الإقامة في المستشفى الجمهوري
قرار التعيين:
بعد تسريحي من الخدمة العسكرية في شهر شباط عام 1968 دعتنا وزارة الصحة لحضور جلسة توزيعنا على المستشفيات للعمل كأطباء مقيمين دوريين. كان السياق أن يتم تعيين العشرة الأوائل من الخريجين في المستشفى الجمهوري في بغداد. صدر كتاب التعيين من مجلس الخدمة العامة وتقرر تعييني في 14 آذار من نفس العام في المستشفى الجمهوري.
يجب أن أشير هنا إلى أن الأستاذ خالد القصاب ومعه أساتذة آخرين قدموا اقتراحا للمسؤولين في تلك السنة باستثناء الخريجين العشرة الأوائل في المستقبل من الخدمة العسكرية وأن يتم تعيينهم مباشرة كمقيمين بعد تخرجهم.
المستشفى الجمهوري: (المستشفى الملكي سابقا):
هو المركز الوطني الرائد والمرجع الطبي والصحي في العراق بل يتعدى إلى خارجه حيث يتصف بسمو مستوى التعليم والتدريب وتواجد القمم من الأساتذة .
لا أراني أحتاج إلى تفصيل تاريخ المستشفى الذي عُرف باسم مستشفى المجيدية ثم المستشفى الملكي ومن ثم المستشفى الجمهوري. فصّل تاريخه العديد من الأساتذة والزملاء وقد استعرت بعض الصور التي وثقها الأخ الدكتور سعد الفتال.
أحاول هنا أن أوثق ما عشته ولاحظته شخصيا أثناء فترة الإقامة الدورية.
إدارة المستشفى الجمهوري:
عبد الرحمن الجوربجي: استمر لسنين الدكتور عبد الرحمن الجوربجي في إدارة المستشفى فكان نعم المدير والإنسان. أتذكر أن الدكتور عبد الرحمن اشترى سيارة من نوع داتسن جديدة وكانت نادرة في العراق ولصعوبة الحصول على الأدوات الاحتياطية لها فقد طلب من الشركة المصدرة أن تجهزه بالمواد الاحتياطية المهمة لتصل مع السيارة. كان ذلك حديث المقيمين لفترة.
الدكتور مردان علي: استلم الدكتور مردان علي منصب الإدارة من بعد الدكتور الجوربجي.
الدكتور قحطان الخطيب: رئيس المقيمين والذي يقوم بمقام مدير المستشفى الخافر. فرض شخصيته على الجميع وأحبه كافة المقيمين واحترمه الأساتذة والجراحون.
ردهات المستشفى: تشمل الردهات كافة الاختصاصات الجراحية العامة والاختصاصات الفرعية مثل العيون والكسور والأذن والأنف والحنجرة وكذلك الاختصاصات الباطنية والاختصاصات الفرعية مثل الأمراض النفسية والأمراض العصبية. وهناك اختصاص الأمراض النسائية وأخيرا اختصاص الأطفال الذي كان بعيداً في مستشفى حماية الأطفال.
تقع الردهات الباطنية في الجانب الآخر للمستشفى باتجاه النهر ولها مدخل مقوس السقف في منتصف البناية وعلى جانبيها الردهات وأمامها ممر طويل تطل شبابيكه على جانب النهر. أول ردهة عن يسار المدخل هي الردهة رقم (6) وفيها الدكتور زهير قصير وقيس الملي وكان يرأسها الأستاذ محمود الجليلي وبعدها ردهة (7) وفيها بديع صبحية وسالم الدملوجي، ردهة (8) حسين الأورفلي وعبد المجيد الشماع وردهة (9) عادل الدوغرمجي ومحمّد علي خليل. وعن يمين المدخل نواجه أولاً بالردهة رقم (5) للجراحة العامة والكسور، (4) للجراحة البولية وفيها الدكتور طلال ناجي شوكت والدكتور جابر محسن والدكتور مكي الواعظ، الردهة (3) للأمراض العصبية، الدكتور آرتين قنطارجيان، الردهة (2) الدكتور غانم الصفار والدكتور أمين جريديني، والردهة (1) الدكتور فرحان باقر والدكتور مهدي مرتضى.
أما الردهات الجراحية فكانت أفضل بكثير لأنها بنيت حديثا وبمواصفات أفضل من الردهات الباطنية القديمة. كان في الردهة الجراحية الرجالية (ردهة 17) مثلا غرف كل من الأساتذة الثلاثة وغرفة للمقيمين وأخرى واسعة لفحص المرضى وإجراء التداخلات الجراحية البسيطة. أما ردهة النساء (18) فكانت أصغر مساحة وتقتصر على غرفة الممرضة والردهة. تتصف بقية الردهات الجراحية 12/13 و19/20 بمواصفات مشابهة.
الممرضات:
كانت في كل ردهة ممرضة مسؤولة سميت الردهة باسمها!! فغالبيتهن خدمن سنين طويلة في نفس تلك الردهات، فهناك الممرضة مادلين في الردهة الثالثة مع الأستاذ آرتين قنطارجيان والممرضة سعدية في الوحدة الجراحية الأولى وصبيحة في الردهة السادسة وهكذا. اتسمت غالبية الممرضات بحب المهنة والكفاءة والضبط. كانت هناك ممرضات شابات تحت التدريب أو حديثات التخرج بمعدل واحدة أو اثنتين في كل ردهة.
التدفئة والتبريد: ساعدت السقوف العالية والشبابيك الصغيرة نسبيا والمظلات التي تثبت فوقها والمراوح السقفية على تلطيف الجو صيفاً.
أما في الشتاء فكانت شبكة الماء الحار التي تدخل كل مرافق المستشفى والكلية هي الوسيلة الوحيدة للتدفئة. فأنابيب الماء الحار تنفذ من الجدران لتتصل بوحدات مصممة بحيث يسري فيها الماء الحار فتنتقل الحرارة إلى الجو. ومع أن هذه الطريقة صحية جداً إلا أنها لم تكن كافية أبدا لعدم إحكام الشبابيك والأبواب وخصوصا في أيام البرد القاسية. كنا في بعض أيام الشتاء الباردة نصل إلى الردهة وقد تلونت أصابعنا باللون الأزرق بسبب البرد فنسرع إلى المدفأة لنتدفأ بحرارتها المعتدلة.
التعقيم:
هناك غرفة للتعقيم المركزي تعقم فيها كافة الأدوات الجراحية والشاش والكفوف الجراحية، التي يعاد استعمالها، بطريقة الأتوكليف التي تعتمد على الماء الحار وبضغط عال. وفي كل قاعة عمليات كان هناك جهاز تعقيم صغير للتعقيم الآني.
دار الأطباء:
سكن الأطباء المقيمون في المستشفى في الطابق العلوي لبناية إدارة المستشفى. لكثرة عدد المقيمين اضطرت الادارة على توزيع منامهم بعدد أربعة إلى خمسة في الغرفة الواحدة. كنت مع الزملاء عوف السامرائي، نبيل مجيد ناصر، فرياد حويزي، أحمد الحلفي وفوزي العاني.
توزيع المقيمين وحالتي الخاصة:
تم توزيع المقيمين الدوريين في مختلف الردهات. المفروض أن يشمل دوامنا حسب ما هو متعارف عليه أربعة اختصاصات مختلفة هي الجراحة العامة والطب الباطني واختصاصين آخرين من اختيار الطبيب المقيم نفسه أو إدارة المستشفى. ولكوني أحمل خصوصية الخريج الأول فقد طلبت من الإدارة وبدعم من بعض أساتذتي الموافقة على أن يكون تدريبي في فرعي الطب والجراحة مناصفة أي ستة أشهر لكل منهما على أن لا ألتحق بالتدريب في اختصاصات أخرى وهكذا كان.
الدوام في الردهة الباطنية:
بدأت إقامتي باختصاص الباطنية في الردهة (6) والتي كانت تحت الإشراف المباشر للأستاذ زهير قصير وكان معه الدكتور قيس الملي الذي كان على ملاك وزارة الصحة. يطل علينا أحيانا الأستاذ محمود الجليلي اذ انها ردهته أصلا.
كان العرف السائد منذ سنين أن يتضمن ملاك كل ردهة باطنية مقيم أقدم ومقيم دوري أي حديث الالتحاق. بسبب ظروف العراق الأمنية تم استدعاء كل المقيمين الأقدمين إلى الخدمة العسكرية لذا أصبحنا نحن المقيمون الدوريون المسؤولون الوحيدون في الردهات. وهذا يلقي علينا واجبا ليس من السهل القيام به بأحسن وجه. وسبّب ابتعادنا عن المتابعة الطبية أثناء انشغالنا بالخدمة العسكرية صعوبة في تأدية واجبنا تجاه المريض والأستاذ وطلبة الصف السادس الذين يتدربون في الردهات. لم يكن أمامنا سوى بذل الجهود المضاعفة للقيام بما يحقق الواجب الملقى على عاتقنا. كنا في صراع مع الوقت لاستعادة وتطوير معلوماتنا ومتابعة مرضانا وإرضاء الجميع. كنت شخصيا أعاني من ذلك كثيرا وأواصل العمل بما يزيد عن طاقتي الجسمية وفكري متواصل بالعمل حتّى في وقت النوم. وفي مرة ونحن نيام في دار الأطباء وكنا خمسة في غرفة واحدة مصفوفة أسرتنا بجانب جدران الغرفة وإذا بي أقوم من سريري والكل نيام وأقف بجانب زميلي الدكتور عوف السامرائي وأتلمس بطنه بطريقة الفحص الطبي النظامي. انتفض عوف صائحاً: هادي ماذا تعمل؟ فقلت له: اسكت ودعني أكمل الفحص، وكنت في الواقع في حالة نوم وأنا أقوم بذلك. وهنا استيقظ الجميع وضحكنا كثيراً وتندرنا بها لأيام بعدها.
في تلك الردهة وفي ذلك الجو العلمي والخدمي المتميز بدأت ببناء كياني الطبي حيث أن الطب الباطني هو أساس علم الطب. وكان للأستاذ زهير أثر بالغ في توجيهي لأنه كان جدياً في عمله ودقيقاً في توجيهاته وملاحظاته وكان عطوفاً جداً على المرضى ومحبا لطلبته وبطريقة “صارمة”.
يبدأ العمل الصباحي بزيارة المرضى في الردهة المقسمة بين الأستاذ زهير والدكتور قيس فيبدأ الدكتور زهير بتفقد المرضى واحداً بعد الآخر ويستمع لتفاصيل الحالة وتطورها ويوجه بما يجب ومن ثم يبدأ الدكتور قيس دورته الصباحية مع مرضاه. وبعد الانتهاء أعمل على تحقيق كل التوجيهات من فحوص مختبرية وشعاعية إضافية إلى طلب الأدوية وغيرها. ومن ثم يصل طلبة الصف السادس في الساعة العاشرة ويبدأ معهم أحد الأستاذين بالتدريس الذي يستمر لساعتين تقريباً وفي الغالب أكون مستمعاً من الخلف ومجيباً عن تساؤلات الأستاذ.
مختبر الردهة: تحوي كل ردهة من ردهات الباطنية غرقة صغيرة فيها مختبر للفحوصات الأساسية للدم والإدرار والغائط ومجهز بمجهر ومتطلبات تلك الفحوصات من عُدد. يستخدم المختبر الطبيب المقيم وكذلك طلبة الصف السادس.
بحوث الأستاذ محمود الجليلي: عندما بدأت عملي في الردهة السادسة حاولت إعداد غرفة المقيم التي كانت بحاجة إلى بعض الترتيب. وجدت بين ما وجدت العديد من القناني الصغيرة التي تحوي أكباد فئران من بقايا بحوث الأستاذ الجليلي من الأربعينيات.
طلبة الصف السادس: يكلف عادة الطبيب المقيم بالإشراف على طلبة الصف السادس الذين يستمر دوامهم لمدة ثلاثة أشهر. يقسم مرضى الردهة على الطلبة ويتحمل الطالب المسؤولية في فحص المريض و”تشخيص” حالته وإجراء الفحوصات اللازمة في مختبر الردهة. يبدأ الطلبة عملهم بفحص المريض وتوثيق ملفه الخاص، المنفصل عن ملف الطبيب المقيم، وإجراء الفحص الطبي والقيام بالفحوص المختبرية حسب متطلبات الحالة وبما متوفر في مختبر الردهة. وفي اليوم التالي وأثناء الدورة الصباحية يقدم كل منهم مريضه إلى الأستاذ.
عاملت طلبة الصف السادس بجدية حيث كان عليهم أن ينجزوا ما يجب وفي وقته وإلا سيكون الـتأخير معروضاً أمام الأستاذ زهير. كنت معهم في كل صغيرة وكبيرة أحاول أن يتعلموا كل ما يمكن من أسلوب الفحص الطبي إلى كيفية إجراء الفحوص المختبرية والقيام بالمتطلبات مثل أخذ عينة من الدم أو بزل سائل الصدر في حالات ذات الجنب أو حتّى بزل السائل النخاعي الشوكي في حالات الاشتباه بالتهاب السحايا أو النزف. كنت أجتمع معهم في الردهة بعد الدوام الرسمي حيث نعين موضوعا معينا يحضره أحدهم ونناقشه جميعا بإسهاب. أصبحت علاقتي معهم متميزة تتمثل بالاحترام المتبادل واستمرت مع الكثير منهم لحد الآن وأنا أفخر بأني ساهمت في إحدى المحطات التي مرت في حياتهم. ولحسن العلاقة مع العديد منهم كنا نخرج من الردهة إلى نادي الكلية أو حتى للنزهة في يخت في نهر دجلة للاستمتاع بالطبيعة والابتعاد عن متاعب العمل.
الجراحة العامة: بعد انتهاء الستة أشهر في ردهة الباطنية تحولت إلى الجراحة العامة في الردهتين 17 و18 وهي وحدة الأستاذ خالد القصاب والأستاذ زهير البحراني والأستاذ عبد الكريم الخطيب حيث مكثت فيها زهاء السبعة أشهر لحين بداية تعييني في المناطق النائية.
تقع فوق هاتين الردهتين الردهتان 19 و20 حيث يشغلهما الجراحون الأستاذ حسين طالب والأستاذ هاشم الهاشمي وكذلك الدكتور حسن الحسني.
كان الدكتور حاجم السامرائي المقيم الأقدم في تلك الوحدة. ومن المقيمين الدوريين معي زميلي في الكلية والتخرج الدكتور هارفي برهارد وكذلك الدكتور حسام البحراني والدكتورة ماركريت أواسيان وكلاهما كانا بعدنا بسنة واحدة في التخرج.
كانت الوحدة الجراحية معهدا حقيقياً لخلق جيل جراحي يتمتع بالكفاءة الجراحية والتعمق في البحوث والخلق الرفيع. كذلك تميزت الوحدة بالإضافة للجراحة العامة بجراحة الأمراض السرطانية التي عرف فيها الأستاذ خالد وكذلك جراحة الجهاز الهضمي التي تميز فيها الأستاذ زهير. وكانت قائمة العمليات زاخرة بكافة الحالات الجراحية بالإضافة إلى العدد الكبير من حالات هذين الاختصاصين.
المتبرعون المتاجرون بدمهم! حين نتذكر تلك الأيام، أيام تحضير الدم، نشعر بالألم لما كان، ولكنها الطريقة التي كانت تتبع في كل العمليات حتّى في خارج العراق. تخصص سماسرة للمتاجرة بالدم ويكونوا وسطاء بين مقيمي المستشفى والمتبرعين!! كان للسماسرة اسم وعنوان ورقم هاتف أو طريقة اتصال أخرى مدونة لدينا وبطبيعة الحال لديهم “قاعدة معلومات” عن كل المتبرعين (بائعي دمائهم) الذين في دائرة نشاطهم.
ندعو السمسار ونبلغه بعدد قناني الدم التي نحتاجها لعمليات اليوم التالي والتي يكون عددها بمعدل عشرين إلى ثلاثين قنينة دم، فيجلب لنا وعلى وجه السرعة عددا أكبر مما هو مطلوب من احتياجنا من المتبرعين “الممتهنين” لهذه المهنة وحسب أصناف الدم المطلوبة لأولئك المرضى. وفي أوقات كان هناك متبرعون طارئون من الذين يسمعون بهذه التجارة فيفدوا للتبرع لقاء مبلغ القنينة. يقف المتبرعون على خط نصف دائرة ويقف أحد المقيمين الدوريين الخافر لذلك اليوم أمامهم وينظر في وجوه الشباب ليختار من هو أحمر الخدين وناصح البدن كما يبدو من ملامحه الخارجية. ومن الطريف أن بعضهم كان يلبس قميصا وردياً فاقع اللون كي يعكس ذلك اللون على خديه ليوهم الطبيب بأنه الشخص المناسب بالرغم من أن المتعارف عليه في تلك السنين أن يلبس الرجال قميصاً أبيض اللون. يتم الاختيار فنؤشر عليهم: أنت.. أنت ونقرر العدد المطلوب فندخلهم في غرفة المختبر في الطابق ليستلقوا على طاولة الفحص ونسحب منهم الدم ليحفظ بقناني زجاجية. ويسلم مبلغ الدم المتبرع به وهو خمسة دنانير إلى السمسار أو إلى المتبرع الطارئ شخصياً.
زرع النخاع: ما أثار استغرابي مرة أن أحد المتبرعين وقد تولدت معرفة بيننا كان قد تبرع بأكثر من خمس أو ست قناني دم في غضون أسابيع قليلة. وهو ما دفعني أن أفكر بأن “مصنع” الدم في جسمه أي نخاع العظم يمتاز عند هكذا أشخاص بقدرة هائلة في انتاج الدم لتعويض ما فقده في وقت قصير جداً. وهذا يؤهله أن يكون أفضل متبرع بنخاع عظمه للمرضى الذين أصيبوا بتلف النخاع وفقر الدم الشديد الذي لا يعالج بتعويضه بالدم بصورة دورية بل بزرع النخاع.
أشير هنا إلى أن عملية فحص صنف الدم للمريض وللمتبرعين كان يقوم بها الأطباء المقيمون الدوريون. فكنا نقوم بتلك المهمة كاملة والتي تشمل مطابقة دم المتبرع مع دم المريض. لم يكن في حسباننا التأكد من سلامة دم المريض من أمراض معدية مثلا أو غير ذلك.
كنا نضع قطرة من دم المريض على طرف الشريحة الزجاجية (السلايد) وفي الطرف الآخر نضع قطرة من دم المتبرع وبحركة السلايد في اتجاهات مختلفة يختلط دم المتبرع بدم المريض ونتطلع إلى تكتلات الكريات أو بقاء الدم رائقا والذي يعني تطابقهما. تحفظ قناني الدم الزجاجية في ثلاجة حفظ الدم بدرجة ثابتة وهي 4 مئوي. يثبت على واجهة تلك الثلاجة مقياس درجة الحرارة للأربع وعشرين ساعة تظهرعلى شكل خط بياني لينذرنا عند تغير درجة الحرارة وعند اكتشاف ذلك التغير لا نستعمل تلك القناني. في بعض الأحيان كنا نستعين بمصرف الدم عند الحاجة القصوى في حالات احتياجنا لصنف دم نادر مثلاً. يأتي مسؤول من مصرف الدم إلى الردهة ليتفقد سلامة عملية حفظ الدم ويأخذ قناني الدم غير المستعملة وينبذ غير الصالحة.
فترة إقامتي في الثلاثة أشهر الثانية:
أصبحت مسؤوليتي في الثلاثة أشهر الثانية من دوامي كمقيم دوري في الوحدة الجراحية أعلى درجة من زميلي المقيم الدوري الآخر الذي سيبقى ثلاثة أشهر فقط. فأصبحت لدي بعض مسؤوليات المقيم الأقدم في الدورة التفقدية المسائية للمرضى وأعطيت بعض الحرية في الحركة.
قمت ببعض الخطوات لتنظيم عملنا في الردهتين حيث استخدمت لوحة كارتونية بيضاء مربعة كبيرة بمساحة متر مربع تقريبا ولصقت عليها الزوايا التي كانت تستخدم لتثبيت الصور الفوتوغرافية في الألبوم وأدخل فيها أوراق بالحجم المطلوب يكتب عليها اسم المريض واسم الجراح والتشخيص ويوم الدخول ويوم العملية. وتحت كل ورقة ثبت رقم سرير المريض. تستبدل هذه الورقة لذلك المريض عند مغادرته الردهة ودخول مريض آخر على سريره. وضعت هذه اللوحة في الردهة 17 وأخرى في الردهة 18 في غرفتي الطبيب المقيم. سهّلت تلك اللوحة متابعة المرضى حيث يمكن معرفة أسماء المرضى ومواعيد عملياتهم بنظرة سريعة.
حادثة: كنت ولم أزل أعتبر أن المستشفى وردهة المرضى أماكن مقدسة، وقبل ذلك المريض فهو الغاية لكل الخدمات الطبية. وفي هذا الصدد أقول إن أكثر اللحظات قدسية وهيبة بالنسبة لي هي عند الوقوف بالقرب من مريض يحتضر وهو يلفظ آخر أنفاسه.
كنت أقوم في أحد الأيام في الردهة 18 بالدورة المسائية لمتابعة حالات المرضى مع زميلين لي بَدآ تدريبهم حديثاً، وإذا بي أشاهد أحد عمال المستشفى بصدريته الزرقاء وهو يضعها على كتفيه ولم يلبسها كما يجب. اعتبرت أن ذلك التصرف يدل على التبختر وإهانة لقدسية الردهة. ناديت عليه ووبخته على ذلك التصرف. أبدى الرجل حكمة ولم يرد وكأنه آمن بما قلت وشعر بأني صادق بما عبرت عنه. غادر الردهة وواصلنا الدورة لمتابعة المرضى. وفي اليوم التالي طلبني مدير المستشفى، وعندما دخلت مكتبه وجدت ذلك العامل في الغرفة أمام المدير. طلب مني المدير أن أذكر له ما حدث. تبين أن ذلك “العامل” كان رئيس نقابة العمال في المستشفى وله سلطة خارج المستشفى كذلك. تصافحنا وتصافينا وتقبل مني ما حدث احتراما لشعوري تجاه المرضى والمستشفى. ومن يومها أصبحنا على علاقة جيدة. لو حصل ذلك في زمن آخر أي ما بعد تلك السنين لكان “عقابي” شديداً!
الأستاذ خالد القصاب الجراح والفنان: كان الأستاذ خالد القصاب بالإضافة إلى كونه جراحاً رائعاً في مجال السرطان والجراحة العامة فقد كان فناناً رائداً ومن مؤسسي مجموعة الفنانين “الرواد” في العراق.
المهم هنا أنه كان يستخدم الفن في الجراحة فكانت الصور التوضيحية للعمليات التي كان يقوم بها تضفي وضوحاً كبيراً لتفاصيل العملية. وقد تعلمت منه رسماً بسيطاً ومعبراً عن الرأس والوجه استخدمته في مجال الجراحة العصبية ومحجر العين. وكان من مميزاته أنه يكتب بالحروف الكبيرة (Capital letters) في كل مراسلاته وهدفه الوضوح ومنع التأويل.
عقد الزواج المبارك: أذكر في هذا السياق حدثا سعيدا مهما حصل في فترة تدريبي وهو عقد زواج الأستاذ القصاب خالد على الفاضلة السيدة حنان الراوي وكان لي شرف توزيع بعض بطاقات الدعوة.
الأستاذ زهير البحراني: تميزت هذه الوحدة الجراحية كذلك بما كان يقوم به الأستاذ زهير البحراني من عمليات فريدة في مجال الجهاز الهضمي وتوثيق الحالات بأدق تفاصيلها. فلقد طبع كارتات كبيرة للأمراض الجراحية في الجهاز الهضمي وفيها تفاصيل الحالة المرضية والفحوصات والعملية الجراحية. وكان علينا نحن الأطباء المقيمون أن نملأ حقولها بكل أمانة. يدقق الأستاذ زهير المعلومات ويخطط بعض الرسوم التوثيقية ويضيف عليها ما جرى أثناء العملية الجراحية وما بعد ذلك من اختلاطات، إن حصلت، وحتّى حالة المريض عند المغادرة.
الأستاذ عبد الكريم الخطيب: مثال في الخلق والقدرة الجراحية، ولكنه لم يحدد عمله في تخصص جراحي معين. كانت له مقولة في قاعة العمليات موجهة إلى المقيمين الجدد وهي:” إن العمل يُمنح ولا يُطلب Work to be given not to be asked for”. والقصد من ذلك هو أن الأستاذ يقدر متى وصل الطبيب المقيم المستوى المطلوب لتحمل المسؤولية وعندها يُمنح حرية العمل بما يناسب ذلك المستوى.
ندوة الأورام:
في كل يوم أحد كانت هناك ندوة علمية للجراحين تدعى “ندوة الأورام” يدير الندوة الأستاذ خالد القصاب. كنا نحن المقيمون نهيئ الحالات التي يوجه بها الأستاذ خالد أو الأساتذة الآخرين من داخل وخارج الوحدة وفي بعض الأحيان من خارج فرع الجراحة، وكذلك ما يرد إلى العيادة الخارجية الجراحية من حالات مهمة في ذلك اليوم. تعقد الندوة في الساعة الثانية عشرة ظهرا يحضرها الجراحون وبعض الأساتذة من اختصاصات أخرى لمناقشة تلك الحالات تشخيصاً وعلاجاً. تعرض في الندوة الحالات المعقدة التي تحتاج إلى أكثر من رأي وكذلك عرض الحالات التي تم التعامل معها والحالات الفريدة والنادرة التي تستحق الاطلاع عليها. وتشاهد هناك ما يثير الجدل والنقاش وردود الفعل وكل ذلك في إطار علمي أخوي ويخرج الجميع بقرارات دقيقة متفق عليها في أسلوب علاج الحالات المعقدة.
حادثة مع الأستاذ خالد ناجي في ندوة الأورام: كنت طبيب العيادة الخارجية الجراحية الخافر في يوم عيادة الأورام حيث يجب عليّ أن أرسل للندوة حالات تستحق النقاش من قبل الأساتذة. كان من بين المرضى المراجعين شاب في العشرينيات من عمره يشكو من انتفاخ في بطنه مصحوبا بتقيؤ وهزال. عند الفحص الشامل تبين لي أنه مصاب بسرطان الخصية المتقدم والذي ملأ البطن بالأورام المنتقلة مع سائل في البطن وكان الدليل على ذلك إختفاء الخصيتين عنده. كانت تلك حالة مثالية للندوة فسارعت لإرسال الشاب مصحوبا بملاحظاتي التي جعلتها مبهمة بدون الإشارة إلى عدم وجود الخصيتين. كانت فكرتي الشبابية أن أشغل الأساتذة بتشخيصات متعددة يمكن أن تكون بعيدة عن التشخيص الحقيقي. عندما عرضت الحالة وبُدِئ المناقشة اقترح الأساتذة عدة احتمالات ولكن الأستاذ خالد ناجي انتصب قائماً ورفع ثوب المريض وخلع ملابسه الداخلية ليرى عدم وجدو الخصيتين مما ثبت التشخيص. وهنا توجه نحوي وضربني بقبضة يده بلطف قائلا: “تريد تمتحننا؟”. كان ذلك درساً لا ينسى.
العيادة الخارجية:
كان المقيمون مسؤولين عن فحص وعلاج المرضى الوافدين إلى العيادة الخارجية الجراحية كل يوم وحسب جدول معد من رئيس الوحدة. تحتوي العيادة على صالة للعمليات الصغرى تجرى فيها العمليات الطارئة التي ترد إلى العيادة الخارجية الجراحية والعمليات التي لا تحتاج إلى التخدير العام. تتوزع واجبات المقيم الخافر بين فحص المرضى الوافدين على العيادة وبعدها إجراء العمليات الصغرى أو الإشراف على العمليات البسيطة التي يقوم بها الممرضون مثل خياطة جرح بسيط.
انتهاء الاقامة:
بعد إكمالي الستة أشهر في الجراحة لم يصدر كتاب الانفكاك من المستشفى إلا بعد شهر تقريبا حيث بقيت مستمرا في عملي في الوحدة. كانت هذه فترة ذهبية في مسيرتي الطبية أحقق فيها حلمي القديم بأن أصبح جراحاً في المستقبل. تعلمت الكثير من أساتذتي الذين كانوا بحق يتمتعون بالخلق والعلم والمهارة. وكانت هذه الفترة مضاف إليها فترة التدريب السابقة معهم كالنقش في الحجر لمبادئ الطب والجراحة لي حيث قمت لاحقاً بتدريس طلبة كلية الطب في بريطانيا (جامعة دندي) مبادئ الجراحة والفحص الجراحي مستعيناً بالخبرة الغنية التي حصلت عليها في هذه الفترة القصيرة زمنيا والتي ابتعدت عنها إلى طب وجراحة العيون.