لمؤلفه مؤيد عبد القادر)

في حياتنا هنالك أشخاص يدخلون عنوة، فيغيرون مجرى حياتنا بصورة جذرية، فتصبح حياتنا بدخولهم جزأين، جزءا قبل أن يدخلوا، وجزء بعده.

ولا أجانب الحقيقة إذا قلت أن الأستاذ الخليلي هو واحد من أولئك الأشخاص في حياتي .. وتجنبا للمديح المفرط، والثناء المغالي الذي قد يتملكني وأنا أكتب هذه السطور عنه، سأحاول أن أعرض بكل تجرد وموضوعية، بدايات لقاءاتي معه، شارحا كل موقف ومداخلاته، ومتأملا للمساته التي أضافها إلى حياتي العلمية والشخصية.

لقائي الأول مع الأستاذ الخليلي لم يكن لقاءً شخصيا ولم يكن وجها لوجه، بل كنت واحدا من أربعمائه طالب وطالبة في قاعة المحاضرات في كلية الطب، حيث كان الأستاذ يلقي محاضرته التمهيدية في جراحة الأعصاب، والتي يحرص على أن تكون تاريخية مشوقة، تسرد بدايات علم جراحة الأعصاب مرورا بحاضرها، وانتهاءً باستقراءات في مستقلبها. ولقد سررنا نحن الطلبة بتلك المحاضرة الشيقة التي احتوت  صور تاريخية لحضارات وأعلام  وشواهد على امتداد السنين وملأت أذهاننا بالأفكار.

أما لقائي الثاني معه فكان في مكتبه عندما دخلت عليه طامعا في إجراء مقابلة معه لنشرها في الجدارية الشهرية التي كنا نصدرها نحن الطلبة في الكلية. وبرغم ضيق وقته وانشغاله إلا إنه لم يعتذر واستقبلني قائلا بأن لقاءنا هذا سيكون تعريفيا، تاركين أسئلة المقابلة لموعد لاحق.

وجلست أراقب الأستاذ الخليلي محاولا أن أخرج باستنتاجات عن شخصيته قد تعينني في صياغة أسئلة مناسبة للقاء، وغرقت  في الافكار وأنا اتابع تعامله مع زملائه و طلبته ومع الموظفين وغيرهم، وخرجت من ذلك اللقاء التعريفي بغموض كبير وربطة عنق هدية منه بمناسبة عيد الفطر المبارك !

وجاء موعد المقابلة بعد إسبوع انتظرته بتلهف ورحت أسأله عن بداياته، وذكرياته، وأساتذته، فكان يجيبني بتفصيل شيق عن كل سؤال، فاتحا أمامي عند كل إجابة مغاليق ألف سؤال جديد.

أما لقائي الثالث فقد كان فاتحة عملي تحت إشرافه، وبداية لتعاملي مع شخصيته واكتسابي للكثير من علمه وآرائه. كان ذلك عندما طلب إليّ أن أطرح على طلبة المرحلة السادسة، فكرة المشاركة في مشروع جديد لتشجيع البحوث الطبية. وقد كنت أكثر سرورا بهذا التكليف، إذ سرعان ما جمعت عددا من الطلبة الذين تملكهم الفضل لمعرفة ماهية هذا المشروع.

وتمر الأيام، ويطلب مني الأستاذ الخليلي أن نطرح المشروع على جميع الطلبة ومن مختلف المراحل، وغاية  ذلك المشروع أن يمكن الطلبة من العمل في مشاريع بحثية علمية منظمة، في الحقول العلمية التي يرغبون بدراستها. كان المشروع يكبر شيئا فشيئا أمام أعيننا، وأصبحت له لجان بحثية، ومسؤولون ومقررون وعدد جيد من الطلبة الطموحين من المشاركين. وبلغ عملنا البحثي قمته خلال العطلة الصيفية، حيث قد تفرغ أكثر من عشرين طالبا وطالبة للعمل وبجهد واضح ضمن نشاطات المشروع وبإشراف ومتابعة الأستاذ الخليلي بنفسه على كل صغيرة وكبيرة. لقد أكسبني هذا المشروع، إضافة لحب البحث والتعلم، صداقة زملاء أصبحوا أكثر من إخوة بالنسبة لي، وعلى الرغم من الفارق العمري بيني وبينهم، أصبحنا نلتقي ونخرج ونسأل عن بعضنا البعض.

لا أعرف الكثير عن شخصية الدكتور عبد الهادي الخليلي، بل لا أعرف شيئا عما واجهه في حياته ليصبح على ماهو عليه الآن، ولكني أعرف عنه ما يحتاج الطالب الصغير معرفته عن أستاذه، أنه إنسان يستحق أن يكون مثلا أعلى، وقدوة يحتذي به جيل الشباب من الأطباء، بل جيل الشباب قاطبة، لما اجتمعت فيه من خصال حميدة ومثابرة واجتهاد.

وللأستاذ الخليلي، فلسفة خاصة به تقيه من شرور اليأس والقنوط، فهو يرى دائما أن على الإنسان في سعيه الدنيوي، أن يتوقع اسوأ النتائج، وأن لا تأخذ الأماني الكاذبة بتلابيبه، وبذلك يتجنب مرارة صدمة الواقع إذا جرت الأمور بما لا تشتهي الأنفس.. وهو يردد (إن الأحداث لا تكون مروعة إذا كانت متوقعة).

من الأشياء التي أثارت إعجابي في شخصية الأستاذ الخليلي في عمله، انه يمتلك قابلية فريدة للتعامل مع كل شخص على قدر فهمه، فنبرته في الحديث مع طلبته من الأطباء تختلف عن حديثه مع سكرتيرته، وتختلف عند حديثه مع أحد الموظفين البسطاء، وأخرى عند حديثه مع المرضى.

وهو خلال تعامله ذاك، يكون في أقصى حالات الهدوء، حتى إذا احتاج لرفع نبرة صوته على أحد المقصرين، تراه يفعل ذلك وهو في كامل السيطرة على أعصابه.

ولشخصية الأستاذ الخليلي سطوة على النفوس، وقوة ظاهرة لمستها عندما يتحدث معه الآخرون، فهم غالبا ما يكونون منصتين له، مقتنعين بآرائه حتى وإن طرحها للمناقشة أو عرضها للتشكيل حتى أن بعضهم يناهزه سنا، أو درجة علمية.

ذلك هو بعض ماقدمه لي أستاذي أبو الخير عبدالهادي، أشياء كنت أفتقدها بشدة من حولي في الكلية، فإذا به يحمل بين طيات أفكاره مشاريع لتحويل أحلامنا إلى حقيقة ملموسة، وطموحنا المندفع إلى واقع عملي، وقد جملّنا بذلك دينا سنظل نحمله أمانة في أعناقنا إلى الأبد.

الطالب ياسر عبد المجيد 2002

الأستاذ الدكتور حسين علي محفوظ

في حفل تكريمي في مجلس الخاقاني 1997

عبد الهادي الخليلي نمط فريد من الناس، جمع فريد من الذكاء والفطنة، والأريحية والألمعية، والخلق والتواضع، والسماحة والرجاحة، والرصانة والرزانة، والكرم والمروءة، والنبل والرفعة ما يملأ الأبصار والمسامع.

وهو مختص مجد، أحاط من فنون المعرفة بما ينبغي للطبيب المعاصر إن يتعرف إليه. وحمل من ألوان الثقافة ما لابد للطبيب في أواخر القرن العشرين أن يسعه. وقد استوعب من التراث القديم ما لا يستغني الجدد عنه.

يمثل عبد الهادي الخليلي أصالة الطبيب العربي الحكيم البارع في صناعة الطب، وعبقرية الطبيب العراقي النطاسي الماهر في العلاج. وهو جراح كبير قدير اشتهر بالتشخيص الدقيق والمعالجات الناجحة الناجعة الشافية.

ثم أنه وارث أسرة طبية عربية عراقية تدعى (بيت الخليلي). خدمت الطب في العراق منذ قرنين وبضع سنين. وأنجبت وحدها من الأطباء في سبعة أجيال بما يزيد على ما أعطته كل الأسر الطبية جميعا في تاريخ الطب في الاسلام.

وآل الخليلي من ثقيف أسرة الحارث بن كلدة طبيب العرب المشهور قبل الإسلام. تناول آل الخليلي كل فروع الطب والعلاج تطبباً ومعالجة وتحقيقاً وتأليفاً وتدريساً وتعليماً.

هذا ـ (للدكتور عبد الهادي معجم فريد نفيس في الطب، سعدت بتقديمه وتصديره والتعريف به. وله أبحاث ودراسات ومقالات ومحاضرات قيمة، وله ابتكارات في التشخيص والجراحة والعلاج تعتز بها الأسرة الطبية في العالم. وهي مما يفتخر به في دنيا الطب.

         ومما يختص به الخليلي حرصه على المريض. وهو يعد مرضاه أسرة ثانية. يهتم بهم في عيادته التي جمعت شرائط الراحة وشروط الطمأنينة والاستراحة، والانتظار الخفيف اللطيف. وهو يتابع المرضى ويهتم بهم كذلك في المستشفى وفي البيت. هم عنده أصدقاء وأقرباء. والطب عنده صداقة وقرابة ورحم وحب.

يسرّني في الخليلي أفق واسع رحيب معطاء معطار. وهو يعدّ الجائزة التي نالها جائزة العراق والعرب، وجائزة الطبيب العراقي والعربي العظيم الكريم.

د. حسين علي محفوظ

الأستاذ الدكتور محمود حياوي رئيس جامعة صدام

في حفل تكريمي في مجلس الخاقاني عام 1997

يشرفني حضور مجلسكم هذا، والتحدث بمناسبة عزيزة عليّ، فالدكتور عبد الهادي الخليلي اخي وزميلي وصديقي منذ فترة طويلة. وفي يقيني إن اتحاد الأطباء العرب قد عبّر عن موقف صادق وسليم عندما منح الدكتور عبد الهادي لقب أفضل شخصية طبية..

         أنا أيها السادة، لست ممن يميل إلى تسويد الصفحات الكثيرة في المناسبات، ولكني أرى أنه لابد من كلمة اعتزاز وتقدير تتناسب مع ما يستحق هذا التكريم، وحين أعود إلى سنين طويلة مرت، عندما كنا طلابا في كلية الطب وكان بيني وبينه فرق بسيط في المراحل الدراسية، أتذكر أن الدكتور عبد الهادي كان مجدّاً وشفافاً وصادقا، وكنت ألمس صدقه وشفافيته في كل نواحي تصرفاته.. وعندما تخرج عام 1966م كان الأول على دفعته، وليس في ذلك مفاجأة، فقد عرفنا في الخليلي المثابرة الجادة والفكر الواضح والذكاء الخارق، وقد كتب لنا أن نفترق لفترة من الزمن، حين احتضنتنا مدن متباعدة في بريطانيا، ثم التقينا بعد العودة إلى الوطن العزيز، وكان الخليلي قد اختص بجراحة الجملة العصبية، وحصل على أعلى الشهادات والتقديرات، في هذا الاختصاص، وكان مجال اختصاصي يختلف قليلاً، فأنا لست معنياً بالمرضى، وكانت نيتي ورغبتي متجهة إلى البحث العلمي، والبحث العلمي في تلك الفترة عمل شاق وغير مألوف، والخروج عن المألوف يقابل أحيانا بالسخرية والتهكم، لكونه غير مجد، ولا يضيف شيئا حسب اعتقادهم.. وقد كانت زمالتي للدكتور الخليلي في تلك الفترة محفزا لي على البحث والتنقيب، والتمحيص، وقد قطعنا مدة طويلة في مجال العمل والحوار، وكان لها ثمارها الكبيرة مع أن أكثرها لم يعلن عنه ولم تنشر كل نتاجاتنا المشتركة. وفي تقديري أن لذلك أهمية في تطوير الخبرات وتراكمها، وذلك ما اتصف به الدكتور عبد الهادي في عمله العلمي والسريري حيث أن له إسلوبه المتميز في العلاج أو التدريس ومعاملة المرضى، وكان وقد ولج الدكتور عبد الهادي أبوابا لم يطرقها أحد من قبل، واستحدث في مجالات عمله أكثر من نشاط ملحوظ من خلال الندوات والعيادات الاستشارية المتخصصة، فهو في مستشفى ابن الهيثم يقيم ندوة إسبوعية للأمراض المستعصية في العيون والمحجر، وفي مكان آخر يقوم بدراسة إصابات الرأس بصورة معمقة، ويساهم في تطوير المكتبات الطبية المتخصصة فيقوم بتصنيف كتبها وتبويبها.. إلى غير ذلك من أوجه النشاط الذي يتعذر حصره في مثل هذا اللقاء. ولا شك أن مثل هذا التنوع وهذه القدرة تعبر عن إمكانية كبيرة وفذة وتعبر عن روح دؤوبة جادة، لا تتوفر إلا لقلة من الذين يضعون بصماتهم على ملامح الأحداث ويرسمون في مجالات الحياة المختلفة ملامحهم كمبدعين ومتميزين.. وفي تقديري إن في سيرة الدكتور الخليلي الذاتية من جوانب التنوع والأصالة ما يصعب حصره.. كما أنه لابد من الإشارة إلى أن الظروف القاسية وإفرازات الحصار والمغريات الكثيرة التي انتصبت أمام الدكتور عبد الهادي من جهات خارجية، لم تستطع أن تهز من موقفه الوطني، وأن تبدل من شخصيته كعراقي مخلص لأمته، يرى في رسالته أن ينير دروباً في ساحات الوطن وأن تظل رسالته ليست لذاته وحده..

في هذه المناسبة أقول أننا نشعر بالصعوبات ونعاني من إفرازات الحصار.. إلا أن تراكم الرماد لا يعيق روحاً وثابة ناصعة أن تنطلق نحو المستقبل الزاهر.

والسلام عليكم…

الأستاذ الأديب والمؤرخ رفعت مرهون الصفار

في حفل تكريمي في مجلس الخاقاني 1997

المجد.. ما يشيد صرحه فرد لنفسه وعائلته ولوطنه وللإنسانية، باذخاً شامخاً لا ينهض بعبئه إلا العظيم، والعظيم لا تنجبه إلا العائلة النجيبة الكريمة.

شهد الخلائق أنها لنجيبة    بدليل من ولدت من النجباء

حين يكون المجد مجد العلم والمعرفة والفكر والثقافة والتنوير والعطاء يكون هو الأخلد والأجدر بالبقاء بين كل أنماط الأمجاد.

والرجل الكبير، الكبير في العلم الوثيق والخلق الرفيع والاستعداد الموصول لخدمة الإنسانية بتضحية وإيثار… يولد هذا الرجل الكبير فتولد معه الأفكار الكبيرة منذ يفاعته وطراوة عمره، لتلازمه إلى نهاية المطاف.

والبطل الحقيقي بكل معاني التفرد والسموق والتبريز، السطوع ولمعان الشهرة والاسم والصيت… هو من تنشر أفكاره ومبادراته في كل مرافق الحياة وآفاق الأرض انتشار النور… لتأخذ حيزها المؤثر في مسيرة الوطن وتطلعات الشعب نحو تدارج الارتقاء وتصعيد وتأثر الطموح الإنساني المشروع..  وحين توضع نتائجه الباهرة من مبدعيه موضع الاستمتاع والانتفاع معاً تحت تصرف الناس، سداً لحاجة واستكمالاً لنقص.. وأن تتحقق به الأحلام والآمال، لتصبح حقيقة ماثلة ووقائع ملموسة، يكون التوافق صحيحاً والانسجام طبيعياً بين الفكر والتطبيق، على طريق رعاية الإنسانية ومداواة آلامها وأسقامها… وانه طريق واثق الخطى مأمون السير مضمون الوصول إلى نهايته المرجوة لأنه الطريق الذي يريده الله لعباده يبارك مسيرته ويهدي السائرين عليه. وحين تكون تلك الصور الجميلة والقيم النبيلة والمبادرات الجليلة بحاجة إلى شهادة الشهود وإيراد الأمثلة والنماذج، والإشارة بكل المؤشرات المتاحة إلى المثال النموذج يكون المحتفى به قمراً يتألق بين النجوم الزواهر… ويكون هذا القمر المنير في إشراقات العلم والطب والإنسانية هو هذا المحتفى به: الأستاذ الدكتور عبد الهادي بن الحكيم الأديب الشاعر الشيخ محمد صالح الخليلي، الممتد نسبه إلى محتد عربي أصيل في التاريخ منذ مئات السنين إلى شيخ الأسرة وعميدها الأول ومؤسسها الحكيم الخليل بن علي بن إبراهيم الرازي النجفي الثقفي… وحين تكون فصول حياة الدكتور بمراحلها ومفاصلها موصولة بنجاحات باهرة متتالية يكون الوصف البليغ له ولها مقترناً بصيغة (أفعل) التفضيل اقتراناً ميموناً مأنوساً حقيقياً واقعياً ودائمياً حتى يبدو وإن كلاً منهما إلى كل مضاف ومنسوب. فهو منذ أن كان طالباً في مطالع الدراسة المتوسطة (الأكثر) تطلعاً إلى دراسة الطب في المستقبل وهو يقضي أيام عطلته الصيفية في (صيدلية الأمير) في النجف ليوطن نفسه على الاطلاع والعيش في أجواء الأدوية والعقاقير واستعمالاتها.

ثم يمضي قدماً بعد أن يدخل كلية الطب في بغداد ليكون (الأول) بين خريجيها عام 1966م.

وقبل أولوية التخرج كان يسبقها الموقف (الأروع والأندر) بين المواقف الدراسية الجامعية العالية، حين يؤدي امتحاناً في بغداد مكللاً بالنجاح في شباط 1966م حاصلاً على شهادة الممارسة الأمريكية وهو لما يتخرج طبيباً بعد.

ويواصل مسيرته الإنسانية في مهنته المحببه مقبلاً عليها حفيّاً بها.. ليمارس طب العيون في بغداد، ثم يسافر إلى إنكلترا ليتخصص فيه، وبعد مرور سنة في التطبيق، اكتشف نفسه فوجد أن طب العيون (لم يحقق الحلم الذي كان يتوخاه من الطب) وهو العلاقة بين الطبيب والمريض، إذ كان قد تصور له بأن علاقة طبيب العيون ليست بنفس المريض ولكن بعينه فقط، فهو عالم أكثر منه طبيباً.

ولذلك قرر تغيير مسار اختصاصه فتوجه إلى جراحة الدماغ.. وواصل دراسة هذا الاختصاص واجتاز الامتحان الأول والثاني (النهائي) في نفس العام 1973م وحصل على شهادة .FRCS

ومما يذكر لمسيرته العلمية بالفخر شهادة أستاذه (الأستاذ د.خالد القصاب) بكون الدكتور الخليلي هو (الأجدر) بفخره واعتزازه بين طلابه.

وظلت حياته بين التخرج والتخصص والتدريس والممارسة حتى الآن  (الأحفل) بـ (أعظم) النشاطات والمبادرات موزعة على عضوية الجمعيات العراقية والأجنبية ، وحضور الدورات والمؤتمرات وزيارة المراكز العالمية الخاصة بجراحة الدماغ، وإلقاء المحاضرات داخلا وخارجا والإشراف والمشاركة بعضوية اللجان العلمية، وتمثيل العراق في البورد العربي للجراحة العصبية.. وتأليف وترجمة الكتب وإلقاء البحوث العلمية.

إن الحديث في سيرة الدكتور الأستاذ العالم النابغة ومسيرته طويل متعدد الجوانب متنوع الفصول، وما قدمته هو غيض من فيض مراعاة للوقت والمجال.

وبعد أيها السادة الأفاضل المجتمعون لتكريم طبيبنا العزيز.. بمناسبة فوزه بجائزة اتحاد الأطباء العرب لأفضل شخصية علمية في الوطن العربي.. أن أفعل التفضيل تبدو أكثر تألقا وأبهى موقعا وأخلد ذكرا حينما تضاف إلى علم من أفضل علمائنا وطبيب من أوفى أطبائنا التزاما بالمثل الإنسانية ووريثا من أحق المنتسبين إلى عائلة الخليلي الجليلة المباركة، انتماءً إلى كوكبة أدبائها وعلمائها وشعرائها وفقهائها ومثقفيها ومؤلفيها ووجهائها في المجتمع ومناضليها دفاعا عن العروبة والإسلام.

اللهم زد وبارك والدعاء إلى الله بحسن التوفيق ودوام  العافية للمحتفى به والتحية الطيبة لمكرميه وللسادة الحاضرين والسلام 

الأديب والمؤرخ الأستاذ عباس علي

في حفل تكريمي في مجلس الخاقاني 1997

من سوانح الحظ التي واتتني في هذه الوهلة الزمنية المعاشة والتي أتلمظ من خلالها حلاوة السنين التي تدحرجت إلى الوراء مع ما شابها من خصب وجدب، شرف التعرف على طلعة يحتفظ اسمه برنين متميز خاص ويتساوق مع ذكره إعجابُ ممتد الطنب، عرف بوثباتهِ العلمية الرصينة في حقل اختصاصهِ، وبذكائهِ المتألق، تنطلق ومضاتهُ من بريق عينيهِ، وبأعرافه المستمدة من جذر عريق ومحتدً أصيل… إنه الدكتور (عبد الهادي الخليلي).

ولد الرجل في مدينة النجف الأشرف عام  1943، والنجف كانت ومازالت مدينة إشعاع فكري تعتمد على مصاص العلم في نهوضها، وتستند في كل البرة الشاخصة من قرن إلى قرن على مركزها الروحي وشموخها المتصاعد بسبب احتضانها مثوى إمام المتقين عليه السلام فهي بمقتضى هذا الواقع سجلت من عمرها سنيناً طوالاً تتكئ على دورها الريادي كعاصمة للعلم ومحور اشرئباب المتطلعين نحو الشمس، نحو المزيد من المعرفة المحضة.

ترعرع الخليلي في بيئتهِ الصغيرة التي اتخذت من الدأب الثقافي منهجاً هدفهُ الخدمة العامة بأُطرها الإنسانية فاتخذت إلى جانب انخراطها من الحوزة العلمية مناطاً تتوزع مفاصلهُ بين الفقهِ والأدب والمنطق وعلوم اللغة وبين الطب بأساسياتهِ التراثية التي تملكتها الأسرة الخليلية جيلاً بعد جيل.

لقد نجحت هذه الأسرة العريقة والبارزة بين الأسر العلمية في النجف بعد أن نبغ فيها المشاهير من العلم وخدمة الإطروحة حيث تسنم من رجالها كرسي الاجتهاد والفتيا فقاموا بالواجب أحسن قيام وقادوا الأمة إلى منهج الشرع القويم وانتشلوا العامة من هوة الجهل والضلال، ومن بينهم برز أطباء حاذقون خُبراء نطاسيون ماهرون وكانوا محل وثوق واطمئنان عند أهالي النجف وكانوا أرأف بهم من الأم الحنون يرحمون الكبير ويعطفون على الصغير ويصلون الفقير بأموالهم فضلاً عن سعيهم على حد تعبير صاحب كتاب ماضي النجف وحاضرها.

وأعتقد أن مسيرة ابنها البار الدكتور عبد الهادي الخليلي بعد أن ثنيت لهُ الوسادة لم تبتعد عن خطى أسرتهِ من هذا السبيل الموغل من الوعي الاجتماعي فإنسانيتهُ تتمشى بشكل جلي مع متطلبات الرأفة والإخلاص لشريعة الطب الإنساني الذي كان ديدن أطباء التراث المرموقين، ساروا بدفع من موحيات فكرنا الرسالي المثبت في ثوابت الإطروحة كآلية متمكنة تخفف من وطأة معاناة الإنسان.

ومن بحبوحة هذا التجاوب من لدن الأوساط ذات السمة الطبية بدأت المؤسسات ذات العلاقة داخل العراق وخارجه أن تتسابق في مجال الاعتراف بمركزه العلمي وبقدراتهِ الطموحة.

حصل سنة 1994م على لقب الأستاذ الاول بجامعة بغداد وفي سنة 1994م أصبح عضواً في لجنة البحوث بمنظمة الصحة العالمية ومن سنة 1998م اعتبر عضواً مؤازراً في المجمع العلمي العراقي.

والذي لاريب فيه أن ألمعية الخليلي استطاعت بمدة زمنية قصيرة أن تبلغ بهِ الشأو وكان حبه وتعلقهُ بالطب وراء كل خطوة وضعها على الطريق وكما قُلنا سلفاً كان ذكاؤهُ يقربُ لهُ البعيد. صحيح أن عدداً كبيراً من الأطباء العرب ومن غير العرب قد حصلوا على ذات الخبرة والكفاءة لكن الصحيح أيضاً أنهم أنفقوا الشطر الأكبر من أنشطتهم في التحصيل المواكب للتطور بمداه الذي وصل إليه. عبد الهادي الخليلي لمع نجمهُ من الوسط العلمي والطبي وهو لما يزل دون الكهولة تحديداً يمارس فعالياته من جراحة الدماغ  بمدارك شاب لم يزل في مقتبل العمر وهذه ظاهرة يجب أن يتعرض لها الباحث عند مراجعة مسيرتهِ.

واذا كان الدكتور الخليلي قد نجح في سعيهِ العلمي فلا بد أن نشير إلى التداخل الذي حصل بين علمهِ وبين أخلاقهِ فهو يتمتع بخصوصية قد تكون مفقودة عند الكثيرين من الأطباء ومن غير الأطباء.

ثوابت أخلاقياتهِ لم تتزعزع فهي مشدودة إلى آليات تُدرك من سيرة العلماء… بشاشةٌ من الوجه وصدقُ من العطاء وحرارة في التعامل مع ضوابط الإنسانية ولذلك لم أجد بين الذين راجعوهُ بقصد الاستفادة من خبرتهِ من ينكر عليهِ هذه الشمائل وهي التي وهبتهُ هذه السمعة وفتحت لهُ القلوب كما أن صدى هذهِ المشاعر حفزتهُ إلى المداومة على طلب وملاحقة الخبرات المتاحة في أروقة الجامعات العالمية المتقدمة زائراً ومتابعاً وممحصاً.

وتلك مسألة بالغة الأهمية بالنسبة للعلماء الأكفاء الذين لا تتضاءل رؤياهم عن استشراف التطورات الحاصلة في المعلومات العلمية بالعلم كما نرى أنه لم يتوقف عن الامتداد إلى مساحات معرفية تخدم مسيرة الإنسان المتحضر لا سيما في المدارك التي تعتبر بمثابة قفزات في عوالم الاكتشاف والتطور والإبداع كدخول الكمبيوتر بضمائمهِ التي لا تصدق الساحة العلمية.

وعلى كل… نتمنى لعالمنا الكبير والنطاسي الموهوب حياة يحفها الاطمئنان والدعة من أجل خدمة الفكر في وطننا على النحو الذي أرادهُ الدكتور الخليلي في مسار توجهاتهِ الخالصة.

الأستاذ الباحث محمد رضا القاموسي

في حفل تكريمي في مجلس الخاقاني 1977

وقفة مع الأسرة الخليلية

أكثر من نظرة ثاقبة يرسلها الدهر في أبنائه، ليستخلص منهم لنفسه، نفراً بايعوا الفضيلة في السر والجهر، وعاهدوا العلم في القول والعمل، ولدتهم الليالي فكانوا عزا لليالي، وانتجبتهم الأيام فصاروا مجدا للأيام، وطرزوا صفحات مسيرتهم بلآلئ أعمالهم فكان التاريخ كفيلاً لهم بالتكريم والخلود.

يستخلصهم الدهر عظماء طبعت على الجد نفوسهم فأطروا حياتهم بالإبداع والأصالة، وقدموا ما وسعهم العمر، كل ما ادخرت تجاربهم لخدمة أمتهم ووطنهم، ليكونوا شاهدا على نمو بذرة الإخلاص، ودليلاً على زهو عطائها، ووصلوا توهج الحاضر بإشراق الماضي بمنأى عن الدعاوى العراض والشهرة الكاذبة. وحين نحتفي بأمثال هؤلاء، ونستذكر جهودهم المعطاء، فإنما نشير إلى بعض من أنحاء عظمتهم ونذكر شطراً من مزايا مثاليتهم، ولنقدمهم للأجيال مثلاً يحتذى وأنموذجاً يقتدى.

         والأسرة الخليلية التي نحيي اليوم واحداً من أبنائها البررة وعلماً من أعلامها الأفذاذ أنموذج رائع لأولئك العظماء الذين تعطر بهم سمع التاريخ واستضاء بتذكرهم أسفاره. فمنذ أن بزغ نجم شيخها الخليل قبل أكثر من قرنين في هذا البلد الأمين والأسرة تشق طريقها إلى مختلف مجالات الحياة العلمية والعملية بخطى واثقة، وتترك بصماتها واضحة، بما وهبت عقول أبنائها من علم وأدب وبما احتجنت نفوسهم من سمو ورفعة وبما جبلت عليه طبائعهم من إخلاص ووطنية.

         وفي اهتمام الأسرة بالطب وفروعه وعكوفها جيلاً بعد جيل على التوغل في استجلاء غوامضه وكشف أسراره أكثر من ملمح على ألمعيتها ونباهتها ويأتي اعتزازها بالنسب إلى الخليل باعتباره أول من ولج ميدان الطب من أعلامها، دون سواه من أسلافه وفيهم أكثر من فقيه وأديب، ملمحاً آخر على تعلقها بهذا الفرع الجليل من فروع المعرفة، وفخرها بحمل رايته.

         ومما تذكره المصادر أن الخليل هذا كان من طلاب الفقه، وصادف أن ابتلي بمرض عضال وبعد أن شفي منه قال: إن العلم الذي يخلص الإنسان من براثن مثل هذا المرض، لجدير بالتحصيل والمعرفة بحكم العقل والحس، ومن هنا كانت بداية رحلته في دراسة الطب، والإبحار في مسالكه، حتى أصبح من كبار أساتذته وممن يشار إليه.

         وقد استوقفتني وأنا أقرأ هنا وهناك تاريخ الأسرة ونشاط أعلامها الراحلين في هذا المجال، عدة محطات وجدتني مدفوعاً إلى تسجيلها والإشارة إلى بعض ملامحها وهي:

أولاً: في سير هؤلاء الأعلام أكثر من إشارة إلى جمعهم في مناحي حياتهم العلمية والعملية بين علوم الطب ودراسة العلوم الدينية، أو بينه وبين علوم الأدب والشعر، بينما جمع فريق منهم بين الطب والتجارة. فالحكيم الصادق بن الباقر كان فقيها جليلا، وله يد طولى في دراسة وتدريس الفلسفة والمنطق، وعرف ولده الحكيم الشيخ محمد باهتماماته الأدبية وبروزه شاعراً مجيداً، وكان الحكيم الشيخ محمد صالح ـ والد الدكتور المحتفى به ـ من أعيان تجار الكوفة إضافة إلى ما عرف عنه من أدب وفضل.

وقد حفلت كتب التراجم بذكر العديد من حكماء الأسرة الأدباء والفقهاء وذكر نماذج من أشعارهم والإشارة إلى آثارهم العلمية.

ثانياً: إضطلع ثلة من هؤلاء الحكماء بمهمة تدريس الطب في حوزات النجف العلمية تقرباً إلى الله وحباً بإشاعة المعرفة، فكان للحكيم الباقر بن الخليل حلقة تدريس كبيرة يحضرها جمع من فطاحل الفقهاء والأدباء وكان وحيد عصره في تدريس قانون ابن سينا، وقد سجل نفر من تلامذته تقارير بحثه، ومثله ولده الصادق.

         ومتى أدركنا أن اهتمامات مدرسة النجف بحكم مركزها الديني، كانت منصبة على دراسة العلوم التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، ندرك بوضوح أهمية هذه الظاهرة التي تؤشر مدى سعة أفق المدرسة النجفية وشغف طلابها وعلمائها بالتطلع إلى مختلف العلوم التي تقع في متناول أيديهم.

ثالثاً: لحكماء الأسرة الخليلية أكثر من أثر طبي يلقي الضوء على مدى قدراتهم، ويكشف عن وفر تضلعهم ورسوخهم في هذا الفن، وقد دونت لبعضهم تجاربه الطبية ومن هؤلاء الباقر بن الخليل الذي سجل بعض تلامذته تقريرات بحثه ـ كما ألمحت ـ ولولده الصادق كتابان هما الكليات الطبية ويحتوي على القسم النظري والعملي في الطب، وثانيهما التحفة الخليلية وهو خاص بالأبحاث النبضية، بينما كتب حفيده الشيخ محمد العشرات من الكتب والبحوث في هذا المجال، نذكر منها القرآن والطب الحديث وطب الإمام الصادق (ع)، المغريات العشر وغيرها كثير.. وللشيخ محمود بن الحسن بن الخليل كتب ثلاث هي: الفوائد وتكملة الفوائد وتوضيح الأمراض، كما كتب الحكيم عبد الحسين الخليلي نزيل الحلة تعليقاً على شرح ابن النفيس وهوامش على قانون ابن سينا ووضع إرجوزة لطيفة في النبض لم تنشر ـ وكتب أبو الأسرة الخليل الطبيب إرجوزة رائقة، ضمنها الكثير من الفوائد والمعلومات، وهي تكشف عن مدى تمكنه من اللغة وامتلاكه لناصية الأدب، وقد أثبتها الشيخ محمد الخليلي في (معجم أدباء الأطباء) ـ .. يقول في بعضها مشيراً إلى آداب الطب والطبيب:

يختار للطب سليم العقل
كامل خلقة عريق مغرس
يـسر من رآه هشاًّ بشّا
نسبته للناس بالسواء
لا يطلق المقال كيفما يشا
عفيف عين وعفيف مسمع
وليأخذ الصدق له شعارا
ولا يعظّم مرض لديه
لا يهمسن عنده بهمسه
ولا يجسّ النبض وهو عابس
فاليأس لا يأتي مع الحياة
وليسع المرضى بحسن الخلق
مستبدلا راحتهم براحته
ولا يكن أقصـى مناه الأجر

 عف اللسان ذا تقى ونبل
جميل هندام نظيف ملبس
لم يحو قلبه هوى وغشا
مشخصاً للداء والدواء
ولا تميل نفسه للأرتشا
لأنه يدخل كل مخدع
إلا اذا جاوزه اضطرارا
فأن من أمراضه يشفيه
فإنها قد تقتضيه النكسه
أو أنه يقول إني يائس
ولا الحياة مع يأس تأتي
فإنهم أولى بكل رفق
متخذاً شفاءهم من غايته
فالأجر عند الله نعم الذخر

رابعاً: جاءت اهتمامات الأسرة في مجال الطب متشعبة، فقد عرف الشيخ محمود بمعالجة أمراض العيون وكذا الحكيم صادق بن جعفر الذي عرف إضافة إلى ذلك بتخصصه بطب الأطفال، وعرف محمد حسين وعباس ولدي الشيخ محمود المذكور بمهارتهما في طب الأسنان وتركيبها، واشتغل الحكيم محمد صالح بالصيدلة وتركيب العقاقير ومعرفة خواصها واختص الشيخ أسد ـ والد الكاتب المعروف جعفر ـ بالجراحة وقد نوه بعض مترجميه بجرأته في العمليات الجراحية وبالأخص منها عمليات استخراج الحصى من المثانة.

خامساً ولعل أهم مأثرة سجلها التاريخ لهؤلاء الأعلام هي أن تعاملهم مع مرضاهم ومراجعيهم كان بمنأى عن المنفعة الشخصية أو الإثراء على حسابهم ولم يكن ما يحصلون عليه كأجر شيئاً يذكر، وقد أشارت المصادر بصورة خاصة إلى إسلوب تعاملهم مع الفقراء والمحتاجين فكان جدهم الأعلى (الخليل) رقيق القلب عطوفاً لا يمنعه عجزه وكبر سنه عن خدمة الإنسانية ومداواة المرضى لا سيما الفقراء منهم ومواقفه أشهر من أن تذكر، وكان الحكيم محمود للمرضى كالأب الرؤوف والوالد العطوف يعرف البلاد وطبائع أهلها ويميز غنيهم عن فقيرهم وكثيراً ما كان يسعف المرضى الفقراء بالمال والدواء.. وقد رأت السماوة في الحاج حسن ـ عم الدكتور عبد الهادي ـ أباً رؤوفاً ومعالجاً ناجحاً وكان الحسن بن الخليل يقول: من الظلم للوجدان والإنسانية أن يستوي الفقير والغني في العلاج وكثيراً ما كان يسعف المرضى بالمال وإذا دخل بيت مريض يحسبونه كأحدهم ولا ينظرون إليه إلا كأب مشفق لمزيد عنايته.. وحين انتشرت (الملاريا) في قصبة الحيرة شدّ الحاج رضا ـ جد الدكتور عبد الهادي ـ الرحال إليها ومكث فيها يعالج مرضاها بإخلاص منقطع النظير ابتغاء لمرضاة الله والضمير..

سادساً: كان أكثر هؤلاء الأعلام على جانب كبير من دماثة الخلق ورقة الطبع والميل إلى الفكاهة واقتناص فرص تصديها وهذا ما جعل منهم شخصيات محببة إلى النفوس، قريبة منها، وكلكم يعرف أثر ذلك في إشاعة روح الرضى والاطمئنان عند المرضى، وقد أشارت العديد من الكتب والمجاميع إلى طرفهم ونوادرهم، حتى ليصح القول أن أكثر الخليليين خلقوا مجبولين على الظرف والنكتة.

وأخيراً أيها السادة:

حين نستذكر أسلاف المحتفى به الدكتور عبد الهادي الخليلي ونحيي مآثرهم إنما نشير إلى عاملي الوراثة والبيئة اللذين خلقا منه عالما دؤوبا ونطاسيا ناجحا وأستاذاً قديراً وإنساناً رائعا.. وفقه الله لخدمة وطنه الغالي وأمته العزيزة وشكراً.

من مصادر الحديث:

  1. معارف الرجال لحرز الدين
  2. الطبقات لأغا بزرك
  3. شعراء الغري للخاقاني
  4. ماضي لنجف وحاضرها لمحبوبة
  5. الذريعة لأغا بزرك
  6. معجم أدباء الأطباء لمحمد الخليلي
  7. أعيان الشيعة للأمين العاملي
  8. بحوث في الأدب النجفي مخطوط لكاتب السطور

الأستاذ الباحث عباس علي

في حفل تكريمي في مجلس الدكتور محسن الشيخ راضي 1997

إعتدنا، ولعلها من بقايا مدارجنا المتعبة، أن نتذكر أفذاذنا المتميزين بعد انتقالهم إلى الملأ الأعلى.

تركناهم ـ عن غير قصد ـ وهم بين ظهرانينا.. يتلمظون سغب الحياة مذاقا بمرارة اليأس.. تآكلت حجيراتهم الحية بصمت.. واختفى بريقهم كذبالة نفذ زيتها.. دون أن نقترب منهم اقتراب عزوم ينهنه أو ندنو منهم دنو شفيق يرفه.

وفي الوصلة الزمنية التي نعيشها.. سلسلة طويلة من أسماء ذات رنين، خدموا ثقافتنا خدمات رصينة لا تحصى.. وعززوا مكانة العلم بدأب وسهر وإصرار.. ورسخوا بالجهاد المرمض والسعي الممض قيماً أصيلة.. نشروا بها أحكام التواصل بين ماضي الأمة وحاضرها.

         ولكنهم.. وأقولها بأسف جارح.. لم تكتحل أبصارهم ـ وهم أحياء ـ بومضة أمل.. يشيع من مفاصلهم دبيباً ناشطاً.. أو يسمن لهم عضداً ليصدّوا به وهنا.

حتى إذا مسّ جذوعهم اليبس.. وانتهى بهم المطاف إلى حفرة.. قمنا مسرعين إلى المنابر نعدد لهم مآثرا ونستمطر لهم شآبيب.. والأسماء تعرفونها.

         بيد أن السياق المتحضر الذي امتد إلينا على مهل.. ضخ في شرايين وعي الأمة دماً جديداً أثر في مشاعر طلائعنا المتقدمة ولو بنمط نحيف تنميه الهواجس التي بدأت تتمطى في وجدان الجيل المشرئبة إلى فهم معمق وموضوعي لدور الفذ المتميز في حياة الأمة.. وما ينبغي استدراكه لتلافي ذلك الإرهاص الهابط الذي كان ينظر إلى الحياة بعينيّ خفاش والذي أسهم جهلاً بترك الظواهر المترهلة تتحرك دون لجم.. ومن سياقاتها المتراخية تلك مواقفنا يومئذ إزاء النضر المتألق..

ومن هذا الفهم وعلى ايقاعه نجتمع اليوم وبمبادرة ذكية أخذ بضبعيها أستاذنا الدكتور الحاج محسن الشيخ راضي.. الرجل الذي طالما عودنا على لملمة الجمع الخير لأداء فرض أخلاقي يتقطر منه الوعي.. تكريماً لفذ متميز عرفته أروقة العلم في العالم، طلعة بين العلماء المبدعين.. هو الدكتور عبد الهادي الخليلي.. ولنؤكد له أن ثمار جهوده في حقل اختصاصه محتجنه في ذاكرة أمته وأن إخلاصه للعلم ومصاصه أصبح عنواناً لشرف مهنته.. وأن تواصله مع الوازع الإنساني المحض بمداه المعبر عن خوالج نزيهة تتمثل بتغليب الجانب المعنوي على الجانب المادي سيكون نبراساً لمن يترسم الخطى.

لا أقول ذلك اعتباطاً استدرجنى إليه إعجابي بدوره.. وإنما إلى جانبي.. ألسنة الخلق التي هي أقلام الحق فاح نشرها، وعم أريجها وتراهت وشائج فلذها.

في هذا المنحني يلزني الإنصاف لزاً أن أشير إلى البيئة التي شب فيها وترعرع.. والنجف يومذاك ومازالت عاصمة للعلم وصلبه للصراع الفكري وموشور زجاجي تلتقي فيه وتنطلق منه ألسنة الوهج المعرفي.

صحيح إن العالم اليوم وبمنظور العصرنه يستمد خزينه من النهر الكبير وليس من الجدول  الضحل.. ونسغه من الجذر المتغلغل في العمق وليس من الركام الهش.. يطفو على السطح.. ومصادر علمه من المشرط والمختبر والمجهر.. وليس من النقش العاجل والدوران حول حافات السفح.

ولكن الصحيح أيضاً أن للبيت دوراً ولو بصفة أضعف الإيمان.

 هذا الرجل المكرَّم.. أينع غراسه واخضّر عوده في بيت تفتحت كواه على الهواء والفضاء.. على الدراية والحكمة والحنكة..

منهم أطباء على منهج أطباء التراث.. وأئمة محراب.. ورواد فكر وفطاحل لا يشق لهم غبار كانوا في زمانهم فناراً يُدل ويرشد ويقود.

 فتح الخليلي عينيه والطب في شرعة بيته مواساة وعطف ورحمة فانشدَّ إلى هذه الغمائم انشداد مؤمن ملتزم لا انشداد متحلل رخيص لم ينس.. حين بلغ الصياصي.. وهذا هو المهم تلك المقتربات الإنسانية التي حرصت عليها أسرته العريقة.. فرسم لمنهجه على ضوئها خطوطاً وشتّى امتدادها بنسق من الأعران أبدعت منه مثالاً لا يضاهى، طبيبا وإنسانا ومواطنا صالحاً.. أتاحت للبائس المريض ـ بنوع خاص ـ أن يجد الراحة بقربه والشفاء على يده لاسيما في هذا الزمن الصعب.. تكالبت فيه على أمتنا وعلى شعبنا قوى شريرة كافرة، وأتاحت لفهمه هو أن ينجح بفيض من الرضى.

هذا هو الخليلي في لمحة تكاد أن تكون خاطفة، لملمت براعمها في غير ما تدرج منهجي أو استيعاب.. ومن الوسع استجلاء ملامح الصورة دونهما حاجة إلى رتوش أو إضافات.

أيها الأخوة:

من حق الأستاذ الدكتور محسن الشيخ راضي أن نشيد بمواقفه كلها.. ومنها موقفه من تكريم هذا الجهبد  فحسن اختيار المناسبة دليل على الألمعية وتحمل أعباء القصد أمر يقترن بكرم النفس وعلو الهمة.

فاسمحوا لي باسمكم أن أزجي إليه أسنى عبارات الحمد والثناء مشفوعة بالأمنيات الحارة بدوام الموفقية وهناءة البال.

وبذلك المقدار من التوجه أنقل لحضراتكم شكر الحاج المحسن لتفضلكم بتلبية الدعوة والمشاركة في هذه الاحتفالية الميمونة المكرسة أصلاً لخدمة الفكر في العراق من خلال تكريم رموزه، وبين هذا وذاك نتضرع إلى القدرة المتعالية أن تمن على الجميع بخير لا ينقطع وعز لا يفل.

الدكتور صالج التميمي نقيب أطباء العراق

في حفل تكريمي في مجلس الدكتور محسن الشيخ راضي 1997

لي مزيد الشرف أن أكون بين هذه النخبة الخيرة من أبناء بلدي العزيز، ولا بد لي ابتداء أن أقدم شكري للدكتور محسن الشيخ راضي على إتاحته هذه الفرصة لحضور هذا الحفل الذي يعقد بمناسبة عزيزةعلينا، تلك هي مناسبة فوز الزميل الدكتور عبد الهادي الخليلي بالجائزة العلمية التقديرية من اتحاد الأطباء العرب.

الحضور الأعزاء…

تمتد معرفتي بالدكتور عبد الهادي الخليلي إلى سنة 1960 حين التحقنا بكلية الطب سوية، وتخرجنا سوية، وكلكم يعلم أن الدكتور عبد الهادي كان الأول على دفعته، وهو لا يزال يحمل نفس الصفة لحد الآن.. وكنا نلتقي خلال هذه المسيرة الطويلة بين الحين والآخر فنجدد ذكرياتنا ونتحدث عن القضايا والأمور التي كانت تربط بيننا وبين زملائنا الذين تفرقوا في أرجاء الدنيا.. وأنها لفرصة ثمينة أن تكرم نقابة الاطباء الأخ الكتور عبد الهادي برفعها بحثه القيم إلى اتحاد الأطباء العرب.. ولا يخفى أن هذا الاتحاد يضم (16) دولة عربية، من بينها مصر والعراق وسورية، وأن جائزته التقديرية لأحسن بحث يكتبه طبيب عربي ابتدأت عام 1997م، وقد كان من دواعي سرورنا أن نرفع بحث الدكتور الخليلي لننافس به ما قدمته الأقطار العربية من بحوث وموضوعات. كما كان من حسن حظنا أن يفوز الدكتور الخليلي بجائزة الاتحاد، فنرفع بذلك اسم بلدنا مع اسم زميلنا عالياً في نفس الوقت.

وقد آثرنا أن تساهم وسائل الإعلام بدورها في إبراز هذا الفوز السار، فأعلنت الصحف عنه وبث التلفزيون العراقي خبره بفخر واعتزاز كما نوهت عنه مجلة الطبيب الملحقة بالمجلة العلمية للنقابة.

         وليس غريباً أن يحصل عالم أو طبيب عراقي على مثل هذه الجائزة فالعقل العراقي عقل متميز، ومشهود له بالكفاءة في أرجاء العالم. وفي أواسط السبعينيات كما يتذكر الدكتور الخليلي جرى امتحان أولي للجراحة التخصصية (FRCS) في العراق نجح فيه (14) طبيباً من مجموع عشرين شاركوا فيه أي أن نسبة النجاح كانت 70% في الوقت الذي وصلت في أنحاء اخرى من العالم نسبة 30% أو 25% ويحدثني الأخ الدكتور نجم الدين الروزنمجي أستاذ طب الأطفال في كلية الطب أن الحائز على الأولوية في طب الأطفال خلال السنوات الخمس الأخيرة كان طبيب عراقي. اذن ليس غريباً أن يحصل الدكتور الخليلي على مثل هذا التكريم فهو عراقي قبل كل شيء.

أخيراً: أود أن أشير إلى أن علاقتي بالدكتور تزيدني فخراً على فخر فوزه، كما أود أن أعترف أن تكريمنا له كان متأخراً وأن نقابة الأطباء ستقيم حفلها التكريمي مساء 29/8/ ويسرني دعوتكم لحضوره.

أكرر شكري للدكتور الشيخ راضي على دعوته الكريمة وأكرر تهانيّ الخالصة للدكتور عبد الهادي على فوزه وشكراً لكم جميعاً.

الأستاذ الدكتور حكمت الشعرباف

في حفل تكريمي في مجلس الدكتور محسن الشيخ راضي 1997

من دواعي الغبطة والسرور أن نجتمع هذه الليلة المباركة، لتكريم أخ عزيز علينا جميعاً، ذلك هو الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي الذي يستحق منا التكريم والاعتزاز بكل ما أنجز وقدم للمسيرة العلمية في هذا القطر وفي غيره من الأقطار.

والأخ الدكتور الخليلي ليس بحاجة إلى التعريف والتنويه بجهوده الكبيرة في مجال تخصصه العلمي.. وما كلمتي المتواضعة هذه إلا تواضعاً لحق الصداقة بيننا والتي يعززها الشعور المشترك بواجبنا الإنساني تجاه المرضى من إخواننا وتفهم معاناتهم.

أقدم شكري للأخ الدكتور محسن الشيخ راضي لإتاحته الفرصة لي بتقديم هذه الكلمة المتواضعة والسلام عليكم.

تكريم وزارة التعليم العالي

الدكتور حسيب يحيى أحمد

مدير عام دائرة البحث العلمي والتطوير

تكريمي في حفل وزارة التعليم العالي 1997

         إن احتفاءنا وتكريمنا لعلمائنا والمبدعين ماهو إلا امتدادٌ لما كان يقومُ به الأجدادُ لعصور خلت، فما فتأت أمتُنا العربية تعرفُ منزلةَ العلم وأهميتهِ في حياة الأُمم فتوليهِ اهتمامها، وقد اشتهرت قديماً بعلومٍ عديدةٍ فظهرَ فيها الطبيبُ والفلكيُّ وعالمُ الأثرِ والفراسةِ والشاعرُ، ووصلَ إلينا من العربِ الكثيرُ من حِكَمِهم وأشعارِهم وأمثالِهم السائرةِ وأيامهم المشهودةِ، ومن أقوالِهم المأثورةِ (عليكم بثلاثٍ: جالسوا الكبراءَ، وخالطوا الحكماءَ، وسائلوا العلماءَ).

كما أُنزلَ القرآنُ الكريمُ وفيه الكثيرُ من الإشاراتِ إلى العلمِ والعلماءِ، كقولهِ تعالى: “وقال الذين أُوتوا العلمَ ويلكم ثوابُ الله خيرٌ”.. وقوله تعالى: “وأنزل الله عليك الكتابَ والحكمةَ وعلمكَ ما لم تكن تعلم” كما لم يجعل الرسولُ الكريمُ (ص) لطلبِ العلمِ حدودا فقال: (أطلبوا العلمَ ولو بالصين فإن طلبَ العلمِ فريضةُ على كلِ مسلمٍ) وقالَ (ص): (فضلُ العلمِ خيرٌ من فضلِ العبادةِ).

وعلى نهجهِ القويمِ سارَ خلفاؤهُ الراشدونَ، وخلفاءُ المسلمينَ وأمراؤهم عبرَ العصورِ، مما جعل المسلمينَ يتبارون في طلبهِ والتفرغِ لهُ والنبوغِ فيهِ حتى شادوا حضارةً عربيةً إسلاميةً أصبحت فيما بعد أساساً لحضارةِ العالمِ الغربي… إذ برعوا في الطبِّ والرياضياتِ والفلكِ والكيمياءِ والفلسفةِ وغيرها.. فلمعت نجومُ وأضاءت أقمارٌ في سماءِ العلمِ مازال العالمُ يستنير بضوئها، فقد أبدع في الطبِ الكثير من علمائهِ أمثال ابن طفيل صاحب (الإرجوزة في الطب) الحاوية على سبعِ مقالاتٍ تضم (268) باباً في مختلفِ الأمراضِ، مكتوبةً بشكلِ منظومة رجزية تحوي على (7700) بيتاً في علمِ الطبِ والعلاجِ.

كما كانت لابن سينا الريادة حيث كان كتابه (القانون في الطبِ) الذي أصدرت له (15) طبعةً لاتينيةً دليلاً لطلابِ العلمِ حتى القرنِ السابع عشر، أما أبو بكر الرازي صاحبُ (كتاب الأسرار) في الكيمياءِ فأن أشهر مؤلفاته هو (الحاوي) الذي يعتبرُ موسوعةً طبيةً وقد نُقِلَ إلى اللاتينية عام 1279م برعاية ملك صقلية وظهرت طبعته الخامسةِ في البندقيةِ عام 1542م وكانَ يدعى (جالينوس العرب) وهو أول طبيبٍ تنبه إلى علاقةِ الحالةِ النفسيةِ بالأمراضِ العضوية وهو أول من استعملَ الفتيلةَ وخيوطاً للجراحةِ من الحيواناتِ، أما ابنُ النفيس فكانَ أول من تنبه إلى أن للقلبِ أوعيةٌ دمويةٌ داخلَ عضلاتهِ فهو مكتشفُ الدورةِ الدمويةِ دون منازع.

ويُعَدَّ أبا القاسم الزهراوي من أعظم جراحي القرونِ الوسطى ويعودُ صيتهُ لموسوعتهِ (التصريف لمن يحجز عن التعريف) ويقع في ثلاثين مدخلاً مع صورٍ لمائتينِ من أدواتِ الجراحةِ التي صنعها بنفسهِ وقد تُرجم الكتابُ لعدةِ لغاتٍ أوربيةٍ ونُشرَ في البندقيةِ عام 1497م وفي بال عام 1541م وفي أكسفورد عام 1778م وقد ساهمت ابتكاراتهُ في إرساءِ علمِ الجراحةِ المعاصرةِ.

اليوم نحتفلُ بأحد أحفادِ أولئكَ الأطباءِ العظام.. إنه الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي النطاسيُ البارعُ الذي كانت له بصماتهُ الواضحة في مجالِ تخصصِهِ.

قد جمعَ الأستاذُ الخليليُّ بينَ العملِ المهني والعمل الأكاديميّ… فهو طبيبٌ وجراحٌ مبرزٌ في جراحةِ الدماغِ والعمودِ الفقري، وفي حقلِ جراحةِ محجر العين، فهو الرائدُ في العراقِ الذي يدخل إلى محجر العين من جميع الاتجاهات… وهو كتدريسيٌ وباحثٌ له باعٌ طويلٌ في البحوثِ العلميةِ الطبيةِ الأصيلةِ ومؤمن بأن البحث أساسيٌ لكلِ طبيبٍ قياديٍّ، وقد نشرَ ما يزيدُ على ثلاثين بحثاً في مجلاتٍ عالميةٍ وعربيةٍ ومحليةٍ وألّفَ كتابَ المعجمِ المختصِ في المصطلحاتِ الطبيةِ العصبيةِ، وترجمَ كتابَ الموجز المصور لفحصِ الجهاز العصبي، وأشرفَ على العديدِ من الإطروحاتِ الجامعيةِ للدكتوراه والماجستير والدبلوم، وأُختير أُستاذٌ أولٌ في كلية الطب عام 1994م.

لقد استنبطَ الدكتور الخليلي تحويراً لعمليةِ استكشافِ محجرِ العينِ، كما استنبطَ الآلةَ البغداديةَ لاستخراجِ الأكياسِ المائيةِ وحصلَ عليها براءةِ اختراعٍ وجائزةِ أحد أفضلِ خمسِ اختراعاتٍ في القطر.

………………………

الأستاذ الدكتور حسيب يحيى دلال باشي مدير عام البحث والتطوير، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

الأستاذ الدكتور عبد الإله الخشاب رئيس جامعة بغداد

تكريمي في حفل وزارة التعليم العالي 1997

إن جامعة بغداد تغمرها السعادة وهي تشارك في حفل تكريم علم من أعلام الجامعة، ذلك هو الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي جراح الجملة العصبية وأحد العلماء الذين أثبتوا كفاءة علمية رفيعة المستوى على النطاق العلمي العربي والعالمي، ولقد كان ترشيح نقابة الأطباء العراقيين له، لنيل الجائزة العلمية لاتحاد الأطباء العرب موفقا غاية التوفيق، وقد جاء اجتماع المجلس الأعلى للاتحاد والمؤتمر الثلاثين فرصة ذهبية لإثبات جدارة العلماء العراقيين في خوض غمار البحث العلمي والابتكار في أيام الرخاء والشدة.

         وإننا إذ نهنئ اليوم بإكبار واعتزاز عظيمين المحتفى به الدكتور الخليلي بهذا الفوز الرائع الذي توّج باستحقاق ابتكاراته وبحوثه، فإنما نهنئ في شخصه العلماء والباحثين العراقيين ونعبر عن الفخر والاعتزاز العميقين بمؤسساتنا الأكاديمية التي تشهد لها أسماء علمائها اللامعين بالنشاط العلمي المتميز في شتى الاختصاصات وهم يواصلون مشاركاتهم في تحقيق الابتكارات البحثية والعلمية على المستويين العربي والعالمي. ولجامعة بغداد دون ريب ـ في هذا المجال نصيب كبير من جمهرة العلماء الذين يرسخون البناء العلمي لهذا الوطن الحبيب ويقومون بتحقيق الإنجازات العلمية الكبيرة التي يشهدها عراقنا الصابر.

تهنئة صميمية للأستاذ الكريم لحصوله على هذه الجائزة، ووفق الله العاملين المخلصين من علمائنا وبارك في جهدهم.

والسلام عليكم

الأستاذ الدكتور محمد الراوي  عميد كلية طب بغداد

تكريمي في حفل وزارة التعليم العالي 1997

في البدء نشكر الوزارة الجليلة على هذه الالتفاتة بتكريم الأستاذ الدكتور الخليلي وهي ولا شك التفاتة تستحق التقدير والثناء وتمثل صورة من صور الحياة، الصورة الرائعة التي تمثل دائما القلة من المبدعين الذين اتخذوا من العلم مسارا ومن الإبداع وسيلة لوضع بصماتهم على مسيرة الحياة الجديدة.

 تعرفت بالأستاذ الخليلي بداية دخولي كلية الطب حين وقفت على مجلة الاتحاد الوطني لطلبة ‏ العراق وكانت قد نشرت لقاء مع الطلبة الأوائل ومنهم الدكتور الخليلي الأول على دفعته، وحين انتهيت من القراءة أعجبت بشخصية ذلك الطالب الذي شق طريقه بصبر وكفاح وبذكاء واقتدار فاستحق أن يكون الطالب القدوة.

 وفي المرحلة الخامسة من دراستي في كلية الطب في بغداد وفي درس من الدروس السريرية في مستشفى الجملة العصبية دخل علينا طبيب وانطلق يحدثنا بلباقة وبإسلوب علمي ويتحرك بدقة وفي فترة الاستراحة سألت عن هوية الأستاذ فقيل لي أنه طبيب جديد جاء من الخارج اسمه الدكتور عبد الهادي الخليلي، فتذكرت المجلة ولقاءها به وسارعت في الحصة التالية إلى تقديم المجلة إليه وقد كتبت عليها إهداء يعبر عن تقديري للطالب القدوة بالأمس والأستاذ القدوة اليوم.

 وأثناء عملي في كلية الطب بعد عودتي من خارج العراق عرفت الأستاذ الخليلي واسع المعرفة رصين البحث يحسن السلوك، وفي نظراته الجدية المتفائلة بابتسامة ورحمة يحتاجها المريض عنده مراجعته له،  ولهذه الصفات وغيرها اختير الدكتور الخليلي الأستاذ الأول في كلية الطب قبل ثلاث سنوات.

 قدر لي أن ألتقي بالأستاذ الخليلي ‏عدت مرات من موقعي كعميد الكلية وفي كل لقاء كان يأتي بمقترح نافع أو مشروع بحث، أو براءة اختراع. ظل عطاؤه  في الكلية مستمرا رغم الظروف الصعبة التي يمر بها.  ولا أتذكر انه يوما تحدث بسوء عن أي أستاذ في الكلية وتلك ظاهرة قلما يراها الإداري في عمله.

 وقد كانت فرحتي كبيرة حينما سمعت بفوز الدكتور الخليلي بجائزة اتحاد الأطباء العرب ذلك لأنني اشعر أن هذا الفوز ليس له فقط وإنما هو فوز لكلية الطب بجامعة بغداد ووزارة التعليم العالي ونقابة الأطباء.

 ختاما لابد من القول بأن الأستاذ الخليلي كان قد وصل إلى هذا الشأن لانه أدى الواجبات والأمور المترتبة عليه بحرص وعمق وإخلاص. فهنيئا له وهنيئا لكلية الطب وجامعة بغداد وهنيئا لعراقنا العظيم وهو يسير بخطى ثابتة نحو المجد والرقي تحت راية القائد المفدى صدام حسين حفظه الله ورعاه.

 والسلام عليكم

الاستاذ خالد القصاب

كتاب التوصية الذي تفضل لي به باللغة الإنكليزية عام 1972

إلى من يهمه الأمر

إن الدكتور عبد الهادي الخليلي خريج كلية الطب عام 1966. تخرج الأول على دفعته وحاز على تكريم خلال سنين دراسته. بعد تخرجه من الكلية قضى سنة كطبيب مقيم وسنة في المناطق النائية وسنتين في طب العيون.

عرفت الدكتور الخليلي عن قرب خلال عمله معي في وحدتي الجراحية. استمر بعلاقته معي  للإرشاد والنصيحة. إن علاقتي به تشعرني بالفخر لتقديمه للدراسات الأكاديمية.

إن ما أكتبه بحقه من توصية لا يفي بحقه. ربما هو من أفضل الأطباء على الإطلاق. إن خلقه عالٍ، ذو ذكاء وثقافة مشهودين، وله قدرة فريدة في تنظيم عمله. لديه رغبة شديدة بالبحث العلمي ونظم بعض المشاريع بالرغم من صعوبات عديدة.

إني على ثقة بأنه سيكون مقيماً مثالياً يتمنى كل أستاذ أن يلتحق بفريقه ومن دواعي سروري أن أقدم له هذه التوصية.    

خالد القصاب

أستاذ الجراحة

كلية الطب، بغداد

6 شباط 1972

الأستاذ الدكتور خالد القصاب

 أثناء تكريمي بمناسبة الفوز بوسام العلم 1999

“طالب أفخر بهِ”

من مئات الصور المتراكمة في ذاكرتي عن التدريس في كلية الطب، تبرز صورة مجموعة  فريدة من طلبة الصف السادس المتدربين في وحدتي الجراحية عام 1965م بقت واضحة طرية، ترفض الاختفاء والنسيان، تحت ما تراكم فوقها في صور لاحقة لمدة ثلاثين عاماً. ضمت المجموعة اثنى عشر طالباً، أدهشوني بحماسهم ونشاطهم وتطلعهم للازدياد من المعرفة بعلوم الطب وملاحقتهم لأساتذتهم في قاعات المحاضرات وفي أروقة المستشفى التعليمي.

وكان من الواضح أن أبرزهم هو طالب غلبت على وجهه ابتسامة دائمة ولمعت عيناه ببريق الذكاء، اسمه عبد الهادي الخليلي. وسرعان ما أثبت هذا الطالب انطباعي الأول عنه فاحتل موقع الخريج الأول في نهاية العام متفوقاً على المئات من زملائه.

ونجاحه الأول هذا لم يكن كافيا لتعليل كل ما حققه في مسيرته الطبية السديدة بعد التخرج. فالكثير ممن امتازوا في تخرجهم من الكلية ضاعت قابلياتهم في دروب الحياة الكثيرة ولم ينته بهم المطاف ليجدوا محلاً لهم بين النخبة من الأطباء.

لقد استمر الدكتورهادي بنفس الحماس الذي عرف به كطالب ليحقق نجاحاً مطرداً في تطوير معلوماته النظرية والعملية. فحاز على شهادة الاختصاص بالجراحة العامة من لندن وأردف ذلك بأختصاصه الجراحي الضيق في جراحة الجملة العصبية، الفرع الصعب والمهم في الجراحة. ثم تابع ذلك بدورات تدريب خاصة في أوروبا في الجراحة المجهرية وفي جراحة الأعصاب.

         مارس الدكتور الخليلي اختصاصه على أحسن وجه وساهم بصورة مستمرة في إجراء بحوث عالية، وكان من النادر أن يكون هناك مؤتمراً طبياً عراقياً في غير أن يكون اسمه بين المشاركين المتميزين. وحقق كذلك نجاحاً ملحوظا في مؤتمرات طبية خارج العراق، في البلاد العربية والأجنبية وحاز على جوائز علمية نتيجة لذلك.

وهنا يجب أن أسجل له أعماله الطوعية في الجمعيات العلمية كجمعية مكافحة السرطان والجمعية الطبية العراقية في تنظيم المؤتمرات والندوات والدورات التنشيطية للأطباء الجدد.

وقد ضمن الدكتور الخليلي موقعاً مرموقاً له في المجتمع البغدادي لثقافته الواسعة واهتماماته الأدبية والتاريخية والاجتماعية وخرج على المجتمع الكبير بمحاضرات في مواضيع عامة كان منها تطور الطب في القرن الواحد والعشرين والنواحي القانونية في إثبات ساعة الوفاة واستعمالات الحاسبات الإلكترونية وغيرها.

وأكثر من كل ما ذكرت كان تعامل الدكتور هادي تعاملاً أمثلاً مع مرضاه وبقي اسمه دالاً على إنسانيته ومصداقيته مع المريض. إن الطبيب هو كورقة نقود لا تعني شيئاً إذا لم يكن هناك ثقة فيها تجعلها مطمحاً وموضع احترام الجميع.

كأحد أساتذة الدكتور هادي الخليلي أشعر بالفخر بأنه كان أحد طلابي، وإن علقت على صدره وساماً بالاعتراف بنجاحه الكبير فإني أعتبر نجاحه هو تكريم ووسام على صدري لأنني كنت أحد أساتذته.

إذا كانت كلية الطب مصنعاً يتوخى الطبيب المثالي فإني وأنا أراه بين الناس أود أن أقول بفخر انظروا هذا هو نتاجنا.

الأستاذ الدكتور الجراح خالد القصاب (1924- 2004) 

اللوحة التي أهداها لي الأستاذ خالد القصاب وكتب خلفها:
“أشعر وكأني أعيش حياة أخرى في تلميذ أفخر به كعبد الهادي الخليلي. أرجو أن تكون هذه الصورة معبرة عن إعجابي الدائم، خالد القصاب 27/1/1989”

الأستاذ فرحان باقر

مستل من كتابه “لمحات من الطب المعاصر في العراق” 2011

ولد سنة 1943 في مدينة الكوفة. تخرج في كلية الطب جامعة بغداد سنة 1966 (الخريج الأول). حصل على زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية سنة 1973، وعلى ماجستير فلسفة العلوم سنة 1984 من المملكة المتحدة وعلى زمالة كلية الجراحين الأمريكية سنة 1984.  عُين بعد عودته من الاختصاص سنة 1976 في جامعة بغداد وحصل على درجة الأستاذية سنة 1988.  شغل منصب رئيس شعبة الجراحة العصبية في الجامعة وفي مدينة الطب (المستشفى التعليمي للجامعة). أسس اختصاص جراحة محجر العين في العراق. أثناء وجوده في العراق كان له من البحوث 64 بحثا، وقدم 105 بحوث في مؤتمرات محلية وعربية وعالمية. نظم 9 مؤتمرات محلية وعالمية منها مؤتمر الإصابات سنة 1987، المؤتمر العلمي الأول في العراق للأكياس المائية سنة 1989، ومؤتمر السرطان سنة 2000. استنبط عملية جراحية في محجر العين‏ قدمت عام 2008 في مؤتمر جراحة محجر العين العالمي في الولايات المتحدة واستنبط الآلة البغدادية لاستخراج الأكياس المائية.

انضم إلى جمعية مكافحة السرطان، وأصبح سكرتيرا لها عدة سنوات. كان نائبا لرئيس مجلس السرطان في العراق، وعضوهيئة البحث العلمي في وزارة التعليم العالي، وعضو لجنة اختيار العلماء، وعضوا ورئيسا للعديد من اللجان المهنية الأخرى، وعضوا مؤازرا في المجمع العلمي العراقي وعضوا أساسيا في استحداث المجمع العلمي الوطني للعلوم.

أشرف على 30 إطروحة دكتوراه وماجستير. عمل على التواصل ‏العلمي بين الاختصاصات،  منحته جامعة بغداد لقب الأستاذ المتميز سنة 1994، ولقب (أفضل طبيب) سنة 1997.

حصل على جوائز تقديرية متعددة منها؛ وسام العلم وشارة – تمنحان للمتميزين من العلماء في العراق- ودروع وجوائز من جامعة بغداد، وكلية الطب، ووزارة الصحة، ونقابة الأطباء وغيرهم.  أقامت الجمعية العراقية للمكتبات والمعلومات حفلا تكريميا لخدماته في مجال المكتبات، وكذلك جمعية الحاسبات العراقية لخدماته في مجال الحاسبات.

عمل في العراق في شعبة الجراحة العصبية ومحجر العين حتى آب من سنة 2004، وبعد اختطافه من قبل المجرمين في ذلك العام ترك العراق واستقر في كندا بعض الوقت، إلى أن عين في منصب ملحق ثقافي في الولايات المتحدة. وأثناء وجوده في واشنطن في سنة 2006 وحتى الآن قدم خدمات للتعليم العالي وخارجه ما يفخر به الوطن.  وبالرغم من أن عمله يتطلب رعاية  الطلبة المبتعثين ولكنه انفتح على المجتمع العلمي والأكاديمي والثقافي) ما  جعل اسم العرا ق مسموعا في أوساط عديدة. شعاره محاولة جمع شمل الجالية العلمية والمهنية والجالية ككل ‏على حب العراق والعمل على خدمته، كسب ثقة  الأكاديميين العراقيين والأمريكان، وأقام مؤتمرات علمية ونشاطات ثقافية على مستوى عال يضاهي ما يقام في الولايات المتحدة.

 من أهم ما قام به هو مؤتمر في مكتبة الكونغرس الأمريكي؛ إذ عقد مؤتمرا ليوم واحد عنوانه (سوية من اجل العراق) عام 2008، ويمكن مشاهدة محاضر المؤتمر مسجلة بالفيديو على موقع المكتبة على شبكة الإنترنت، والمؤتمرالأخر كان مؤتمر الأكاديميين العراقيين في الولايات المتحدة سنة 2009 وكان عرسا عراقيا علميا ووطنيا حضره ما يزيد على 300 من الأكاديميين العراقيين المتميزين وعقد في أرقى مؤسسة علمية في العالم وهي الأكاديمية الوطنية للعلوم. وكانت هناك مؤتمرات عديدة أخرى منها: مؤتمر قمة الصحة للعراق، ومؤتمر  اتحاد الجمعيات الهندسية الأمريكية، و مؤتمر التعليم العالي العراقي الأمريكي وغيرها.

ألقى محاضرات ضيفا أو محاضرا مشاركا في العديد من المحافل والجامعات مثل؛ جامعةهارفرد، جونز هوبكنز، سان دييغو، الأكاديمية الوطنية للعلوم وغيرها بما يقارب 20 مشاركة فعالة. قام بزيارات إلى 15 مدينة أمريكية كان يقيم في غالبيتها مهرجانا ثقافيا محليا في كل مدينة تجمع الجالية العلمية والعامة يتخللها نشاط ثقافي‏ وعلمي.

أقام حفل تكريم لكل من نازك الملائكة وفخري البزاز وبياتريس أوهانيسيان بالتعاون مع أرقى الجامعات في واشنطن وكذلك تكريم خاص للشاعرة لميعة عباس عمارة.

قام بالتعاون مع مؤسسات عديدة في إيصال ما يزيدعلى 400,000 كتاب إلى جامعات العراق ومجموعات مجلة طبية قيمتها 27,000,000 دولارأمريكي أملا بافتتاح مكتبة طبية وطنية عراقية، وقاعة عمليات جراحية متنقلة بقيمة 2,000,000 مليونان ونصف المليون  دولار،  وحاسبات لأطفال العراق من النوع الحديث مع فرص تدريب ونشاطات أخرى عديدة.

المشروع الأهم في عمله هو استحداث لجان تخصصية في مختلف الاختصاصات العلمية والانسانية والثقافية من العراقيين والأمريكان، واستحداث لجان مناظرة في العراق للتواصل فيما بينهم لرفع مستوى وشأن الاختصاصات في العراق، على مستوى الأقسام والكليات والأفراد، بلغ عدد اللجان حتى الآن 37 لجنة في مجالات الطب والهندسة الإنسانيات والتراث والثقافة وغيرها.

 استحق شكرا دولة رئيس الوزراء و العديد من الوزراء لما قدمه من خدمات في الولايات المتحدة. شعاره ما أوحى به جبران خليل جبران: “لا تسأل وطنك ماذا قدم لك إسأل نفسك ماذا قدمت لهذا الوطن”.

إني لأفخر ‏بالأستاذ الخليلي طالبا لامعا، وكان في المقدمة، وأثبت جوهره وذكاءه في مراحل ما بعد التخرج لحصوله على الشهادات العليا والمناصب التدريسية ولحسن أدائه فيها. كانت أعماله في الأيام الاخيرة ملحقا ثقافيا، رفعة لشأن بلده ومفخرة لأبناء جلدته. أمده الله بالصحة والقوة حتى يزيد الإنتاج ويكون مثالا للمواطن المخلص.

الاستاذ سمير جميل الربيعي

تقديم لكتاب اصابة الامام علي ” عليه السلام ” ووفاته… دراسة في مجالي الجراحة العصبية والطب العدلي

عند كثير من الكُتّاب شعبة من الضجر والتململ وعدم المطاولة , فأغلبهم قصير النفس في تقصي الحقائق , لا يستطيع ان يتخطى دائرة المحدودية التي رسمها له من تقدّم عليه , ويبقى نطاق تفكيره وافق ابحاثه محصوراً في تلك الخطوط العريضة المقرّرة عليه نفسها , ولكن في المقابل هناك عدد من المبتكرين والنوابغ من الكُتّاب من ( يركب المركب الصعب ويقود هو الذلول ) , ويخوض غمار المعرفة من دون تهيب ليستخرج منها الدرر النادرة والنفائس الفاخرة …

وكاتب بحث ( اصابة الامام علي ” عليه السلام ” ووفاته دراسة في مجالي الجراحة العصبية والطب العدلي ) , الاستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي من اولئك الآحاد , الذين وظّفوا خبراتهم واختصاصاتهم ودراساتهم ليهيؤوا مناخات صالحة لرفع الملابسات وابراز الحقائق التي افادت الباحثين كثيراً , وقد يظن البعض ان لا علاقة ولا مدخلية لمهنة الطب في تقصي الحقائق والاحداث التاريخية , وان لا جدوى من خوض مثل هذه المغامرة على وفق زعمهم , ولكن مثل هذا الزعم لم يقعد الاستاذ الدكتور ( عبد الهادي الخليلي ) , عن سعيه في الوصول الى الحقيقة الكامنة وراء موت امير المؤمنين ” عليه السلام ” , وهل كان موته نتيجة ضربة ابن ملجم المرادي ( سبب مباشر ) ام ان هناك اسباباً خفية ادت الى وفاته ( سبب غير مباشر ) , والمهمة وان بدت صعبة مستحيلة , تتطلب جهداً خرافياً ووقتاً مستفيضاً الا ان الدكتور لم يدخر جهداً في توظيف خبرته الطبية الواسعة لتحليل وتفسير حدث اصابة امير المؤمنين ” عليه السلام ” , جامعاً اليها تبحره في المصادر التاريخية المؤلفة وتمعنّه في ادق تفاصيل الحادثة , وهذه البادرة غير مسبوقة في تاريخ الطب العدلي في العالم العربي التي استطاع فيها الدكتور التوصل الى بعض الحقائق والاسباب التي ادت الى الوفاة , فشرع في بحثه الذي نحن بصدد تقديمه للقارئ الكريم في رصد الواقعة منذ اللحظة الاولى التي اقدم فيها المجرم عبد الرحمن بن ملجم على فعلته النكراء , ودراسة حالة امير المؤمنين ” عليه السلام ” بعد الواقعة اول بأول والتطورات والاعراض المرضية التي صاحبته وهو على فراش الموت حتى يوم وفاته ” عليه السلام ” , وقبل الشروع في تقديم هذا البحث لا بد لنا من نبذة قصيرة عن سيرة الباحث الاستاذ الدكتور ( عبد الهادي الخليلي ) , اذ ان معرفة الباحث وثقله العلمي له مدخلية كبيرة في معرفة القيمة العلمية لهذا البحث , ولد الدكتور عام 1943 في مدينة الكوفة , تخرج من كلية الطب جامعة بغداد عام 1966 الخريج الاول ) , وحصل على زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية عام 1973 وماجستير فلسفة علوم عام 1984 , وزمالة كلية الجراحين الامريكية عام 1984 , بدأ حياته العلمية في اختصاص العيون ثم انتقل الى الجراحة العصبية , حصل على درجة الاستاذية عند عودته من الخارج , وشغل منصب رئيس وحدة الجراحة العصبية في جامعة بغداد وفي مدينة الطب , انجازاته كثيرة وما مُنح من الالقاب والجوائز يضيق بها المقام ولو حاولنا احصاءها والوقوف عليها لاحتجنا الى مقالات طويلة لسردها , ولكنا نكتفي بذكر بعض الاطراءات وما قيل بحقه ففي ذلك تسليةً وغنىً عن هذه المطولة , فقد قال عنه المرحوم الاستاذ الدكتور خالد القصاب بأنه (افضل طالب تخرج على يديه) وقال عنه استاذه في الجراحة العصبية مايلز كيبسون بأنه (افضل طبيب مقيم اشتغل في المستشفى الجامعي في ليدز خلال خمسة عشر سنة الماضية), وقال عنه المرحوم شيخ بغداد الاستاذ الدكتور حسين علي محفوظ (التقت بالخليلي صفات وحالات قلّ ان تجتمع في واحد , بيت عريق, ومثبت معرق, وعلم جم, وتواضع رفيع, وادب فائق, وخلق عظيم, الى ذكاء متوقد, وفطنة براقة).

ويقيم الدكتور الخليلي حالياً في الولايات المتحدة الامريكية , وكان يشغل منصب الملحق الثقافي في السفارة العراقية بواشنطن .

اما بحثه الموسوم (اصابة الامام علي ” عليه السلام ” ووفاته دراسة في مجالي الجراحة العصبية والطب العدلي) فحو بحث نفيس على صغر حجمه , وبحكم مهنة الباحث وكونه طبيباً جراحاً فقد اغرق فيه تفاصيل الحادثة , وكيفيتها والادوات المستعملة فيها ومدى تأثيرها في تمام الجريمة والاحتمالات الواردة في اسباب الوفاة وهل كانت الاسباب مباشرة او غير مباشرة في استشهاد الامام “عليه السلام ” , ثم دراسة الاعراض التي طرأت عليه والتطورات التي رافقت اصابته الى يوم وفاته ” عليه السلام ” , لقد استطاع الباحث في بحثه هذا ان يحلل الحدث ويفككه بجدارة ودقة وبأسلوب شيق يدعو القارئ الى تتبع الطرح بانشداد عالٍ , معتمداً اسلوب طرح الاسئلة الصعبة والاجابة عنها بكل كفاءة واقتدار مستندا بذلك على خبرته العلمية والطبية في مجال التشريح , فضلاً عن الرجوع الى المراجع التاريخية الموثوقة , كما ان المؤلف قسّم الدراسة في البحث الى ثلاثة اقسام جعل كل قسم منها في فصل , القسم الاول اصابة الرأس , والثاني السم , والثالث اسباب اخرى ادت الى الوفاة , تتخلل كل فصل من هذه الفصول اسئلة تخصصية لا يطرحها الا المتبحر في اختصاصه , وهو حين يجيب عن تلك الاسئلة فإنه يعرض مختلف الروايات ويذكر المراجع بدقة بالغة , والبحث لا يكتفي بالشرح التشريحي المفصل لجميع الاحتمالات الممكنة لضربة السيف التي طالت الجمجمة بل يعزز شرحه بالرسوم الملونة التي توضح الشرح وتزيده اثراءً , كما ان البحث امتلك جرأةً فريدةً من نوعها , فقد تناول البحث الاسباب السريرية المباشرة للوفاة , وهذا بحد ذاته لا يجرأ الكثير من الكتّاب على طرحه , اما لبعد المدة الزمنية بينهم وبين الحادث او لضعف المعلومة التي وصلت اليهم , ما يوحي ذلك الى الثقة البالغة لما توصل اليه البحث من نتائج واستنتاجات ناضجة في اصل القضية .

ان هذا البحث يُعد قطعة نادرة نفيسة جديرة بأن توليها العتبة الكاظمية المقدسة جلّ اهتمامها تقديراً للجهد المبذول فيها , وارتأت ان هذا الجهد اولى واجدر بالنشر والظهور بوصفه يشتمل على مضمونٍ فريد وبادرة غير مسبوقة , لذا ندعو القرّاء الكرام لاقتناء مثل هذه البحوث زيادةً في المعرفة والتحصيل والاستفادة ومن الله التوفيق .

الدكتور رضا العطار

الجالية العراقية في واشنطن تحتفل بالدكتور عبد الهادي الخليلي

احتفلت الجالية العراقية في واشنطن، ظهر يوم أمس أي في 26 ، 8 بالبروفسور د. عبد الهادي الخليلي بعيد ميلاده الخامس والسبعين، وكانت المناسبة السعيدة فرصة ذهبية، حيث اتاحت للحاضرين الاحتفاء به تكريما لما قدمه للعراق في حياته الماضية من الخدمات العلمية الطبية الفائقة. وقد شارك الدكتور رضا العطار أفراح المهنئين بالكلمة التالية :

اعزائي الحضور. أسعد الله اوقاتكم. وأحييكم أجمل تحية !

نحن أصدقاء ومحبو الدكتور عبد الهادي الخليلي، اجتمعنا معا في هذا المكان الجميل، لنبارك عيد ميلاده الميمون الخامسة والسبعين، ولنعرب عن مشاركتنا مع أفراد عائلته الكريمة في مشاعر البهجة والسرور، فرحين مغتبطين، تظفر نفوسُنا إليه ودا واحتراما، راجين له موفور الصحة والعافية والعمر المديد.

و لنا في هذه المناسبة التاريخية، الفرصة المبتغاة، لنحتفي بالأستاذ الخليلي تكريما لما قدمه لوطنه، العراق العزيز في حياته الماضية من الخدمات الجليلة، تجلت في انجازاته العلمية الباهرة، جعلت اسم العراق في الأوساط الدولية عاليا.

عندما نقرأ تاريخ حياة النخب من الأشخاص من أمثال الأستاذ الخليلي، نشعر وكأننا نقرأ قصيدة سامية حوت من المعاني أشرفها ومن المقاصد أعلاها، نقرؤها ونحن في نشوة الطرب، حسبنا إننا نستمع إلى مقطوعة سمفونية، عذبة الألحان.

لو كانت حياة الناس عموما تجري في طرق مألوفة معبدة، إلا أن طريق الخليلي كان طريق المكافحين الأبطال. محفوفا بالمتاعب والأخطار، لكن رغم ذلك، كلما جاء ذكره على لسان، برقت في ذهن صاحبه صدى ابتسامته المشرقة، هذه الابتسامة التي لا تفتأ تبرق، بل تتوهج على شفتيه. فللخليلي ألوانُ كثيرةُ من الابتسامات، ولكل واحدة منها، لها معنى واشارة، فهناك ابتسامته الصادقة مع أصدقائه الخلصاء و المقربين إليه، وابتسامة الرصانة المعهودة مع زملائه في العمل، وابتسامة الشفقة و حرصه البالغ على مرضاه، وابتسامته الحميمة لبيته، المفعمة بالحب والحنان، وابتسامة المجاملة التي يشعها على عامة الناس ـ ـ ـ وأخيرا، ابتسامة التقريع والغضب، أمام صروف الدهر وحكم الأقدار وشرورها.

تحدث عن السيرة العلمية.. إلى أن تفضل قائلاً:

عُرضتْ على الخليلي مناصب عالية، إلا أنه ارتضى بوظيفة مستشار ثقافي في الولايات المتحدة.

لم تحبطه النكبات التي ألمت به، بل ضاعف الخليلي جهوده لخدمة العراق على نحو تجل عن الوصف، وأثناء وجوده في مقر عمله في واشنطن، انفتح على المجتمع الثقافي الأمريكي، وكسب ثقته، فأقام مؤتمرات علمية ونشاطات ثقافية متعددة، منها إقامة مؤتمر في مكتبة الكونغرس الاميركي في واشنطن بعنوان : “سوية من أجل العراق”

قام الخليلي بزيارات تفقدية لعدد كبير من المدن الأمريكية الجامعية التي تشهد حضورا مكثفا لجاليات عراقية، فأقام لها مهرجانات ثقافية واجتماعية. كان الخليلي يتصل دوما بالمؤسسات الأمريكية ذات الشأن يحثها على مساعدة العراق. أفرزت جهوده في تجهيز الجامعات العراقية بأعداد كبيرة من الكتب والأجهزة الطبية. وفي تزويد أطفال العراق بالكومبيوتر.

واخيرا أسس الخليلي منظمة توفيق التي تهدف إلى ترقية المستوى العلمي والمهني للعراقيين داخل الوطن وخارجه، ليحيل نفسه على التقاعد من العمل، بعد أن ترك كمًا غنيا من التراث العلمي المشهود.

كانت صفحة حياة د. عبد الهادي الخليلي صفحة مضيئة بالشهامة والشرف فسيرة حياته تُعد نموذجُا يسطع بالدرس والعبر، فكل من يطمح، أن يرتقي في دنيا الافكار العالية، عليه أن يرتسم بخطاه.

أود أن اقول إني أشبًه شخص أو شخصية العلامة الخليلي بخير فصل الربيع وفيض بركاته، حيث أنه في ميله الغريزي المسرف لخدمة بني جنسه من البشر، يماثل الربيع في خصبه وعطائه، كما وأنه يناظره، في جمال صورته و حسن أدائه.

الدكتور رضا العطار: اختصاصي طب العيون

واشنطن في 26، 8، 2018

الأستاذ الدكتور لؤي يونس بحري 

رسالة الى الدكتور الخليلي

‏جاء فيها: “…..وإذا كان الدكتور عبد الهادي الخليلي طبيبا تضرب بها الامثال في شتى أنحاء العراق فإن نجاحه وتفوقه في المهنة تجاوز حدود العراق إلى درجة انه فاز على جائزة أفضل طبيب عربي لعام 1997 من قبل جمعية الأطباء العرب.

….كتب الدكتور الخليلي في مذكراته خلاصة لحياة حافلة بالعطاء والنجاح والأحداث التي مر بها منذ طفولته في مدينة الكوفة مسقط رأسه ثم دراسته في ‏كلية الطب جامعة بغداد حيث تخرج ونال على درجة الشرف الأولى في دورته، وممارسة مهنة الطب عقب ذلك والمناصب التي شغلها ليتهي به الأمر بأن يكون أستاذا للطب جامعة بغداد وجراحا  للجملة العصبية والعيون.

‏….وتروي لنا مذكراته حياته الطبية  والإنسانية في العراق و بريطانيا بشكل دقيق مع شرح لأسباب نجاح الطب هناك مع الإشارة إلى حسن الادارة والتنظيم.

 ….. ومن خلال صفحات المذكرات يتعرف القارئ على طبيعة الحياة في مدينة الكوفة وحياة طلبة الكليات في بغداد في منتصف القرن العشرين مع ملاحظات دقيقة عن طبيعة المجتمع الطبي في العراق والشخصيات الطبية التي مر بها الكاتب مسجلا انطباعاته الشخصية عن عدد كبيرا من ألاطباء العراقيين.

 …..ومن الإنجازات العلمية الهامة التي قام بها الدكتور الخليلي في خدمة الدولة العراقية خلال وجوده في واشنطن هوالقيام بعقد مؤتمر علمي في واشنطن عام 2009 للأساتذة والعلماء العراقيين في أمريكا الشمالية حضره اكثر من ثلاثمائة عالم وأستاذ عراقي. وكان الهدف  من المؤتمر الفريد من نوعه هو دراسة امكانات الاستفادة من خبرات هؤلاء العلماء للنهوض بالعراق حيث أبدى الجميع استعدادهم ‏لخدمة العراق. قامت لجان المؤتمر بتقديم توصيات لكيفية مساعدة العراق في المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها.

 تحتوي مذكرات الخليلي على كمية هائلة من الصور الفوتوغرافية للشخصيات والأحداث التي مرت بحياة  كاتب المذكرات وهذه الصور هي بحدذاتها سجل وتوثيق للأحداث التي ترويها المذكرات وفي نفس الوقت تكشف عن شخصية كاتبها حيث اتضح للقارئ أن الدكتور الخليلي شخصية لامعة‏ ومنظمة في حياتها وهي شخصية تمتاز بالصلابة و التفاني في خدمة العلم والرغبة الملحة إلى زيادة التعلم.

 هذه المذكرات هي مفيدة للقارئ العادي وللمتخصص في العلوم الطبية كما وهي مفيدة  بالنسبة للشباب من طلاب كليات الطب في العراق او بقية البلاد العربية.

واشنطن 4 آذار 2021

ملاحظات حول موقعي على الانترنت

الاستاذ رشيد الخيون 2018

“نموذج للذي محرابه علمه، لا يشغله حزب ولا عقيدة، ولا مذهب ولا طائفة، ولا أي انتماء آخر، ولأنه لم يشغل نفسه بغير علمه واختصاصه، تفوق في ظل النظام السابق وتدرج في مراتب التدريس والمسؤولية العلمية، وظل هكذا في ظل النظام اللاحق، لكن وللأسف وفرت له الدكتاتوية الحماية التامة، وسبل التفوق، بينما اختطف في الديمقراطية، وهذه مفارقة، وذلك عندما أُطلقت العصابات من قيودها، وهُدّت الدولة هداً. إنها سيرة علمية وإنسانية مشرفة.