الإقامة في مستشفى الرمد

تقرر في بداية عام 1970 تعييني في مستشفى الرمد في منطقة الصالحية في بغداد والتحقت فيها كطبيب مقيم أقدم. ليس لي إلمام واسع بتاريخ طبّ العيون في العراق ولكن من المعلوم أن البداية كانت على يد الأستاذ جلال العزاوي الذي كان رائد الاختصاص وقد أصبح عميداً لكلية الطبّ في العام -1953 1954. عمل مساعداً لطبيب عيون إنكليزي وتسلم منه مسؤولية الشعبة في المستشفى الملكي في العام 1932. عند بدء دراستي في الكلية عام 1960 كان الأستاذ جلال العزاوي قد تقاعد. ولقد ذكرت آنفاً ما نُقل عن الأستاذ العزاوي قوله: “إن مقياس تقدم البلد في نظره هو عدد الذين يلبسون النظارات في الشارع”. بعد تقاعد الأستاذ جلال العزاوي تسلم مسؤولية الشعبة الأستاذ جلال الأسترابادي وكان معه الأساتذة فكرت شوقي وغازي حلمي. أما مستشفى الرمد قكانت المركز الأكبر حجماً في عدد الاختصاصيين وحجم العمل. كان هناك أيضاً اختصاصيون بطب العيون عملوا في الطبابة العسكرية، وفي المحافظات أو خارج مؤسسات الدولة منهم: وهران أراتون (صاحب مستشفى أراتون)، عبد الحميد السعدي، عبد الغني زلزلة، عبد المنعم عبد الحميد، غازي جميل، عبد الرسول الماشطة، حامد حمدي الموصلي، عبد المحسن القاضلي ؟، أكرم الشبيبي، عبد القادر الجوادي، داود كباية، سامي جبري، أرشد الناصري وربما كان هناك آخرون.

فكرة خيالية عابرة: حينما كنت أمر قرب تمثال الملك أيام زمان يسرح بي الفكر وأتخيل أنى أسمع أنينا لم أعرف مصدره. تبين أنه حصان الملك فيصل الذي كان يصدر ذلك الأنين. جلست بقربه وإذا به يشكو وبحرقة وألم ويحكي لي قصته حينما كان مملوكاً للسيد محسن أبو طبيخ وحينما صنعه النحات الإيطالي بياترو كانونيكا وأخيراً يخبرني بما جرى أمامه من حوادث سياسية ومآس وأفراح عبر السنين الماضية!!

مستشفى الرمد: أنشئ المستشفى عام 1951 وسُمّي  مستشفى الرمد لأن الرمد يطلق على احمرار العين بتعدد أسبابه. أكثر الأسباب شيوعاً هو مرض التراخوما الذي كان شائعا في العراق قبل سنين وعلى مستوى وباء في بعض المناطق خصوصاً منطقة خانقين.

يطل المستشفى على نهر دجلة في جانب الكرخ  بنهاية شارع فرعي من شارع الصالحية (حيفا) مقابل بناية دار الإذاعة العراقية الذي يوازي الشارع المؤدي من ساحة الملك فيصل الأول باتجاه جسر الأحرار (مود سابقا) في منطقة الصالحية. ويقع ما بين المستشفى والجسر ملهى ليالي الصفا المشهور وهو ملاصق للمستشفى.

موقع مستشفى الرمد في وسط بغداد

تبلغ مساحة المستشفى الخمسمائة متر مربع، حسب تقديري، ويقع مدخله على الشارع الفرعي وفيه طبقتان العليا للرجال والسفلى للنساء. تحوي الطبقة العليا شرفة مطلة على النهر. تقع على يمين المدخل غرفة كبيرة للمدير وفي الجانب الآخر من الطبقة الأرضية تقع غرفة الأطباء المقيمين. أما قاعة العمليات فتقع في الطبقة العليا. تشغل العيادة الخارجية بناية صغيرة بالقرب من المستشفى وفيها المختبر.

تجهيز المستشفى: تم تجهيز المستشفى بأجهزة حديثة كان أهمها  جهاز المصباح المقطعي (Slit Lamp) الذي أدخل الخدمة في المراكز الغربية عام 1965.  بجهد شخصي من الدكتور عبد المحسن أبو تراب تم تجهيز المستشفى نهاية عام 1970 بجهاز الكوي الضوئي (Photo Coagulation) الذي استخدم في علاج حالات تأثير داء السكر على شبكية العين والذي استعيض عنه بعد ذلك بجهاز الليزر وغيره.

الملاك الطبي:

المدير: عند بداية دوامي كان اختصاصي العيون الدكتور خلدون درويش لطفي مديراً للمستشفى، وبعد تعيينه مديراً عاماً في وزارة الصحة تسلم إدارة المستشفى الدكتور علاء الخلخالي وهو كذلك طبيب عيون وعلى دراية تامة بمتطلبات الاختصاص والمستشفى.

المدير: الدكتور علاء الدين الخلخالي

الأطباء الاختصاصيون: عبد المحسن أبو تراب، رضا العطار، غسان نوري فتاح، فائز تبوني، خلدون درويش لطفي (زائر)، حسون الجزائري، صلاح الشذر وحسن مكية. كلهم من حملة الدبلوم وغالبيتهم تدربوا في بريطانيا ماعدا الدكتور رضا العطار الذي تدرب في ألمانيا.

كانت العمليات الجراحية التي تجرى في المستشفى تشمل كلّ أمراض العيون من مرض الساد (الماء الأبيض)، داء الزرقاء (ارتفاع ضغط العين)، الحول، انفصال الشبكية فضلاً عن إصابات العين. وأخيراً تم بدء عمليات زرع القرنية لأول مرة في العراق في منتصف عام 1970.

.

من اليسار الدكتور رضا العطار، الدكتور غسان نوري فتاح، الدكتور عبد المحسن أبو تراب
من اليسار حسن مكية ثم خلدون درويش لطفي فالدكتور فائز تبوني والدكتور صلاح الشذر

الأطباء المقيمون: كنّا خمسة مقيمين نايف الحسوني، موفق الوتري، ياسين طه الشيخ أحمد، عبد القادر العزاوي وأنا.  نايف الحسوني من الصويرة من عائلة الحسوني الطيبين صديق العمر وكان له شأناً في السياسة على مستوى المجتمع ككل والمجتمع الطبّي بالخصوص.  موفق الوتري من العائلة الكريمة آل الوتري وكان تواقاً للسفر المبّكر إلى خارج العراق. أما ياسين طه فهو ابن الوطني المخلص طه الشيخ أحمد الذي قضى نحبه مع الزعيم عبد الكريم قاسم في صبيحة 9 شباط 1963.  وأخيراً عبد القادر العزاوي “قدَّو” الذي كان قمّة في خلقه.  عشنا حياة إقامة من أحلى الأيام فقد قسمنا الواجبات بما يرضي الجميع في الدوام الصباحي أو الخفارات بعد الدوام. كان يزورنا باستمرار الصديق العزيز الدكتور وائل الشهابي حيث كنا نقضي معه أوقاتاً طيبة.

في مستشفى الرمد من اليمين موفق الوتري وعن يميني وائل الشهابي (ضيفنا) ثم ياسين طه الشيخ أحمد

وجدير بالذكر  أن الدكتور قتيبة محمّد كان المقيم الوحيد في المستشفى وقد أنهى فترة اقامته بعدما التحقنا بأسابيع قليلة. وقبله كان الدكتور أكرم صادق الطبيب المقيم ومن المحتمل انه كان أول طبيب مقيم في المستشفى.

الدكتور قتيبة محمد

بداية التدريب: تقرر أن يكون تدريبي في البداية مع الدكتور غسان نوري فتاح وقد رعاني رعاية طيبة وسمح لي بعد أن اطمأن على قدرتي أن أقوم بإجراء عملية الساد (الماء الأبيض) الأولى بإشرافه ولم يكن قد مر شهر واحد على التحاقي في المستشفى. والدكتور غسان كان مولعاً بمجال علاج الحول فضلاً عن الاختصاص العام. بعد ذلك كان تدريبي مع الدكتور عبد المحسن أبو تراب الذي كان مثالاً للدقة في التعامل مع المريض والفحص والعلاج. ومن حرصه على التطور قرر الدكتور عبد المحسن أن يترك عمله وعيادته في العراق في بداية السبعينيات وذهب إلى بريطانيا ليعود حاملاً شهادة زميل كلية الجراحين الملكية في العيون.

عملت كذلك مع الدكتور رضا العطار بخبرته “الألمانية” وكان لطيف المعشر محب للجميع وجراح كفء. وبعده الدكتور فائز تبوني حديث الالتحاق بالمستشفى حاملاً العلم الحديث وبعده الدكتورحسون الجزائري ثم الدكتور حسن مكية العسكري سابقا.

الممرضون: أولهم محسن الطريحي، أبو جلال، كان “قائد” صالة العمليات الذي لا يستغنى عنه في العمليات داخل المستشفى وكذلك كان يصاحب الجراحين في المستشفيات الخاصة. ولولا أن عنوانه ممرض لتمكن من إجراء العمليات الكبرى كالساد وداء الزرقاء لما لديه من خبرة متراكمة عبر العقود.

وكان هناك الممرض في العيادة الخارجية الحاج مجيد الذي أتقن المهنة على أفضل ما يكون. وهناك السيد الموظف لطيف “لطّوفي” الذي كان حاضراً لكل عمل من السياقة إلى الميكانيك إلى غيرها.

المضمد مجيد وطرفة: أما المضمد مجيد (الآخر) غير الحجي فقد كان مضمد الردهة الكفء لكنه كان معرضاً للمقالب لبساطته وطيبته.  ومن تلك المقالب أنه زارني مرة في غرفة الأطباء المقيمين بحدود الساعة الثانية عشرة ليلًا وكنت أدرس تشريح الجمجمة البشرية. وبالصدفة كانت هناك نقطة حمراء واضحة على الجمجمة في منطقة الجبهة تشبه ما تضعه نساء الهند المتزوجات على جباههن.

الجمجمة والصبغة الحمراء على الجبهة

ولما دخل عليّ مجيد قلت له بصوت خافت أرجوك لا تتكلم واجلس بهدوء لأن هذه الجمجمة تعود لسيدة هندية توفيت قبل خمس سنوات وحضرت روحها إلى غرفتي وهي تتابع جمجمتها وتشكرني على رعايتي للجمجمة وهي الآن في الباب تغادر الغرفة. وبالطريقة الجدية والهمس الذي كنت أتحدث به ولثقته بي صدّق ما قلت وخرج مشدوهاً وقال لي صباح اليوم التالي بأنه لم ينم ليلته خوفاً من تلك السيدة الهندية. وكانت نادرة ضحك لها الجميع.

ملهى ليالي الصفا: كما ذكرت سابقاً جاور المستشفى ملهى ليالي الصفا الشهير. كان الملهى في الهواء الطلق لذا كان يغلق في الشتاء. في ليال عديدة في فصل الصيف خصوصا عندما يزورنا الأصدقاء كنا نتمتع بما يقدمه الملهى من عروض ونحن والضيوف جلوس على سطح المستشفى المشرف تماماً على الملهى بمسرحه ورواده وما خلف الكواليس قبيل دخول الفنانين إلى المسرح. تصدح الموسيقى بأعلى صوت وتبدأ المغنية بالغناء مع مشاركة جمهورها. ونحن وأن كنا لا نستمتع بكل ما يقدم ولكن الجو العام والصحبة الأخوية تضفي روعة على الجلسات.

الإذاعة والقصر الجمهوري: من المفارقات المضحكة أن هاتف مستشفانا المسائي كان يشترك مع هواتف دار الإذاعة وملهى ليالي الصفا والقصر الجمهوري.  وكانت تلك فرصة للمقالب عندما كنا في حال الاسترخاء من عناء العمل. أطرفها كان مع الاذاعة والملهى. وفي مرة من المرات كان المقلب مع القصر الجمهوري ما سبب لنا قلقاً كبيراً وخوفاً من الملاحقة.

الملاك التمريضي في المستشفى والدورة التدريبية الخاصة: كان هناك نقص حاد في عدد ملاك الممرضات في المستشفى وعدم استجابة الوزارة لتعيين أو نقل ممرضات إلى المستشفى. قررت المستشفى بأن تفتتح ولمرة واحدة دورة خاصة تدرب فيها ممرضات يقتصر عملهن على تمريض العيون. وتعهدنا نحن المقيمون بأن نقوم بالتدريس وتحت إشراف الاختصاصيين. أعلنت وزارة الصحة عن الدورة والتحق فيها ما يقارب العشرين متقدمة. استغرقت الدورة ثلاثة أشهر ولدى تخرجهن عاشت المستشفى في بحبوحة تمريضية بتوفر الملاك التمريضي الذي توزع بين العمليات والعيادة الخارجية ومختلف أقسام المستشفى. وهذه التجربة تؤكد أن التدريب التخصصي يمكن أن يوجه بطريقة استثمارية بوقت قصير إذا كانت هناك حاجة موجودة وتوفر التخطيط السليم.

المريض الذي نفذ “شيش التكة” عبر العين إلى دماغه:

حينما كنت في إحدى الخفارات المسائية نقلت إلينا سيارة الإسعاف مريضا مصابا في إحدى عينيه. حدثت الإصابة بعد مشاجرة بينه وآخرين عند بائع “المعلاگـ” وهي قطع من كبد وقلب وكلى الخروف. بعد أن تقطع قطعاً صغيرة تنضد في سيخ حديدي دقيق وتشوى على الفحم. وتبين أن أحد الأشخاص أخذ مجموعة من الأسياخ وغرزها في محجر عينه. عند الفحص كانت العين قد تلفت بسبب نفاذ الأسياخ في داخلها. رفض المريض الدخول إلى المستشفى وخرج على مسؤوليته ولكنه أعيد إلينا لإصابته بنوبات صرع متكررة حيث أرسل إلى مستشفى جراحة الجملة العصبية فظهر أن الأسياخ اخترقت عظام سقف محجر العين ونفذت إلى الدماغ وسببت خراجا في داخل الجمجمة والدماغ. وهذه الحادثة تمثل حالة واحدة من الحالات الغريبة والفريدة في مجتمعنا مع شديد الأسف وبدلا من النقاش والجدال بطريقة متحضرة يكون إبداء الرأي والرأي الآخر بهذه الطريقة الهمجية غير الإنسانية.

الشلغم فاكهة الشتاء!: في أيام الشتاء القارص كان الجميع يتمتع بفاكهة الشتاء العراقية المعروفة وهي أكلة الشلغم.  كان الكل ينتظر سماع الصوت الرخيم لبائع الشلغم المتجول بعربته حيث  تفوح الأبخرة والرائحة الزكية من قدره الكبيروهو ينادي “مايع، مايع”. يلتهم الجميع من الأطباء الاختصاصيين والمقيمين إلى كل العاملين صحن الشلغم بنهم ولذة.

گعود مقدم برنامج “بصراحة”:  في نهاية الستينيات حتّى فترة إقامتنا في مستشفى الرمد كانت ظاهرة البرنامج الإذاعي “بصراحة” الذي يقدمه گعود (لم أدر إن كان ذلك اسمه الحقيقي أم المهني)، تشغل العراقيين جميعا مواطنين ومسؤولين. أصبح گعود بعبعاً لكل المسؤولين وعلى كل مستوياتهم حتّى تصل إلى الوزراء شخصيا في بعض الأحيان. كان يدخل أية دائرة رسمية بصورة فجائية ويدقق ويبحث عن الأخطاء والإهمال في سياق العمل  وكل ما يثير الرأي العام ضد تلك الدائرة لينشره بقدرة إعلامية في اليوم الثاني في برنامجه الاذاعي. واشتهرت في حينها مقولته بعد زيارة إلى البنك المركزي “يا بنك يا مركزي”!

في إحدى خفاراتي جاءني الحارس جاسم الوديع والمسالم يستنجد بأن أساعده حيث أن السيد گعود الذي يزور أحد المرضى يرفض مغادرة الردهة وقد افترش الأرض في منتصف الردهة مع العديد من جماعته الزائرين وهم يلتهمون رقّية كبيرة (بطيخة في الفصحى) وضعت في صينية كبيرة تتوسطهم. كانت الساعة الثامنة مساءً وقانون وزارة الصحة لا يسمح بالزيارة بعد الساعة الخامسة مساءً. قررت أن هذه فرصة لأذكره  بأنه يسمح لنفسه بما يروق له ويطلب من الآخرين تطبيق القوانين والتعليمات. ذهبت إليه وبيّنت له أمام الجميع وبهدوء بأن وقت الزيارة قد انتهى منذ ثلاث ساعات وقد طلب منك الحارس مغادرة المستشفى ولم تستجب  وبدأت بتذكيره أمام الجميع بأنه يطلب من الآخرين اتباع النظام وهو نفسه يخالف ذلك النظام. الأمر الذي أعطاني قوة في محاسبته أمام الجميع، بحيث لم يتمكن من الدفاع عن نفسه. غلب على أمره وغادر المستشفى مع مرافقيه. أخبرت الادإرة في اليوم التالي وترقبنا البرنامج لعلنا سنكون من ضحاياه ولكن لم يتم إذاعة أي شيءعن تلك الليلة التي لا تنسى.

حفل مصارعة عدنان القيسي: استلمت بطاقة دعوة “شرف” مذهبة الحروف لحضور حفل مصارعة عدنان القيسي الذي طبقت شهرته في العراق مع غريم مصارع أمريكي. كانت حلبة المصارعة في ملعب الشعب للكثرة المتوقعة من المشاهدين. ذهبت بسيارتي الأوبل متأخراً بعض الشيء لعلمي أن مكاني محجوز لأن لدي بطاقة شرف. وصلت إلى باب الملعب الذي كان يغص بالحضور حيث شغلت المدرجات بالكامل ووقف آخرون على ساحة الملعب. حييت أفراد الشرطة الواقفين في مدخل الملعب وأنا فرح ببطاقتي وإذا بالشرطي يمزقها إلى نصفين ويقول لي بنبرة استهزاء: عمي فوت يا بطاقة يا شرف (ادخل عمي، أية بطاقة أي شرف)! فعلمت أن الأمور ليست كما توقعت فقفلت عائدًا خائباً من حيث أتيت. وآمنت أننا سنبقى في مجموعة العالم الثالث.

عدنان القيسي 1969

تشييع جنازة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم: شاهدنا من على شرفة المستشفى المطلة على نهر دجلة وجسر الأحرار في الثالث من حزيران من عام 1970 الموكب المهيب الذي سارت فيه الحشود الكبيرة لتشييع جنازة آية الله السيد محسن الحكيم وهي متجهة من جانب الرصافة إلى جانب الكرخ.

الذي يستحق الإشارة هنا هو أننا شاهدنا الرئيس أحمد حسن البكر ونائب الرئيس صدام حسين وقد اخترقا بسيارات الرئاسة موكب التشييع من خلف جموع المشيعين. أوقفت السيارات في منتصف الجسر وأوقف الموكب وإذا بهما يتقدمان الجنازة سيراً على الأقدام وأمامهما عدسات التلفزيون، وبعد نصف دقيقة أو ما يقارب ذلك تركا الموكب وغادرا الموقع واستمرت الحشود في مسيرتها ولم يتبين لنا في حينها سبب مغادرتهما السريعة. 

الصدمة: بعد شهر تقريبا من مباشرتي العمل في مستشفى الرمد ظهرت بوادر صدمة كبيرة في حياتي حيث شعرت بأن اختصاص العيون لم يكن الاختصاص الذي حلمت به وأنا صغير، إذ انه لم يحقق ما كنت أشعر به حيال الطبّ بسحر العلاقة بيني وبين مريضي!  وإنما كانت العلاقة مقتصرة بيني كطبيب وبين عين المريض فقط  ويحجز بيننا جهاز المصباح المقطعي أو الناظور وليس من عمق نفسه وروحه.  كان المريض بالنسبة لي كنموذج “مختبري” أراقب فيه الخلايا الطبيعية وغير الطبيعية ووجود أوعية دموية ونزف وغيرها. كان هذا ما اقتنعت به مع علمي بأن الاختصاص واسع وأهميته كباقي الاختصاصات الطبية ولكن لم أستطع مقاومة الرفض الداخلي “الفلسفي”!  وهنا بدأ الفراق النفسي بيني وبين العيون. ولكن بالرغم من ذلك الشعور فلقد ثابرت وواصلت أعمالي وخدماتي ونشاطي ومتابعتي العلمية بأفضل ما يمكن لعلّي أشعر بالانشداد إليه.

محاولة العودة إلى الجراحة العامة: عملت المستحيل للعودة إلى الجراحة العامة ولكن لم أفلح بسبب إصرار  الدكتور عزت مصطفى وزير الصحة في حينه على رفض كل محاولاتي. وقد توسط لي في تحقيق ذلك  الأستاذ زهير البحراني بكل ما يستطيع بحيث تعكرت علاقته مع الوزير بعض الشيء بسبب الرفض.  توسط العديد من الذوات كان من بينهم شقيق الوزير الذي كان فاقداً للبصر. كل ذلك لم يثن الوزير عن قراره وعليه بقيت في العيون وأمري لله!

نهاية الإقامة: أكملنا تدريبنا في العيون في نهاية عام 1970 وكنّا جميعا ممن أتقنوا “الصنعة”! وتهيأنا لتسلّم المسؤولية كأطباء ممارسين في العيون. كان تعييني في المستشفى الحسيني في كربلاء. وهنا استعاد الوزير ذكرى محاولتي للانتقال إلى الجراحة العامة وكثرة المتوسطين فقرر بما كان يعتقد أنه يرضي الجميع  وعينني طبيباً ممارساً في العيون في كربلاء وفي عين الوقت رئيسا لقسم الجراحة في المستشفى. لم أرغب أن أكلف أستاذي زهير البحراني والأصدقاء أكثر مما قدموا متفضلين وقبلت بذلك التعيين وأنا أعلم علم اليقين بأن بقائي في العراق بدون تخصص عال شيء مستحيل وأني على أية حال سأترك أي مكان أتعين فيه وأغادر إلى الخارج.

حدث علمي جانبي: بحكم حسن علاقتي بالأستاذ خالد القصاب وإيمانه بإضافة “دماء جديدة” لنشاطات جمعية مكافحة السرطان العراقية فقد اختارني الأستاذ خالد لأكون عضوا في الهيئة الإدارية وأنا لازلت في مرحلة التدريب.

كتاب جمعية مكافحة السرطان العراقية واختياري عضوا في الهيئة الادارية

كان ذلك شرفاً عظيماً أن يقرن اسمي مع القادة في العلم والمهنة وأنا لم يمض على تخرجي أكثر من أربع سنوات وفي تلك المرحلة من رحلة التدريب.

طبيب عيون ممارس

بداية التعيين:

المستشفى الحسيني في كربلاء: استلمت من وزارة الصحة كتاب تعييني في مدينة كربلاء.قدمت أوراقي لدائرة صحة كربلاء، وفي كتابي ذكرت الوزارة بأني طبيب عيون ممارس ومسؤول عن رئاسة قسم الجراحة في المستشفى الحسيني. كان (دوامي) في المستشفى استطلاعي في البداية. لم أفكر بفتح عيادة لأني كنت محتاراً  بواقعي الجديد الذي لم أرضه لنفسي إذ كيف أكون رئيسا لقسم الجراحة وأنا في اختصاص العيون، فليس لذلك سابقة في النظام الصحي في العراق. وبعد ما يقرب من الأسبوعين وأنا لم أزل أسكن في الفندق وإذا برئيس الصحة وكالة الدكتور محمّد علي مال الله وطبيب العيون في المستشفى الحسيني الدكتور فاروق المتولي يفاجئاني بزيارة في الفندق. كان معهما كتاباً رسمياً من الوزارة يأمر بنقل الدكتور فاروق إلى الحلة وتثبيتي في مكانه.

الدكتور محمّد علي مال الله في البدلة العسكرية حينما كان في الخدمة العسكرية الإلزامية

وهذا ما يصعب على الدكتور فاروق حيث أن زوجته الكريمة تعمل موظفة في المدينة وأطفاله مستمرون في مدراسهم وعيادته في كربلاء وغير ذلك من التزامات. فهمت ما كان يهدفه الزميلان وهو أن أوافق على أن أذهب إلى الحلة بدلا عنه كي يبقى هو وعائلته ومتعلقاته كما هي، وكان هذا ما طلباه فعلاً. ولما لم أكن متزوجاً وليس لدي ارتباط بعيادة أو أي التزام آخر ونظراً لظروف زميلي الذي أكن له الاحترام من أيام الدراسة في الكلية حيث كان يسبقني بعدة سنوات وافقت ووقعت على الكتاب الرسمي مباشرة وهما في غرفتي مؤكداً بأني مستعد للنقل إلى مدينة الحلة.  بطبيعة الحال فرح الدكتور فاروق وكذا الدكتور محمّد علي. تسلمت كتابي بعد يوم أو يومين وتوجهت إلى الحلة الفيحاء.

مستشفى العيون في الحلة: قدمت كتابي إلى رئيس صحة بابل الدكتور عبد الوهاب البياتي، وبعد إكمال إجراءات المباشرة توجهت إلى مستشفى (العيون) الرمد في الحلة. التقيت هناك بالأخ الفاضل الدكتور عبد الرسول الماشطة ابن الحلة والحاصل على شهادتي دبلوم في العيون من بريطانيا وآيرلندا. وكان الدكتور عبد الرسول الاختصاصي الوحيد والرائد في مستشفى العيون في مدينة الحلة. تقع المستشفى على ضفة نهر الحلة في وسط المدينة، ومع أن البناية لم تكن حديثة ولكنها كانت نظيفة ومكتملة المتطلبات الخدمية العينية والصحية اللازمة. 

مع الدكتور عبد الرسول الماشطة في مستشفى العيون في الحلة

يتمتع الأخ الدكتور عبد الرسول بخلق عال وكان محباً للخير وذا كفاءة جراحية عالية. ومثله كان الملاك الفني العامل في المستشفى يتمتع بالطيبة والأدب. أذكر منهم السيد مهدي ربيع وهو من مدينتي الكوفة ويعمل معاوناً صحياً، وثلاثة آخرين من أهل مدينة الحلة هم السادة حسن وحمزة ورؤوف. وكان معنا في العمليات مضمداً جيداً لا أتذكر اسمه. أصبحتُ جزءاً من هذا المجمّع الصغير وأسهمت معهم في تقديم الخدمات.

في مستشفى العيون في الحلة مع الدكتور عبد الرسول وملاك المستشفى 1971

افتتحت عيادتي في شقة وسط المدينة وكانت مسكني كذلك! حيث كان ذلك هو السياق المتبع لدى الأطباء الوافدين إلى المدينة.

في عيادتي في الحلة

كانت أجور الاختصاصيين لفحص المرضى ديناراً واحداً.  أما الممارسين مثل حالتي فتكون الأجور نصف دينار. ولكني لم أقبل أن أكنى بالطبيب “أبو النص” دينار. وعليه جعلت أجور عيادتي ديناراً واحداً حتّى لو لم يراجعني أي مريض، وأنا في داخلي أعلم بأن عملي هناك مؤقت!   

في قاعة العمليات في الحلة 1971

لجنة منح إجازة قيادة السيارات: كان من ضمن الواجبات التي في عاتقي فضلاً عن العمل الطبي، عضوية لجنة منح إجازات قيادة السيارات في المحافظة. قدم للإجازة مرة رجل وحيد العين وكان يبدو أنه ذو وجاهة في المدينة. تنص القوانين في ذلك الوقت أن الشخص وحيد العين لا يمنح إجازة قيادة السيارة. وبطبيعة الحال لم أمنحه الإجازة فأبدى انزعاجه من ذلك. جاءني في صباح اليوم التالي نداء من القصر الجمهوري من بغداد يطلب مني وبلطف أن أرعى ذلك الشخص. وعلمت بأن ذلك الشخص هو مسؤول مهم في المحافظة. جاءني ثانية في اليوم التالي معتقداً بأني سأمنحه الإجازة بعد هاتف القصر ولكني رفضت ذلك وسط امتعاضه. وفي المساء جاءني إلى عيادتي بصحبة مجموعة من مريديه وقدم الملف الرسمي الخاص بمنح الإجازة. وعندما فتحته وجدت فيه ورقة نقدية من فئة عشرة دنانير. وهنا قلت له لو لم تكونوا في عيادتي لطردتكم شر طردة، خذ أوراقك ونقودك واترك عيادتي، فخرج مزمجراً غاضباً متوعداً. وقلقت ليلتها بسبب علاقاته الواسعة ودعم القصر الجمهوري له. ولكن في اليوم التالي زارني في المستشفى الدكتور عبد الوهاب البياتي رئيس الصحة وكان ذا موقع مهم في حزب البعث المحلي مثنياً على موقفي وكان ممتناً بالرغم من علاقته الحزبية بذلك الشخص. ومنذ ذلك الوقت توثقت علاقتي بالدكتور عبد الوهاب التي امتدت إلى عقود. 

الدكتور عبد الوهاب البياتي 1936 – 2007

عدنان القيسي ثانيةً: حصل في فترة وجودي في مدينة الحلة حادث غريب يخص صاحب المطعم الذي كنت أحيانا أتناول وجبات طعامي في مطعمه الكبير والمعروف في وسط المدينة. علمت يوماً بوفاته بموت الفجأة أثناء مشاهدته حفل المصارعة بين عدنان القيسي ومصارع أمريكي. تألم كثيراً لخسارة عدنان في إحدى الجولات لشدة اندماجه باللعبة والتصاقه بالـ “بطل” عدنان. فبعد الصراخ والانفعال شعر بألم فجائي في صدره وعندما نقل إلى المستشفى وصلها فاقداً الحياة. وهنا يتحمل عدنان القيسي جزءاً من مسؤولية وفاته والجزء الآخر يقع على جهل المجتمع وانطلاء تلك الأكاذيب عليه.

السفرة إلى ريف الحلة: حيثما عملت كنت دائماً تواقاً أن تكون علاقتي بالملاك متميزة وتتسم بالاحترام وعدم تجاوز حدود العمل مع الحفاظ على العلاقة الإنسانية معهم.  ومن هذا فقد كانت علاقتي بالملاك الفني والتمريضي علاقة صداقة مبنية على الاحترام المتبادل. قضينا أوقاتاً ممتعة في مناطق ريفية محيطة بالمدينة نأكل ونتسامر بكل بهجة وسرور.

في سفرة نهرية قرب الحلة مع الشباب الطيبين من ملاك المستشفى الفني

وفي نادي الأطباء كنت أقضي أوقاتاً جميلة مع الزملاء الأطباء وكان منهم في ذلك الوقت الدكتور تقي الموسوي والدكتور حليم السبتي والدكتور عبد الأمير علوش والدكتور عبد الغني الدباغ وطبيب الأسنان حكمت مهاوش غيرهم.

حدث مهم يذكر، جامعة هارفرد:

في العام 1971 وعندما كنت في مرحلة عملي في مجال طب وجراحة العيون قدمت للقبول لعدة جامعات أمريكية للتخصص في العيون. جاءني قبول من جامعة هارفرد؛ معهد العين والأذن في ماساشوستس (Mass Eye & Ear) في الولايات المتحدة. قبلت فيه لأبدأ الإقامة في العام 1974 للحصول على البورد الأميركي، وأرسلوا لي برنامج التدريب الكامل. شمل هذا تدريبا مثبتاً بالاختصاصات الفرعية في العيون وأسماء الأساتذة الذين سأعمل معهم. وكان عليّ أن أملأ الاستمارات التي أرسلت وأعيدها إلى الجامعة. ولكن كان هناك رأي من بعض أساتذتي بأن الذي يذهب إلى أمريكا لن يعود إلى الوطن، ولذا أحجمت عن إرسال الاستمارات. وفي واقع الحال ومن منظار الحال الحاضر إنني لست آسفا كثيراً لذلك لأني أشعر بأن ما قدمته للوطن ومرضاي وأهلي في العراق الحبيب يستحق كل شيء وأنا سعيد لذلك.

قرار السفر إلى خارج العراق: في ذلك الوقت كان مدير عام الخدمات الطبية هو الصديق الدكتور خلدون لطفي اختصاصي العيون، وقد حاول أن يحصل لي على إجازة دراسية للحصول على شهادة زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية ولكنه لم يفلح.  بالرغم من المشوّقات للبقاء في الحلة كنت مصمماً على السفر للتخصص بأقرب وقت.

سهرت في إحدى الليالي مع صديق مهندس دمث الأخلاق رقيق الطبع اسمه سعدي الطبقجلي حيث دخلنا سينما الحلة الصيفي وكان الفلم مصرياً وجميلاً. وبعد أن ابتدأ عرض الفلم بدأت أسرح في تفكيري وأسبح في خطط وأحلام وإذا بي أقرر في تلك اللحظات أن أبدأ معاملة السفر الآن وليس بعد أيام! عدت إلى عيادتي ولم أذهب إلى فراشي بل ذهبت إلى مكتبي وبدأت بوضع برنامج خطوات معاملة السفر بتفاصيل دقيقة.

معاملة السفر: بدأت في معاملة السفر فعلياً في نهار اليوم التالي بتقديم إجازة لقضاء شهر في لبنان أعود إلى عملي بعدها.  وقلت للدكتور عبد الرسول الذي وقع على الطلب للقيام بأعمالي طول مدة الاجازة: أنت  الشخص الوحيد حتّى بين أهلي وأصدقائي الذي أصارحه بأني لن أعود  إلا بعد حصولي على الاختصاص، وأرجو ألا تتهمني بأني استغفلتك ولم أصارحك بالحقيقة.  فكان نعم الأخ ولم يبح بذلك السر.  أخبرت الجميع بأني مسافر في إجازة إلى لبنان لمدة شهر. لكن الحصول على إجازة للسفر خارج العراق يتطلب موافقة وزير الصحة، الذي لم تكن علاقتي به على ما يرام، وكان ذلك مصدر قلق كبير لي. ولكن بحمد الله كان الوزير ووكيله خارج العراق في سفرة رسمية وكان القائم بمقام الوزير الدكتور أحمد الجلبي الذي يكن لي المحبة فوافق في الحال على  الإجازة وطلب الإسراع بتقديم الكفالة الضامنة المطلوبة وكانت 1000 دينار. وفي اليوم التالي أصدرت الموافقة الوزارية وتوجهت إلى  مديرية السفر. وعند تقديمي طلب الحصول على جواز السفر حدثت مفارقات كثيرة سهّلت المعاملة وكانت مثيرة للاستغراب.

غادرت ولم تكن معي أية وثيقة رسمية أو شهادة لخوفي من اكتشافها من المفتشين في مطار بغداد عند المغادرة كما حصل لبعض الزملاء من قبل حيث منعوا من السفر. وكان الكتاب الوحيد الذي معي هو كتاب من كلية الطب موجه إلى مؤسسة الامتحان الأمريكي الذي اجتزته قبل تخرجي من الكلية والذي يذكر فيه أني قد تخرجت فعلاً في كلية الطب. وهكذا، فبعد أـسبوع واحد من قراري بالسفر وبقدرة قادر كنت مستقراً على كرسي الطيارة متوجهاً إلى لبنان.

في لبنان:

وصلت لبنان بالطائرة وبقيت هناك في فندق فاروق في مدينة سوق الغرب الذي كان يسكن فيه عمي الأستاذ جعفر الخليلي الذي كان في سفرة كذلك. وبالمناسبة فإن سوق الغرب هي المدينة التي يسكن فيها الدكتور أمين قاسم زهر طبيب النجف الذي خدم النجف والفرات الأوسط وصحة الطلاب حينما كنت طالباً في المدرسة الابتدائية في الكوفة وبعد ذلك لعقود. عاد إلى بلدته بعد تقاعده من الوظيفة في العراق.

صورة سجلتها بكامرتي من على شرفة فندق فاروق في سوق الغرب يظهر فيها العم الأستاذ جعفر الخليلي في يمين الصورة مع شلة من أصدقائه

كان لبنان يغلي بالصراعات الطائفية والعرقية في تلك الأيام وكان خالد ابن الدكتور أمين وهو من الناشطين يحدثنا عما يجري في الشارع من خلافات.

الفيزا إلى بريطانيا:

قدمت على الفيزا البريطانية ولم أحصل على الموافقة. علمت بأن السبيل الوحيد الذي توافق فيه السفارة على منح الفيزا هو أن يكون السفر إلى وجهة أخرى والمرور في بريطانيا كترانزيت. اضطرني ذلك لقطع تذكرة إلى نيويورك بالرغم من عدم تقديمي على الفيزا الأمريكية. وحينما قدمت التذكرة إلى السفارة البريطانية تمت الموافقة وحصلت على الفيزا. حجزت تذكرة إلى مانشستر حيث كان أخي ضامن يدرس الدكتوراه هناك.

وهنا بدأت المرحلة المهمة الأخرى في الحياة مرحلة التخصص.

الوصول إلى بريطانيا

وصلت إلى بريطانيا ونزلت في مطار مانشستر (Manchester) حيث كان أخي ضامن الخليلي يدرس في جامعتها لنيل شهادة الدكتوراه في معهد البحوث اليومست الـ: (UMIST).  توقفت الطائرة في أثينا وأمستردام.

بعد استقراري في مانشستر جلست جلسة هادئة مع نفسي وقررت أن استمر في اختصاص العيون الذي رفضته في العراق وأن أعطي لنفسي فرصة التعرف على الاختصاص في بريطانيا لعله يستهويني وأستمر به.

مدينة مانشستر:

 تقع مدينة مانشستر في شمال غرب إنكلترا، وهي ثاني أكبر مدينة في المملكة المتحدة وإحدى المدن الصناعية العريقة التي انطلقت منها الثورة الصناعية في أوروبا الغربية. فيها جامعات كبرى تعد من أهم جامعات المملكة المتحدة منها: جامعة مانشستر (ومعها اليومست) وجامعة مانشستر متروبوليتان وجامعة سالفورد. وتشتهر المدينة بالنوادي الرياضية وكرة القدم خصوصاً مانشستر يونايتد ومانشستر سيتي. أنجبت المدينة علماء كبار منهم الكيميائي جون دالتون مكتشف الذرة، وكذلك هي المدينة التي نبعت منها الأفكار الشيوعية حيث كان فيها فردريك إنجلس وكارل ماركس.

فريق مانشستر يونايتد (Manchester United):

من أشهر فرق كرة القدم في أوروبا وله ملعب خاص كان يسع لخمسة وخمسين ألف متفرج. ذهبنا في يوم سبت إلى ملعب الفريق المسمى أولد ترافورد، وهو اليوم الذي تلعب فيه كل الفرق، لحضور المباراة. كنت مع الصديق علي الكليدار وأخي ضامن اللذين كانا يدرسان لنيل الدكتوراه. تلك كانت أول مرة أحضر فيها مباراة كهذه. ذهلت من كثرة الناس الذين كانوا وكأنهم يحضرون طقساً مقدساً. اعتقدت أن ذلك اليوم يوماً خاصاً لما شهدته من صخب ولكن تبين أن ذلك حال اعتيادي مثله مثل كل يوم سبت. كان في تلك الحقبة النجم الصاعد الأيرلندي جورج بست (George Best) الذي طبقت شهرته كل بريطانيا لما له من خفة وكفاءة متميزتين وهو في مقتبل عمره. شاهدناه وهو بشعره الطويل عندما دخل الملعب وهاج الجمهور وماج تحية له. وللأسف بعد ذلك النجاح المنقطع النظير اتجه إلى الكحول وملاذّ الحياة وخرج من فريق يونايتد لينتمي إلى فرق أخرى داخل وخارج بريطانيا ولكن تواتر فشله في الحياة ومات في الخمسينيات من عمره.

البنايات المسودّة وتنظيفها:

بدأت بلدية مانشستر في تلك المرحلة بحملة واسعة لتنظيف بناياتها لاكتسائها باللون الأسود جراء الجو الملوث بالدخان الناتج من استعمال الفحم كوقود في كل المجالات الصناعية فيما مضى من الزمن. وكانت الرافعات والمدرجات تعمل في ساحة ألبرت وقد تصاعد الغبار منها باستخدام العدد الكهربائية في “تقشير” الطبقة السوداء وظهور اللون الجميل الأصلي للحجر الذي كان مادة البناء الأساسية في ذلك الوقت.

في مانشستر البناية مغطاة بالسواد وجمال بياضها بعد تنظيفها 1971

في تلك الفترة تعرفت  ببعض الإخوة العراقيين في مانشستر منهم الدكتور سنان الشبيبي الذي كان رئيس رابطة الطلاب العرب في مانشستر وكذلك الدكتور المهندس علي الكليدار وآخرين.

الفنان حسين نعمة في مانشستر:

ومن الحوادث التي تذكر هي زيارة الفنان حسين نعمة إلى مانشستر حيث أقام له طلبة جامعة مانشستر احتفالا غنائيا في إحدى قاعات الجامعة. الذي حدث أن ثلاثة من الطلبة جلسوا بالقرب من الفنان حسين ووجوههم باتجاه الحضور. وكان كلما بدأ أغنية رددوا معه تلك الأغنية وبصوت عال ما يشوش عليه أداءه. طلب منهم الهدوء وعدم مشاركته في الأداء فلم يمتنعوا بل استمروا بذلك عدة مرات. وفي وسط اشمئزاز الجميع اضطر حسين نعمة إلى التوقف وترك القاعة شاعراً بالألم بسبب عدم احترام الفنان الذي وفد من العراق ليرفه عنهم وحشة الغربة.

الركض وراء الحافلة:

كنت عائدا في أحد الأيام من ساحة ألبرت إلى البيت بحدود الساعة الرابعة بعد الظهر وكان الازدحام على أشده. أصبحت على مسافة قريبة من الحافلة عندما غادرت الموقف ودخلت  في منتصف الشارع، وإذا بي أهرول خلف الحافلة وأمسكت بالعارضة الحديدية عند الباب وتمكنت من الصعود إلى الحافلة. وإذا بالجميع ينظرون إليّ باستغراب ولم يعلموا إن هذه هي الطريقة العراقية في مثل هذه الحالات وليس الانتظار لدقائق كي تصل الحافلة الأخرى!  كانت هذه تجربة لا تنسى.

المجلس الطبي البريطاني:

غادرت مانشستر إلى لندن وتوجهت إلى  مقر المجلس الطبي البريطاني كي أبدأ من هناك بإجراءات التسجيل المطلوبة للعمل في المستشفيات كطبيب مقيم. تحدثت مع مسؤولة الاستقبال فطلبت مني وثائق التخرج. ولم يكن لدي في حينه غير كتاب موجه من عمادة كلية طب بغداد إلى مؤسسة الأطباء الأجانب الأميركية تؤكد لهم بأني قد تخرجت في الكلية الطبية. استغربت الموظفة من عدم امتلاكي الوثائق المطلوبة  وطلبت مني الانتظار. وإذا بها تمسك ورقة من داخل مكتبها تبين أنها قائمة أسماء خريجي دورتنا في كلية طب بغداد وكان اسمي على رأس القائمة. بعد التأكد من هويتي الرسمية أعطتني الوثيقة اللازمة للعمل التي لا يمكن لأي طبيب أن يمارس الطب في بريطانيا قبل حصوله عليها. وهذا مثال مهم لمستوى الثقة العالية التي تكنّها المؤسسة الطبية البريطانية بكلية طبّ بغداد وكذلك مدى سعة اطلاعهم واهتمامهم بمن تخرج في كليات الطب في جميع أنحاء العالم النامي مثل عراقنا العزيز.

وفي تلك الفترة كان يجب على الطبيب الأجنبي الذي يروم الحصول على عمل في المستشفى كطبيب مقيم أن يعمل ما لا يقل عن شهر في إحدى المستشفيات البريطانية كطبيب مرافق لأحد الأطباء الاختصاصيين البريطانيين ويحصل منه على كتاب توصية للحصول على فرصة عمل. تقدمت إلى العشرات من المستشفيات التي تعلن عن حاجتها لمن يشغل المواقع الشاغرة فيها. بعد مرور ستة أسابيع من تقديمي لم أحصل على أية بارقة أمل مما أثر سلبا عليّ. كنت أقضي وقتي حينئذ في مكتبة جامعة مانشستر كي أستمر في متابعتي لطب العيون.

.

الأستاذ الدكتور جونسون:

اقترح عليّ أحد الأصدقاء أن أتصل هاتفيا بالأستاذ جونسون رئيس المجلس الطّبي البريطاني آنذاك. وكنت أعرف جونسون حيث كان أستاذ مادة الطب الباطني في كلية طب بغداد وقد استشرته في عارض ألم بي حينما كنت في الصف الأول في كلية الطب. كان العارض اضطراب في الجهاز الهضمي واقترح مازحاً كعلاج أن أشرب كأسين من البيرة يومياً. أجبته ولكنه محرم في ديننا، فقال مبتسماً: أعلم ذلك، لعلّه باسم الدواء يكون حلالاً. ودعته شاكراً ولم أعمل بما اقترح واكتفيت بالإكثار من شرب الماء.

الأستاذ الدكتور جونسون

كان الأستاذ جونسون قد غادر العراق قبل أن أصل إلى الصف الرابع حيث كان يدرس مادة الطب الباطني. ولِما يحمله جونسون في قلبه من حب للعراق استجاب لندائي على الهاتف حينما كلمته من مانشستر مستنجداً للحصول على موقع تدريبي. وهنا أجابني بغضب المربي قائلا: أنت “سخيف silly “، وهذه كلمة دارجة في اللغة الإنكليزية بين الأصدقاء، لماذا لم تتصل بي قبل هذا حول مشكلتك؟ ثم قال: على أية حال اذهب غدا إلى كلية طب جامعة مانشستر وهناك قابل الأستاذ أوكدن (Ogden) عميد الدراسات العليا وبلّغه بأنك جئته باقتراح مني. ذهبت في اليوم التالي إلى الكلية متوجهاً إلى مكتب عميد الدراسات العليا وأبلغتني السكرتيرة بأن أعود بعد ساعة.

الأستاذ كامبل:

قضيت الوقت أثناء تلك الساعة متجولاً في ممرات الكلية وهنا تذكرت أن الأستاذ كامبل أستاذ الباثولوجي (علم الأمراض) الذي أعطانا عشر محاضرات في الصف الرابع من كلية الطب كان من جامعة مانشستر. سألت عنه وبالصدفة كان متواجداً وكان رئيس قسم الباثولوجي في هذه الجامعة. توجهت إلى مكتبه وهناك تأكدت من السكرتيرة أنه في مكتبه فطلبت منها أن تبلغه بأن أحد طلابه من بغداد يود أن يحييه. وإذا به يخرج من غرفته مرحباً والابتسامة غطت وجهه وأدخلني مكتبه وأغرقني بالأسئلة عن الأشخاص والأمكنة. وأعدت عليه جملة كان يركز عليها في إحدى محاضراته الفريدة والتي كانت حول سرطان البروستات بأن أربعة منا نحن الطلبة سيصابون به عند الكبر! فرح بأن له بصمات باقيات في طلبته العراقيين. أخبرته بسبب وجودي في الجامعة فطلب مني أن أنقل تحياته للدكتور أوكدن.

المؤمل يتحقق:

ذهبت عند الوقت المحدد إلى أوكدن وتحدثت معه بكل حرية وثقة حيث كنت مدعوماً من جونسون وكامبل. غادرته على وعد الاتصال بي في اليوم التالي لإبلاغي بالنتيجة. هاتفتني في اليوم التالي السكرتيرة طالبةً مني زيارتها حيث أبلغتني بالقبول. بينت لي إن من شفع لك ليس من أوصوا بك فقط بل هي شخصيتك وصراحتك ولغتك الإنكليزية. كانت توصيته أن أذهب لأقابل الأستاذ كالبرت فيليبس، رئيس قسم طب العيون في كلية الطب جامعة مانشستر والمسؤول في المستشفى الملكي للعيون في مانشستر، وهو علم من أعلام طب العيون في بريطانيا.

الإقامة في تخصص طب العيون:

الأستاذ كالبرت فيليبس (Calbert Philips):

عملت مع الأستاذ فيليبس كطبيب ظلّ (Attachment)  لكي يتمكن من تقييم كفاءتي ويمنحني رسالة تؤهلني للعمل في المستوى المهني الذي أستحقه حسب تقديره. كان كالبرت مربياً فاضلاً وعالماً قديراً واختصاصياً مشهوداً له على مستوى العالم.  لازمته في عيادته وعملياته وكذلك في حلقاته الدراسية التي كان يعقدها لرؤساء الأطباء المقيمين في مناطق حول مانشستر.

ما أتذكره عن فيليبس من الناحية التنظيمية أنه كان ينفعل في العيادة ويصب جام غضبه على السكرتيرة حينما تجلب له مجموعة أوراق لمريض لم تجمع بالكابسة ولكن بدبوس الورق (Paper clip). وكذلك ينفعل إذا أبلغته السكرتيرة بأن فلاناً اتصل بك هاتفياً وترك رسالة. والأسلوب الذي كان يؤكد عليه هو أن تكتب

 السكرتيرة الرسالة الهاتفية وتسلمها له على ورقة. في كلتا الحالتين كان رد فعله “عراقياً” حيث في لحظة ترى أوداجه قد انتفخت ووجهه قد احمّر ويصرخ موبخاً لها.

درس في الحياة: من دروس الحياة التي شهدتها ما حصل في أحد اجتماعاته العلمية مع رؤساء الأطباء المقيمين في اختصاص العيون الذين بلغ عددهم في ذلك الاجتماع خمسة عشر طبيباً. سأله أحد الأطباء عن أمر مهم يخص مرض داء الزرقاء (الماء الأسود) وكان كالبرت هو السيد الذي لا يجارى في هذا الموضوع. وإذا به يجيب بالاعتذار بأنه لا يعرف الجواب. كان ذلك الرد صدمة لي على الأقل بالاعتراف أمام الجميع بالجهل بذلك. خيم الهدوء على الجميع ولكنه تابع بالقول بأنه لا يعلم أي شيء عن ذلك الموضوع. وازداد استغرابي وتفاقم حينماً صرح ثالثة بأنه لا يعرف أي شيء عن أي شيء. قالها بكل صراحة وثقة وبدون رياء فأين نحن من ذلك. وتذكرت هنا الإمام الشافعي حينما قال:

كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي ** وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي

التوصية: تركت هذا العملاق بعد ستة أسابيع وكانت حافلة بالتعلم في اختصاص العيون والأهم الاطلاع على القيم الإنسانية الرائعة المشتركة التي تتحلى بها كل المجتمعات والديانات. وفي نهاية تدريبي معه سلمني توصية للعمل بدرجة مقيم أقدم (رجسترار) وهي توصية أعتز بها حيث أنه قدمني مرحلة في التدريب المبرمج. بقيت على اتصال به وحينما أبلغته بانتقالي إلى الجراحة العصبية قال في رسالته وبكل أدب بأن “الدغدغة” التي قضيتها في اختصاص العيون ستكون عونا لي في الاختصاص الجديد. انتقل الأستاذ فيليبس من مانشستر إلى إدنبرة وأصبح المحرر للمجلة البريطانية لطب وجراحة العيون العالمية.

رسالة من الأستاذ فيليبس من إدنبرة يهنئ بالنجاح في الامتحان الأولي وتغيير اختصاصي إلى الجراحة العصبية

العمل كمقيم وقتي في طبّ العيون:

أهّلت للعمل في المستشفيات البريطانية بعد عملي في مانشستر فبدأت بالتقديم إلى العديد من المستشفيات البريطانية للعمل كمقيم في فرع العيون. حصلت على عمل مؤقت لمدة أسبوعين في مستشفى مدينة رد هيل  (Red Hill) جنوب لندن. وهناك قمت بواجبات الخفارة والحالات الطارئة إذ كان الأسبوعان في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية. شاركت بالنشاط السنوي في القسم حيث كان الأستاذ رئيس قسم العيون يلبس ملابس الممرضات ويقدم وجبة عيد الميلاد للمرضى الراقدين. لبست معه الملابس التنكرية عملاً بتوجيهه  وشاركته في توزيع الوجبات.

منظر لتوزيع وجبة الكريسمس على المرضى. في مستشفى ردهيل (Red Hill) جنوبي لندن

مستشفى ساوث هامبتون:

عند انتهاء عملي في رد هيل وقعت عقداً لعمل مؤقت آخر مع مستشفى جامعة ساوث هامبتون جنوب بريطانيا. عملت هناك مع مسؤول شعبة العيون الدكتور شارلز وكان جراحاً شاباً ذا كفاءة عالية وخلق فذ. تعرفت به وبعائلته وكنا نخرج للنزهة في أوقاته السانحة. بالرغم من أن عملي معه لم يتجاوز الثلاثة أسابيع فقد استمرت علاقتنا لسنين بعد ذلك. كان يقضي إجازته السنوية في اسكتلندا في منطقة كلاسكو وكان يدعوني للقائه وعائلته حينما كنت في ذلك الوقت في اسكتلندا في مدينة برث ثم دندي.  قضينا في مرة عدة أيام في مدينة آردروسان (Ardrossan) التاريخية غرب مدينة كلاسكو.

بالمناسبة فإن الأخ الدكتور عمر اليعقوبي اختصاصي العيون الشهير في العراق كان قد تدرب على يد ذلك الجراح في ذات القسم في إحدى مراحل تدريبه وقد نقل لي مرة سلاماً منه.

أتذكر وأنا في ذلك المستشفى عام 1971 بأنه تم استحداث كلية طب ساوث هامبتون وكنت أتابع من بعيد الاستعدادات والهمة لافتتاح الكلية.

بعد أن أكملت تلك الفترة القصيرة لمدة ثلاثة اسابيع كنت قد حصلت على عمل طويل الأمد في اسكتلندا.

العمل في العيون في اسكتلندا

بدأت عملي كطبيب مقيم في مستشفى برج أوف إيرن (Bridge of Earn)  وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من مدينة برث الشهيرة التي كانت عاصمة لاسكتلندا في السابق وفيها مطار سكوون (Scone) المعروف لتدريب الطيارين وكان منهم العديد من الطيارين العراقيين في ذلك الزمن.

كان المستشفى من مخلفات بنايات الحرب العالمية الثانية وكان على شكل “بنكلة” (Bungalow) ولكن التحسينات التي أجريت فيه جعلته مستشفى حديث بكل المتطلبات.

افتتحت مستشفى برج أوف إيرن 1939 كمستشفى للطوارئ في الحرب العالمية الثانية

الدكتور  ستانسلاف كبيرت:

 عملت هناك كطبيب مقيم للعيون وكان المشرف على القسم الدكتور ستانسلاف كبيرت (Stanislav Gebert) الذي هاجر من بولندا في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية. عمل معه الدكتور فرانكلين الأسكتلندي الأصيل. كان ستانسلاف يحمل الدبلوم من بولندا فقط. أما فرانكلين فلم ينجح إلا بالامتحان الابتدائي لشهادة زمالة الكلية الملكية للعيون، ولم يتمكن من اجتياز الامتحان النهائي أو لعله فشل فيه وترك المحاولة بعدها. كان بين الاثنين صراع مستمر وكنت والممرضات نأخذ جانب الحياد.

في تلك الحقبة قررت وزارة الصحة البريطانية عدم السماح لمن لا يحمل شهادة زمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية أن يترأس القسم الجراحي. ولصعوبة التعامل مع الرؤساء الحاليين الذين لا يحملون تلك الشهادة فقد تقرر الإبقاء على من هو موجود منهم في موقعهم الحالي وتعويضهم عند تقاعدهم بمن يحمل الشهادة المطلوبة.

كان ستانسلاف صارماً دكتاتوراً كالأساتذة الأوربيين في ذلك الزمن! ولكنه طيب القلب رحوماً مع مرضاه متفانياً في سبيلهم. وكان دوامه يوم السبت، العطلة، من أجمل أوقات زيارة مرضاه والتحدث إليهم. كان يتغزل بجراحة العين ويعشق خدمة المريض.

زرع القرنية غير النمطي:

إن زراعة القرنية التي تجرى الان كانت عملية معروفة ومطبقة منذ بداية القرن العشرين وحتّى قبل ذلك التاريخ ولكن بصورة بدائية. فكان يزرع لهؤلاء المرضى قرنية سليمة مأخوذة من الموتى المتبرعين بأعضائهم. ولكن الجديد الذي كان يقوم به الدكتور كيبرت هو زرع القرنية مع ما يحيط بها من الصلبة بمقدار المليمترين. وهذه في الغالب تمر باختلاطات شبه مؤكدة أهمها نمو الأوعية الدموية التي تنفذ إلى  داخل القرنية الشفافة المزروعة ويمكن أن تحدث فيها عتمة كاملة كالتي كانت عليها القرنية المصابة قبل العملية. ولكن الدكتور كيبرت كان يتفاخر بنتائج عملياته التي لم تسنح لي فرصة مشاهدتها ولكن شاهدت احدى مريضاته بعد العملية وكانت قرنيتها شفافة في ذلك الوقت. وقد بدأ الجراحون في نشر بحوثهم في هذا المجال في عام 1973. ولا أعتقد إنه نشر أي بحث حول العملية لكونه غير أكاديمي التوجه.

رفع القرنية مع ما يحيط بها من الطبقة الصلبة (البيضاء) لزرعها في عين المريض المصاب

كان لكيبرت زوجة بولندية رقيقة الطبع فنانة متميزة. أذكر من لوحاتها المعلقة على جدران القسم لوحتين صنعتهما من المقص الجراحي (النبيذ) الذي يستعمل مرة واحدة ويكون معدنه رخيصاً. عبّرت إحدى اللوحات عن كيبرت نفسه وهو يؤشر بسبابته إلى الممرضة الواقفة أمامه بغضب ظاهر وهي حانية رأسها قائلة عفواً يا سيدي. واللوحة الأخرى تمثل الجراح في قاعة العمليات وفيها النفس الدكتاتوري الواضح. ومن كفاءتها الفنية العالية يمكن للمشاهد أن يرى المقص يحكي كل التعابير الإنسانية المقصودة!

رسالة من الدكتور كيبرت يهنئني فيها بالنجاح في الامتحان الأولي للزمالة وتحولي إلى الجراحة العصبية

أما الدكتور فرانكلين فقد أهداني كتاباً لا زلت أحتفظ به عن تاريخ عملية الساد، الماء الأبيض. وفيه تفاصيل العملية الجراحية التي كانت تجرى قبل عقود من السنين وهي أن الجراح يعمل شقاً في القرنية يشمل كامل نصف حافة القرنية السفلي ويضغط بإبهام يده اليسرى على النصف السفلي للمقلة بحيث ينبعج إلى الداخل ويمسِّد بلطف بإبهام يده اليمنى على النصف الأعلى للمقلة أملاً أن تخرج عدسة العين إلى خارج المقلة ومن ثم تعود للمريض قدرته على الإبصار!!

العملية الجراحية لي في مستشفى برج أوف إيرن 1972:

بدأت أثناء الشهر الثالث من عملي في تلك المستشفى  بقسم العيون أشكو من ألم استمر لأيام وكان في تزايد مستمر ولكني لم أشكُ ولم أراجع طبيباً للاستشارة أملأ أن الحالة يمكن أن تتحسن بالكمادات. ولكن الألم تفاقم بتجمع الخراج وبدأت أحس بتورم حول المنطقة. في يوم سبت حينما جاء الدكتور كيبرت لعيادة المرضى كعادته في هذا اليوم صرحت له بما أعاني من ألم وتورم. لامني لعدم إخباره مسبقا بما أنا فيه. اتصل مباشرة برئيس قسم الجراحة الدكتور باترسون والذي هو كذلك لم يتخلف في كل يوم سبت عن عيادة مرضاه. وعندما ذهبت لمكتبه وأجرى الفحص السريري بدا على وجهه القلق وقال إنك تحتاج إلى عملية طارئة الآن. أجرِيت التحضيرات الطارئة اللازمة ووقعت على الموافقة لإجراء العملية وتحمل كافة العواقب المحتملة. حينما وقعت عيني على تلك الجملة منعت دمعة من أن تنسكب من عيني لأني كنت وحيداً في هذا البلد ولا يعرفني أحد ولا يعلم أهلي بما أنا فيه إذ أنه من المحتمل أن تحدث مصاعب واختلاطات بعد العملية أو حتّى الوفاة. ولكن لا بد من المضي في ذلك وهكذا كان. تمّ إجراء العملية بنجاح  وحمدت الله على لطفه بتوقيت العملية في الوقت المناسب وعلى نجاحها.

أدخلت الردهة الجراحية بعد العملية وقد تفضل علي الدكتور باترسون بطلبه من الممرضة المسؤولة أن تخلي لي غرفتها للرقود فيها حيث كانت الردهة تحوي عشرين سريراً متجاوراً كما في مستشفيات العراق. أغرقني الجميع باللطف والرعاية ومما يعلق في ذاكرتي هو توفير جهاز فونوغراف وعدد من الاسطوانات الغنائية الأسكتلندية. وكان أفضلها عندي أغاني السير هاري لودر (Sir Harry Lauder) مغني الفولكلور الأسكتلندي والذي منح لقب سير “فارس” لخدماته الفنية الترفيهية للجنود البريطانيين أثناء معارك الحرب العالمية الثانية. تعلمت بعض الفولكلور الأسكتلندي الجميل وبعض التعابير باللغة الأسكتلندية القديمة Gaelic والتي كان يرددها هاري لودر في أغانيه الشعبية.

المغني الفولكلوري الأسكتلندي السير هاري لودر مع صديقه ونستون تشرشل ومع شارلي شابلن

كانت الرعاية “الأسكتلندية” الحميمة التي قدمها لي الجميع لا تغني عندما كان يحين موعد تغيير الضماد اليومي الذي يقوم به الطبيب المساعد لباترسون، وكانت تتم تحت تأثير المورفين لشدة الألم لكون الضماد كان مدفوناً في تجويف الخراج. وكنت أخشى في حينها من احتمال الإدمان عليه لاستمرار الحاجة له لفترة أسبوعين تقريبا. ولم يكن الأسبوعان التاليان للعملية مقرونين بألم ولله الحمد والمنة بأن تم الشفاء بحدود الأربعة أسابيع وعدت إلى عملي في قسم العيون بكامل صحتي.

الآنسة بدون ذراعين والطيار مبتور القدمين:

شاهدت فلماً وثائقياً عرض على كل القنوات البريطانية في العام 1971 حول سيدة ولدت بدون ذراعين اسمها ماريلين گيليس (Marylyn Gillis) والآخر هو طيار شارك في الحرب العالمية الثانية واسمه دوكلاص بادر (Douglas Bader) الذي بترت ساقيه في حادثي سقوط طائرته ولكنه عاد واشترك في الطيران في الحرب العالمية الثانية.

الطيار دوكلاص بادر فاقد الساقين

ولدت الآنسة ماريلين گيليس بدون ذراعين وبفضل رعاية أهلها وتصميمها فقد تمكنت من مجابهة الحياة بكل ثقة. وهي تعمل بوظيفة سكرتيرة وتقوم بكافة الأعمال الكتابية والطباعة بكل إتقان باستعمال قدميها، كما تقوم في البيت بكل أعمال البيت ومتطلباته. والأهم من ذلك حصولها على إجازة قيادة السيارة في أول محاولة وهذا إنجاز مهم في بريطانيا. 

عندما بدأت العمل في برث عام 1972 القريبة من مدينة سكناها قررت أن أتعرف على تلك السيدة وأبارك لها تصميمها ونجاحها في الاعتماد على نفسها في معترك الحياة بالرغم من حرمانها من الذراعين، فهي رمز للتصميم على العيش بكرامة. حصلت بعد عناء على رقم هاتف بيتها واتصلت بها وذهبت إلى البيت ومعي باقة من الزهور. استغربت عندما فتحت الباب بقدمها وشكرتني لمبادرتي بتقديم الزهور. جلست معها ما يقارب النصف ساعة وهي تحدثني عن كفاحها وعن إصرارها على أن تعيش حياتها كما يعيش الآخرون وأن تقود السيارة لوحدها بدون الاعتماد على أحد. ولكنها لم تحصل على السيارة المناسبة بالرغم من كل المحاولات. وأخيرا تبرع قريب لها يعمل ميكانيكي سيارات واستطاع أن يحور سيارة فورد إسكورت أوتوماتيك عادية فاستبدل عجلة القيادة (استيرن) ووضع محلها عجلة صغيرة تشبه عجلة قيادة سيارات الأطفال وثبت عليها عموداً صغيراً كي تتمكن من السيطرة على العجلة وتديرها كما يجب.

ماريلين وهي تقود السيارة بقدمها ماريلين تشرب الشاي وهي تمسك الكوب بأصابع قدمها

وقبيل توديعي لها طلبت منها أن تهديني صورتين أقدمهما واحدة لأخوتي والأخرى لأخواتي. رحبت بالفكرة وقدمت لها قلم الحبر الذي أحمله وأعتز به وكان من نوع باركر 21 الشهير! أطرت على نوعية القلم وسهولة الكتابة فيه أثناء كتابتها، وهنا وعلى الطريقة العراقية تبرعت قائلاً إن هذا القلم هدية رمزية لك يا سيدتي. لم تصدّق ذلك ولكنها قبلت الهدية منّي. وبعد ذلك أرسلت لي رسالة تشكر فيها زيارتي وتقديمي القلم لها.

رسالة من ماريلين بخط ” قدمها” بعد زيارتي لها في دارها في دندي

دراسة التشريح في كلية طب جامعة دندي وابن النفيس:

أخذت إجازة زمنية من مستشفى برث كي أذهب فيها إلى جامعة دندي لمراجعة مادة التشريح استعداداً للامتحان الأولي لزمالة كلية الجراحين الملكية البريطانية. كنت أركب الحافلة ثم القطار ثم حافلة لأصل إلى جامعة دندي ثم أمشي إلى كلية الطب وأدخل قسم التشريح حيث أبقى بحدود الساعتين وأعود إلى مكان عملي في برث. وفي مرة أثناء حديث دار بيني وبين بعض أساتذة قسم التشريح حول وليم هارفي واكتشافه الدورة الدموية الصغرى قلت لهم إن ابن النفيس كان قد اكتشفها قبل هارفي بحدود 400 سنة. ارتسمت ابتسامة المجاملة مع الاستغراب على وجوههم وقال أحدهم من أين لك هذه المعلومة؟ أجبت بأن هذا ما درسناه في منهجنا الدراسي في بغداد. لم يعلقوا وآمنت بأنهم لم يأخذوا ما قلت مأخذ الجد. وبالصدفة أصدر كتاب في مادة الفسيولوجي في طبعة جديدة لمؤلفه گرين (Green) وكان كتاباً شبه منهجي للتحضير لامتحان زمالة كلية الجراحين الملكية واذا به يذكر وبكل وضوح بأن ابن النفيس هو من اكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل وليم هارفي بأربعمائة عام تقريبا. سارعت بالذهاب إلى دندي وتوجهت إلى قسم التشريح وعرضت عليهم ما ذكر في الكتاب وقلت لهم هذا المصدر من بلدكم وهو يذكر الحقيقة. فكان لقاءً علمياً شيقاً انتهى بالابتسامة الحقيقية هذه المرة.

كنت أقضي بعض الوقت مع الأستاذ هيننك (Haining) وهو الإختصاصي المعروف بانفصال الشبكية في ذلك اللحين. وكان الدكتور هيننك قد قضى بعض الوقت في العراق ما ترك أثراً جميلاً في ذاكرته عن العراق.

حالتي المشوشة ورسالة الأستاذ زهير البحراني:

لم أكن مقتنعاً بأن اختصاص العيون هو الخط الذي يمنحني القناعة المهنية التي كنت أحلم بها. وكنت قلقاً وغير مرتاح النفس ومررت بحالة ذهنية مشوشة صعّبت علي اتخاذ القرار المناسب، حيث أن رغبتي هي الجراحة ومن الصعوبة بمكان التوجه لهذا الاختصاص بعد هذه المدة التي قضيتها بعد التخرج. وفي خضم هذا القلق وعدم الاستقرار والذي نقلته إلى بعض أساتذتي في العراق كي أستأنس بآرائهم وتوجيهاتهم. جاءني الرد من الأستاذ الدكتور زهير البحراني معاتباً بل مؤنبا لعدم استقراري على وجهة معينة في الاختصاص وأنا الذي كان المعّول عليّ كوني الخريج الأول وقد تدربت على يديه وأيادي الأساتذة المرموقين الآخرين. كان لتلك الرسالة الأثر البالغ عندي لذا قررت أن أتخصّص بفرع جراحي آخر غير اختصاص طب العيون.

القرار:

وفي ليلة من ليالي أسكتلندا الجميلة في شهر آب 1972 جلست جلسة هادئة مع نفسي وقررت أن أترك اختصاص العيون والاتجاه إلى اختصاص جراحي آخر. في خضم القلق وعدم الاستقرار كنت ألتقي بالأخ الدكتور محمّد عزيز الموسوي زميلي في الدراسة الثانوية في النجف والذي كان يعمل رجسترار (مقيم أقدم) قي اختصاص الأذن والأنف والحنجرة في المستشفى الجامعي في مدينة دندي. عبّرت له عن قلقي وعدم ارتياحي في اختصاص العيون وبقراري النهائي في اختيار اختصاص آخر من اختصاصات الجراحة.

الدكتور محمد عزيز الموسوي

اتصل بي محمد بعد يوم واحد من تواصلنا ليخبرني بوجود شاغر في قسم الجراحة العصبية في المستشفى. أسرعت متوجهاً إلى دندي مصطحباً كل ما يلزم من وثائق قدمتها عند وصولي لسكرتيرة قسم الجراحة العصبية في مستشفى دندي الجامعية.

اتصلوا بي هاتفياً بعد يوم ليبلغوني بموعد المقابلة للمنافسة مع من قدّم من الأطباء الآخرين على ذلك الموقع، وفي الواقع تم تقديم وثائقي بعد انتهاء موعد التقديم الرسمي للمقابلة. وقد قُبِلتْ وثائقي للمنافسة مع الآخرين بسبب “الترشيح” الذي قام به مشكوراً الدكتور محمّد الموسوي عن طريق أستاذه الدكتور ماران (Maran) رئيس قسم الأذن والأنف والحنجرة في المستشفى (أصبح رئيس كلية الجراحين الملكية البريطانية في إدنبرة). جلس عند المقابلة مسؤولو قسم الجراحة العصبية في دندي الأستاذ جو بلوك وآيفن جاكوبسن وهما من جنوب أفريقيا. كنت أثناء المقابلة صريحاً جداً معهم حيث قلت لهم أني أعمل منذ فترة في اختصاص العيون ولكني أرغب في الانتقال منه إلى جراحة الدماغ. فإن قُبلت فيه فستفيدني خبرتي البسيطة في العيون في اختصاص الجهاز العصبي وإذا لم أقتنع باختصاص الجراحة العصبية فإني سأعود إلى العيون مستثمراً الخبرة المتواضعة التي سأكتسبها من الجراحة العصبية في الستة أشهر من الإقامة والتي لن تضيع للترابط الوثيق بين الاختصاصين حيث إن العين هي مرآة الدماغ.