البداية في بغداد؛ عيادة الأستاذ الدكتور عبد الستار فاضل 1966:
كانت أول خبرتي في العيادة الطبية الخاصة مباشرة بعد تخرجي من كلية الطب حينما كلفني استاذي وصديقي الاستاذ الدكتور عبد الستار فاضل، أستاذ الكيمياء الحيوية في الكلية، أن أعمل في عيادته الخاصة خلال فترة إجازة تمتع بها لفترة اسبوعين. كان ذلك شرف كبير لي وثقة منه أعتز بها.
تقع العيادة في منطقة ساحة الشهداء في الطابق الثاني من بناية صغيرة. كان الفراش يرعى متطلبات العيادة وتنظيم دخول المرضى الذين كان عددهم قليلا نسبيا لعلمهم بأن الاستاذ عبد الستار في إجازة.
عند عودته أبدى استحسانه لأدائي وشكرته بدوري لثقته بي. كانت تلك تجربة رائعة لم أنسها.
العيادة في الكوفة 1969:
افتتحت خلال عملي كطبيب في المناطق النائية في ناحية العباسيات التابعة لقضاء الكوفة عيادة لي في بيتنا في محلة السراي ولم تؤثر على الحياة اليومية للعائلة بسبب سعة البيت وتقسيمه الى الدخلاني (القسم المخصص للأهل) والبراني (للضيوف والمناسبات). وكان موقع العيادة في البراني بطبيعة الحال. لم أستأجر موقعا خاصا في داخل المدينة لعلمي بأن وجودي هناك مؤقت.
كان هدفي الأسمى هو الانصراف للعلم والتطور في المهنة ولم يكن هدفي في ذلك الوقت ولا بعده أن أجمع المال. لذا وضعت على المنضدة في مكتبي في العيادة صورة لأساتذتي الذين أعتز بهم وتدربت على أياديهم الاختصاص الذي أحب، الجراحة، وهم الاستاذ خالد القصاب، زهير البحراني وعبد الكريم الخطيب. وكان هذا الرمز دافعا للتشبه بهم ووازعا يصرفني عن الرغبة في الكسب المادي الاني والقادم. بقيت أعمل في العيادة خلال خدمتي في المناطق النائية في ناحية العباسية ما بين الشهر الثالث والثاني عشر من عام 1969 حيث بدأت رحلتي مع اختصاص العيون.
تركزت خدماتي الطبية على الطب العائلي. واستخدمت في العيادة نظام الكارتات والذي لم يكن السياق المتبع من غالبية الأطباء في ذلك الزمن وعلى مستوى طبيب العائلة والمحلة في مدن صغيرة. وكانت الكارتات منظمة وبتشخيص واضح يمكن الرجوع إليها يكل سهولة. واحتفظت بكل تلك الكارتات التي كان يمكن أن تعطي صورة دقيقة عن الحالة الصحية لشريحة اجتماعية في تلك الحقبة من الزمن. هناك تفاصيل أخرى في فصل رحلة الطب؛ المناطق النائية.
العيادة في الحلة 1971:
حينما بدأت عملي كطبيب عيون ممارس في مدينة الحلة في بداية العام 1970 افتتحت عيادتي في مركز مدينة الحلة. كان عملي الصباحي في مستشفى العيون في الحلة حيث كان المسؤول عنها اختصاصي العيون الدكتور عبد الرسول الماشطة. لم أسكن في فندق حينذاك بل كانت عيادتي هي سكني حيث تحوي العيادة غرفتين وصالة فكانت غرفة وصالة للعيادة والغرفة الاخرى للسكن. كانت هذه الطريقة متبعة من أغلب الأطباء القادمين الى الحلة من مدن بعيدة أخرى.
العيادة الاستشارية في كلية طب بغداد 1976:
كان لزاماً على أساتذة كلية الطب المشمولين بقانون التفرغ الجامعي الإلزامي عدم فتح عيادة خاصة لهم وأن تكون بدلا عنها عيادات تخصص لهم في بناية مدينة الطب كل في مكتبه الرسمي الصباحي.
كانت العيادات موزعة على طوابق مستشفى مدينة الطب (مستشفى بغداد) وحسب الاختصاصات. يداوم الأساتذة بعد الدوام الرسمي ليومين أو ثلاثة أيام في الإسبوع وبأجور فحص رمزية لا تقارن بما يحصل عليه أقرانهم في العيادات الخاصة.
نظراً لعدم وجود مكتب خاص بي في المدينة لاستعماله كعيادة فقد تفضل الدكتور عمر دزه ئي، وهو غير متفرغ لكونه منتسب إلى وزارة الصحة، باستخدام غرفته في الطابق الثاني حيث الوحدة الجراحية التي يرأسها الأستاذ خالد القصاب وفيها الأستاذ زهير البحراني والأستاذ عبد الكريم الخطيب. عملت معي الممرضة فاطمة التي تعمل كمسؤولة في نفس الطابق الثاني أثناء الدوام الرسمي. يدفع المريض أجور الفحص الرمزية إلى محاسب العيادة ويسلم وصل الدفع إلى الممرضة.
طرفة: في إحدى المرات وأنا في العيادة الاستشارية تصفحت ملفات المرضى قبيل دخولهم علي وإذا من بينها ملف لمريضة اسمها “جوليت”. تعجبت من مجيء مريضة بهذا الاسم الذي يبدو وكأنه من طبقة موسرة حيث المتوقع أن تراجع العيادات الخاصة وليس العيادة الاستشارية الرخيصة الأجور. نادت الممرضة فاطمة على المريضة جوليت عندما جاء دورها دخلت سيدة قروية مغلّفة بعباءة من صوف ووجهها ملئ بالوشم القروي الجميل فقلت لها عزيزتي لم دخلت أنت فإن الدور للمريضة جوليت؟ أجابت بكلّ ثقة: “دختور موش آني يوليته” التي تعني: دكتور نعم أنا جوليت، حيث تلفظ في جنوب العراق بتغيير الجيم إلى ياء. رحبت بها وحدثتها بما كان وأرسلت على الممرضة وضحكنا جميعاً مما جرى.
العيادة الاستشارية في شارع السعدون:
تطورت العيادة الاستشارية فأصبحت مؤسسة ربحية تدر الاموال على الكلية وتوفر مصاريف تطوير مجالات عديدة في الكلية. انتقلت العيادة في العام 1980 الى عمارة ذات خمسة طوابق في في شارع السعدون في بغداد شغلت منها الثلاث طوابق العليا. انتقلت مع الجميع وكان العمل ثلاث أيام في الاسبوع. كان ذلك تقدما في الخدمات والمورد.
قرار السماح لترك التفرغ: أصدرعام 1982 قرار بالسماح للأساتذة المشمولين بالتفرغ الطبي بالخيار في البقاء في العيادة الإستشارية أو إنهاء تفرغهم. رحب العديد من أعضاء الهيئة التدريسية في الاختصاصات السريرية بذلك القرار فقدموا طلبات إنهاء التفرغ وكنت من ضمنهم. بقي في العيادة الإستشارية بعض الأطباء السـريريين وجميع الاختصاصيين في العلوم الأساسية.
العيادة في شارع المشجر في بغداد:
استأجرت بعد إكمال المتعلقات الرسمية بترك العيادة الإستشارية افتتحت عيادتي الخاصة في شارع المشجر في منطقة السعدون، شقة لتكون مقرا لعيادتي الخاصة في بناية يملكها صديقي الدكتور عبد السلام محمد اختصاصي التحليل النسيجي المعروف. تحوي البناية 12 شقة متماثلة وكان الطابق الارضي مفتوحا ولم يصمم كشقق وقد استأجرته مجموعة الاساتذة الدكتور بسام البرزنجي والدكتور سعيد غدير والدكتورة نوال قاسم مع طاقم من مساعديهم وافتتحوا ولأول مرة في العراق العيادة الجراحية اليومية حيث تجرى فيها العمليات التي لا يحتاج المرضى المبيت بعد إجراء العملية.
تكفل أخي وصديقي المهندس غسان الجبوري صاحب معامل ألمنيوم بتغليف جدران العيادة بطبقات من الألمنيوم التي كان يستعملها في البيوت والمكاتب التي يتعاقد مكتبه معها. وكذلك جعل القواطع من الألمنيوم فأصبحت العيادة ذات طابع حديث مبهج. بقيت في العيادة مدة ثلاث سنوات قررت بعدها أن أترك تلك المنطقة بالرغم من كونها المنطقة المثالية لتجمع الأطباء والتوجه إلى منطقة تعتبر بعيدة عن “السوق”. قررت ذلك لانزعاجي من سوء الخلق الذي استشرى هناك فترى الدلالين الذين يوجهون المرضى إلى عيادات أطباء ومختبرات يتعاملوا معها بإسلوب رخيص. وكذلك كوني في الطابق الأول ما يصعب على بعض مرضاي الصعود إلى العيادة لعدم وجود مصعد في البناية فضلا عن صعوبة وقوف السيارات.
انتقلت الى عيادتي الجديدة في الصرافية وقدمت عيادتي في الشارع المشجر إلى صديقي وزميلي في الكلية الدكتور نبيل مجيد ناصر الذي كان يبحث عن عيادة له بعد انتقاله من البصرة إلى بغداد وقد طلبت منه بدلاً مادياً رمزياً.
العيادة في منطقة الصرافية في بغداد:
انتقلت إلى عيادتي الجديدة في منطقة الصرافية في بناية مستشفى المختار التي يملكها صديقي الدكتور زهير المختار التي لم تفتتح كمستشفى بعد!
يقع مستشفى المختار مقابل جامع عادلة خاتون وبالقرب من امتداد الجسر الحديدي الذي كان يسير عليه القطار. كانت عيادتي هي العيادة الوحيدة في المنطقة.
أدخلت في عيادتي نظام غير نمطي لما هو متعارف عليه بين زملائي الاختصاصيين في ذلك الحين. فقد كان دوام العيادة لأربعة أيام في الإسبوع يومين للمرضى الجدد ويومين للمرضى القدامى. عمل في العيادة ستة عاملين وهم سكرتير للمرضى الجدد (سلام الخليلي) وسكرتير المرضى القدامى (فائز الخليلي)، ممرضة (سعاد ثاجب)، مبرمجين اثنين على الحاسبات (علي نصرت ورغد الخالدي). كانت هناك غرفتين لفحص المرضى لكل منهما حاسبة مع كل العدد المطلوبة.
تم إنشاء شبكة للحاسبات الأربع في العيادة واحدة في كل من غرفتي الفحص، وواحدة لكل متخصص على الحاسبة. تسهيلا للعمل ولتأمين راحة المرضى طبعت كارتات صغيرة فيها مواعيد الزيارة اللاحقة مكتوب على كل منها أيام، اسبوع، إسبوعين، شهر، شهرين كي يحملها المريض إلى السكرتير لتثبيت موعده تفاديا للخلط والاشتباه.
تحوي غرفة انتظار المرضى أثاثا عمليا حديديا صنعه لي الصديق الدكتور فالح الجدة في معمل الحديد الذي يملكه في ساحة السباع في بغداد.
كانت منطقة العيادة في الأيام الأربعة تعج بالحركة حيث يتجمع المرضى ومرافقيهم في الشارع قرب مدخل العيادة على منقلة شوي “الفشافيش” وهناك من نصب نفسه مسؤولا لوقوف السيارات يستوفي إجوره من كل من يركن سيارته من المرضى وأهلهم.
ذكريات عابرة في العيادة:
رئيس الطائفة الموسوية: زارني في التسعينيات أو لعله قبل ذلك، في العيادة مريض في ستينيات عمره يشكو من خذل (شلل جزئي) في الجانب الأيسر من جسمه ويساعده على المشي شاب ذو بنية رياضية. حينما اطلعت على ملفه كمريض يزور لأول مرة استوقفي اسمه (لا أتذكر بالضبط اسمه الأول) حيث كان اسم عائلته الموسوي! أعتدت أن ألاطف مريضي لأقلل خوفه من وجوده في عيادة طبيب فأسأله أسئلة اجتماعية بسيطة. سألته إلى أية عائلة موسوية تنتسب؟ من الكاظمية أو النجف أو كربلاء أو غيرها؟ أجاب والابتسامة على وجهه: دكتور أنا رئيس الطائفة الموسوية في العراق! عندئذ سألته كم عدد أفراد الطائفة في العراق. أجاب حوالي الأربعين فرداً.
أساتذة الجامعة والمعلمين وأهاليهم: بسبب شظف العيش أيام الحصار الجائر وشحة المورد كنت أقوم بفحص المرضى من أعضاء الهيئة التدريسية وأهلهم بدون أجر. يسبب ذلك الإحراج للعديد منهم ولكن بعد أن أوضح لهم بأن ذلك ليس لشخص معين ولكنه لعموم الهيئة يهدأوا. كانت تلك مشاركة متواضعة معهم ليس من الناحية المادية بل من الناحية الإعتبارية لهؤلاء القادة مربي الجيل الجديد.
زارني أحد الأساتذة وكان يشكو من صعوبة بالغة بالمشي متكئاً على عصا. بعد أن أكملت الفحص علمت بأنه أستاذ جامعة متقاعد. خلال حديثي معه سألته عن راتبه التقاعدي أجابني بألم وحرقة: راتبي مائة وثلاثين ديناراً. حبست دمعة في عيني لما شاهدت من العظمة والهيبة على وجه ذلك الاستاذ وما آل اليه. أضاف قائلا دكتور أنا قضيت جل دراستي في سويسرا وحصلت على الدكتوراه من فرنسا وعدت وخدمت وطني وأهلي!
يثبت السكرتير في العادة عنوان المريض ورقم هاتفه في الملف. تأكدت من عنوانه وبعد مغادرتي العيادة في الليل ذهبت أبحث عنه في طرقات الأعظمية. لم أهتد الى بيته وبالصدفة شاهدت أستاذي الدكتور هاشم الهاشمي أمامي حينما سألته عنه عرفه وأرشدني متفضلاً إلى بيته. طرقت الباب ليفتحه لي شاب وحينما دخلت إلى البيت شاهدت علامات النعمة “القديمة” ما بقي من نوع الأثاث الفاخر وخزانات الكتب المزخرفة المتهرئة وغيرها. كان جلوسنا على الأرض وأمامنا البلاط المقلوع بعضه. حاولت أن أدس رزمة من النقود تحت السجادة فلما انتبه لذلك انتفض رافضاً وشاكراً في نفس الوقت أعدتها الى جيبي. أخذ يحدثني عن خذلان الأصدقاء ومن يحيط به واسغلال ضعفه. خرجت من عنده وأنا كسير القلب على ما يحدث في عراقنا الحبيب. ومن المؤكد أن هذه قصة من مئات بل آلاف القصص التي مرت على أهلنا الطيبين.
الشيء بالشيء يذكر: أضحت حال أساتذة الجامعات من البؤس المادي إلى درجة تفوق الخيال. أنقل على سبيل المثال ما دار في غرفة الأساتذة لإحدى الكليات الإنسانية. دخل أحد الأساتذة تلك الغرفة وبعد أن سلم على الحضور قال لهم بألم بأنه باع جهاز مكيف الهواء قبل يوم ليوفر بعض المال لأهله. ردّ عليه الأىساتذة وهم يتأففون: أستاذ يظهر انك عايش بنعمة لحد الآن. نحن تجاوزنا مرحلتك هذه حيث بعنا حتى أبواب غرف بيوتنا كي نوفر المال لأهلنا.
أتذكر أني ذهبت مرة الى بيت أحد الاساتذة الذي كان قد أختير الأستاذ الأول في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في إحدى السنين. كان هدفي مساعدته ببعض المال. صحبتني زوجتي كي تكون الزيارة عائلية وتبين أن الأستاذ وزوجته الأستاذة كانا قد باعا كل أثاثهم ولم يبق إلا الحصير والفراش على الأرض. جلسنا وتسامرنا وأكلنا معهم ما تمكنوا من تحضيره. تحايلت عليهم فقدمت مبلغا من المال لكل من طفليهما اللذين كانا جالسين معنا رغم معارضة الوالدين. بعد محاولات عديدة حصل ذلك الأستاذ موافقة المسؤولين على سفره خلرج العراق. لم يكن لديه المال الذي يعينه على تحمل نفقات السفر وما بعده. قدمت له ما يغطي تلك النفقات وأصر إنها تعتبر ديناً سيوفيه مستقبلاً. سافر على بركة الله ووفى دينه ووفقه الله وأولاده ولله الحمد.
أنقل هذه الصورة القاتمة لأؤكد إن الأساتذة الذين تركوا البلد في أيام الحصار كان ذلك رغماً عنهم بسبب حرمانهم من الحياة الكريمة ومستقبل أولادهم المهدد وذلك ما أجبرهم على ترك الوطن الذي لم ينسوه.
النهاية:
أغلقت العيادة في الشهر السابع من شهر آب عام 2004 متوجها إلى حياة جديدة في غربة بعد أن صورت بالفيديو العيادة بكل مرافقها أثناء وجود المرضى كي أستمتع بذكراها كلما حننت للماضي الجميل.