الإقامة في مستشفى ابن سينا الأهلي

ينتظر خريجو كلية الطب وكافة الكليات العراقية  بعد تخرجهم في الشهر السادس من كلّ عام موعد الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية في الشهر التاسع من نفس العام. يستمتع غالبية الخريجين بتلك الأشهر الثلاث بما ترغب به أنفسهم أو تطلبه العائلة. واستمراراً للمبدأ الذي كنت أسير عليه باستثمار كلّ وقت متوفر لتحسين كفاءتي المهنية الطبّية، كما عملت في استثمار العطلة الصيفية بين الصف الرابع والخامس في كلية الطبّ، فقد قررت الالتحاق للعمل بإحدى المستشفيات الأهلية في بغداد لقضاء شهرين من تلك الأشهر الثلاث قبل التحاقي بالعسكرية. كان ذلك الخيار مستشفى ابن سينا الأهلية.  

اتّصلت بعد التخرج في الكلية مباشرة بالدكتور كاظم شبر اختصاصي جراحة العظام وهو صديق العائلة وأحد مالكي مستشفى ابن سينا الأهلية في بغداد للعمل كمقيم في المستشفى ولمدّة شهرين (تموز وآب 1966). تفضل علي الدكتور كاظم بالموافقة وبدأت العمل في بداية شهر تموز.

الدكتور كاظم شبر (1918- 2002)

المستشفى: افتتح مستشفى ابن سينا عام 1964 ويملكه كل من: الدكتور كاظم شبر اختصاصي جراحة العظام، الدكتور مظفر الشذر اختصاصي العيون، الدكتور قاسم عبد المجيد اختصاصي الأذن والأنف والحنجرة والدكتور كليمان سركيس الطبيب العمومي. 

لوحة صور مؤسسي مستشفى ابن سينا

يقع المستشفى في منطقة كرادة مريم مطلاً على نفس الشارع الذي تقع فيه منشآت القصر الجمهوري الذي كان قد تم إنشاؤه قريباً. وهو يقابل بناية السفارة الأمريكية “الجديدة” التي انتقلت في ذلك الوقت من موقعها القديم قرب ساحة قاعة الأوبرا إلى موقعها في كرادة مريم.

كانت مستشفى ابن سينا مؤسسة سبقت عصرها حيث أنّ تصميمها الإنشائي والإداري والطبّي بلغ مستوى أفضل المستشفيات الأهلية المعروفة في المنطقة وليس في العراق وحسب. أقول هذا بعد أنْ شاهدت بعضاً منها في أماكن مختلفة في الوطن العربي في تلك الفترة. صممت المستشفى على الطراز العلمي العملي فهناك قاعات العمليات في الطبقة العليا مفصولة عن مرافق المستشفى الأخرى وهناك المختبر المتطور والصيدلية ومركز العلاج الطبيعي بإشراف السيد كليانا الكفوء بمهنته. تنوعت غرف المستشفى بثلاث درجات تناسب كلّ طبقات المجتمع. فهناك الدرجة الأولى بسرير واحد والثانية بسريرين والثالثة بستة أسرة. وكانت الخدمة للجميع على أفضل ما يكون.

أشرف على المختبر الدكتور عبد الرحمن القطان وهو من الرعيل الأول من خريجي كلية طب بغداد.

الدكتور عبد الرحمن القطان في مختبره في مستشفى ابن سينا

أشرفت على التمريض رئيسة الممرضات الآيرلندية المس دردي القصيرة القامة و”الطويلة” اللسان. وأذكر مناظرتها مع الدكتور مصطفى جواد حينما كان راقداً في المستشفى بخصوص أهمية تقليل الملح في طعامه الذي لم يمكنه أنْ يستغني عنه!

هناك مسؤول الغسيل الهندي الجنسية واسمه “بابوجي” الذي كان يغسل صداري الأطباء غسيلاً مصحوباً بمسحوق الـ: “الجويت” ليصبح لونها مائلاً للزرقة وكويها بعد إضافة النشا فحين تلبس الصدرية تصبح في قمة الأناقة “الصحية”!

من الطريف أن أذكر السيد بيتر فراش الدكتور كاظم وهو ممتلئ الجسم ذو صلعة واسعة شديد الإخلاص للدكتور يؤدي كل الواجبات المطلوبة منه ولكنه بطيء الحركة. كم من المرات شاهدت الدكتور كاظم وهو يقع فيه تعنيفاً “خفيفاً” لأخطاء كان عليه ألّا يرتكبها. وبعد لحظات تعود المحبة والاحترام على ما كانت عليه. أحبه الدكتور كاظم ولم يستطع الاستغناء عنه.

لم تكن علاقتي بالدكتور كاظم علاقة رئيس ومرؤوس ولا علاقة عملاق مع طبيب ناشئ تخرج قبل أيام ولكنها كانت علاقة صداقة وتقدير ومحبة حقيقية مصدرها العلاقة بين والدي وابن عمه السيد شبر آل شبر. وقد دعاني عدة مرات إلى بيته لحضور دعوات اجتماعية يعقدها في بيته في المنطقة القريبة من المستشفى. وهناك ترى علية القوم وهم يتندرون بالأحاديث الشيقة المليئة بالأدب والفكاهة والمعلومات الجديدة بالنسبة لي.

الأستاذ عباس كاشف الغطاء: وفي إحدى تلك الدعوات جلست بالقرب من الدكتور عباس كاشف الغطاء مدير البنك اللبناني في العراق المعروف في أوساط عديدة وقلت له: أستاذ لقد سمعت الكثير عنك ولكن لم يحصل لي الشرف بلقائك، فرد عليّ قائلاً: تسمع بالمعيدي خير من أنْ تراه. ولقد سمعت تلك المقولة لأول مرة، ولحد الآن كلّما استعملتها أتذكّر ذلك الإنسان المهيب الطويل القامة المليء بالتواضع. قيل لي بعدئذ بأنَّ المعيدي المقصود هم بنو معد في الجاهلية الذين اشتهروا بكفاءتهم اللغوية والشعرية ولكنهم كانوا يهملون شكلهم الخارجي الذي لا يعجب الناظرين لذا قيل تسمع بالمعيدي خير من أنْ تراه. لكن هذا المثل يستخدم خطأً، على ما أعتقد، ويخصّوا به المعيدي من جنوب العراق.

الأطباء الاختصاصيون: عمل قبلي في الإقامة في المستشفى وصاحبني فيها الدكتور محمّد عزيز الموسوي الذي اختص بعدئذ بأمراض الأذن والأنف والحنجرة وكان له الفضل عليّ فيما بعد في تخصصي بالجراحة العصبية بدلاً من العيون.

تعرفت على أساتذة كثيرين وعملت بمعيتهم من موقعي كطبيب مقيم ومنهم عصام العمري، قيس كبة، شوكت الدهان، إبراهيم الحيالي، سالم خطاب عمر، هاشم المدامغة، رافد صبحي أديب، وبطبيعة الحال عملت مع كاظم شبر، قاسم عبد المجيد ومظفر الشذر.

الدكتور هاشم المدامغة                  الدكتور شوكت الدهان
الدكتور رافد صبحي أديب    الدكتور عصام العمري       الدكتور قيس كبة

مرضى متميزون: سعدت كثيراً بمن كنت أرعاهم من الأفذاذ الذين رقدوا في المستشفى وأولهم كان العلامة الدكتور مصطفى جواد. وكذلك الأستاذ حامد الوادي، الشيخ أحمد عجيل الياور، الأستاذ أحمد كاشف الغطاء وسعد صالح ونبيه الياس ونعيم جيتايات وغيرهم.

الأستاذ الدكتور مصطفى جواد (1904-1969)

العلامة الدكتور مصطفى جواد: العلامة الدكتور مصطفى غنيٌ عن التعريف الذي دخل المستشفى وهو مصاب بعجز القلب تحت رعاية الدكتور شوكت الدهان. كما هو معروف عنه فهو إنسان هادئ لطيف المعشر موسوعي ليس باللغة العربية فقط بل في التاريخ وفي العديد من مناحي العلم والمعرفة. كنت لا أجالسه كثيراً لئلا يتعبه الكلام فقد نصحه الدكتور شوكت بتقليله. أحبّ الدكتور مصطفى الطعام والملح وكانت رئيسة الممرضات الإيرلندية غالباً ما تزوره زيارة ودّ بحضوري وتتناقش معه بكل جدية بشأن تقليل الملح وينتهي النقاش بالضحك!

الأستاذ حامد الوادي: الأستاذ حامد الوادي الإنسان الخيّر الذي يقطر أدباً. امتلك بستاناً في منطقة الدورة ليس كالبساتين الأخرى بل جنينة حسب وصفه. ينتج في بستانه العنب المشهور “عنب الوادي” الأحمر الكروي الشكل الكبير الحجم اللذيذ الطعم. وهو أخو الشخصيتين السياسيتين والوزيرين شاكر الوادي وجميل الوادي.

كنت أجلس معه أحياناً لأسمع منه جميل حديثه. وله مقولة وعبارة كان قد كتبها في أعلى مدخل بستانه كما ذكر لي “عاشرت البشر فجحدني وأنكر وعاشرت الشجر فعرفني وأثمر”.

عنب الوادي الذي اختص به الأستاذ حامد الوادي

وكنت على علم بما لهذا الرجل الفاضل من مركز اجتماعي مرموق في حينه وقد ترك كلّ شيء والتزم بعلاقته وصداقته مع النبات والشجر. كانت ابنة أخيه الفاضلة غزوة خير راعية له بكلّ تفان ومحبة ليلاً ونهاراً. علمت بعد سنين أنّها والدة العزيز شعلان وزوجة أستاذنا خالد ناجي.

الشيخ أحمد عجيل الياور: من الآخرين الذين أتذكّر إسهامي في علاجهم الشيخ أحمد عجيل الياور الرجل الوقور الذي يجبرك على احترامه لهيبته وخلقه العالي. أصيب الشيخ بجروح في وجهه ويديه بسبب حادث سيارة. فحصته في العيادة الخارجية وهو بكامل وعيه ولم تتعد إصابته تلك الجروح التي عالجها الدكتور كاظم بخياطتها. وللاطمئنان على حالته فقد مكث في المستشفى يوماً واحداً وخرج بكامل صحته. 

الشيخ أحمد عجيل الياور (1925-1972)

الأستاذ أحمد كاشف الغطاء: كان الأستاذ أحمد كاشف الغطاء يعمل في السلك الدبلوماسي في ذلك الحين وكان قمة في الأدب واللياقة وكان قد أصيب بالجلطة القلبية. والأستاذ وعائلته آل كاشف الغطاء غنيون عن التعريف في مجالات الدين والأدب والخلق والعلم والسياسة.

الأستاذ سعد صالح جبر: رقد لعدة أيام ولا أتذكّر بالضبط شكواه الطبّية ولكنه كان إنساناً يمثل واقعه وتاريخه. بقي في المستشفى عدة أيام وغادرها بحال جيدة.

الأستاذ سعد صالح جبر1930- 2010

السيد نبيه الياس: المهندس اللبناني الجنسية والمسؤول في شركة “كات” التي شيدت القصر الجمهوري. لطيف المعشر “لبناني” التعامل ببساطته وببشاشته.

الأستاذ نعيم جيتايات: رجل من الجالية اليهودية في العقد السادس من عمره مصاب بجلطة دماغية حرمته من القدرة على التعبير الكلامي بالإضافة إلى شلل نصفي. كانت زوجته الوفية في رعايته ليل نهار.

الدكتور فائق الشوك زوج الدكتورة فائزة الراوي:

تعرفت على الدكتورة الفاضلة فائزة عاصم الراوي الاختصاصية في علم البكتريا حيث كانت مرافقة لزوجها الصيدلاني الدكتور فائق الشوك والذي كان راقداً في المستشفى يشكو من مضاعفات داء السكرأدّت إلى أنْ تُبتر إحدى ساقيه. كانت رعايتها التمريضية والروحية له رعاية لم أرَ مثلها فكانت ليس فقط الزوجة الصالحة وإنّما الممرضة الرؤوم والراعية لكلّ احتياجاته وكانت الابتسامة تعلو وجهها حتّى  في أحلك الساعات. كانت مثلاً أعلى في التضحية للزوج والصديق ورفيق العمر.

الدكتورة فائزة الراوي

كنت أتحين الفرص في أوقات الفراغ كي أجلس معها وزوجها كي أكون على قرب من هذين الإنسانين المثاليين في المحبة والاحترام والتضحية واستمتع بالمجلس الإنساني.

حوادث تذكر: أثناء عملي في المستشفى حدثت بعض المفارقات والنوادر التي لا تزول من الذاكرة ومنها:

حادثة في قاعة العمليات في مستشفى ابن سينا:

دخلت قاعة العمليات لمساعدة أحد الجراحين الاختصاصيين في عملية تبديل مفصل الورك وهذا جزء من واجبات المقيم في المستشفى في مساعدة الجراحين. تتطلب هذه العملية أخذ صور شعاعية متعددة أثناء إجراء العملية للتأكد من اتّجاه المسمار الذي سيتبعه الجراح في تثبيت المفصل الصناعي. ويجب على مساعد الجراح أو ممرضة العمليات أنْ يمسك فلم الأشعة بغلافه المعقّم أمام جهاز الأشعة ليكون أمام مصدر الأشعة! طلب مني الجراح أن أمسك الفلم لأخذ الصورة الأولى ولم أكن لابساً الصدرية الخاصة الواقية من الإشعاع المبطنة بالرصاص لعدم علمي بذلك فهذه أوّل مرة أكون المساعد الأوّل في هكذا عمليات. خرج الجراح من قاعة العمليات أثناء أخذ الصورة الشعاعية وأغلق الباب خلفه. استغربت من هذا التصرف ولكني لم أجرؤ أن أعترض أمام جراح كبير وأنا في بداية السلم الطبّي.

أشعة تبين مفصل الورك ومسمارين نفذا إلى موقع المفصل

تكرر أخذ الصورة الشعاعية الثانية فخرج الجراح من القاعة مرة أخرى وأغلق الباب من خلفه. بدأت أتمتم مع الممرضة هامساً لماذا يخرج الجراح ويغلق الباب ويسمح أنْ أتعرّض أنا للإشعاع مباشرة؟ ولكني لم أذكر له شيئاً. وجاءت المرة الثالثة وطلب مني أن أمسك فلم الأشعة وهنا قلت له: أستاذي الفاضل إنّك تخرج خارج قاعة العمليات وتغلق الباب من خلفك فلماذا تتركني أمام الأشعة أتعرّض مباشرة لخطرها؟ فأجاب بأنَّه على أبواب الزواج! فقلت له آسف، سوف لن استمرّ معك وخلعت الكفوف وبدلة العمليات وخرجت من الصالة مما اضطره إلى أنْ يقوم هو بهذه المهمة بعد أنْ لبس الصدرية الواقية من الإشعاع ليحمي نفسه ولكنه يا للأسف لم يأبه لتأثير الإشعاع عليّ بدون الصدرية الواقية.

إبن سينا والكوليرا:

أثناء وباء الكوليرا الذي أصاب الآلاف من العراقيين في العام 1966 هَبّ الجميع لتقديم ما بوسعهم للمساعدة في القضاء على الوباء. وقامت المستشفى بدورها التطوعي بتقديم الخدمة المجانية في تطعيم المواطنين باللقاح الذي تجهزه وزارة الصحة. كنت مع ممرضات المستشفى نقوم بتطعيم المراجعين الذين ينتظرون في طابور طويل لأخذ حقنة اللقاح المضاد. 

المريضة التي توفيت بعد منتصف الليل:

في إحدى الليالي أثناء زيارتي الدورية المسائية للمرضى كانت هناك سيدة قروية في الجناح الباطني تنازع الموت بسبب عجز القلب الرئوي الشديد. وبالرغم من كلّ العلاج الذي قمنا به بالتنسيق مع الاختصاصي المسؤول عن رعايتها فقد انتقلت إلى جوار ربّها في الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقريباً. نقل الجثمان إلى الغرفة الخاصة بانتظار اليوم التالي لإكمال الإجراءات اللازمة وتسليم الجثة لذويها. وحرصاً مني على “سمعة المستشفى” بحدوث وفاة فيها ونقل الجثمان من المستشفى أمام المراجعين في ضوء النهار رأيت أنّه من الأفضل الاتّصال بذويها وإعلامهم بالوفاة أملاً أن يأتي من يستلم الجثمان في الليل وينتهي الأمر ويحفظ ماء وجه المستشفى!!

اتّصلت بالأهل هاتفياً ونقلت لهم الخبر المؤلم وطلبت منهم أنْ يرسلوا إلى المستشفى من يستلم الجثمان. ولكن المفاجأة المرعبة كانت بعد الساعة الثالثة حيث وقفت ثلاث حافلات كبيرة محملة بعشيرة وجيران المرحومة أمام المستشفى ونزل منها ما يقارب المئة والخمسون رجلاً وامرأة. تجمع الرجال أمام مدخل المستشفى وانتظمت النسوة بلباسهن القروي في دائرة كبيرة في الساحة الأمامية للمستشفى يتبارين باللطم والصياح والنحيب الذي سمعه كلّ الجيران في هدوء الفجر، وسبّب لي ذلك إحراجاً وقلقاً كبيرين. وهنا شعرت بالخوف من مواجهة هذا الجمع الغفير من أهلها واحتمال اعتداء أحدهم عليّ في فورة الانفعال، حيث ليس هناك في ذلك الحين من يدافع عنيّ غير الممرضة الخافرة. استمرّ النحيب واللطم والأهازيج حتّى الصباح حينما بدأ الاختصاصيون ومسؤولو المستشفى بالوصول وأخبرت المدير بما حدث بضمن التقرير اليومي وتمت الإجراءات الإصولية. كانت هذه تجربة في الحياة بالتعامل مع الحدث بما يتفق مع ظروفه وليس هناك تعامل شامل لكلّ الظروف.

الشاب المتمارض ووالده:

جاءت الممرضة الخافرة في منتصف إحدى الليالي لتعلمني بأنَّ هناك حالة طارئة لشاب فقد وعيه. ذهبت مسرعاً إلى غرفة الاستقبال وهناك شاهدت شاباً في نهاية العقد الثاني من عمره مسجى على نقالة المستشفى وبجانبه رجل فارع الطول أنيق المظهر بروب النوم الأحمر اللماع! تبين أن الشاب عاد إلى منزله مساءً وبعد فترة فَقَدَ وعيه فجأة. بعد فحص الشاب تأكد لي بأنَّ سبب فقدان الوعي الظاهر كان حالة نفسية يواجه بها الشاب أهله. بنيت ذلك التشخيص على يقيني بأنَّه كان ينصت باهتمام لما أتحدّث به مع والده وكذلك كانت عيناه تقاوم محاولته لإظهار حالة فقدان الوعي بالرمش المتكرر الذي يحاول إخفاءه.عندها بدأت بتمثيلية علاجية! رفعت سماعة الهاتف لأتّصل بقاعة العمليات وكان التلفون صامتاً حيث يغلق عامل البدالة كلّ الهواتف عند انتهاء واجبه مساءً، وتظاهرات بالتحدث إلى مسؤولة العمليات. صرخت بصوت الذي لا يريد أن يفرط بدقيقة واحدة في مثل تلك الحالة الطارئة لإنقاذ حياة مريض فاقد الوعي. قلت للممرضة إليشوا: استعدي لحالة طارئة لإجراء عملية جراحية الآن وأرجو تحضير بعض الآلات الخاصة لهذه العملية مثل المقص الكبير الذي يشبه مقص الفلاحين والمنشار الكبير الذي يشبه منشار قطع الثلج. فزع الأب من ذلك ولكني ألمحت له بأنَّ ذلك غير حقيقي. وإكمالاً للتمثيلية دفعت النقالة بقوة متجهاً إلى خارج الغرفة بمساعدة الممرضة وهنا قفز الشاب منتصباً يولول ويقول الحمد لله أنا بخير وتوقفنا وسط تهليل الوالد المغلوب على أمره. عندها باركت للشاب تمام صحته وعدم حاجته لإجراء العملية. قلت للوالد الطيب حيث كان يلوم نفسه لمشادة حدثت مع ولده، الرجاء رعاية حالة الولد النفسية. خرج الوالد والولد والممرضة  فرحين بما انتهت إليه تلك الحالة المؤلمة.

النهاية: أكملت الشهرين في الإقامة داخل المستشفى وكانت من الأيام الجميلة الحافلة بالكثير من الذكريات المصحوبة بخبرة في الطبّ والحياة. بدأت الإعداد للانخراط في الخدمة العسكرية الإلزامية فقدمت الوثائق المطلوبة وانتظرت وقت الاستدعاء.