الدراسة الابتدائية
الدخول:
درست الابتدائية في مدرسة “الكوفة الابتدائية للبنين” التي أسّست عام 1922 حسبما كان مكتوباً على لوحتها في أعلى بوابة المدخل. ثم غُير اسمها أثناء أيام دراستي في الصف الثالث أو الرابع أي بحدود العام 1950 إلى مدرسة “ابن حيان الابتدائية” تيمناً باسم عالم الكيمياء الكوفي جابر ابن حيان.
دَخلتُ الصف الأوّل عام 1948 وكان عمري عند الدخول لم يتجاوز الخمس سنوات وهو يقل عن العمر المتعارف عليه للقبول سنة واحدة أي عمر الست سنوات. ولكن بحكم وجود ابن عم والدي الأستاذ أمان الخليلي وهو معلم في تلك المدرسة ولصداقة والدي مع مدير المدرسة الأستاذ راضي الأعسم تمّ قبولي في الصف الأوّل. أخذني الأستاذ أمان إلى الصف وأنا أبكي لبعدي عن الأهل والاستغراب من هذا المحيط الجديد. وبمرور الوقت هدأت وتعودت على الصف والمدرسة.
في أحد الأيام زار المدرسة المفتش التربوي وعند دخوله صفنا علّق على كوني طالباً في ذلك العمر المبكر قائلاً: “لماذا لم تجلبوا كاروكه (مهده) معه”؟
كانت المدرسة دار تربية وأدب تكمل ما يتربى عليه الطالب في البيت. يطمح الطالب أن يكون يوماً ما كأستاذه الذي هو مثل أعلى في النُبل والخُلق العالي. فكان القيام للمعلم عند دخوله الصف، والاستئذان قبل الحديث، والاستئذان قبل الدخول إلى الصف بطرق الباب عند التأخر والنظام في السير والاصطفاف هي السمة الغالبة لثقافة الطلبة في المدرسة وكان هذا هو السياق المتبع في كلّ مدارس العراق في ذلك الحين.
زهت مدرسة ابن حيان وهي المدرسة الرئيسة في الكوفة بمستواها الثقافي والأخلاقي والعلمي والفني وكانت في الكوفة “مدرسة أخرى” للبنين (حسبما كنا نود نحن طلبة ابن حيان أن ننعتها!) وهي المدرسة العقيلية وتقع في الجانب الآخر الحديث من المدينة.
تقع ابن حيان على الشارع الرئيس للمدينة الذي يؤدي إلى مسجد الكوفة ومن الجانب الآخر ينتهي الشارع عند نهر الفرات. كانت المدرسة مستطيلة المساحة فيها حديقة محاذية للسياج الخارجي وعلى امتداده بعرض عدة أمتار. وعلى جانبي المدخل تقع على اليمين غرفة الإدارة وعلى الشمال غرفة المعلمين. يؤدي المدخل إلى الساحة التي تتوسط الصفوف الدراسية وكذلك غرفة الرياضة والموسيقى وغرفة الأعمال (النشاطات الفنية) موزعة على أضلاع المدرسة الثلاثة.
وفي الضلع الخلفي يوجد باب واسع يؤدي إلى خلف المدرسة حيث توجد ساحة على امتداد الواجهة الخلفية تطل عليها الشبابيك الخلفية للصفوف حيث يقع الحانوت في الساحة الخلفية والذي كنا نجد فيه “ما لذَّ وطاب”! غير إنّ دكان السيد ناصر عبر الشارع من مدخل المدرسة كان الأكثر تشويقاً كونه عامراً بكلّ ما نحتاج إليه من قرطاسية ولوازم مدرسية وحلويات وغيرها. ولكن الوصول إليه عبر الشارع يحتاج إلى موافقات من الإدارة.
الصف:
لا تختلف صفوف مدرستنا عن بقية المدارس ففيها الرحلات (المصاطب) الخشبية مصفوفة وفي الواجهة السبورة السوداء. يجلس على كل مصطبة طالبان أو ثلاثة. لم يكن للتبريد في الصيف غير فتح الشبابيك وفي الشتاء إغلاقها لمحاولة تدفئة الصف! فلم تكن هناك وسائل تبريد ولا تدفئة.
أساتذتي في الابتدائية:
للمدرسة طاقم من المعلمين والإدارة يندر وجوده في هذا الزمن. تتمثل كل تلك الشخصيات بالكفاءة والتفاني في حبّ الوطن والطالب والتعليم. فالمجتمع العراقي في كل مجالاته العلمية والأدبية والتجارية زاخر بكذا شخصيات.
ومن باب الوفاء لهم سأتحدث عن المعلمين الذين ربونا وبما تسعفني به ذاكرتي وجميعهم توفاهم الله ورحمهم برحمته.
مدير المدرسة:
كان مدير المدرسة الأستاذ راضي الأعسم مربوع الجسم معتدل الطول يرتدي على رأسه السدارة الفيصلية دوماً. كان بحقّ المدير والأستاذ والأب الحازم المحب و”القاسي!” والناصح والمعلم الصادق. ثابت الخطى سلساً مع الطالب المجتهد ومشجعاً له ولم يترك الطالب الكسول لحاله بل كان يلح عليه وعلى أهله بشتى الوسائل لإيصاله إلى مرحلة مقبولة. كانت لديه العصا المشهورة والتي تدعى بـ: “الحجية” وهي بطول القدم والنصف يضرب بها على راحة كفّ أيدي المقصرين والمتقاعسين والراسبين. وتكون العقوبة بأن يؤمر التلميذ بفتح كفّه وتهوي العصا على راحة يديه لمرتين أو ثلاث. والكُلّ واثق بأنَّ راضي الأعسم كان يقوم بذلك ليس بداعي الانتقام بل حباً منه بتقويم أبنائه التلاميذ.
وللعلم فإن هذه الطريقة كانت متبعة في غالبية دول العالم الغربي والشرقي وقد منع استخدامها رسميا بقوانين ومثال على ذلك ماصدر في المملكة المتحدة عام 1986 والولايات المتحدة عام 1977(ويكيبيديا).
كان معاون المدير المخلص هو الأستاذ صادق خندة علي.
المعلمون: ضياء ربيع، عبد المولى الطريحي، يوسف الفلوجي، أمان الخليلي، يوسف عواد، حسين عبود، هادي حميدي وآخرون.
معلم الجغرافيا ضياء ربيع: هو ابن السيد أحمد ربيع المعروف في الكوفة والفرات الأوسط بطب العيون بالطبابة العربية الإسلامية.
اتسم الأستاذ ضياء ربيع بطول القامة، بياض الوجه وشعر مموج، أنيق الملبس هادئ السير والطبع محبوب الطلبة جميعاً. تميز نشاطه التعليمي التطبيقي في مرحلة الصف الخامس بما كان يجعل الطلبة في ترقب وهم في قمة فرحتهم وتفاعلهم معه في ذلك النشاط. يقسم الطلبة إلى مجاميع تحوي أربعة أو خمسة طلاب. تكلّف كلّ مجموعة بعمل خارطة لدولة معينة من ضمن منهج الجغرافيا. لم تكن الخارطة على الورق بل تنحت على الجبس وتظهر فيها التضاريس الطبيعية فتكون الجبال بارزة والأنهر محفورة والألوان أخـّاذة وذات دلالة.
تبدأ خلطة الجبس (البورَك) ومن ثمّ يصب في قالب خشبي مربع بارتفاع ثلاث إنجات وبضلع طوله قدمين. ننتظر إلى اليوم التالي ليجف الجبس. ومن ثمّ تبدأ كفاءة الطلبة الفنية حيث تثبت في المنطقة الجبلية مسامير صغيرة بعناية. تغطى تلك المسامير بالجبس ليظهر الشكل المقارب للواقع من حيث ارتفاع الجبال أو التلال. ثم تحفر الأنهر والوديان برفق شديد. يبدأ عند اليوم التالي بعد جفافها عملية التلوين وبعد رفع القالب ترى الخارطة وكأنّها لوحة فنية على قدر كفاءة الفنانين الذين أنجزوها!
يحمل الخارطة المجسمة اثنان من أعضاء الفريق الأقوياء وتثبت على الحائط بمسامير بكلّ عناية حيثُ إنَّ الغلطة هنا تكون مكلفة (جداً). يتبارى كلّ فريق مع بقية الفرق في الإبداع والحصول على رضا الأستاذ ضياء.
أبدع الأستاذ ضياء كذلك بتحويل حديقة المدرسة الأمامية المطلة على الشارع إلى مجسم حيّ لخارطة العراق بطول ثلاثة أمتار وبنى الجبال في الشمال بالإسمنت ووضعت داخل الجبال أنابيب ماء مخفية وحفر مجرى نهري دجلة والفرات ومنابعهما وروافدهما وفروعهما وحتّى مصبهما في خليج البصرة. ينساب الماء من على الجبال ويسري في النهرين إلى الأهوار ومن ثمّ إلى شطّ العرب فالخليج. وكانت هذه الخارطة محطّ إعجاب من في المدرسة وزوارها.
الشيخ عبد المولى الطريحي:
كان الشيخ عبد المولى يُدرّس اللغة العربية. يأتي الشيخ من النجف حيث يقيم. ويصرّ أن يدخل الصف بعمامته البيضاء المهيبة وجبته الفضفاضة ذات الجيوب الواسعة.
كانت جيوبه مليئة بـ: “الملبس” وهي حلوى ذلك الزمان يفرح بها الأطفال. وكان لكلّ طالب يحيد الإجابة بالتمام على سؤال في اللغة يوجهه له الشيخ تكون جائزته ملبسة “يمصمص” بها الطالب في الصف ويعفى من عقوبة الأكل داخل الصف. كان الشيخ طويل القامة نحيف البنية تعلو الابتسامة وجهه دوماً ولم يعاقب أي منا طوال مدة تدريسه.
معلم اللغة الإنكليزية يوسف الفلوجي: كان “ملك الأناقة والذوق”. جميل الطلعة يصفف شعرة الأسود المضمخ بدهن الشعر الأجنبي الملمع بكلّ عناية من الأمام إلى الخلف.
اختارني الأستاذ يوسف مع زميلي كامل أحمد الحكيم أن نكون أبطال المسرحية في الصفين الخامس والسادس في مهرجان المدرسة السنوي. تباريت مع كامل في إظهار قدرتنا في الإنكليزية في كلّ المجالات. لكامل أخ أكبر هو محمّد سعيد الذي أصبح أستاذنا في اللغة الإنكليزية في المدرسة المتوسطة.
معلم الصف الأول أمان الخليلي:
الأستاذ أمان من أقاربنا وهو نحيف البنية معتدل الطول يلبس السدارة دوماً وكان متخصّصاً بتدريس الصف الأول وأحياناً الصف الثاني، هادئ الطبع لا يعلو صوته محبوب من الجميع. هناك حادثة وحيدة أتذكرها في الصف الأوّل هي عندما كنت أقصر في أكمال واجباتي البيتية اليومية وأعاقب منه بالكتابة بالطباشير على السبورة: “يا أستاذ بس هالمرة (هذه المرة فقط)” وقد كتبتها باتّجاه قطري من الزاوية العليا اليمنى باتّجاه الزاوية السفلى اليسرى. كنت أحاول أن أرفع جسمي في البداية إلى أعلى السبورة وأنتهي بتأثير التعب عند نهاية السطر فيميل السطر إلى أسفل مع قطر السبورة! وكان ذلك درساً لن أنساه.
معلم الرسم حسن البصري:
معلم الرسم، شاب طويل يرتدي السدارة دوماً والتي تضفي عليه هالة من الوقار. متواضع يمشي بهدوء تراه مبتسماً كلّما تلقاه وكان حبّ الفنّ متأصلاً فيه وبوده أنْ يمنح ذلك الحبّ لكلّ طلابه وبوده أنْ يأخذوا الدرس على محمل الجدّ. ولكن الطلبة يعدّون درس الرسم درس لعب ولهو مع أنّ درجاته تحتسب في نهاية السنة!
معلم الرياضة والنشيد يوسف عواد: كان شغوفاً بالموسيقى والأناشيد. اكتشف مع الأستاذ حسين عبود موهبة الغناء لدى زميلنا الطالب محسن جبر وشجعاه على أن ينشد ويغني في كل سفرات الطلبة والفعاليات المدرسية. كان الأستاذ يوسف يحبّ الموسيقى ويعزف على الكمان ويحاول أن يجعل الطلبة يتذوقون حلاوة الموسيقى التي تصاحب النشيد الذي كنا ننشده كمجموعة.
اختار الأستاذ يوسف مقطوعات شعرية لتكون ضمن أناشيدنا ومنها (علم الأمة إنا معك) و(لحصاها فضل على الشهب) و (أمينة وكلبها) وغير ذلك. ومن الطريف أن اشتهرت أغنية للمطربة المعروفة آنذاك لور دكاش وهي بعنوان “آمِنْتِ بالله” من كلمات الشاعر صالح جودت والتي بدايتها: آمنت بالله… آمنت بالله… نور جمالك آية… آية من الله… آمنت بالله… آمنت بالله.
حورت تلك الأغنية إلى أنشودة وطنية بنفس اللحن ولعل الذي حورها هو الأستاذ يوسف. كنا ننشدها بنفس اللحن وبكلماتها الجديدة ومنها: “بلادي تحيا… مليكي يحيا… والوطن الغالي… ألا فليحيا… بلادي تحيا… مليكي يحيا…يا بلادي لك حبٌ مستقرٌ في الفؤاد…جاور حب المليكِ فيصلٌ خير العباد”.
معلم “الأشياء والصحة” حسين عبود: غنيٌ عن التعريف فقد كان لولب النشاط الأدبي والعلمي في المدرسة. كان درسه في غاية الإمتاع من الناحية العلمية والثقافية. وهو يحفظ أسماء جميع الطلبة ويعرف آباءهم لعمق علاقته بالمجتمع.
كنت اتشرف بلقائه حين أزور الكوفة بعد تخصصي الطبي. أرسل لي متفضلاً في الثمانينيّات أبيات شعر من نظمه وقد خطها بيده موجهة للعم الأستاذ الأديب جعفر الخليلي ولي أيضا.
عودة إلى المدرسة وأهلها:
لا يمكن أن ننسى “عمي” هادي كما كنا نناديه فهو الراعي المحبوب للطلبة بالرغم من عنوانه فراش المدرسة (بواب) فقد كان شخصاً ذا حضور واضح وأخلاق سامية محترماً من الجميع. رزقه الله بولد صالح أصبح من قياديي المجتمع المصرفي في العراق والخليج العربي. وبما اتصف به من إخلاصه وحبه ورعايته لوالده كان يفخر به أمام كلّ زملائه في العمل.
لم يتخلف “عمي” هادي عن موعد طرق الجرس في تمام وقته في بداية ونهاية كل درس. وكان الجرس قطعة حديد اقتطعت من سكة قطار “شيلمانة” بطول قدم واحد مثقوبة من إحدى طرفيها ومعلّقة بحبل على شجرة في باحة المدرسة، ويطرق عليها بمفك الصامولات “سبانة” طرقاً تردديا سريعاً على جوانبها. كان الجرس لنا كما قال أمير الشعراء شوقي:
لهم جرسٌ مفرحٌ في السراح ** وليس إذا جدّ بالمطرب
طقوس مدرسية:
الاصطفاف الصباحي:
في كلّ صباح عند “الاصطفاف” الذي يعني التجمع الصباحي الرسمي ننشد الأناشيد التي تمجد الوطن والعَلَم والملِك. يطلب منا المعلم المسؤول في أيام الشتاء الباردة أن نقوم بحركات رياضية بسيطة كي نشعر بالدفء.
كنّا ننشد قصائد عديدة منها قصيدة “لحصاها” للشاعر محمّد حبّيب العبيدي من الموصل أم الربيعين يمجد فيها العراق:
لحصاها فضل على الشهب تتمنى السماء لو لبست إن بدا الآل في مفاوزها وإذا الأرض شام مبسمها | وثراها خير من الذهب حلة من طرازها العجب قل لنهر المجرّة احتجب أسكرته بحلة العجب |
أو إنشاد قصيدة جميل صدقي الزهاوي:
عش هكذا في علو أيها العلم جاءت تحييك هذا اليوم معلنة إن العيون قريرات بما شهدت إن احتقرت، فإن الشعب محتقرأو الشعب أنت، وأنت الشعب أجمعه فإن تعش سالما عاشت سعادته هذا الهتاف الذي يعلو فتسمعه | فإننا بك بعد الله نعتصم أفراحها بك، فانظر، هذه الأمم والقلب يفرح والآمال تبتسم احترمت، فإن الشعب محترم وأنت أنت جلال الشعب والعظم وإن تمت ماتت الآمال والهمم جميعه لك، فاسلم أيها العلم |
وكذلك نشيد:
عش غانما عش سالما بوجهك الوضاح حلق بنا إلى العلى مرفرف الجناح مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح | مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح سر دائما يا فيصل حليفك النجاح ابعث لنا تاريخنا قد أقبل الصباح |
وفي كلّ يوم خميس يرفع العلم في الاصطفاف وننشد:
حتم علينا لك أن نرفعك | يا علم الأمة أنا معك |
وفي مرات متعددة يطلب من زميل كان بعدي في المرحلة الدراسية (لا أتذكر اسمه) متميز بالقدرة على إلقاء الشعر بحماسة غير معهودة كي يلقي وبأعلى صوته، القصيدة الواسعة الانتشار للشاعر إبراهيم اليازجي (1847-1906) التي نظمها عام 1883 وهي تنطبق كذلك على حال الأمة العربية في زمننا الحاضر تماماً حيث يقول:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فيم التعلل بالآمال تخدعكم ألِفتم الهون حتّى صار عندكم ………….. ومن يعش يرَ والأيام مقبلة | فقد طما الخطب حتّى غاصت الركبُ وأنتمُ بين راحات القنا سلب طبعاً وبعض طباع المرء مكتسب يلوح للمرء في أحداثها العجب |
فتدوي الساحة بالتصفيق المصحوب بالانفعال العاطفي الوطني المعهود والذي استمر لعشرات السنين ولم يتنبه ولا أن يستفيق العرب!!
مهرجان المدرسة السنوي:
من التقاليد المهمة للمدرسة إقامة مهرجان سنوي ثقافي مليء بالمادة الثقافية والترفيهية المتعددة الجوانب أبطاله هم الطلبة وبعض المعلمين يحضره الأهل وبعض المسؤولين.
مشاركاتي في المهرجان:
شاركت في ثلاث مناسبات ثقافية. الأولى كانت وأنا في الصف الرابع في مناظرة مع أربعة زملاء يقودها الطالب فاضل مراد. كان فاضل يسأل سؤالاً عاماً ويجيب عنه من يرفع يده أوّلاً. وبالحقيقة كانت الأسئلة والأجوبة ومن يجيب عنها معدة مسبقاً. كان السؤال الموجه لي: من هو البطل الذي دوخ العالم بشجاعته وبسالته وقاد الجيوش الجرارة المنتصرة وقد ولد في جزيرة وتوفي في جزيرة؟ فالجواب هو نابليون حيث ولد في جزيرة كورسيكا وتوفي في جزيرة سانت هيلانه. كنت قد عرضت ذلك على المرحوم الوالد قبيل الحفل فطلب مني أن أفاجئ الجمهور بإن أستمر بالإجابة حيث أقول: نعم وللإسلام بطل دوخ العالم ببسالته وشجاعته وعدله وورعه وقد ولد في مسجد وتوفي في مسجد ألا وهو فخر العروبة ورمز الإسلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فقد ولد في الكعبة وتوفي في مسجد الكوفة. ولكن الخوف كان يأخذني من تجاوز المقرر فلم أجرؤ على تحقيق ما طلبه مني الوالد.
وفي الصف الخامس أسهمت بمشاركة زميلي كامل أحمد الحكيم بتمثيلية باللغة الإنكليزية ونحن في الصف الذي يبدأ فيه تعليم تلك اللغة. كان أستاذ اللغة الإنكليزية يوسف الفلوجي يطمح بعرض كفاءته وقدرات طلبته في تلك المرحلة المبكرة. تكررت تلك المسرحية في العام التالي وبنفس الأشخاص والهمة.
ألقيت وأنا في الصف السادس في ذات الاحتفال كلمة مطولة كتبها لي الوالد عن جانب من سيرة الرسول الكريم النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم.
من فعاليات المهرجان: شارك ضمن المهرجان الثقافي للمدرسة البطلان حسين تاجر النجفي وعباس الديك في مهرجانين لسنتين متتاليتين ضمن مرحلة دراستي الابتدائية. كانت هذه من أحلى المناسبات وأكثرها تشويقاً.
يختال حسين تاجر فيظهر قوته أمام الجميع وهو بلباس الرياضة مبرزاً عضلاته الضخمة. قدم عرضاً مبهراً حيث كان ينتصب واقفاً أمام منضدة وضعت عليها صينية سميكة مصنوعة من النحاس بقطر قدم ونصف تقريباً وبحافة متعرجة أكثر سمكاً من الصينية نفسها. هدفه أن يقطع الصينية إلى نصفين بقوة ساعديه. يبدأ بتمرير الصينية على الضيوف الجالسين في الصف الأمامي كي يتأكدوا من تفاصيلها المعدنية. وبحركات بهلوانية تجذب الأنظار يبدأ في قطع الصينية وهو يتلوى يميناً وشمالاً صاعداً نازلاً فتراه في صراع شديد مع الصينية يلويها وتلويه وترى قطرات العَرق تتصبب من وجهه المحمّر وتنتفخ أوداجه وتشاهد أوردة رقبته محتقنة وتسمع صوت شهيقه وزفيره من على البعد وقد شخصت أنظار الجميع إليه.
ويستغرق عشر إلى خمس عشرة دقيقة ينجح النجفي في قطع الحافة ثمّ صحن الصينية ثمّ الحافة المقابلة فتنتهي الصينية النحاسية بنصفين ويرفع كلّ نصف بيد وسط تهليل وتصفيق الحاضرين.
أما عباس الديج (الديك) فكان يظهر بطولته بسحب سيارة نقل صغيرة “بيكب” تدخل في وسط الساحة مربوطة بحبّل يشده في وسطه. وفي مرة مسك الحبّل بين أسنانه وهو يسحبّ السيارة. ومن ثمّ القيام ببعض الألعاب البهلوانية وأخيراً يتوج بطولاته بالانبطاح أرضاً على ظهره واضعاً وسادة خفيفة على صدره لتمر عليه السيارة وهو يقاوم ثقلها بعضلاته المفتولة وينهض وكأن شيئاً لم يكن، وتدوي الساحة بالتصفيق له كما دوت لحسين تاجر.
وهكذا كانت هذه المظاهرة الرياضية أو المهرجان السنوي عرساً اجتماعيا للمدينة وفخرا للطلبة والأساتذة وأهل المدينة.
السفرات:
كانت السفرات التي تقوم بها المدرسة من أحلى الأوقات التي نقضيها في أطراف المدينة وأهمها سفرات الكشافة، حيث غالبية الطلبة كانوا ينخرطون في صفوف الكشافة. تجهزنا المدرسة بالقيافة الخاصة بحسب المواصفات الدولية من القميص والسروال والجوارب والرباط والـ: “جوزة” التي يدخل فيها الرباط والقيطان والصافرة والسدارة التي في نهايتها الأمامية علامة الكشافة وكذلك الكوب والحبل.
أما السفرات الترويحية فكانت إلى منطقة (كري سِعدة) الواقعة في الصحراء بين النجف والكوفة أو إلى البساتين المحيطة بالمدينة وما أكثرها! نأخذ “متاعنا” معنا من أكل وماء وهناك نلهو ونلعب ويتوج ذلك بما يشنف أسماع الجميع الطالب المطرب محسن جبر وفرقته الموسيقية المكونة من الطبلة والدفّ والناي. وأتذكّر وانا في الصف الرابع أو الخامس وفي إحدى تلك السفرات الترويحية غنّى محسن أحدث أغنية متداولة في حينه وكانت أغنية: “عسنك عسنك هله ويبه يَشَط عسنك”!! يشارك الجميع من أساتذة وطلبة أغاني محسن في التصفيق والدندنة.
الفحص الطبي السنوي للطلبة:
استمر نظام الفحص السنوي للطلبة في الابتدائية طول سنوات دراستي فيها. شمل ذلك الفحص البدني وفحص الأسنان. كان الطبيب لبناني هو الدكتور أمين قاسم زهر ومعه طبيب أسنان. كنّا نصطف الواحد تلو الآخر ليقوم بالفحص الطبي علينا بالتوالي وهو جالس على كرسي. كنا نتندر بلهجته اللبنانية حيث يقول للطالب: “افتح حلقك” وهي بلهجتنا “فكّ حلگك”! وللتاريخ أذكر بأن هذا الفحص الإلزامي السنوي لطلبة المدارس الابتدائية أدخله لحيز التطبيق مؤسس جراحة الدماغ البريطاني السير فيكتور هورسلي (1857 – 1916) والمدفون في مقبرة الإنكليز في مدينة العمارة. بعد فحص الدكتور أمين يفحصنا طبيب الأسنان داخل الفم ومن ثم نتجرع مرغمين ملعقة من دهن السمك الشديدة المرورة تفرّغ في فمنا!
الدراسة في المسجد والشيخ خضير:
كان الأهل يرسلوننا في العطل الصيفية إلى المسجد للدراسة حيث كان الشيخ خضير وهو إنسان محترم يتقن اللغة العربية والرياضيات الأولية ليدرسنا الدين واللغة العربية وأحياناً الرياضيات. ولا أعلم لماذا كنا نلقبه بالشيخ “زنبور” لعل ذلك بسبب سرعة غضبه وزمجرته! نبقى في المسجد لساعات كلّ يوم. أذكر أنه كان حينما يصلّح دفترنا في اللغة العربية أو الرياضيات وتكون الإجابة كما يجب فإنّه لا يؤشر على الإجابة بالرمز المستعمل بل يؤشر عليه بكلّمة “صح”! وبطبيعة الحال يعاقب الراسب بضربات العصا الطويلة أما للمشاكسين جداً فهناك الفَلَقة. وهذه هي عصا غليظة ربط بنهايتيها حبل بحيث يبقى الحبل متدلياً. يطرح المذنب أرضاً على قفاه وتوثق راحتي القدمين بالحبل المتدلي وتلفّ العصا حول نفسها عدة لفات حتّى تُحبس القدمان ولا يتحركان داخل هذه “الكبسة”. ويبدأ الضرب بالعصا الأخرى المعدة لهذا الواجب بضربات على راحة القدمين تتناسب مع شدّة الذنب.
من المخالفات الشديدة في عُرف الشيخ خضير كانت السباحة في شط الكوفة في غضون تلك الفترة. كان يختم بالحبر على كف قدم الطالب قبيل مغادرته المسجد ليجبر الطالب على عدم السباحة. يتأكد الشيخ في صباح اليوم التالي من وجود الـ “الطمغة” على قدمه. أما إذا كانت ممسوحة فيجب على الطالب أن يجلب ورقة من أهله تذكر بأنه اغتسل في الحمام وليس في الشط ليعفيه من العقوبة!
لم نكن راغبين بتلك الدراسة الصيفية وكنا نشعر بالسعادة والانعتاق عندما يحين موعد المدرسة لننخرط في الدراسة النظامية. وكنا من شقاوتنا نعبر عن ذلك الشعور بالخلاص بأن نقف بباب المسجد وننشد: “شيخ زنبور اللذينَ…!!”. وكان ذلك بعيداً عن الإصول ولكنها الطفولة وشقاوتها.
.
مستشفى الفرات الأوسط:
أنشئت مستشفى الفرات الأوسط في الكوفة عام 1945 وهو من أفضل المستشفيات خارج بغداد . نظمت إدارة المدرسة في إحدى سنين دراستي زيارة إلى المستشفى بالاتفاق مع مدير المستشفى الدكتور عبد الرسول الحداد.
الشيء الوحيد الذي أتذكره من تلك الزيارة هو ما عرضه مدير المستشفى الدكتور عبد الرسول الحداد لطريقة تصفية مياه الشرب للمرضى الراقدين.
أتذكر أنها كانت بطريقة ربط أربعين “حِبّاً” (وعاء خزفي) كبيراً مرتبطة مع بعضها البعض بالتوالي بأنابيب قصيرة. يوضع في كلّ حِب بعض الشبّ (Alum)، الذي يرسب الأطيان العالقة بالماء وبالتالي يؤخذ الماء للشرب من الحِبّ الأخير في نهاية السلسلة.
القصر الملكي:
اختيرت مدينة الكوفة لإنشاء قصراً ملوكياً لاعتدال جوها ولقربها من مدينة النجف الأشرف يقضي فيه الملك وحاشيته ليلة أو ليلتين عند زياراته الأماكن المقدسة في النجف والكوفة. تمّ بناء القصر في العام 1946. يطل القصر على شطّ الكوفة في شمال المدينة. يحيط به سياج حديدي مشبك من الأمام ولكن بجدران طابوق تعلو إلى أكثر من مترين في جوانبه الثلاث الأخرى. للقصر بوابتان رئيستان حديديتان في الجانب الأمامي المطل على النهر والجانب الخلفي يتصل بالطريق الذي يخترق بساتين المدينة باتجاه مسجد الكوفة وثبت على البوابتين التاج الملوكي.
تحيط بالقصر حديقة غناء. تتسلق السياج الأمامي نبتة تصل إلى ارتفاع المتر تقريباً وفيها ثمرة غريبة كنا نسميها “بطّوش” لم أشاهد مثلها قط! والثمرة مغزلية الشكل بطول ثلاثة انجات وقشرها سميك في داخلها حبيبات مثل بذر البطيخ ولكنها حلوة المذاق نستمتع بأكلها. وجدت في الولايات المتحدة فاكهة تشبهها تزرع في جنوب شرق آسيا تدعى بالثمرة النجمية أو الكارامبولا (Carambola–Starfruit) ولكنها تختلف فيما تحتويه بداخلها وفي مذاقها.
زيارات الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله إلى المدينة:
زار الكوفة الملك فيصل الثاني والوصي على العرش عبد الإله عدة مرات. يتم الاستعداد للزيارة الملكية على مستوى المدينة ببناء العديد من “العارضات” التي تنصب في الشوارع التي يمر بها الموكب عند توجهه إلى القصر الملكي. تصنع هياكل العارضات من الخشب وتغلف بالقماش اللماع الملون وتوضع عليها صور الملك والوصي وجمل الترحيب.
أما على مستوى الطلبة فكنا نستعد بملابس الكشافة ونسير مع المعلمين إلى تلك الشوارع لنصطف على جانبي الشارع لاستقبال الموكب حيث يمكن أن نحظى بالتفاتة من الملك أو الوصي وهما في سيارتهما.
لم يدخل ولم يحلم أحدنا أن يدخل إلى القصر في ذلك الزمن. ولكن بعد ثورة 14 تموز تمكنا نحن الأولاد من الدخول إلى القصر الذي تركه حراسه فتجوّلنا بسرعة خاطفة في أروقة وغرف القصر.
دخلت غرفة نوم الملك وكان فيها سرير أوسع من السرير الاعتيادي طرح عليه شرشف بلون أزرق سمائي لماع وعليه وسادة اسطوانية “لولة” من نفس القماش. وهذا الفراش هو أقل ما كان متوقع من غرفة نوم ملوكية مقارنة بما عرفناه عن بذخ الملوك في مصر وإيران مثلا.توضيح وشكر: استعرت عددا من صور هذا الفصل من موقع أهل الكوفة على الإنترنت بعد الحصول على الموافقة الإصولية. أتقدم بالشكر والعرفان لموقع “أهل الكوفة” وللأكارم الذين نشروها فيه.