تمهيد:

تعد الدراسات العليا استثماراً لتهيئة قادة المجتمع من الجيل الجديد. إن ما ينجز في العالم الغربي من بحوث في مرحلة الدراسات العليا يسهم في تقدّم البلد ودفع عجلة التنمية الاقتصادية في المنافسة والابتكار واكتشاف الجديد والمساهمة في حلّ المشكلّات الوطنية والعالمية المعقّدة.

أما في العراق فقد كانت بحوث رسائل وأطاريح طلبة الدراسات العليا في كلّ المجالات الأكاديمية ولا زالت يتحدد اختيارها على ما يرغب به المشرف وبما يتوفر لديه من أدوات بحثية. ولم تكن البحوث مرتبطة بأية إستراتيجية وطنية تستثمر تلك البحوث للمساهمة في تطوير البلد. بعد أنْ يتحقق الهدف المنشود من البحث وهو اجتياز الامتحان والحصول على الشهادة والترقية العلمية تركن الأطاريح مع بعضها على الرفوف أو تُنقل إلى حيث لا يمكن متابعتها.

كان نصيبي وافراً من الإشراف على الدراسات العليا في الكلّية الطبية وخارجها. وكان قبولي كي أكون مشرفاً على طالب الدراسات العليا المرش يعتمد كثيراً على قناعتي بالطالب وقدراته وتطلعاته.

ساعد طلبة الدراسات العليا في كتابة رسائلهم وأطاريحهم دليل ألّفته لهم موضحاً متطلبات وأسلوب الكتابة وسوف أتحدث عنه لاحقاً 

“التزاوج العلمي” بين الاختصاصات:

أشارك وبشدة كل الذين يؤمنون بان العلم الحديث يجب أن يتبع منهج الشمولية وليس التقوقع في مجال الاختصاص الواحد. إذ ليس هناك حدود بين العلوم برمتها، فلا يمكن لأي اختصاص أو اختصاصي ان يواكب التطور مهما ارتفع قدره في المعرفة إلا إذا اتبع أسلوب التزاوج العلمي مع اختصاصات أخرى.  فإنك لا يمكنك أن توصل بحوثك العلمية الفيزيائية مثلا إذا لم تكن بلغة سليمة مفهومة، ولا يمكن للطبيب أن يقوم ببحث مختبري دون الاعتماد على المهندس الكهربائي أو الميكانيكي أو التقني في المختبر الذي ابتكر أدوات البحث، ولا يمكن لعالم الذرة أن يطلع على مخاطر بحوثه بدون مساعدة الطبيب وارشاداته، ولا يمكن لمؤسسة أن تقوم في العصـر الحديث بدون الاعتماد على الإدارة السليمة والحسابات الدقيقة والمهندس والكيمياوي والفيزياوي والتقني والإحصائي وغيرهم. ولا يمكن أن يكون القائد الإداري أو العلمي قائدا ناجحا بدون أن يلم بثقافة أدبية وفلسفية ولغة سليمة. هناك أمثلة عديدة تؤيد بصورة مطلقة أهمية تزاوج العلوم لتؤدي غرضها على أحسن وجه. ومن إيماني بهذا المبدأ بدأت بتطبيقه عمليا كما سيفصل لاحقا.

كانت الرغبة والقدرة البحثية في المجتمع العلمي العراقي في داخل الجامعات وخارجها متميزة بفضل المستوى العلمي الرصين في العراق الذي بدء به في النصف الأول من القرن الماضي. ففي فصل آخر من المذكرات وثقت من تلك الجهود البحثية بما عثرت عليه عندما كنت مقيما في المستشفى الجمهوري عام 1968 بما قام به الأستاذ الدكتور محمود الجليلي من بحوث مختبرية على أكباد الفئران في الأربعينيات من القرن الماضي.

 تطور المستوى البحثي في العراق في الستينيات ورفد المجتمع الأكاديمي في منتصف السبعينيات بعودة الكفاءات العراقية من الخارج في كل مجالات العلوم لتنضم إلى الكفاءات العالية التي كانت موجودة في داخل الوطن. ففي مجال الطب تطورت اختصاصات متعددة وازداد عدد المتخصصين ما شجع على التخصص الدقيق في بعضها وهذا ما  ساهم في تطور البحوث. امتد هذا التطور في آفاق المعرفة الآخرى ليشمل أغلب  مجالات العلوم التطبيقية والصرفة والعلوم الإنسانية. ساهم افتتاح الجامعة التكنولوجية وهيئة البحث العلمي والتوسع في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي واستحداث مجلس البحث العلمي ومراكز بحثية في مؤسسات الدولة الأخرى في تطور البحث العلمي كماً ونوعاً. وكان لما قدمته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من مشروع مبدأ آلية التعاون بين الجامعات وقطاعات المجتمع عام 1993 الأهمية الكبرى ولكنه لم يصل إلى مستوى الاستثمار المؤمل.

بالرغم من شحّة التجهيزات والمتطلبات البحثية من مواد وعدد في زمن الحصار الجائر على العراق في التسعينيات وما أحدثه من تدهور شديد بالنتاج البحثي في كل المؤسسات العلمية، فإنك ترى أن هناك جهودا بحثية متميزة بحق في أغلب المجالات العلمية وكان للمجتمع الطبي نصيب كبير منها. تطور الطب السريري والبحث العلمي باستحداث المجلس العراقي (الهيئة العراقية) للاختصاصات الطبية. هدفَ المجلس الى أن يخّرِج اختصاصيين في أغلب مجالات الطب ومن متطلبات التخرج أن يقدم الطالب في السنة النهائية أطروحة لبحث يقوم به خلال دراسته في موضوع يتعلق بالاختصاص. وقد دعم ذلك التطور في البحوث مشروع الدبلوم في اختصاصات طبية متعددة مثل الأشعة الذي اعتمد على تقديم رسالة ببحث يقوم به خلال دراسته. كان شعاري الذي التزمت به الذي أبلغت به كل طالب من طلابي في الدراسات العليا هو: يجب أن نعمل معا لإنجاز رسالتك أو أطروحتك بحيث تفخر بها أمام المجتمع الأكاديمي حتى في الدول الغربية.

حالات خاصة:

طالبة قدمت على دراسة الدكتوراه:

زارتني طالبة تروم الانخراط بدراسة الدكتوراه. لم أكن مقتنعاً بقدراتها ولم يكن لي أن أرفض طلبها لأنها ابنة شخص معروف. طلبت منها أنْ تقوم بدراسة مختصرة للمشروع البحثي التي كانت تزمع أنْ تقوم به على أنْ تعود بعد مدة مع نتيجة البحث. عادت بالنتيجة ولم تقنعني فاعتذرت منها ولم أشرف عليها بالرغم من الدموع التي سالت. وكنت مؤمناً بأنَّ ذلك أفضل لها من دموع بعد ثلاث سنوات!

طبيب يتقدم لامتحان الماجستير:

كنت في مرة رئيساً للجنة امتحانية لنيل شهادة الماجستير وكان الطالب طبيباً عسكرياً وعند الامتحان شهدنا صحون الأكلّ و “القوازي” وهي أكلّة عراقية تتضمن لحم الخروف والرز، تنقل إلى الغرفة المجاورة لقاعة الامتحان اعتماداً على حتمية اجتياز الطالب امتحانه. فوجئ الجميع بعدم قناعتي وقناعة اللجنة بكفاءته وعدّ فاشلاً في مناقشة الرسالة ويجب عليه أنْ يغير ويحسّن بعض ما جاء في الرسالة ليتقدم للامتحان ثانية بعد ثلاثة أشهر. اقتنع وأهله بالقرار ولم يتململوا أو يعترضوا وذهب الاحتفال والأكلّ سدى! ولكني أعطيت الطالب وعدا بأن أساعده في الأشهر الثلاثة كي يتأكد اجتيازه الامتحان الثاني. وبذلك حافظت على المستوى المطلوب وجعلت الطالب يشعر بأنَّ اجتيازه الامتحان كان بجدارة وهكذا كان.

درس بخصوص المبالغة بمدح المشرف:

في مرة كنت عضواً في لجنة امتحانية للماجستير في كلية غير كلية الطب وكان المشرف على الطالب عميد الكلية فضلا عن موقعه الإداري وكان له موقع حزبي عال حيث يلبس البدلة “الزيتوني”  عند الدوام الرسمي. اكتظت القاعة بالطلبة والأساتذة لأسباب واضحة! حينما جاء دوري للمناقشة هاجمت الطالب بأسلوب أكاديمي هاديء لِما بالغ به من مدح للمشرف بحيث ضيع جهده في خضم ذلك المدح. استمر هجومي حتى أيّدني المشرف، العميد، بما ذهبت إليه. وكان ذلك درساً مهماً لمن كان في القاعة من الحضور الشباب. 

درس في الأمانة العلمية:

أشرفت على طبيب وطبيبة في اختصاص الأشعة للحصول على الدبلوم العالي. عند إكمال الرسالة واجتياز الامتحان غادرا العراق فجأة لأسباب شخصية. بعد أشهر استللت المعلومات من الرسالتين وكتبت بحثين في مادة الرسالتين ونشرتهما في المجلة العلمية. أرسلت لهما البحثين وتفاجأ بالنشر وكذلك بوضع اسميهما قبل اسمي. توخيت من ذلك إعطاء درس للجميع بعدم استغلال جهود الأحرين وأن “لا يبخسوا الناس أشياءهم”. 

درس آخر:

كنت عضواً في لجنة امتحان طالب ماجستير في إحدى كليات المجموعة الطبية. كان الامتحان علنيا والقاعة مكتظة بالحضور حيث أن المشرف هو عميد تلك الكلية وكان رفيقاً متقدما في حزب البعث ولابسا البدلة الحزبية الزيتونية اللون! تمتع العميد بالرغم من موقعه بالتواضع والخلق العالي.

حين جاء دوري في توجيه الأسئلة بدأت بعنوان الاطروحة فامتدحته لتناسبه مع المحتوى. ركزت بعد ذلك على كلمة “الشكر والعرفان” التي سطرها الطالب وفيها قد بالغ بإفراط في مدح مشرفه، العميد. أحرجت الطالب بمسائلته بما ذكره فقلت له  لقد ضيعت كل جهدك وكأن المشرف هو الذي أجرى البحث وليس أنت، ثم لماذا تشكر العمادة والتعليم العالي لمنحك فرصة الحصول على مقعد الدراسة؟ ألم تكن تستحق ذلك كباقي زملاءك؟ وغيرها من التعليقات المحرجة التي تعمدت بتوجيهها. خيم الوجوم على القاعة واستغرابهم مما تفوهت به وبهذه الشدة. وهنا تحدث العميد وبكل لطف مؤيداً ما اعترضت عليه ومعارضا لتمادي الطالب في مدح المشرف. توخيت من تلك الشدة في المسائلة أن أعطي درسا للطلبة الحضور بأن تظهر شخصيتهم العلمية ولا يختبؤوا تحت مظلة المشرف! بعد انتهاء الامتحان أطرى على ما حدث رئيس وأعضاء اللجنة الامتحانية وعدد من الطلبة الحضور.   

ما نشرته إحدى الطالبات 2005:

نشرت طالبة ماجستير بإسم “تارا” على موقعها في الانترنت أني كنت رئيس لجنة امتحانها لنيل شهادة الماجستير وتقارن ذلك الامتحان وما كان له من “هيبة” وتطمين للطالب بما مرت به صديقة لها في السنين اللاحقة من تغير كبير في مستوى الامتحان حيث تقول فيه:

“كان يوم الثلاثاء الذي ناقشت فيه صديقتي بحثها يوما حزينا جدا بالنسبة لي …انقهرت عليها خصوصا انني اعرف كيف هي في عالم آخر بعيد عن الدراسة اسمه عالم الاحباط. وكم ان ما قاله المناقشون لها كله مهين ومرعب لاي أحد واقف أمام لجنة مناقشة …أكيد هي غلطانة في أشياء لكن بعد ما جرى لم امتلك الجرأة ان اقول لها ذلك، لم اشأ ان ازيد من ألمها لكن عندما رجعت للبيت قلت انني يجب ان اواجهها بعد حين …مع الصديق يجب ان يكون المرء صريحا..

تذكرت يوم مناقشتي ..الاساتذة الذين حضروا و المديح الذي اغرقوني حتى ان رعبي كله زال عندما حكى الاستاذ الاول ثم الثاني ثم الثالث .قلت لنفسي يا الهي يبدو انهم راضين عن البحث …ليس لديهم اعتراضات او هجوم .الى ان وصلنا الى رئيس الجلسة د. عبد الهادي الخليلي ، قال في البداية :اهنئك على جرأتك في اختيار الموضوع (استاذي هو الذي اختار الموضوع ولست أنا) تمتمت بذلك له ..ثم قال ان الاهداء أعجبه و انه يريد ان يقرأه لكل القاعة ،ثم قال ان( الاية القرآنية اعجبتني ،رغم ان كل الآيات حلوة أكيد لكن اختيارك لهذه الآية اعجبني كثيرا). لم اصدق ما كان يقوله، شعرت اني اريد ان اضحك بصوت عال …شعرت ان كل التعب راح.

أين هم أساتذتنا الآن؟ لم يكن أحد منهم موجودا هذا العام ولم تكن للمناقشات نفس الهيبة والرهبة التي كانت قبل 3 سنوات”.

من ذكريات طبيبة عن امتحانات الدراسات العليا نشر في العام 2005